الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
مولده ونشأته وبداية طلبه للعلم
تاريخ النشر: ٢٣ / شوّال / ١٤٢٢
التحميل: 8677
مرات الإستماع: 4982

بسم الله الرحمن الرحيم

مولد النووي ونشأته وبداية طلبه للعلم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فبين يدي شرح كتاب رياض الصالحين أقدم -كما وعدتكم- بترجمة لمصنف هذا الكتاب، وهو الإمام القدوة الحافظ الأوحد محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف المري الحوراني الشافعي، صاحب التصانيف النافعة.

ولد هذا الإمام الكبير -رحمه الله- في العشر الوسطى -وقيل: في العشر الأولى- من شهر الله المحرم، من سنة إحدى وثلاثين وستمائة، في نوى من أرض الشام، ونشأ هذا الفتى نشأة طيبة في بيئة صالحة، فاشتغل بحفظ كتاب الله ، فحفظ القرآن وقد ناهز الاحتلام.

وكان هذا العالم من فتوته ومنذ طفولته يميل إلى الجد ويميل إلى العلم، ويحب الحفظ والاشتغال بالأمور النافعة، حتى إن شيخه ياسين بن يوسف الزركشي حكى عنه واقعة تدل على هذا الأمر، وذلك أنه رآه وله من العمر عشر سنين، رآه بنوى في بلدته الأصلية رآه والصبيان يُكرهونه على اللعب إكراهًا، يرغمونه على أن يلعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي، لا يريد أن يلعب وهم يكرهونه على ذلك، فكان يخالطهم مكرهًا، ويحفظ القرآن ويردده وهو في هذه الحال، فهذا المربي له يقول: فوقع في قلبي حبه.

وأخذه أبوه وجعله في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، كان مشغولًا بالحفظ، قال هذا العالم أو هذا المربي: فأتيت الذي يُقرئه القرآن فأوصيته به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ ما الذي يدريك؟، فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه، واعتنى به حتى أتم حفظ القرآن.

فهذه النشأة التي نشأها الإمام النووي -رحمه الله- أورثت ذلك العلم الجم الغفير الذي يتعجب منه من يترجم، أو من يقرأ لترجمة هذا الإمام إلى يومنا هذا، كيف استطاع أن يحصّل هذا العلم الكثير في هذه الفترة القصيرة وقد مات في سن الشباب -رحمه الله؟، وكيف استطاع أن يؤلف هذه التصانيف الكثيرة في مختلف العلوم، والتي جعل الله لها هذا القبول الواسع؟

وقد بدأ في التأليف حينما بلغ الثلاثين، وتوفي وقد قارب الخامسة والأربعين، يعني: في خمس عشرة سنة ألف هذه المصنفات الكثيرة، التي يبقى طلاب الدكتوراه أو طلاب الماجستير في هذه الأيام، يبقون ما ألفوا كتاباً واحداً في مجلد في نصف هذه المدة، الواحد اليوم يبقى يؤلف في مجلد واحد، يبقى فيه مدة طويلة، يبقى خمس سنوات أو نحو ذلك، وهذا الكتاب هو شغله الشاغل لا يعطي من وقته شيئاً، ولا يعطي للناس دروساً في العلم، ولا يعطي للناس شيئاً مما يحتاجون إليه، فضلاً عن أن يقوم ببعض شئونهم في خدمة المحتاج، وإعانة الضعيف، وما شابه ذلك، ومع ذلك يجلس هذه المدة الطويلة وهو يؤلف في هذه الرسالة التي قد لا تطبع ولا يعرفها سوى المشرف والمناقش، فانظر إلى هذا العالِم في هذه المدة كيف استطاع أن يصنف هذه الكتب؟! وأن يحصِّل هذه العلوم الكثيرة؟!.

فأقول: النشأة لها أثرها، أقول ذلك للآباء؛ ليتفطنوا لهذا المعنى في تربية أبنائهم، فلا يضيعوهم، ونحن للأسف الشديد جل العناية تنصب على أن يدرس هذا الولد، وأن يتخرج من المدرسة ليكون له مستقبل دنيوي، لتكون له وظيفة، أو نحو ذلك.

ونُعنَى عناية هائلة بأن يأكل هذا الولد أكلاً جيداً، ونهتم بتسمينه حتى ينتفخ، ولا يورثه ذلك إلا بلادة وهمة منحطة، كما هو مشاهد، فإذا كان هذا الابن يقرأ لمدة ساعتين في اليوم فهو يذكر ذلك على أنه من الأرقام القياسية، والأرقام الهائلة، ونحن نشاهد هذا في بعض الاستبيانات التي نوزعها على الطلاب، كم تقضي وقتاً في القراءة؟ وهناك مؤشر إلى القسم الذي تكون فيه القراءة كثيرة جداً، أو كثيرة، أو متوسطة، أو قليلة، وعدد الساعات، ثم تفاجأ أن كثيراً من هؤلاء يكتب أنها كثيرة جداً، ويكتب مقابلها ساعتين، فهي كثيرة جداً في نظره.

فأقول: هذا التسمين سبب هذا الخمول، والنوم، وضعف الهمة، وانحطاطها، والكسل، وما إلى ذلك مما نشاهده، ونحن لا نعرف هذا التسمين إلا للعجول فقط، أما الآوادم فكان النووي -رحمه الله- لا يأكل الخيار، يقول: إنه يورث طراوة وليونة ورطوبة، تسبب له خمولاً يجلب النوم، فكان لا يأكله.

فأقول: النشأة لها أثر، ولا يمكن للإنسان أن ينشأ بعيداً عن العلم، بل لربما إذا أقبل عليه قام أبوه أو أمه، أو من حوله من معلم بتثبيطه وكسر همته، فيقول: أمامك وقت للقراءة، أمامك عمر، أمامك عمر تقرأ به، أمامك وقت للقراءة، لا تقرأ كثيراً فتجهد نفسك، لا تجهد عينك، ساعة وساعة، روح عن نفسك، وهو طول الوقت في ترويح، ولا يمكن أن يحصّل هذا العلم من أمضى وقته أمام الألعاب والترفيه والأتاري من أبنائنا، لا يمكن أن يحصل هذا العلم ولو زعم زاعمون أن ذلك ينمي عنده القدرة على الخيال الواسع، نحن لسنا بحاجة إلى هذا الخيال الواسع، نحن بحاجة إلى الواقع الواسع الذي يعيشه هذا الولد، ويستطيع أن يتفاعل معه، وأن يواجهه مواجهة صحيحة، وأن يتعامل معه بالطريقة الصحيحة، لا نريد له أن يسبح في الخيال، وعلماؤنا هؤلاء الكبار الذين أبدعوا وأنتجوا هذا الإنتاج الهائل لم يكونوا يعرفون هذا الخيال الواسع، وحينما بدأنا نشتغل بمثل هذا الجو من الخيال ضيعنا الواقع كما هو مشاهد.

فأقول: من أراد أن يكون ابنه عالماً فلينشئه منذ البداية تنشئة صحيحة قوية على العلم، ومن أراد أن يستدرك في حاله هو، يستدرك ما فات من التضييع وقلة التوجيه الصحيح فليشمر عن ساعديه، ولا يتباطأ ولا يتوانَ، ليستدرك ما ضيع في أيام طفولته، فالعلم يحتاج إلى تفرغ، ويحتاج إلى انقطاع.

وأقول للأبناء الصغار: انظروا إلى النووي -رحمه الله، إذا أكرهه الأطفال على اللعب معهم بكى، فكان يداريهم خوفاً منهم، ومجاراة لهم، فيُظهر أنه يلعب وهو يردد حفظ القرآن، أما الولد الذي يرى أن توجيه الوالد له بالحفظ والاشتغال بكتاب الله أو بحفظ العلم في أي فن من الفنون، ويرى أن ذلك إرهاق له، وأن ذلك تعقيد وحجب له عن اللهو الذي يشتغل به أقرانه، فأقول: هذا الولد مخطئ، ينبغي أن يعرف أن الطريق إلى معالي الأمور إنما هو بالجد، منذ وقت مبكر.

فالنووي -رحمه الله- حينما بلغ التاسعة عشرة من عمره، وذلك في سنة تسع وأربعين وستمائة، أخذه أبوه من نوى إلى دمشق، فسكن -رحمه الله- في الرواحية.

والرواحية مدرسة، نسبة إلى من بناها، وبناها أبو القاسم هبة الله بن رواحة، المتوفى سنة اثنتين وستين وستمائة.

فسكن فيها في سكن الطلاب الداخلي، وصار يتناول قوته من هذه المدرسة، وهذا القوت عبارة عن خبز فقط، فحفظ التنبيه في فروع الشافعية للشيرازي، في أربعة أشهر ونصف، وكان عمره تسع عشرة سنة، وقرأ ربع العبادات من كتاب المهذب للشيرازي في فقه الشافعية، وهو من أشهر كتبهم، وحفظه في باقي السنة على شيخه الكمال إسحاق بن أحمد.

ثم بعد ذلك أخذه أبوه إلى الحج سنة إحدى وخمسين وستمائة، في أول شهر رجب، وأقام بالمدينة النبوية شهراً ونصف، ومرض منذ أن خرج من بلدته، حتى بلغ عرفة وهو مريض بالحمى، وذُكر عنه في ذلك المرض أنه لم يُسمع له تأوه ولا تشكٍّ قط مع صغر سنه، كان في غاية الصبر والاحتساب، والله المستعان.

أسٍأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة