الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[28] من قوله تعالى: "وإذ قال موسى لقومه" الآية 67 إلى قوله تعالى: "فذبحوها وما كادوا يفعلون" الآية 71.
تاريخ النشر: ٠١ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 2709
مرات الإستماع: 4482

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۝ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:72-73].

قال البخاري: فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا اختلفتم، وهكذا قال مجاهد.

وقال عطاء الخراساني، والضحاك: اختصمتم فيها. وقال ابن جريج: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا قال بعضهم: أنتم قتلتموه. وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ قال مجاهد: ما تُغَيبُون.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه من المؤخر الذي حقه التقديم، ولا شك أن ذلك من حيث الواقع هو كذلك، ولكن ترتيب الآيات إنما هو شيء توقيفي، ولا شك أن الواو أيضاً لا تقتضي الترتيب، فالله يذكر خبرهم، فعطف على ما سبق بالواو قولَه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ولا يعني ذلك أن هذا التدارؤ حصل بعد ما قال لهم موسى ﷺ: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67].

المقصود أنهم قتلوا هذا القتيل فتدارؤوا، فأمرهم موسى ﷺ أن يذبحوا بقرة، ثم أمرهم: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا  [سورة البقرة:73] يعني أن الترتيب في الواقع يكون وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ثم وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة: 67]، ثم فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا هذا إذا أردنا أن نرتب الأحداث ترتيباً بحسب وقوعها. 

وعلى كل حال هذا التعقيب بعد ذكر القصة ظاهر لا إشكال فيه، ولا خفاء من جهة المعنى، فهو ذكر لهم قول موسى ﷺ ثم ذكر لهم علة هذا القول، موسى ﷺ أمرهم بجملة من الأوامر ومن ذلك أنه أمرهم أن يذبحوا بقرة فحصل منهم هذا الشغب؛ لأن المقصود بذلك هو تعداد النعم على بني إسرائيل، وأيضاً الله يذكر في ضمن ذلك شغب هؤلاء القوم وتعنتهم وتكلفهم وتمردهم على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فذكر قصة موسى ﷺ معهم حينما أمرهم فأجابوه بما أجابوا به، ثم ذكرهم بنعمته في إحياء القتيل، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا فهذا تعليل لما قبله وهو أمر موسى ﷺ لهم أن يذبحوا بقرة.

بعض أهل العلم يحاول أن يحمل ذلك على محامل لا تخلو من تكلف وبُعد، وما ذكرته والله أعلم لربما يكون أقرب مما ذكروا.

وقوله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا نسب القتل إليهم، وذلك لا إشكال فيه في كلام العرب؛ لأن العرب من شأنها أن تنسب الفعل إلى العموم أو المجموع، وإن كان ذلك قد وقع من بعضها، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ [سورة البقرة:61] وما أشبه ذلك. 

فالفعل أو القول يصدر من بعض الطائفة وينسب إلى المجموع أو الكل؛ لأنهم منه وذلك معروف في كلام العرب وهو كثير جداً في القرآن وفي أشعارهم، فلا إشكال في هذا، فالذين قتلوا هذه النفس لربما شخص واحد، ولكنه حصل أن نسب إليهم هذا الفعل؛ لأنه منهم.

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] ومعنى ادارأتم تدارئتم بمعنى تدافعتم، فالتدارؤ هو التدافع، بمعنى أن كل واحد منهم يدفعه عن نفسه، وكل طائفة تدفع ذلك عن نفسها بمعنى أنها تتنصل من ذلك وتدفعه إلى غيرها، فهؤلاء يقولون: نحن لم نقتله أنتم الذين قتلتموه، وأولئك يقولون: نحن لم نقتله أنتم الذين قتلتموه، وجاء في بعض المرويات التي ترجع إلى أخبار بني إسرائيل أن الذين قتلوه ألقوه بين قريتين، فكل قرية صارت تدفع قتله عن نفسها وترمي به الأخرى، والله أعلم.

وقوله: وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة: 72] أي في شأن هذا القتيل الذي أخفوا قتله، أو أخفوا شأنه وأخفوا قاتله.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به، وخرق العادة به كائن، وقد كان معيناً في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا.

يقول ابن كثير: وقد كان معيناً في نفس الأمر: معنى هذا الكلام أنه لو سألنا سؤالاً، وقلنا: ما هو الجزء الذي ضربوا به القتيل من البقرة، فلا شك أن الجواب هو أنهم ضربوه بجزء من البقرة ورموه به لا بكاملها، إذن هذا الجزء معين في نفس الأمر، أي أن الإحياء لهذا الميت قد وقع برميه بجزء منها لا ندري ما هو، فهو معين في نفس الأمر لا بتعيين موسى ﷺ لهم  هذا الجزء، وإنما حصل بضربه بجزء منها لا نعلمه، فهو معين في نفس الأمر، ولو افترضنا إمكانية أن نسأل الذين ضربوه أو حضروا لأخبرونا عنه، لكن لا شأن لنا بمعرفته؛ إذ لا فائدة من جراء ذلك، والله أعلم.

ولكنه أبهمه ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه، فنحن نبهمه كما أبهمه الله.

في مقدمة أصول التفسير يقول شيخ الإسلام: إن العلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما عليه دليل معلوم، يعني من النظر، ثم ذكر القسم الآخر الذي لا سبيل إلى الوقوف على صحته، والمقصود به مثل هذه الأخبار الإسرائيلية إذ ليس لها أسانيد، فكيف نستطيع أن نحكم أن هذا الراوي ضعيف أو سيء الحفظ، أو أنه رجل متهم أو غير ذلك؛ إذ ليس له أسانيد أصلاً، فهذا لا يمكن التوصل إليه إلا عن طريق الوحي وإلا فتبقى فيها القسمة الثلاثية المعروفة: توافق ما عندنا أو تخالف، أو لا توافق ولا تخالف بمعنى أنه لم يرد عندنا شيء يتصل بها فنتوقف فيها.

وقوله تعالى: كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى [سورة البقرة:73] أي فضربوه فحيي.

معناه كذلك الإحياء يحيي الله الموتى، أو كذلك الإحياء الذي شاهدتموه يحيي الله الموتى.

ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل -تبارك وتعالى- ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد. 

والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56] وهذه القصة وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.

في الصعق الذي سبق ذكره قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] قلنا: الراجح أنه موت حقيقي؛ لأنه قال بعده: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56] وليس الصعق غشية كما قال بعض أهل العلم، فيكون ذلك هو الموضع الأول في سورة البقرة ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ أي أنهم ماتوا فأحياهم الله .

وهذه القصة وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم  والطيور الأربعة.

ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها، وشاهد هذا قوله تعالى: وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ۝ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ ۝ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [سورة يــس:33-35].

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:74].

يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل ًوتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى وإحيائه الموتى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك كله فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً، ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [سورة الحديد:16].

قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس -ا: لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط.

قوله: أحيا ما كان قط: يعني أكمل ما يكون من الحياة.

فقيل له: من قتلك؟ قال: بنو أخي قتلوني، ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبضه الله: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَيعني أبناء أخي الشيخ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً.

على كل حال على هذا الخبر المأخوذ عن بني إسرائيل أن قوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمأي ما حصل من الجحد -إن كان حصل- من هؤلاء الذين قتلوه بعد أن نطق وأحياه الله وأخبر عن قتله، حيث لما مات ثانية جحدوا وكذبوا وقالوا: لم نقتله فأنكروا ذلك، فهذا قوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم وهذا والله أعلم ليس بظاهر، وإنما ظاهر الآية المتبادر ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ أي من بعد رؤية هذا القتيل حيث أحياه الله وهذه آية كبرى ومعجزة عظمى لموسى ﷺ تبعث على مزيد من الإيمان والإقبال على الله والخوف منه ومراقبته، ولين القلب وذهاب الغفلة عنه إلا أن الذي حصل هو عكس ذلك، فمثل هؤلاء الذين رأوا هذا القتيل يحيا ثم يتكلم، ثم يموت مرة أخرى، هذه معجزة عظمى تحملهم على الإيمان ومع ذلك قست قلوبهم ثانية وكأن شيئاً لم يكن.

فمن شهد آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فإن ذلك يبعث الإيمان في قلبه، والذي أقل ما يعبر عنه بأنه إيمان ثابت راسخ، فحينما يقابل بقسوة القلب، وإنما قست القلوب لأنهم نظروا إلى معنى ذكره بعض أهل العلم، وهو أن أولئك الذين صعقوا من بني إسرائيل لما قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] من العلماء من يقول: هؤلاء انقطع عنهم التكليف؛ لأنهم ماتوا ثم أحياهم الله فقد عاينوا الحقيقة التي تحملهم على الإيمان القهري، فلا تكليف بعد ذلك.

وهذا الكلام فيه نظر، إذ لم ينقطع عنهم التكليف بل هم مكلفون، ولا دليل على أنهم غير مكلفين.

فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات.

شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم ذكر وجوه مشابهة هذه الأمة لأهل الكتاب وكان مما ذكر: قسوة القلب، وأورد هذه الآيات، وهذه الأمة منهية عن التشبه ببني إسرائيل فأشبهتهم في هذه القضية، وفي غيرها كثير، وقسوة القلوب المراد بها الصلابة والشدة ونحو ذلك.

فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها، أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتفجر منه العيون بالأنهار الجارية، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه.

يعني أن الله أعطى هذه المخلوقات والكائنات من الإدراك كل بحسبه، فهي تخشى الله حقيقة، كما قال الله تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44]، وقال سبحانه: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة الحديد:1]، وقال تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة الجمعة:1] فهي تسبح الله تسبيحاً حقيقياً، وتخشى الله خشية حقيقية، وفي الصحيح يقول النبي ﷺ: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن [1].

قوله -تبارك وتعالى- هنا: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة: 74] (أو) تأتي أحياناً للشك فتقول: رأيت زيداً أو عمراً، عندي درهم أو نصفه، لكن هذا لا يتأتى بالنسبة لله الذي يعلم خفيات الأمور، فالله لا يشك في شيء بل علمه محيط بكل شيء، فإذا حملت (أو) هنا على الشك فيمكن ذلك على أن تخرج على قاعدة مفادها أن الخطاب قد يرد باعتبار نظر المخاطب، أي: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً فهي كالحجارة أو أشد قسوة، يعني بالنظر إلى تقييمكم وتقديركم أنتم، فمن نظر إليها وأراد أن يصنفها أو يوصفها فهي عنده كالحجارة أو أشد قسوة.

ومثل هذا قوله تعالى عن يونس وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147]، إذا خرجناها بهذا التخريج فالمعنى أن من نظر إليهم من الناس فإنهم يقدرهم بمائة ألف أو أكثر.

ومثل ذلك أيضاً حينما سمى الله الشبه التي يتعلق بها الكفار قال: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ [سورة الشورى:16]، فالله سمّاها حجة لما كانوا هم يعتبرونها حجة زإن كانت ليست بحجة في الواقع، ومثل ذلك أيضاً لما قال عن معبوداتهم الباطلة بأنها آلهة وهي ليست آلهة، لكنه عبر عن اعتقادهم هم.

وكذلك أيضاً حينما أجرى على هذه الآلهة أو ما ليس بعاقل من الخلوقات صيغ مثل جمع العقلاء ومثل بعض ضمائر العقلاء ومثل جمع المذكر السالم كقوله: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [سورة الأعراف:195]، لما كانوا يعتبرونها آلهة أجرى الله عليها مثل هذا الاستعمال يَمْشُونَيَبْطِشُونَيُبْصِرُونَيَسْمَعُونَ مع أنها لا تمشي ولا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، فهو خاطبهم بحسب نظرهم باعتبار أنهم جعلوها آلهة، وهذا الاستعمال كثير جداً.

وفي قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74]، تحمل على هذا المحمل إذا خرجناها على أن (أو) للشك، أي بالنظر إلى تقييمكم أنتم هي كالحجارة في قسوتها أو أشد.

وتأتي (أو) أحياناً للتخيير فتقول مثلاً: اقرأ المُغني أو المجموع، يعني أياً قرأت منها حصل المقصود، وتأتي أحياناً بمعنى الإضراب أي بمعنى (بل)، وهذا معروف ومشهور في كلام العرب، والمعنى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة بل هي أشد قسوة من الحجارة، وهذا أقرب المعاني إلى الصواب هنا، والله تعالى أعلم.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء [سورة البقرة:74].

لمعرفة الفرق بين الانبجاس والانفجار نقول: بداية خروج الماء يسمى انبجاساً، فإذا صار يخرج الماء بقوة وغزارة فهذا هو الانفجار، فالانفجار يكون بقوة واندفاع، والانبجاس يكون يسيراً بحيث يبدو منه الماء.

وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ [سورة البقرة:74]، أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة، كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [سورة الكهف:77] قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة: ولا حاجة إلى هذا.

الرازي والقرطبي يثبتان المجاز، ومع ذلك يقولان: لا حاجة إلى هذا يعني هنا؛ لأن الله قال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء [سورة البقرة:74]، فالحجارة يحصل منها هذا حقيقة، فلا حاجة للمجاز.

وحينما نسألهم عن قوله: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [سورة الكهف:77] فهذا أشهر مثال يمثلون به على وقوع المجاز، ومثله قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف:82] ولا مجال لمناقشة هذه القضية الآن، وهل يوجد مجاز في القرآن أو في اللغة العربية، لكن المقصود أنه يمكن لمثبت المجاز أن ينفيه هنا، ويقول: هذه الخشية المذكورة في الآية حقيقة وليس بمجاز، وهذا مما يرد به المجاز.

ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [سورة الأحزاب:72]، وقوله: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ الآية [سورة الإسراءٍ:44] وقال: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [سورة الرحمن:6]، أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ  الآية [سورة النحل:48]، قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت:11]، لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ الآية [سورة الحشر:21]: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الآية [سورة فصلت:21].

وفي الصحيح: هذا جبل يحبنا ونحبه[2] وكحنين الجذع المتواتر خبره وفي صحيح مسلم: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن[3] وفي صفة الحجر الأسود: إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة وغير ذلك مما في معناه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل - باب: فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (2277) (ج 4 / ص 1782).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل الخدمة في الغزو (2732) (ج 3 / ص 1058) ومسلم في كتاب الحج - 85 - باب فضل المدينة ودعاء النبي ﷺ فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها (1365) (ج 2 / ص 993).
  3. سبق تخريجه.

مواد ذات صلة