الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[2] من قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} الآية:13 إلى قوله تعالى: {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} الآية:26
تاريخ النشر: ٠٤ / ذو القعدة / ١٤٢٧
التحميل: 3893
مرات الإستماع: 10735

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ ۝ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ۝ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ۝ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ۝ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ۝ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ ۝ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ۝ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ۝ وَحُورٌ عِينٌ ۝ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ۝ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ۝ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [سورة الواقعة:13-26].

يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء السابقين أنهم ثُلَّةٌ أي: جماعة مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ، وقد اختلفوا في المراد بقوله: الأوَّلِينَ، والآخِرِينَ، فقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، والآخرين: هذه الأمة، هذا رواية عن مجاهد، والحسن البصري، رواها عنهما ابن أبي حاتم، وهو اختيار ابن جرير، واستأنس بقوله ﷺ: نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة[1]، ولم يحكِ غيره ولا عزاه إلى أحد.

ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم عن أبي هريرة ، قال: لما نزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب النبي ﷺ، فنزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ فقال النبي ﷺ: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة -أو شطر أهل الجنة- وتقاسمونهم النصف الثاني[2]، ورواه الإمام أحمد.

وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا فيه نظر، بل هو قول ضعيف؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة، والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم -والله أعلم، فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ أي: من صدر هذه الأمة، وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ أي: من هذه الأمة.

وروى ابن أبي حاتم عن السُّرِّيّ بن يحيى قال: قرأ الحسن: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۝ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ۝ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ۝ ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ثلة ممن مضى من هذه الأمة.

وروى عن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الآية: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ قال: كانوا يقولون -أو يرجون- أن يكونوا كلهم من هذه الأمة، فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة، ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن يعم الأمر جميع الأمم كل أمة بحسبها؛ ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله ﷺ قال: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم[3] الحديث بتمامه.

وقال : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، إلى قيام الساعة[4]، وفي لفظ: حتى يأتي أمر الله وهم كذلك[5]، والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة؛ لشرف دينها وعظم نبيها ﷺ، ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله ﷺ أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، وفي لفظ: مع كل ألف سبعون ألفا[6]، وفي آخر: مع كل واحد سبعون ألفا[7].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ هذا يرجع كما لا يخفى إلى السابقين، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ۝ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ۝ ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- أورد هنا القولين في الآية في المراد بـ ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ والمراد بـ"الثلة" الجماعة الكثيرة غير محصورة العدد، و"الثلة" طائفة كبيرة من الناس أعداد كثيرة من الناس.

والكلام في "الثلة" هنا من الأولين كالكلام في الآية الأخرى عن أصحاب اليمين، ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ، والكلام في "قليل" هنا من الآخرين كالكلام في وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ [سورة الواقعة:40] بمعنى إذا قيل: إن الثلة من الأولين في الموضع الأول يراد به الأمم السابقة فكذلك في الموضع الثاني في أصحاب اليمين يراد به الأمم السابقة، والكلام على الآخرين في الموضعين يكون مراداً به هذه الأمة.

وإذا قيل: إن الجميع يتعلق بهذه الأمة فإن ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ يتعلق بأولها، واختلفوا في المراد بهم، فمنهم من قال: المراد بهم الصحابة يعني في السابقين ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ، ومنهم من قال: أهل القرون المفضلة الذين ذكرهم النبي ﷺ في الحديث المشهور: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، فهؤلاء ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ يعني: في السابقين.

والذين قالوا: إن الثلة من الأولين في الموضعين يرجع إلى الأمم السابقة احتجوا لهذا بحجج من أبرزها حجتان:

الأولى في هذه الآيات؛ فالآيات لا تتحدث عن هذه الأمة، الآيات تتحدث عن اليوم الآخر وما يحصل فيه من الأهوال والأوجال، وما يقع من انقسام الناس إلى هذه الطوائف الثلاث، والله يقول: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ۝ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ۝ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ، تخفض أقواماً وترفع آخرين، ثم ذكر ما يحصل من رج الأرض وبسِّ الجبال قال: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً [سورة الواقعة:7] هل المقصود به هذه الأمة فحسب؟ فالذين قالوا: جميع الأمم قالوا: اليوم الآخر لا يختص بهذه الأمة، بل إن ذلك الانقسام يكون لأهل المحشر، وكنتم أيها الناس أزواجاً ثلاثة، ثلاثة أصناف، الجبال يحصل لها كذا، والأرض يحصل لها كذا، والناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: وهذه حجة ظاهرة، فليس فيه ما يخصص هذه الأمة، واليوم الآخر ليس حصراً عليهم، وليس في الآية ما يشعر بأن المراد بذلك هذه الأمة.

والحجة الأخرى: الحديث المتعلق بسبب نزول الموضع الآخر في أصحاب اليمين ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ [سورة الواقعة:39، 40]، وهذا الحديث وإن كان في إسناده ضعف إلا أنه ضعف منجبر، فأقل أحوال هذا الحديث أنه حسن لغيره فالنبي ﷺ لما شق عليهم: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ، نزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ.

قد يقول قائل: شق عليهم باعتبار أن السابقين من هذه الأمة ثلة، وأن أصحاب اليمين والكثرة من السابقين المتقدمون من هذه الأمة، وأن القليل منهم من يصل إلى هذه المرتبة، شق عليهم باعتبار حال المتأخرين من هذه الأمة قد يقول قائل هذا: إنهم لم يفهموا أن المراد بالثلة من الأولين في السابقين أنها الأمم السابقة، لا.

قد يقول قائل: الذي شق عليهم أن السابقين من هذه الأمة ثلة، وأن الأكثرية من أصحاب اليمين، لكن هذا الفهم غير صحيح، يعني: هم لم يفهموا هذا؛ لأن النبي ﷺ قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة -أو شطر أهل الجنة- وتقاسمونهم النصف الثاني، فدل ذلك على أنهم استشكلوا أن يكون السابقون قلة من هذه الأمة، هذا الذي شق عليهم فطمأنهم النبي ﷺ، وأخبر أن هذه الأمة تبلغ إلى نصف أهل الجنة.

الخلاصة: أن هذا الحديث يؤيد قول من قال بأن الثلة من الأولين الأمم المتقدمة، وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ في هذه الأمة، "الآخرين" هذه الأمة ويشهد له: نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة، فقوله: نحن الآخرون، كقوله هنا: وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ، هنا دليل من قال المراد به: الأمم المتقدمة، فالدليل الأول من الآيات، والدليل الثاني في سبب النزول، وهذه أدلة قوية، قوله ﷺ: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، يمكن أن يقوي هذا المعنى، وإن كان ليس بصريح في المراد هنا بالآيات، هذا الذي قال به كبير المفسرين ابن جرير، وممن قال به من المتأخرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

والذين ردوا هذا القول كالحافظ ابن كثير ردوه من أجل أن هذه الأمة هي أفضل الأمم، فكيف يكون السابقون فيها قلة، ويكون السابقون من الأمم السابقة كثرة؟ وهذه الأمة أشرف وأكرم على الله ، فهي خير أمة أخرجت للناس، فكيف تكون بهذه المثابة في الجزاء والمرتبة في الآخرة؟، هذا هو الإشكال فقط.

والجواب عن هذا أن الأمم السابقة أمم كثيرة لا يحصيها إلا الله  من آدم ﷺ إلى بعثة رسول الله -عليه الصلاة والسلام، فيهم رسل كثير وفيهم أيضاً أتباع الرسل فهم باعتبار هذه الكثرة في هذه المدد المتطاولة الممتدة، فإن هذه الأمة بالنسبة إليهم شيء قليل، والمدة التي بقيت إلى قيام الساعة منذ مبعث النبي ﷺ مدة قليلة بالنسبة لما مضى؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام: بعثت أنا والساعة كهاتين[8]، وأخبر أنه لم يبق من الدنيا إلا صُبابة يتصابُّها الناس، مثل الشيء القليل فالدنيا مضى أكثرها، وما بقي منها إلا القليل، وأخبر النبي ﷺ عن حال اليهود وحال النصارى، وحال هذه الأمة بالرجل الذي استأجر أجراء على عمل فاليهود عملوا إلى نصف النهار، والنصارى عملوا إلى العصر، وجاءت هذه الأمة وعملت ما بعد العصر فوفاهم الله أجرهم[9]، هذا فقط بالنظر إلى اليهود والنصارى فكيف بمن قبلهم من الأمم؟!

فإذا نظر إلى هذه الأعداد الكثيرة في هذه الأمم فتكون هذه الأمة بالنسبة إليهم قليلة بهذا الاعتبار، رسل كثير، أنبياء، وأتباع أنبياء لكن لو قرنت بأمة واحدة فإن هذه الأمة قد تربو عليها، هذا الإشكال وهذا الجواب عنه.

وكذا أن الداخلين من هذه الأمة في الجنة أكثر من غيرهم، أو يمثلون شطر أهل الجنة، يعني: لو نظرنا إلى كل أمة من الأمم فإن هذه الأمة يدخل الجنةَ منها أكثرُ من أي أمة من الأمم، وبمجموع الأمم يمثلون شطر أهل الجنة، فكيف قال: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ من الأمم السابقة، وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ؟

فيقال: إن الكثرة تأتي من أصحاب اليمين ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ، وهذا لا يقتضي التساوي، إذا قيل ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ لا يعني أن العدد يستوي في الثلثين، يوضح ذلك الحديث وهو أن النبي ﷺ أوصلهم إلى شطر أهل الجنة قال: وتقاسمونهم النصف الثاني، فيكون بهذا الاعتبار مجموع القلة في السابقين، قليل من الأولين مع الثلة من أصحاب اليمين من الآخرين المجموع من هؤلاء وهؤلاء يمثلون شطر أهل الجنة، فتكون الأدلة بهذا مجتمعة وليس بينها منافاة، والإيراد الذي أورده ابن كثير -رحمه الله- يجاب عنه بمثل هذا الجواب.

بعد ذلك قال ابن كثير: "قال: كانوا يقولون -أو يرجون- أن يكونوا كلهم من هذه الأمة، فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة، ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن يعم الأمر جميع الأمم كل أمة بحسبها" ليس هذا رجوعاً من ابن كثير عن قوله الذي قرره، ولم يذكر هذا احتمالاً في معنى يناقضه، فهو لا زال يقرر المعنى الذي قال به لكنه هنا يضيف عليه فيقول: يحتمل أن يكون المراد: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ هذا باعتبار كل أمة، الآيات تحتمل هذا، إذا حشرت الأمم.

يعني الآن هو يريد أن يقول: نعم هذه الآيات تتحدث عن اليوم الآخر، واليوم الآخر لا يختص بهذه الأمة، فيمكن أن يكون المراد بـثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ بحسب كل أمة يعني يكون هذا متوجهاً لكل أمة، كل أمة فيها ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ، وهذه الأمة فيها ثلة من الأولين وقليل من الآخرين في السابقين لكنه لا زال متمسكاً بأن السابقين في هذه الأمة "ثلة". 

لكن على قول ابن جرير قلة، الثلة في الأمم السابقة ما هو باعتبار كل بانفراد، باعتبار مجموع الأمم "ثلة"، وبالنسبة لهذه الأمة قليل من الآخرين، هم قلة وهم الصحابة، أو القرون الثلاثة المفضلة، وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ في الصحابة، وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ في المتأخرين في هذه الأمة، على قول ابن جرير وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ هم الصحابة أو القرون الثلاثة المفضلة، قليل من الآخرين السابقين، والثلة من أصحاب اليمين ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ.

والأقرب -الذي يدل عليه ظاهر الآيات والحديث- أن المقصود الأمم السابقة، وأن هذا لا يختص بهذه الأمة.

وقوله: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قال ابن عباس: أي: مرمولة بالذهب، يعني: منسوجة به. وكذا قال مجاهد، وعِكرمة، وسعيد بن جُبَيْر، وزيد بن أسلم، وقتادة، والضحاك، وغيره.

وقال ابن جرير: ومنه سمي وضين الناقة الذي تحت بطنها، وهو فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه مضفور، وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللآلئ.

عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ الوضن يقال: لكل نسج قد أحكم وأدخل بعضه في بعض، فهذا تسميه العرب "وضناً"، ويقال: هذا موضون يقول: يعني منسوجة قال ابن عباس: أي مرمولة بالذهب يعني: منسوجة قد أدخل بعضها في بعض، كما توضن حلق الدرع، ويقال في البناء: موضون وضن البناء بمعنى وضع بعضه على بعض، يضع اللبن بعضها على بعض، وفيه معنى الترتيب؛ ولهذا فسرها بعض السلف بأن "موضونة" يعني مصفوفة، فرش موضونة يعني مصفوفة.

ومن قال: منسوجة راعى فيها هذا المعنى، أن وضع الشيء على الشيء يقال له: الوضن، فهي مجدولة أو منسوجة بالذهب مثلاً، يقول: قال ابن جرير: ومنه يسمى وضين الناقة الذي تحت بطنها، المقصود بـ "وضين الناقة الذي تحت بطنها" هو عبارة عن حزام عريض موضون بمعنى أنه قد أدخل بعضه في بعض، ويصنع من الجلود، أو من الشعر أو نحو ذلك مما يشد به الرحل أو يشد به الهودج الذي يوضع فوقها أو نحو ذلك، فهذه السيور التي تكون تحت بطن الناقة يقال لها: وضين قد نسج بعضه على بعض، الوضين: حزام عريض تحت بطن الناقة أو الجمل أو نحو ذلك يربط به ما على ظهرها من رحل أو هودج أو نحو ذلك.

وقال: مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ أي: وجوه بعضهم إلى بعض، ليس أحد وراء أحد.

وهذا أحسن ما يكون في المجالس، متقابلين كما قال الله : إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [سورة الحجر:47] و"السرر" تقال لـ: سرير الملك، وهو المكان الذي يجلس عليه، مرتفع، وكما جاء في الحديث في الذين يغزون يركبون البحر قال: كالملوك على السرر[10].

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ أي: مخلدون على صفة واحدة، لا يكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون.

قوله: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ الولدان تعني أنهم صغار السن مُخَلَّدُونَ، قيل: إنهم الذين يموتون من أطفال المسلمين قبل التكليف، وقيل: إنهم أطفال المشركين، ويحتمل أن يكون الله قد أنشأهم وخلقهم في الجنة؛ لخدمة أهل الجنة، ومعنى مُخَلَّدُونَ هذه اللفظة في لغة العرب تأتي لمعانٍ متعددة: تأتي بمعنى لا يهرمون، والعرب تطلق وتقول: المخلد على الذي لا يظهر فيه الشيب، ولا يتغير مع مرور السنين، ويقال: المخلد للذي لا يموت، خَالِدِينَ فِيهَا [سورة الأحقاف:14] بمعنى أنهم يمكثون فيها بلا انتهاء، وأيضاً تأتي هذه الكلمة مُخَلَّدُونَ على المتقاربين في السن، يعني في سن متقاربة.

ومن أهل العلم من قال: أي مقرطون: يعني يلبسون الأقراط وذلك في الآذان، ويقال: "خلّد جاريته" يعني حلاها بالأقراط خلدها، "جارية مخلدة" أي أنها تلبس القرط أو الأقراط، وهكذا قول من قال: إنهم منعمون، وقول من قال: إنهم مستورون يعني بالحرير والذهب الذي يلبسونه، مستورون بالحلية كل هذه المعاني ذكرت، والحافظ ابن كثير جمع بعضها فقال: لا يكبرون، على صفة واحدة لا يشيبون ولا يتغيرون، فالله قال: مُخَلَّدُونَ وأطلق، وهذه اللفظة تأتي في كلام العرب على هذه المعاني، فهم لا يموتون، لا يهرمون، لا يتغيرون كما هو الحال بالنسبة لأهل الدنيا.

بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، أما الأكواب فهي: الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان، والأباريق: التي جمعت الوصفين.

إي، ولا عُرى، مالها شيء يعني الأكواب، والكوب هو الذي ليس له آذان، هو متسع من أعلى مستدير، ليس فيه خرطوم من الجهة التي يصب منها الشراب، وليس له مقبض لا من جهة واحدة ولا من جهتين، وليس له عرى، يقول: "لا خراطيم لها ولا آذان" ولا عرى، أحياناً قد يكون المقبض في أعلاها أو في الجنب فهذه ليس لها مقابض، وليس لها خراطيم، فالعرب تقول لما كان كذلك مما يشرب به: كوب، وقوله: "والأباريق: التي جمعت الوصفين" يعني: لها خراطيم ولها عرى، وهذا لا زال مستعملاً إلى اليوم نقول: إبريق الماء.

والكئوس: الهنابات، والجميع من خمر من عين جارية مَعِين، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ، بل من عيون سارحة.

وقوله: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ أي: لا تصدع رءوسهم ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة.

وروى الضحاك، عن ابن عباس، أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال.

وقال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطية، وقتادة، والسُّدِّيّ: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا يقول: ليس لهم فيها صداع رأس.

وقالوا في قوله:وَلا يُنزفُونَ أي: لا تذهب بعقولهم.

يقول: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ أي: لا تصدع رءوسهم، يصدعون يحتمل أن يكون بمعنى الصداع، لا يصيبهم الصداع كما هي العادة في خمر الدنيا أن من شربها أصابه الصداع وهو وجع الرأس، وهذا هو المعنى المتبادر.

ويحتمل أن يكون المعنى لا يُصَدَّعُونَ أي: لا يتفرقون بعدها كما يتفرق الشُّراب عادة في الدنيا، يشربون يجتمعون على خمرة على كأس ثم بعد ذلك يتفرقون بعدها فينقضي أنسهم ولذتهم، فهؤلاء لا يتفرقون، وقد يؤيد ذلك قراءة لمجاهد غير متواترة "بفتح الياء" لا يَصَّدَّعون بمعنى لا يتفرقون، كما قال الله في اليوم الآخر: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [سورة الروم:43].

فالحاصل أنه يحتمل هذا المعنى، لكن المعنى الغالب وعليه القراءة المتواترة هو ما سبق، يعني لا يصيبهم الصداع، قال: وَلَا يُنزِفُونَ يعني لا تذهب عقولهم، قال بل هي ثابتة مع الشدة المطربة؛ لأن اللذة إذا بلغت غايتها فإن العقل يستنزف معها ويذهب، فلذلك يذهب عقل صاحب السكر، فهذه تُبقى لهم عقولهم مع غاية اللذة، وهذا يدل على أن الله ينشئ الناس في الآخرة نشأة أخرى، فيجتمع لهم هذا وهذا وإلا فالعقل لا يحتمل كمال اللذة، فإنه يرتفع معها ولا يشعر بشيء، فيقول هنا: قال مجاهد وعكرمة لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا يقول: "ليس لهم فيها صداع رأس" قال: وَلَا يُنزِفُونَ "أي: لا تذهب عقولهم" لا يصدعون عنها. 

ويحتمل أن يكون المعنى لا يصدعون عنها ولا ينزفون، وينزِفون بكسر "الزاي" يعني لا يذهب شرابهم وينتهي كما ينتهي شراب أهل الدنيا، فتحتمل هذا المعنى لا ينقضي شرابهم، وبهذا فسرها ابن جرير وَلَا يُنزِفُونَ ما ينتهي ما عندهم من الشراب، والقراءة الأخرى المتواترة وَلَا يُنزِفُونَ بمعنى تذهب عقولهم.

  1. رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، برقم (836)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، (855).
  2. تفسير ابن أبي حاتم - (12/ 272)، تفسير سورة الواقعة، وروي في البخاري بلفظ: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبرنا فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبرنا فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود، كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، برقم (3170).
  3. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبي ﷺ، و، برقم (3450)، بلفظ: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم...)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، برقم (2533).
  4. رواه البخاري، بلفظ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وهم أهل العلم، برقم (6881)، ومسلم، بلفظ: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، برقم (1037).
  5. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، برقم (1920).
  6. رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد ﷺ، برقم (4286)، وأحمد في المسند، برقم (22156)، وقال محققوه: صحيح، وهذا إسناد قوي من جهة سليم بن عامر الخبائري، رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5366).
  7. رواه أحمد في المسند، برقم (22)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1484).
  8. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة والنازعات، برقم (4652)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، برقم (2951).
  9. رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، برقم (533).
  10. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم، برقم (2646)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الغزو في البحر، برقم (1912).

مواد ذات صلة