الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[9] من قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية 92 إلى قوله تعالى: {بَلْ كُنّا ظَالِمِينَ} الآية 97
تاريخ النشر: ٢٩ / شعبان / ١٤٢٩
التحميل: 3179
مرات الإستماع: 13777

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين، وللمستمعين يا رب العالمين، أما بعد:

فيقول المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ۝ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ۝ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [سورة الأنبياء:92-94].

قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً يقول: دينكم دين واحد، وقال الحسن البصري في هذه الآية: يبيّن لهم ما يتقون وما يأتون، ثم قال: إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً أي: سنتكم سنة واحدة، فقوله: إِنّ هَذِهِ إن واسمها، وأمتكم خبر إن، أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم.

وقوله: أُمّةً وَاحِدَةً نصب على الحال؛ ولهذا قال: وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ كما قال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً [سورة المؤمنون:51]، إلى قوله: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [سورة المؤمنون:52]، وقال رسول الله ﷺ: نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد[1]، يعني: أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له، بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [سورة المائدة:48].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً قوله في تفسير هذه الآية: "دينكم دين واحد"، وهكذا قول من قال: "أي سنتكم سنة واحدة"، والعبارتان بمعنىً واحد، فالسنة والدين والشريعة والملة كل ذلك يرجع إلى شيء واحد، أي أن دين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- واحد، كما ذكر في الحديث: نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات.

ومعنى أولاد عَلات كما فسره النبي ﷺ أي: ديننا واحد، وأولاد العلات هم الذين لهم أب واحد وأمهات شتى، فأصل الدين هو الإسلام الذي بعث به ربنا -تبارك وتعالى- جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وشرع لهم الشرائع فاختلفت وتنوعت شرائعهم، ولكن أصل الدين واحد، إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132]، وفي قوله -تبارك وتعالى- عن إبراهيم ﷺ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا [سورة الحج:78] على أحد القولين: أي أن إبراهيم ﷺ هو الذي سمانا المسلمين، والقول الآخر: أن الله هو الذي سمانا، وقد يكون هذا هو مقتضى القواعد التفسيرية، والأمة تأتي بمعانٍ متعددة، تأتي بمعنى الدين، كما قال النابغة:

حلفتُ فلم أتركْ لنفسِك ريبةً وهل يأثَمَنْ ذو أمّةٍ وهو طائعُ

فهل يأثم يعني هل يتقصد الإثم ذو أمّة، يعني ذو دين، وهو طائع، يعني وهو مختار يتقصد الإساءة والمخالفة والمعصية، يقول: أنا حلفت فلم أترك لنفسك ريبة، ولا يمكن أن أحلف على الكذب.

فهذه بمعنى الدين، وتأتي بمعنى الطائفة المجتمعة على أمر من الأمور، أو أي طائفة مجتمعة، كقوله -تبارك وتعالى- عن موسى ﷺ لما ورد ماء مدين قال: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [سورة القصص:23]، أمة يعني جماعة من الناس، وتأتي بمعنى المدة الزمنية، كقوله -تبارك وتعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [سورة يوسف:45]، أي الذي نجا من السجن في قصة يوسف ﷺ، وهكذا تأتي بمعنى الرجل الذي اجتمعت فيه الأوصاف الكاملة التي تفرقت في غيره، مثل إبراهيم ﷺ: كَانَ أُمَّةً [سورة النحل:120]، ففي كل موضع بحسبه، والمقصود بها هنا الدين.

والخطاب في قوله: إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً ليس لهذه الأمة الإسلامية من أمة محمد ﷺ، وإنما لما ذكر الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جميعاً قال هذا، فيكون ذلك راجعاً إلى الجميع، فكل الرسل الذين بعثهم الله بعثهم بدين واحد، وإن تنوعت فيه الشرائع، بعثهم بالإسلام، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا [سورة آل عمران:67]، فاليهودية مبتدعة والنصرانية مبتدعة محدثة، وهذه الأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19].

وقوله: إِنّ هَذِهِ "إن واسمها، وأمتكم خبر إن"، فـ "هذه" اسم "إنّ"، وخبرها "أمتكم"، ونصب قوله: أُمّةً وَاحِدَةً على المصدر.

وقوله: وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي: اختلفت الأمم على رسلها، فمن بين مصدق لهم ومكذب، ولهذا قال: كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ أي: يوم القيامة، فيُجازَي كلٌّ بحسب عمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولهذا قال: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي: قلبه مصدق.

قوله: وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعني تفرقوا في الدين، فجعلوه كالقطع، هؤلاء أخذوا قطعة، وهؤلاء أخذوا قطعة، وهو دين واحد، وهو الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه، فهؤلاء قالوا: إنهم يهود، وهؤلاء قالوا: إنهم نصارى، وهؤلاء عبدة وثن، إلى غير ذلك من الديانات الموجودة على وجه الأرض، فبعث الله الرسل فلم ينتفعوا ببعثتهم، فعلى أحد الأقوال المشهورة في التفسير أن هذا في الأمم الذين بعث الله إليهم الرسل.

ومن أهل العلم من يقول: إن المقصود بذلك هم أهل الإشراك الذين كانوا في زمن النبي ﷺ، وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [سورة المؤمنون:53] في الآية الأخرى.

وابن جرير -رحمه الله- يرى أن قوله: كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَعام في الأمم، وأنه لا يختص بالمشركين، وهذا أقرب، وعبارة ابن كثير -رحمه الله- في قوله: وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ "أي: اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب"، وهذا يوافق قول ابن جرير: إن هذا في سائر الأمم، لكن عبارته أدق من عبارة ابن جرير، وعبارة ابن جرير هي قوله: هذا في كل الأمم، عام في الأمم، فكلامه بهذا المعنى، ولكن الفرق أن ابن كثير هنا عبارته دقيقة يقول: اختلفت الأمم على رسلها، ترى الأصل في العالِم حينما يكتب أنه يزن الحرف، ويقصد كل كلمة قالها، يقول: "اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب"، وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعني: كلما جاءهم رسول انقسموا فآمنت به طائفة وكفرت به طائفة، هذا لا يخالف قول ابن جرير، لكن هو أدق من ناحيتين:

الناحية الأولى: أن ابن جرير -رحمه الله- أطلقَ وعممَ فقال: هذا في الأمم، يعني صارت الأمم إلى أديان شتى، ابن كثير يقول: كلما جاء أمةً رسولٌ انقسموا فيه، فالنتيجة والنهاية هي أن البشرية تفرقت على أديان، يرجع إلى قول ابن جرير من هذه الناحية، من هذا الوجه، لكنه أدق في العبارة، فكلام ابن جرير وجماعة من السلف أن طائفة صاروا يهوداً وطائفة صاروا نصارى، وطائفة صاروا يعبدون الأوثان، ونحو ذلك، هذا لا يخالف قول ابن كثير، فمثلاً لما جاء عيسى ﷺ إلى بني إسرائيل وهم اليهود انقسموا، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فالتي كفرت صاروا إلى ما يعرف باليهود الآن، والذين آمنوا هم النصارى، وهكذا في سائر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فلما بعث الله محمداً ﷺ قالت اليهود: نبقى على يهوديتنا، إلا من شاء الله، والنصارى كذلك، وعبدة الأوثان كذلك، وتواصوا وقالوا: وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [سورة ص:6]، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ

فالشاهد أن هذا القول الذي قاله ابن جرير وما قاله ابن كثير هو موافق له في المآل، وأحسن من قول من خص ذلك بالمشركين الذين بعث فيهم النبي ﷺ، وهذا لا دليل عليه، ولا دليل على هذا التخصيص، والعلم عند الله .

وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ وهذه الآية ذكرها الله في سياق الذم لهؤلاء الذين تقطعوا أمرهم بينهم، كما في الآية الأخرى قوله: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وفي المقابل يأمر الله بالاجتماع والاعتصام بحبله المتين، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [سورة آل عمران:103]، وينهى عن مشابهة هؤلاء وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ [سورة آل عمران:105].

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذكر في اقتضاء الصراط المستقيم ما يقرب من ثمانية عشر وجهاً من وجوه موافقة هذه الأمة لمن قبلها، لتتبعن سنن من كان قبلكم[2]، وذكر منها التفرق في الدين، والتنازع، والتناحر، فهذا مما نهى الله عنه، والواجب الاعتصام بالكتاب والسنة، وجمع القلوب على هذا، والتآلف والمحبة بين المسلمين، وأما أن يبقى الناس أوزاعاً وأشتاتاً متناحرة فالله يقول: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46]، وهذا شيء مشاهد، والله المستعان.

ولهذا قال: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي: قلبه مصدق وعملَ صالحاً فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ، كقوله: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [سورة الكهف:30] أي: لا يُكفر سعيه وهو عمله بل يُشكر فلا يُظلم مثقال ذرة؛ ولهذا قال: وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَأي: يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء.

قوله -تبارك وتعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ هذه تتضمن شروط قبول العمل الثلاثة، وهي: الإخلاص، والمتابعة، وأن يكون ذلك على قاعدة الإيمان، الدين الصحيح –التوحيد الخالص، فإنه إذا اختل شرط من هذه الشروط فإن العمل لا يقبل، والله يقول في أول سورة الكهف: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الكهف:2]، هذا الشرط الأول، والشرط الثاني في قوله: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [سورة الإسراء:9]، العمل الصالح: وهو العمل الخالص الصواب الذي تابع فيه العامل النبي ﷺ.

فلو جاء إنسان على غير عقيدة التوحيد، فلو جاء يهودي أو وثني، أو رجل يعبد القبور، ويذبح لها ويدعوها من دون الله، وعمل عملاً يريد به وجه الله، وتابع فيه النبي ﷺ،  فجاء وصلى صلاة كما صلى النبي ﷺ يريد بها وجه الله، أو تصدق بصدقة يريد بها وجه الله، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يتقبل ذلك العمل منه؛ لأنه اختل شرط وهو الإيمان الصحيح، وقال سبحانه: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110].

وفي قوله -تبارك وتعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ، هذا كما قال الله : أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى [سورة آل عمران:195]، فالأعمال عنده لا تضيع، فهو يجزئ بالحسنات إحساناً ويضاعف ذلك، وهذا من معاني اسمه الشكور، فيشكر العبد بالثواب ويجازيه ويضاعف له ذلك.

وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ۝ حَتّىَ إِذَا فُتِحتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ۝ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الحَقّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُواْ يَوَيْلَنَا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا بَلْ كُنّا ظَالِمِينَ [سورة الأنبياء:95-97].

يقول تعالى: وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ قال ابن عباس: وجب، يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد.

هذه الآية ربما يقرؤها الإنسان ولا يستشكل المعنى، لكن نقول: إن هذه الطريقة تولد الإشكالات، وأحياناً لابد من بيان المعنى، فانظر مثلاً في قوله -تبارك وتعالى: وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ولم يقل: حرام عليهم أنهم يرجعون مثلاً، وإنما قال: وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ حرام عليهم الرجوع، فحرام بمعنى ممتنع، فقال: لاَ يَرْجِعُونَ ولم يقل: حرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا، حرام عليهم أن يرجعوا، فالممتنع هو الرجوع.

وخلاصة الكلام في هذه الآية أن الأقوال فيها ترجع إلى ثلاثة، من أهل العلم من يقول: لا يرجعون إلى الدنيا بعد الإهلاك، فالموعد القيامة، وهذا هو القول الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا، و"لا" هذه في قوله: أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ بعضهم يفسرها بـ "وَجَبَ"، مثلما يقول الإنسان أحياناً: حرام عليّ أن تفعل كذا، يريد أن يفعل ويؤكد يقول: حرام عليّ، يعني وجبَ عليّ، فيكون وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ بمعنى وجب أو واجب، فيكون المعنى وجب أنهم لا يرجعون إلى الدنيا.

ومن أهل العلم من يقول بأن الرجوع هنا ليس إلى الدنيا، وإنما الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى، فيكون المعنى: ممتنع عدم رجوعهم إلينا للجزاء: وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ، حرام عليهم أنهم لا يرجعون إلى الله، فسيرجعون إليه ويجازيهم ويحاسبهم على أعمالهم، فحرام بمعنى ممتنع، ويكون المعنى: أي ممتنع عدم رجوعهم إلى الله للجزاء والحساب، بل لابد أن يرجعوا، وعلى هذا تكون "لا" هذه في مكانها.

وكثير من أهل العلم من السلف فمن بعدهم يقولون: إن الرجوع المراد به هنا إلى التوبة أو بالتوبة، وتكون "لا" هذه زائدة، أي: زائدة إعراباً، وليست زائدة في المعنى؛ لأنه لا زائد في القرآن؛ ولأن الزيادة حشو، والقرآن منزه عن ذلك، فبعض الذين يقولون: إنها زائدة، يقول: حرام عليهم أن يرجعوا إلى الدنيا، ويقول: "لا" زائدة، وبعضهم يقول: حرام عليهم أن يتوبوا، أن يرجعوا إلى التوبة، فمن قضى الله بإهلاكهم، وختم على قلوبهم فإنهم لا يرجعون، كما قال الله عن الكفار في الآخرة حينما يتمنون الرجعة يقول: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [سورة الأنعام:28]، فمن قضى الله إهلاكه واستئصاله وعذابه فإنه لا سبيل إلى رجوعه إلى الله بالتوبة، وهذا معنى ذكره جماعة من أهل العلم، وممن اختار هذا القول كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وهو مروي عن ابن عباس -ا.

وبعضهم يقول: فيها إضمار، وهذا خلاف الأصل، وبعضهم يقول: حرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوب أهلها أن يُتقبل منهم عمل؛ لأنهم لا يتوبون، وهذا في نظري أبعد هذه الأقوال؛ لأن الأصل عدم التقدير، وإذا دار الكلام بين الاستقلال والإضمار فالأصل الاستقلال فيقدم على القول بالإضمار، والآية تحتمل المعاني السابقة، حرام على قرية أنهم لا يرجعون، لا يرجعون إلى الله ، ممتنع عدم رجوعهم إلى الله ليجازيهم، ويحتمل أن يكون المراد أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ يعني: بالتوبة، ممتنع رجوعهم بالتوبة، ويحتمل أن يكون الامتناع إنما هو برجوعهم إلى الحياة الدنيا من جديد، وأظن أن هذا -والله أعلم- هو أقرب هذه الأقوال.

وقوله: حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ قد قدمنا أنهم من سلالة آدم .

حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يحتمل أن تكون "حتى" هذه هي التي يذكر بعدها كلام، تتحدث وتقول: حتى ذهبنا إلى مكان كذا، وحتى قابلت فلاناً، فالله ذكر الأمم المهلكة ونحو ذلك، ثم قال: حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فذكر كلاماً بعده.

ويحتمل أن تكون "حتى" للغاية، تقول: مشيت حتى مكان كذا، حتى نهاية الطريق، فتكون للغاية، فهنا حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ من أهل العلم من يقول: هذه التي يُذكر بعدها كلام، فذكر بعد ذلك خبر يأجوج ومأجوج، وبعضهم يقول: لا، هذه للغاية وما قبلها مرتبط بما بعدها، والعكس، فيكون الكلام وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ۝ حَتّىَ إِذَا فُتِحتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، يعني أنهم يستمرون في غيهم وباطلهم حتى نهاية المطاف، حينما تظهر هذه العلامات الكبرى، ويظهر يأجوج ومأجوج، وعند ذلك تتابع أمارات الساعة هذه كالعقد إذا انفرط، ثم تقوم القيامة، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ.

فخروج يأجوج ومأجوج قريب من القيامة، فيقول: هؤلاء الذين قضينا بإهلاكهم لا يرجعون إلى الله ولا يتوبون إليه على هذا التفسير، فهم يستمرون في غيهم حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقتربت الساعة، فهم باقون على هذا الحال، ولو قيل بأن المعنى أن "حتى" هذه هي التي يذكر بعدها كلام لربما يكون أقرب، لاسيما إذا فسرنا ما قبله بأنهم لا يرجعون إلى الدنيا، فمن مات فات، لا سبيل إلى رجوعه.

والمقصود بقوله: وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أهل القرية، ويمكن أن يقال هذا في الأفراد إلا لأمر خارق، خارج عن الأصل، فمثل ما حصل في قصة قتيل بني إسرائيل لما ضُرب ببعض البقرة، فأحياه الله وأولئك الذين قص الله خبرهم خرجوا فراراً من الموت فقال لهم الله: مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [سورة البقرة:243]، وهكذا أيضاً أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [سورة البقرة:259]، فهذه أمور خارقة للعادة خلاف الأصل، فالأصل أن من مات لا سبيل إلى رجوعه، وهذا يُبطل الحكايات التي تسمعونها والقصص: أن شخصاً حفر قبراً ووجد شخصاً وكلمه وقال كذا، وأشياء تذكر في الوعظ أحياناً، لا أساس لها من الصحة، فالذي مات مات لا يرجع مرة ثانية.

قد قدمنا أنهم من سلالة آدم ، بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث، أي أبي الترك، والترك شرذمة منهم، تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين، وقال: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ۝ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بعْضٍ [سورة الكهف:98، 99] الآية.

يعني أن الترك شرذمة منهم، الترك على كثرتهم يعتبرون شرذمة من يأجوج ومأجوج؛ لأن يأجوج ومأجوج أمة كبيرة جداً، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري : عن النبي ﷺ قال: يقول الله تعالى: يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، قالوا: يا رسول الله وأينا ذلك الواحد؟ قال: أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا، ثم قال: والذي نفسي بيده إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبرنا، فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبرنا، فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود[3].

فيأجوج ومأجوج ما وجدوا في أمة إلا كثروها، فهم بهذه الدرجة من الكثرة، ولا يفسر هؤلاء بأهل الصين؛ لأن أهل الصين لا يحول بينهم وبين الناس سد، ولا يوجد عندهم ما ذكره النبي ﷺ من أنهم في كل يوم يخرقون في هذا السد، والنبي ﷺ استيقظ في يوم مذعوراً يقول: ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا[4].

وذكر النبي ﷺ أنه في كل يوم يحاولون نقبه، ثم يقولون: نرجع في اليوم الثاني، فيجدونه رجع كما كان، حتى يقولوا في النهاية -إذا شاء الله أن يُفتح: إن شاء الله، فعند ذلك يواصلون العمل ويفتح، وهذه الأشياء لا يمكن أن يقال: إنها في الصين؛ لأن الناس يختلطون معهم والأبواب مفتحة، والطرق، والطائرات، والسيارات، والدنيا كلها، وسد الصين هذا ليس هو سد ذي القرنين، والناس يذهبون ويتنزهون عليه، وصار معلماً سياحياً يأتيه الناس من أقاصي الدنيا.

وكل الأحاديث إذا نظرت إليها، وما يأتي دليل على أن هؤلاء في آخر الزمان، وأنهم يأتون في زمن عيسى ﷺ، والذي يحمل هؤلاء الناس على القول بأن يأجوج ومأجوج هم أهل الصين هو -والله أعلم- أنهم يقولون: الآن كل الكرة الأرضية بالأقمار الصناعية ما بقي منها شبر واحد إلا عُرف، فأين هذه الأمة الضخمة التي تقدر بهذا، كما جاء في الأحاديث وسيأتي أنهم يمرون على النهر فيشربونه، وعلى البحيرة فيشربونها، ويأتي من بعدهم ويقول: قد كان ههنا ماء، هؤلاء أكثر من الصينيين؟

فنقول جواباً عن هذا: إذا أراد الله أمراً كان، كما قال ابن عباس -ا- لما سئل عن الهدهد، يقال: إنه يرى الماء تحت الأرض، فقيل: هذا الصبي يضع له الفخ ويصطاده، فقال: إذا جاء القدر عمي البصر، فبنو إسرائيل بقوا في التيه هذه المدة الطويلة، حسب موضع الوقف والوصل في الآية، أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:26] بقوا مدة طويلة، ومعهم موسى ﷺ، وهم يتحركون ويجولون في أرض سيناء في صحراء ليست ضخمة، ليست واسعة الأطراف بحيث إنهم لو توجهوا من أي اتجاه فإنهم سيقطعونها في أيام يسيرة، ويجلسون نحو أربعين سنة، وقد جاء في الأخبار أنهم يمشون فإذا باتوا في محل وجدوا أنفسهم في المكان الذي مشوا منه، فالله أراد أن يخفى عليهم هذا، فكان.

وتميم الداري لما وجد الدجال في جزيرة، سمعت بعض الناس، وكتب أحدهم كتاباً في الدجال، وقال: الآن الأقمار الصناعية، اكتشفوا الجزر، واكتشفوا كل مكان أين الدجال؟ وهذا تكذيب منه للحديث، أراد الله أن يطلع عليه تميم الداري -، فكان ما أراد، والإنسان أحياناً يبحث عن نظارته وهو لابس لها، أو يبحث عن قلمه وقد وضعه في أذنه، وأحياناً من يبحث معه لا يتفطن لما يُبحث عنه، فإذا أراد الله شيئاً كان، والإنسان ضعيف والله يريه ضعفه بأمور كثيرة، والله المستعان.

وقال في هذه الآية الكريمة: حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَأي: يسرعون في المشي إلى الفساد.

قوله: يَنسِلُونَ هذه صفة للمشية السريعة، وبعض أئمة اللغة يقول: مثل مشية الذئب، وهؤلاء من كل حدب ينسلون، ينزلون من كل مكان مرتفع، والإنسان ينزل من المكان المرتفع بنوع من الإسراع، فهؤلاء من كل حدب لكثرتهم، من كل مكان مرتفع فتراهم ينزلون مثل الجراد، يمشون بهذه الطريقة التي وصفها الله -.

والحَدَب هو المرتفع من الأرض، قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم، وهذه صفتهم في حال خروجهم، كأن السامع مشاهد لذلك وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [سورة فاطر:14] هذا إخبار عالم ما كان وما يكون، الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو.

وروى ابن جرير عن عبيد الله بن يزيد قال: رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون، فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج، وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية.

يعني أنهم يخرجون بسرعة في مشيتهم، وكما أخبر الله أيضاً عن الناس في المحشر، كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ [سورة القمر:7] من كثرتهم، وهذا الجراد المنتشر من كثرته يركب بعضه بعضاً، وإذا انتشر في مكان يملأه كالفراش، فيأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون لكثرتهم، فهم يسرعون، ينزلون من كل مرتفع، وهي ساعة لطالما انتظروها، والله المستعان.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16]، برقم (3259)، عن أبي هريرة بلفظ: أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء أخوة لعَلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد.
  2. رواه البخاري، من حديث أبي سعيد الخدري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم، برقم (7320).
  3. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، برقم (3170)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم أخرج بعث النار، برقم (222).
  4. رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي ﷺ: ويل للعرب من شر قد اقترب، برقم (6650)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتران الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، برقم (2880)، من حديث زينب بنت جحش -ا.

مواد ذات صلة