الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
[4] من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} الآية 16 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} الآية 22
تاريخ النشر: ٢٨ / صفر / ١٤٢٨
التحميل: 4323
مرات الإستماع: 3698

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [سورة التوبة:16].

يقول تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أيها المؤمنون أن نترككم مهملين، لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب، ولهذا قال: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أي: بطانة ودخيلة، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر، وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [سورة العنكبوت:1-3]

وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:142]، وقال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الآية [سورة آل عمران:179].

والحاصل أنه تعالى لما شرع الجهاد لعباده، بين أن له فيه حكمة، وهو اختبار عبيده، من يطيعه ممن يعصيه، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فيعلم الشيء قبل كونه، ومع كونه على ما هو عليه، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، ولا راد لما قدره وأمضاه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا "أم" هذه هي المنقطعة التي بمعنى "بل"، حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ [سورة محمد:31]، يعني العلم الذي يكون بعد تحقق الوقوع وهو مناط الجزاء، هذا هو المراد في هذا ونظائره، والله تعالى أعلم، قال: وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في معنى الوليجة: أي بطانة ودخيلة، كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فإنه يقال له: وليجة. 

وقد فسر بالبطانة، وهذا صحيح، فالذي يدّعي الإيمان ويظهر الإيمان ويكون له وجه إلى الكفار يتخذهم ويجعل منهم خاصة له يطلعهم على أمور المسلمين، ويظهر لهم مواضع الضعف في الأمة، أو بجعلهم إما مستشارين له أو مقربين إليه يطلعون على أمور ما كان ينبغي لهم أن يطلعوا عليها فهذا من اتخاذهم وليجة، لا تُدنِهم ولا تقربْهم، ولا تدخلهم ولا تطلعهم على شيء من أمور المسلمين الخاصة، أمّا مجرد تقريبهم بحيث إن هذا التقريب يطلعهم على أمور ما كان ينبغي لهم أن يطلعوا عليها كأن تتخذه كاتباً، أو مستشارا أو في مركز يمكنه من الاطلاع على كثير من الخبايا والخفايا فهذا لا يجوز، وهذا من اتخاذهم وليجة، أو كان ذلك بالإفضاء إليهم، يجعلهم جلساء وخاصة له، ويطلعهم ويخبرهم فهذا كله لا يجوز، وهو من موالاتهم، عبارة ابن كثير هنا يقول: أي بطانة ودخيلة، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر يعني الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وإنما يتخذ من أهل النصح لله ولرسوله ﷺ أهل الصدق والإيمان.

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ۝ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [سورة التوبة:17-18].

يقول تعالى: ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، ومن قرأ: "مسجد الله" فأراد به المسجد الحرام، أشرف المساجد في الأرض، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن، هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، أي: بحالهم وقالهم، قال السُّدِّي: لو سألت النصراني: ما دينك؟ لقال: نصراني، واليهودي: ما دينك؟ لقال يهودي، والصابئي، لقال: صابئي، والمشرك، لقال: مشرك.

أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أي: بشركهم، وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ، وقال تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة الأنفال:34].

هنا في قوله: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ مثل هذا الاستعمال تارة يرد في الممتنع شرعاً مثل قول الله : مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ [سورة التوبة:120]، وتارة يأتي في الممتنع عادة، وتارة يأتي في الممتنع عقلا، فالله يقول: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ [سورة الأحزاب:40]، مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60]، فالسياق هو الذي يبين المراد، وهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي أن ذلك لا يقع منهم، ولا يتأتى منهم، ولا ينتظر منهم؛ لأنهم على الضد من ذلك، أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ فهم ليسوا بكفء ولا أهل لهذا.

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ إنما تكون عمارة المساجد من قِبل أهل الإيمان، وقوله هنا: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ قرء الجمهور مَسَاجِدَ اللَّهِ بالجمع، وهناك قراءة أخرى أشار إليها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهي متواترة قرأ بها أبو عمرو وابن كثير {أن يعمروا مسجد الله}، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا من أن مسجد الله المراد به المسجد الحرام ذكره بعض السلف، بل إن من أهل العلم من قال: إن مَسَاجِدَ اللَّهِ عبر به عن المسجد الحرام بناء على القاعدة المعروفة أنه قد يعبر بالجمع عن المفرد والعكس، فقالوا: إن مَسَاجِدَ اللَّهِ بمعنى مسجد الله، والحسن البصري -رحمه الله- وجه هذا باعتبار أن المسجد الحرام هو قبلة المساجد، فمن عمر المسجد الحرام فهو عامر لسائر المساجد، ومساجد الله جمع، ومسجد الله أيضا مفرد مضاف، والمفرد المضاف يفيد العموم، فيمكن أن تكون القراءتان بمعنى واحد، إما باعتبار أن مسجد الله بمعنى الجمع.

أو عكس هذا أن مَسَاجِدَ اللَّهِ يقصد به المسجد الحرام، والذين قالوا: إن المقصود بهذا هو المسجد الحرام نظروا الى أن الآيات تتحدث عن المشركين الذين كانوا يفتخرون بعمارة المسجد الحرام كما قال الله : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة:19]، فإذا كان هذا هو المراد فهنا احتاجوا إلى أن يقولوا: إن مَسَاجِدَ اللَّهِ بمعنى المسجد الحرام هذا هو السبب، وهذه الآيات وإن كانت تتحدث عن المشركين الذين افتخروا بعمارة المسجد الحرام إلا أن ظاهرها العموم، فهي فيهم وهم السبب المتعلق بنزولها. 

ولكن العبرة بعموم اللفظ، إذا حملنا ذلك على العموم، فيقال: هذا فيهم وفي غيرهم ممن يفعل المتناقضات، ويحارب دين الله ، ويسعى في الأرض فساداً ثم بعد ذلك يدعي أنه يبني المساجد ويعمرها، ويفاخر بها وما أشبه هذا، وهذا موجود في بلاد كثيرة، تجد حرباً لله ولرسوله ﷺ، وتجد في المقابل من يبني مسجداً تحفة معمارية هائلة ويأتيه السواح عراة يتفرجون عليه من أقطار الدنيا، تحفة معمارية للسياحة تنفق فيه أموال هائلة في بلاد يطحنها الفقر، وهذا الذي بناه يحارب الدعوة إلى الله، ويحارب الدعاة، ويحارب العلماء، ويحارب الحجاب، ويحارب الإسلام والمسلمين، فهذا تناقض.

والعمارة يدخل فيها العمارة الحسية ببنائها وتشييدها من غير مبالغة؛ لأن النبي ﷺ نهى عن تشييد المساجد وبنائها للمباهاة، ويدخل فيها العمارة المعنوية عمارة المساجد بذكر الله ، وإقام الصلاة، وما شابه ذلك من المعاني التي بنيت المساجد من أجلها، إقامة ذكر الله في الأرض، فهذا كله من عمارتها، والمشركون على خلاف هذا، فكيف يعمرون المساجد عمارة حسية؟!

وأيضا إن نظرنا إلى المشركين في مكة الذين تتحدث عنهم الآيات هؤلاء وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [سورة الأنفال:35]، تصفيق وتصفير هذه عمارة المسجد الحرام عندهم، والشرك بالله وتلبية شريكه كما تعرفون، "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك"، فهذا هدم للمساجد وليس ذلك من عمارتها في شيء.

مسألة:

بناء الكافر للمسجد: بمعنى أنه يتبرع ببناء مسجد، فمن أهل العلم من يقول: إن هذا لا يفعله الكافر؛ لئلا يكون له منة على المسلمين، ومثل هذه القضايا ينظر فيها إلى المصلحة، ينظر فيها إلى المصالح الشرعية، فقد يتخذ المسلمون مسجداً بناه لهم الكفار، يعني لو أن المسلمين في بلاد الكفار تبرعت لهم البلدية أو الجامعة التي يدرسون فيها ببناء وقالوا: هذا مسجد لكم صلوا فيه، فيُصلَّى فيه ولا يقال: لا، نحن نبنيه، أو نشتريه بمالنا، فمثل هذا يقبل ويصلى فيه، لو قالوا لهم: هذه كنيسة ما صار يأتيها أحد، خذوها وغيروا معالمها واجعلوها لكم مسجداً فهذا لا إشكال فيه.

لكن لو أن أحدا من الكفار جاء وقال في بلاد المسلمين وفيهم أهل غنى ويسار قال للمسلمين: أنا أريد أن أتبرع ببناء مسجد يمكن أن يقولوا له: لا نريد منك مسجداً، نحن في غنى عنك، يمكن أن يقولوا هذا، لكن لا يجب عليهم هذا الجواب، والآيات هنا تتحدث عن أناس يفتخرون أنهم أهل للدين وأهل مكة، وأهل عبادة و أهل عمارة المسجد الحرام يقولون: ماذا صنعتم أنتم؟ نحن أهل السقاية والرفادة، ونحن أهل الحرم والعمارة، فالله رد عليهم بهذا الاعتبار. 

وأما دخول الكفار إلى المسجد للبناء كأجير عامل، أو مهندس صوتيات أو نحو هذا فهذا لا إشكال فيه، يجوز ولا يحرم، وسيأتي قول الله : أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114]، لكن ليس المعنى أنه يحرم دخول الكافر المسجد ليس هذا معناه، لكن هناك صور يمنعون منها مثل إذا جاء هؤلاء العراة، الحفاة من الدين، إذا جاءوا يتفرجون ويتسكعون في بلاد المسلمين يريدون أن يدخلوا هم ونساؤهم المتبرجات العاريات ويتفرجوا على المساجد، والمساجد القديمة، كما يقولون: التراث الإسلامي يقال لهم: لا يدخل هؤلاء هذه المساجد، ففرق بين هذا وهذا.

فالكافر يجوز أن يدخل المسجد إما أن يكون بنّاء أو يكون هذا الكافر يريد أن يسمع أو يرى المسلمين، فبعض الناس قد يأتي بكافر معه يقول: أريده أن يتعلم الإسلام، يريد أن يرى المسلمين وهم يصلون، وهم يفطرون في رمضان وهم كذا فهذا لا إشكال فيه، وهذا يقع كثيرا في البلاد التي فيها جاليات وكذا، يأتى بكافر وهذا يأتي بصاحبه، وهذا يأتي بشخص يعرفه لعله يسلم ويرى المسلمين وما يعملونه بالمسجد فلا إشكال في هذا، بل حتى المسجد النبوي حرم المدينة لا يمنع من دخوله الكفار، والنبي  ﷺ ربط ثمامة بن أثال في المسجد، وجبير بن مطعم في المسجد، وجاء وفد نجران للنبي ﷺ، وقيل: إنه أسكنهم بالمسجد.

الآن إذا قلنا العمارة محمولة على هذا وهذا واعتبرنا أو قلنا بالمجاز: فالعمارة التي هي بالمعنى الحقيقي تصدق على العمارة الحسية أي البناء، وكون عمارة المساجد بالذكر والصلاة وكذا من قبيل المجاز فعلى القول بالمجاز ما ذكرناه من أن العمارة تشمل هذا وهذا يكون هذا من قبيل حمل اللفظ على معنييه الحقيقي والمجازي وهو أحد وجوه الجمع بين الأقوال في التفسير المشترك، يحمل على معنييه أو معانيه إذا لم يوجد مانع، وكذلك الحقيقة والمجاز عند القائل به إلى غير ذلك من الصور المتعددة.

ولهذا قال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فشهد تعالى بالإيمان لعُمار المساجد، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ورواه الترمذي، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه.

هنا سقطَ حديث من الأصل عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان[1]، وقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ من تمام الحديث وتخريجه هو الذي قال فيه رواه الترمذي وابن مروديه والحاكم في مستدركه، فهذه سقطت ولكن لابد منها.

وهذا الحديث لا يصح.

وقال عبد الرازق عن عمرو بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب النبي ﷺ وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها [2].

وقوله: وَأَقَامَ الصَّلاةَ أي: التي هي أكبر عبادات البدن، وَآتَى الزَّكَاةَ أي: التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ أي: ولم يخف إلا من الله تعالى، ولم يخش سواه، فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِيقول: من وحد الله، وآمن باليوم الآخر يقول: من آمن بما أنزل الله، فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه ﷺ: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [سورة الإسراء:79] يقول: إن ربك سيبعثك مقاماً محموداً وهي الشفاعة، وكل "عسى" في القرآن فهي واجبة.

هنا يقال كقوله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، وهكذا أيضا الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، لكن كثيراً ما يذكر الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان باليوم الآخر هو الدافع والمحرك للإنسان من أجل العمل، والامتثال والوقوف عند حدود الله ، وهكذا في ذكر إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وكذلك الصيام والحج لكنه كثيراً ما يكتفي بهذا للأمور التي ذكرناها، الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين بين حسن صلته مع الله، وبين إحسانه إلى المخلوقين، فهنا أيضا في قوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا أي سيبعثك. 

وكل "عسى" في القرآن فهي واجبة، وعسى من المخلوق ليست واجبة؛ لأنها قد تحصل وقد لا تحصل، لكن القرآن جاء بلغة العرب، ومن عادة العرب أن الملوك والعظماء يأتون بالوعد بقولهم: "عسى أن نعطيك ما أردتَ"، "عسى أن يحصل لك ما قصدتَ"، وهم يقصدون بذلك الوعد، فـ "عسى" من الله واجبة هذا جاء عن ابن عباس -ا- وغيره أيضا، بمعنى أنها متحققة الوقوع، يعني إذا قال الله عسى أن نفعل كذا، عسى أن يحصل كذا، فهذا أمر متحقق الوقوع، عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً [سورة الممتحنة:7]، وحصل هذا بإسلام أبي سفيان وسهيل بن عمرو العامري، وأمثال هؤلاء كصفوان بن أمية وكذلك أيضًا فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ [سورة المائدة:52]، وكل ذلك قد تحقق.

فإذا قال الله مثل هذا: عسى الله أن يفعل كذا، عسى أن يحصل كذا، فالله لا يترجى فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ؛ لأن أصل "عسى" للترجي، والله لا يترجى؛ لأنه عالم بعواقب الأمور، عالم بكل شيء، وإنما يترجى المخلوقُ الذي لا يدري هل يحصل أو لا يحصل هذا الشيء؛ لهذا السبب يقولون: "عسى" من الله واجبة، فالترجي لا يكون إلا لمن لا يعلم عواقب الأمور. 

ومن أهل العلم من يحمل مثل هذا على قاعدة أن الكلام قد يرد باعتبار أو بالنظر إلى حال المخاطب يعني مراعى فيه حال المخاطب، وله صور منها: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44] يعني على رجائكما، باعتبار نظر المخلوق كما سبق، وكذلك ما يرد للشك على القول بأن "أو" للشك وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147] يعني الناظر إليهم من المخلوقين يحزرهم هكذا، مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ على هذا القول، ويمكن أن يكون بالنظر إلى المخاطب، والأحسن أن يقال: "عسى" من الله واجبة، وأن هذا جاء على طريقة العرب في الكلام أن العظماء والملوك حينما يتكلمون يُخرجون الكلام بهذه الصيغة ويقصدون به الوعد المتحقق.

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ۝ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ[سورة التوبة:19-22].

قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: إن المشركين قالوا: عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد, وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعُماره، فذكر الله استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ۝ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ [سورة المؤمنون:66، 67] يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال بِهِ سَامِراً كانوا يسمرون به ويهجرون القرآنَ والنبيَّ ﷺ، فخَيّر الله الإيمان والجهاد مع النبي ﷺ على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به أن كانوا يعمرون بيته ويحرمون به، قال الله تعالى: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم الله ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئاً.

هذه الآية رد على المشركين، وإنكار عليهم حيث افتخروا، وفضلوا ما هم فيه من العمل وسقاية الحاج على من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ يعني أنهم يسمرون بالبيت ويقولون كلاماً قبيحاً في القرآن، وفي النبي ﷺ، وهنا: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ نفي الاستواء هنا يدل على تفضيل الطائفة الثانية، لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ يعني أهل الإيمان أفضل منهم، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني المصرين على ظلمهم، وإلا فإن الله  قد هدى كثيراً من الظالمين والكافرين فمثل هذا يحمل على هذا المعنى، والله أعلم، وقيل غير ذلك، يعني بعضهم يقول: الذين سبق في علمه أنهم أشقياء.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني، قال الله : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ -إلى قوله- وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني أن ذلك كله كان في الشرك، ولا أقبلُ ما كان في الشرك، وقال الضحاك بن مزاحم: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج، فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ الآية.

هذا الأثر مرسل.

وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث مرفوع فلابد من ذكره هنا، روى عبد الرزاق عن النعمان بن بشير أن رجلاً قال: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا على النبي ﷺ فسألناه، فنزلت أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ -إلى قوله- لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ[3].

هنا ثلاث روايات في سبب النزول تأملوها ونريد أن نعرف ما هو سبب النزول منها:

الأولى: عن ابن عباس -ا- نزلت في العباس بن عبد المطلب حينما أسر يوم بدر، قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني قال الله : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ، هذه الرواية غير صحيحة، وغير صريحة في سبب النزول، وإنما مما يدخل في معناها العباس بن عبد المطلب.

والثانية: عن الضحاك بن مزاحم: لمّا أنّبوا العباس، وهي رواية ضعيفة.

والثالثة: في صحيح مسلم في الرجلين من المسلمين اللذين قالا ما قالا فنزلت الآية، لما سألوا النبي ﷺ فهذا هو سبب النزول.

ولو فرضنا أن رواية على بن أبي طلحة صحيحة مثلا، أو أن رواية الضحاك بن مزاحم صحيحة يمكن أن يقال: الحادثتان متقاربتان، فإن كان عندنا علم بأن الحادثتين متقاربتين نقول: الآية نزلت بعد الحادثتين، وإذا لم يكن عندنا علم بهذا فنقول: إن كان الزمان متقارباً فقد نزلت آية بعد آية، وإن كان الزمان متباعداً فيمكن أن تكون الآية نزلت مرتين، ومن أمثلة ما يحتمل أن تكون الآية نزلت مرتين أو أن الزمان متباعد قصة هلال بن أمية وعمير العجلاني كان النبي ﷺ يقول: البينة أو حدٌّ في ظهرك[4]، وكلاهما قال له النبي ﷺ هذا، فدل ذلك على أن الآية نزلت بعد الواقعتين، والله أعلم.

  1. رواه الترمذي، كتاب الإيمان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم (2617)، وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة، برقم (802)، وأحمد في المسند، برقم (11725)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (509).
  2. رواه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (2943)، وعبد الرزاق في المصنف، برقم (20584).
  3. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، برقم (1879).
  4. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة، برقم (2526).

مواد ذات صلة