الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ١٨ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 1671
مرات الإستماع: 2035

قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ...}

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول الإمام النووي -رحمه الله: باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهى عن منكر وخالف قوله فعله.

قال الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 44]، هذا الاستفهام يفيد الإنكار على هؤلاء اليهود، فإن هذه الآية من جملة ما خاطبهم الله به في سورة البقرة.

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، كيف يصدر ذلك منكم؟ والبر اسم جامع يدخل فيه كل محبوب لله -تبارك وتعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ، يعني: تنسون أنفسكم، أي: من العمل والامتثال، والحال أنكم تتلون الكتاب، تقرءون كتابكم الذي يأمركم ربنا -تبارك وتعالى- فيه بالتزام شرائعه بالقول والعمل، ثم أنتم بعد ذلك تتناقضون هذا التناقض العجيب.

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أين يذهب بكم؟ أين تذهب عقولكم؟ لأن من شأن العاقل أنه لا يناقض نفسه، وأن الذي يدعو الناس بحق وصدق هو أول من يمتثل هذه التعاليم التي يأمر الناس بها، لو كان مقتنعاً بها حقًّا لطبق ذلك على نفسه، ولبدأ بمن حوله من قرابته وأهل بيته، أما أن يكون في حال من الإعراض في نفسه، وفي حال من الإهمال لأهل بيته، ولكنه يقدم هذه المُثل للآخرين فإن هذا يدل على قلة يقين بهذه المبادئ، وأنه لا يؤمن بها حقًّا، ثم لا تسأل عن أثر ذلك في نفوس الآخرين من زهدهم بهذه المعاني، وإعراضهم عنها، حتى تصير تلك المقالة التي يسمعونها منه لا تجاوز آذانهم، فهي لا تصل إلى القلوب؛ لأنها لم تخرج من نفس مصدقة مؤمنة بها تتبناها قولاً وعملاً.

وهذا هو السر -أيها الأحبة- في أن الكثيرين لربما يحسنون تزيين الكلام في الخطب، ولكن خطبهم لا تؤثر، الناس ينتظرون متى تنتهي الخطبة، ولربما يتساءل الواحد منهم، يقول: أنا أخطب، وأجتهد في إعداد الخطبة، وفي صياغتها، ثم بعدُ لا أرى الناس يتأثرون، ولا يستفيدون، بل لربما يتساءل بعضهم يقول: لماذا لا يقبل الناس على سماع الخطب التي أتعب في إعدادها؟

نقول: فرق -أيها الأحبة- بين الثكلى، وبين النائحة المستأجرة، فالذي يقرأ ورقة، مهما زوقها وزينها، وأعدها، ورتب أفكارها فإنه لا يعيش معها، لا يؤمن بهذه القضية التي يطرحها، فإن ذلك لا يكون مؤثراً بحال من الأحوال.

ولذلك -أيها الأحبة- فإنه يجمل ويحسن بالعاقل أن يمتثل في نفسه ويطبق الأشياء التي يأمر الناس بها، لاسيما ما يتعلق بحدود الله من الحلال والحرام، أما النوافل فقد يأمر بأشياء كثيرة جدًّا من ألوان البر ولا يحيط بها، لا يستطيع أن يعمل بكل أنواع الفضائل من الأعمال والأقوال والأفكار وما أشبه ذلك.

لكن لا يعني هذا ألا يعلّم الآخرين، وألا يحثهم ويتناصح معهم، بل إنّ حث هذا الإنسان لغيره على هذه الفضائل يكون بإذن الله سبيلاً إلى عمله وامتثاله، فيكون ذلك أدعى إلى تحقيق ذلك في نفسه إذا كان صادقاً.

فهو يرجع إلى نفسه كثيراً، وأنه مقصر في هذا، وأنه يفوته بعض هذه الأعمال التي يعلّمها للآخرين، ولهذا جاء عن الحسن البصري -رحمه الله- في قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9] أن الغبن في ثلاث، وذكر من هؤلاء الرجل الذي تعلم علماً وعلمه لغيره، فنجوا ودخلوا الجنة، ولكنه لم يعمل به ولم ينتفع فدخل النار.

فلا شك أن هذا من أعظم الغبن، والنبي ﷺ نهى أن يكون الرجل كالسراج يضيء للآخرين، ويحرق نفسه، فالمؤمن لا يحرق نفسه، وإنما يكون محرقاً لنفسه إذا كان نصحه لغيره، ودعوته للآخرين على سبيل العمل والامتثال والقيام بما أمره الله أن يقوم به ويكون هو مضيعاً مفرطاً، لكن هنا يجب أن يُتنبه إلى أن الإنسان المقصر حتى في الواجبات أو الفاعل للمحرمات لا يعني ذلك أنه يسقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يجب عليه أن يأمر وينهى، بل إن هذا واجب، وتوعد الله على تركه، والعمل والامتثال واجب آخر.

مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والناس في هذا على مراتب شتى، أعلى المراتب هي:

أن يأمر بالمعروف ويفعله، وأن ينهى عن المنكر ويجتنبه، هذه أعلى المراتب، ثم يلي ذلك من عمل بالمعروف، وترك المنكر، ولم يأمر به ولم ينهَ عنه، ثم يلي ذلك من أمر بالمعروف ولكنه لم يفعله، ونهى عن المنكر ولكنه فعله، ثم يلي ذلك من يفعل المنكر ولا ينهى عنه، ومن يترك المعروف ولا يأمر به، وأسوأ المراتب وأحط المراتب -نسأل الله العافية- الذين لا يفعل المعروف وينهى عنه، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ۝ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى ۝ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى [العلق: 9-12].

ذلك الإنسان الذي يفعل المنكر ويأمر الناس بالمنكر، وهذا شأن المَردة -نسأل الله العافية- الذين تمرسوا على الفساد، فإنهم يحبون انتشار هذا الفساد والشر في المجتمع.

ولهذا روي عن عثمان أن المرأة الزانية تحب أن جميع النساء زوانٍ، لئلا تنفرد هي بتلك السوءة والرزية التي ضيعت بها شرفها.

فالمقصود -أيها الأحبة- أن الإنسان إذا قصر فإنه لا يسقط عنه الواجب الآخر الذي هو الأمر والنهي، لكن على العاقل أن يجمع بين الامتثال، وبين الأمر والنهي، وبذلك يكون مكملاً لنفسه.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}

ثم ذكر الآية الأخرى وهي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2]، هذه الآية في الأصل نزلت بسبب أنهم سألوا وتمنوا أن يعرفوا أحب العمل إلى الله -تبارك وتعالى، فيعملوا به، فأُخبروا أنه الجهاد، فكأنهم تثاقلوا ذلك، فأنزل الله: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، يقولون: وددنا أنا علمنا أحب العمل إلى الله فنعمل به، فلما أُعلموا تباطئوا، وتلكئوا، وتثاقلوا، لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2-3]، كَبُرَ مَقْتًا المقت هو أشد البغض، الله يبغض ذلك بغضاً شديداً، والذي يتصف، ويُعرف بالأخلاق التي يبغضها الله بغضاً شديداً فإن ذلك قد يوقعه في جملة البُغضاء إلى الله -تبارك وتعالى، يكون بغيضًا إلى الله.

الإنسان لا يريد أن يكون بغيضاً لأحد من الناس أبداً، مهما كان، فكيف إذا كان بغيضاً إلى الله ؟!، لا خير في حياته -نسأل الله العافية- ولا في تقلبه، ولا في كسبه، إنسان يبغضه الله لماذا يعيش؟ وعلى أي شيء يعيش؟ وما قيمة الحياة التي يحياها، والأعمال التي يزاولها؟.

ويدخل في عموم قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2] كل قول يقوله الإنسان ولا يفعله، ومن ذلك أن يأمر بالمعروف ولا يفعل، وينهى عن المنكر ويقارف المنكر، ويدخل فيه أيضاً المتشبع بما لم يُعطَ، فإنه داخل في العموم، وقد ذكر هذا جماعة من السلف في تفسير الآية، المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور[1]، كما قال النبي ﷺ

يقول الإنسان: تصدقت، ولم يتصدق، وصليت، ولم يصلِّ، وقرأت ولم يقرأ، وأخذت عن فلان العلم، وفلان من شيوخي، وقال شيخنا، وقال شيخنا، وهو ما ثنى ركبته في يوم واحد عند أهل العلم، لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، فالمؤمن عند كلمته لا يتجاوز ذلك.

ومن جملة الأقوال التي فسر بها قوله -تبارك وتعالى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [الحشر:14]، قيل: أي في المنافقين، وقيل: في المنافقين واليهود، من جملة الأقوال التي ذكرت في تفسيرها والشيء بالشيء يذكر، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، يعني: أنهم إذا خلوا وانفردوا فيما بينهم بدءوا يتحدثون عن بطولات وهمية، هذا يقول: لقيت رجلاً من المسلمين فضربته بالسيف ضربة جعلته على نصفين، وهذا كله من الفبركة، كذب، هم جبناء، وهذا يقول: لقيت رجلاً فطعنته، فخرجت الحربة من ظهره، وهذا يقول: لقيت رجلاً فألقمته السيف، فدخل من فمه وخرج من قفاه، وأشياء غير حقيقية، بطولات وهمية، كذب، فهذا قال به بعض السلف في تفسير قوله تعالى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، وإن كان المتبادر من معناها أي: بينهم شر عظيم، وتفرق وتناحر -نسأل الله العافية، لكن هذا أحد المعاني التي ذكرت فيها، وعلى كل حال الإمام النووي -رحمه الله- ذكر تحت هذا الباب حديثاً واحداً نتركه في يوم آخر، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب النكاح (7/ 35)، رقم: (5219)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط (3/ 1681)، رقم: (2129).

مواد ذات صلة