الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «بني سلمة دياركم تكتب آثاركم..» ، «قد جمع الله لك ذلك كله»
تاريخ النشر: ٠٣ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 2195
مرات الإستماع: 12130

ديارَكم تُكتب آثارُكم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الأحاديث الدالة على كثرة طرق الخير:

حديث جابر أن بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ  يقول: أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال لهم: إنه قد بلغني أنكم تريدون أن تتنقلوا قرب المسجد، فقالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: بني سلمة يعني: يا بني سلمة، منادى حذفت منه ياء النداء، ديارَكم تُكتب آثارُكم، رواه مسلم. وفي رواية: بكل خطوة درجة، رواه مسلم[1].

ديارَكم منصوب على الإغراء، يعني الزموا ديارَكم تُكتب آثارُكم، ديارَكم تُكتب آثارُكم.

بنو سلمة من الأنصار، ومن أهل المدينة ، وكانوا من الخزرج، وديارهم في شمال المدينة، يمكن أن تُحد الآن بأنها قريبة من مسجد القبلتين، في تلك الناحية، وأرادوا أن ينتقلوا قرب المسجد؛ لأن أصحاب النبي ﷺ كانت الصلاة هي أولى الأشياء في نظرهم، وهي همهم الأول، فيمكن للواحد منهم أن يفارق أرضه التي نشأ فيها من أجل أن يكون قريباً من المسجد، والقلوب التي ارتاضت على الإيمان وتعرف قدر الصلاة ومعنى الأذان تجد وحشة شديدة إذا افتقدت هذا المنادي فلا يصل إلى أسماعهم في بيوتهم، يجدون وحشة الله أكبر الله أكبر، يناديهم حي على الصلاة حي على الفلاح، فإذا ما سمعوا ذلك استوحشوا، إذا لم يطرق ذلك أسماعهم فإنهم يستوحشون، خلافاً لمن ينفر غاية النفور حينما يكون بيته قريباً من المسجد، أو يقيم دعوى ومطالبات من أجل أن لا يُبنى المسجد جوار بيته، أو يقيم مشكلات كبيرة جدًّا مع أهل المسجد من أجل أن هذه المكبرات تزعجه أو تزعج أولاده بزعمه، يزعجهم الأذان.

والخطوة هي: واحدة الخطى، والخطوة هي ما بين الخطوتين من المسافة، فبكل خطوة حسنة، يعني: أنه يكون لهم بذلك أجور إضافة إلى أجر الصلاة، والإنسان منذ أن يخرج من بيته وهو في صلاة، والملائكة تستغفر له ما دام في مصلاه ينتظر الصلاة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، كل هذه الأمور، وأيضاً في حديث آخر -ذكرته فيما مضى ولعله يأتي- أن النبي ﷺ قال للرجل الذي قيل له: لو اشتريت حماراً: إن لك ما احتسبت[2]، فالمقصود أن الإنسان يتذكر هذه المعاني، وإذا كان الأمر كذلك فإنه كلما كان أبعد من المسجد فإن مقتضى ذلك أن يكون أشد فرحاً بكثرة الأجور، فالأجور تأتي بأعمال يسيرة، ولكن الشيطان يقعدنا عنها، ولو أن الإنسان تفكر في حاله، وفي حال من حوله لرأى ذلك واضحاً لا لبس فيه، الآن الناس لربما يتفاخرون أنهم يمشون المسافات الطويلة من أجل صحة أبدانهم، أليس كذلك؟ ولكن لو أنه قيل له: تَطُوف من السطح أو من الدور الثاني لرأى أن هذا حدثًا يجب أن يتحدث عنه طوال العمر، وأن هذا أمرًا لا يطاق، ويتذمر لربما غاية التذمر، لماذا؟ لأنها جاءت بالعبادة، إذا كان بيته بعيداً من المسجد لربما يتأفف ويتذمر ويتثاقل، لكن ليس عنده مشكلة أن يمشي كما يقول بعضهم: إنه يمشي في اليوم سبعة كيلو مترات إلى عشرة، في كل يوم، ولربما تجول نساء في نواحٍ شاسعة، كل ذلك طلباً لصحة أبدان موهومة، وكم رأينا ممن يرهق نفسه ويمشي في كل ليلة المسافات الشاسعة ثم خمس جلطات وراء بعض ويموت، رأينا هذا، متتابعة ثم يموت، فإذا جاء الأجل قال له: قف، لا المشي يدفعه، ولا الأكل يرفعه، ولا الراقي يمنعه، فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، لكن المشي للعبادة، للصلاة، للطواف وما أشبه ذلك، يستثقل الإنسان هذا غاية الاستثقال، ويذهب ويعتمر ويرجع ما طاف إلا طواف العمرة فقط، مع إمكان ذلك، فالشيطان يقعدنا عن مثل هذه الأمور.

قال: رواه البخاري -أيضاً- بمعناه من رواية أنس.

ترجمة أُبي بن كعب

ثم ذكر حديثاً آخر وهو حديث أبي المنذر أبي بن كعب ، وأبو المنذر يقال: إنه كناه النبي ﷺ بذلك، وله ولد يقال له: الطفيل، كناه عمر به، يعني: بأبي الطفيل، يكنى بأبي الطفيل، ويكنى بأبي المنذر، ولا بأس أن يكنى الإنسان بكنية من غير أن يكون له ولد بهذا الاسم الذي كني به.

وأبيٌّ معروف من علماء الصحابة، ومن قرائهم الكبار، ممن شهد بيعة العقبة الثانية مع السبعين، والنبي ﷺ قال له: إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:1]، فقال: قد سمّاني لك؟، قال: نعم، فذرفت عيناه[3]، هذا شرف ليس بعده شرف، ولم يوجد لأحد من الصحابة أن وقع له مثل هذا، يقول له: إن الله أمرني أن أقرأ عليك هذه السورة.

فهو عالم كبير من أعلم الناس بالقرآن، وهو أيضاً في روايته عن النبي ﷺ لم تكن قليلة، روى نحو مائة وأربعة وستين حديثًا، المتفق عليه ثلاثة، والذي انفرد به البخاري ثلاثة، والذي انفرد به مسلم سبعة، وكانت وفاته في زمن عثمان في نحو سنة ثلاثين من الهجرة، وقيل غير هذا.

قد جمع الله لك ذلك كله

عن أبي المنذر أبي بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، فقيل له أو فقلت له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء؟ فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله ﷺ: قد جمع الله لك ذلك كله[1]، رواه مسلم.

فكيف بجار المسجد يسمع النداء وتقام الصلاة وينصرفون وهو نائم، أو في شغل آخر؟، يقول: فقيل له -أو فقلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، يمشون في أوحال ويمشون في طين وفي حفر.

تصور بيئة المدينة في ذلك الوقت والأرض، وما يحتاج أن يمشي فيه من الشجر والزروع، حتى يصل إلى المسجد، ومع ذلك يقول: ما يسرني أني قريب من المسجد، يحتسب عند الله ، والعبد إذا نظر إلى صحف الأعمال، ورأى الخطى إلى المساجد، ورأى أن أقواماً قد فضلوا عليه بهذا فإنه يتمنى أنه لو كان بينه وبين المسجد بُعد شاسع من أجل أن يكثِّر، فالغبطة ليست في القرب من المسجد، إنما الغبطة في الحرص على الصلاة وحضورها وشهودها والعمل على ذلك والتهيؤ له، فكلما كان العمل لذلك أكثر كلما كان الأجر أعظم، لكنه لا يتطلب المشقة، لا يقصدها، وأما من ضعف وغلب عليه العجز والكسل فخير له أن يكون المسجد قريباً منه، والقضية تعود أولاً و آخراً على هذا القلب، فإذا كان القلب حيًّا فإنه يستسهل كل صعب، ويستلذ بكل عمل، كما ذكرنا لكم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن المؤمن الصادق يلتذ بالأعمال التي يقوم بها، ويقول: إن من لم يجد هذه اللذة في العمل لله والدار الآخرة سواء من العبادات أو من غيرها مما يعمله لآخرته من الدعوة، يقول: فإن عمله مدخول، هذه اللذة يجدها أهل الإيمان، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطى إلى المساجد (1/ 460)، رقم:(663).

مواد ذات صلة