الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث "لما وقف الزبير يوم الجمل.." (2-3)
تاريخ النشر: ٢٦ / ربيع الآخر / ١٤٢٧
التحميل: 2819
مرات الإستماع: 12100

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فلا زلنا نتحدث عن حديث أبي خبيب عبد الله بن الزبير -ا، وذلك ضمن الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي -رحمه الله- في باب الأمر بأداء الأمانة، يقول: "لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه، فقال: يا بني إنه لا يُقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم"، يحتمل أن تكون "أو"  للشك أو تكون للتنويع، لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، أي أن يكون الشخص إما ظالماً وإما مظلوماً، وبعضهم حمل ذلك على أن المظلوم هم أصحاب النبي ﷺ؛ لأنهم تأولوا، وأن من كان قصده بذلك القتال، ومعنى لا يصح أن يقصده الإنسان، وذلك في غير الصحابة فهذا هو الظالم، هكذا قال بعضهم، ولا يخلو من بُعد، والله تعالى أعلم، "وإني لا أراني إلا سأقتل مظلوماً"، وهذا يدل على أنه على ظاهره، وأن القتلى الذين سيقعون إنما ظالم أو مظلوم، أي أن الجميع ليسوا من الظالمين، فالنبي ﷺ قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟، قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[1].

أما هذا الذي وقع بين الصحابة فليس من قبيل هذا؛ لأنهم كانوا متأولين، ولهذا قال: لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، فمن كان باغياً بقتاله هذا، ولم يكن له تأويل سائغ فإنه ظالم، ومن كان متأولاً فإنه مظلوم، ويدل أيضًا على أنه في تلك الساعة التي يتمحص فيها الإنسان غالباً ويتجرد من مقاصده السيئة، لاسيما أمثال هؤلاء من أصحاب النبي ﷺ ومن أهل بدر، ومن المبشرين بالجنة، قال: وإني لا أراني إلا سأقتل مظلومًا، وهذا يدل على أنه كان متأولا ، قال: "وإنّ مِن أكبر همي لَدَيْني" وهذا هو الشاهد في هذا الباب، يقول في تلك الساعة التي يظن أنه سيفارق فيها الدنيا: إن أكبر همي لَدَيْني، وهذا إنما يكون لأصحاب القلوب الحية اليقظة، يلاحقه هذا الهم في كل مقام، لاسيما في الأوقات المخوفة، التي يتوقع الإنسان فيها، إما بسبب مرض أو سفر مخوف، أو شهود قتال أو نحو ذلك أنه يموت، فعندئذ يجب عليه أن يحتاط لأموال الناس، وأن يحترز لها حتى لا تضيع حقوقهم، فيوصي بذلك، يقول: "أفَتَرى دينَنا يُبقى من مالنا شيئاً؟"، الديْن الذي كان على الزبير كان كثيراً، وكان يبلغ ما يقرب من مليونين ونصف، ولم يكن ذلك بسبب التكثر، ولا التفريط، ولا أخذ أموال الناس والافتقار إليهم، كما يفعل بعض الناس، يفتح أعمالًا ومؤسسات ومشاريع وتجارات بالديون، يقترض من هذا مائة ألف، ومن هذا مليوناً، ومن هذا أقل ومن هذا أكثر، ثم بعد ذلك تضيع وتركبه الديون، لم يكن أصحاب النبي ﷺ بهذه المثابة، وإنما كان ذلك بسبب آخر.

كان الزبير ، مأمونا عند الناس، يأمنونه ويطمئنون إليه ويثقون به، فكان الرجل يعهد إليه، ويجعله وصياً على ماله، أو تركته، ويضع الناس عنده أموالهم لفرط ثقتهم به، فكان لكمال ورعه وخوفه من الله ، ولئلا تلحقه تهمة، كان يقول لمن أراد أن يودع عنده شيئاً: إنها دين وليست أمانة، والسبب في ذلك أنه لو أعطاه أمانة فإنها إن تلفت من غير تفريط فإنه لا يضمن، فلو أن أحداً أعطاك مائة ألف، وقال: هذه أمانة ووضعتها في حرز معتبر من غير تفريط، ثم بعد ذلك عدا اللصوص على الدار وسرقوا ما فيها ومن ضمن ذلك هذا المبلغ فشرعاً لا تضمن شيئاً، أعطاك سيارته ثم بعد ذلك وضعتها في مكان مأمون، فجاء إنسان وأحرق هذه السيارة، لا تضمن شيئاً، وليس عليك شيء، ولذلك هذه الأموال التي يضعها الناس في البنوك هل هي ودائع وأمانات، أو أنها قروض للبنوك؟ فإذا كانت ودائع وأمانات، ثم تلفت لأي سبب من غير تفريط منهم، فإن البنك لا يضمن ذلك المال؛ لأن هذه الأموال قد ضاعت وذهبت من غير تفريط، ولا يمكن أن تضمن بهذه الطريقة إلا أن تكون من قبيل القرض، فنحن حينما ندفع مالاً للبنك، نقرضهم قرضاً؛ لأن القرض مضمون، فلو أقرضت إنساناً مائة ألف، ثم خرج من عندك وعدا اللصوص عليه وأخذوا ما بيده، ثم رجع إليك وقال: سُرقت، فإنه يضمن المال.

فالحاصل أن الزبير إذا أعطاه أحد مالاً كوديعة يقول لصاحبها: هي قرض، من أجل أن يضمنها له؛ لئلا يخالجه شيء أن ذلك لربما دخله شيء من التفريط، وحتى لا تلحقه تهمة أنه ضيع أموال الناس، فتصور هؤلاء الذين يثقون به ممن عهدوا إليه بمالهم، ممن ماتوا قبله، كعثمان بن عفان، وهو من كبار أغنياء الصحابة ، وابن مسعود، وجماعة من الكبراء من أصحاب النبي ﷺ عهدوا إليه، فصارت هذه كلها من قبيل الدين، وإلا هي في أصلها من قبيل الودائع والأمانات، فالحاصل أنه قال: "يا بني، بع ما لنا واقضِ ديني"، لم يضيع أموال الناس ويضع جزءًا منه باسم أخيه، وجزءًا باسم زوجته، وجزءًا باسم ابن عمه، وجزءًا باسم شريك لا يُعرف، ثم يقول لهم: ليس عندي شيء، ويضيع أموال الناس، ثم تذهب هكذا، وهذا -نسأل الله العافية- غاية الإجرام.

لكن الزبير قال: "بع ما لنا واقضِ ديني، وأوصَى بالثلث، وثلثه لبنيه"، أي: أوصى بالثلث إن بقي شيء؛ لأن الإنسان إذا مات فإن أول ما يجب هو تجهيزه من تركته، وقضاء الديون المتعلقة بحق الله وحقوق الآدميين، ثم بعد ذلك ينظر في وصيته، فتنفذ، فإن وجد شيء بعد ذلك فإنه يقسم قسم المواريث، "وأوصَى بالثلث، وثلثه لبنيه، أي: لبني عبد الله بن الزبير"؛ لأن عبد الله بن الزبير هو الكبير وكان يقوم على شئون والده، ويصرف معه أمواله، ويعينه في عمله، وما أشبه ذلك، فأوصى بالثلث وأن يكون ثلث الثلث لأولاد عبد الله بن الزبير ، قال: "فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدين شيء فثلثه لبنيك"، يعني ثلث الثلث، قال هشام بن عروة بن الزبير -أي أن عبد الله بن الزبير عمه: "وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير"، أي أن عبد الله كان كبيرًا في ذاك الوقت، وعمره يقرب من الأربعين، وبعض أولاد عبد الله كانوا يقاربون بعض أبناء الزبير بن العوام في السن، مثل خبيب، وهو الكبير، وعباد، وله يومئذ تسعة بنين، وتسع بنات، يعني عبد الله بن الزبير، أما الزبير فكان قد ترك عشرة من الولد تقريباً وأربع زوجات حينما أوصى، قال عبد الله: "فجعل يوصيني بدينه، ويقول: يا بني إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي"، وكلمة مولاي تحتمل عدة معانٍ، فالمولى هو الله، ويطلق على الموالي كما يقال على الموالي الأعليْن وهو المعتِق والسيد، ويطلق ذلك أيضًا على الموالي الأدنيْن، وهو المعتَق والعبد الرقيق يقال: هذا مولاي، فعبد الله بن الزبير لم يفهم هذه الجملة فقال: "والله ما دريت ما أراد، حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله"، ثقة بالله -تبارك وتعالى- أن يقضي دينه، قال: "فوالله ما وقعت في كربة من ديْنه إلا قلت: يا مولى الزبير اقضِ عنه دينه، فيقضيه"، قال: "فقتل الزبير ولم يدع ديناراً ولا درهماً إلا أرَضِين، منها الغابة"، والغابة مكان معروف شمال المدينة، لا زال معروفاً معلوماً إلى اليوم، والمدينة لها غابتان، غابة قريبة في الناحية الشمالية، وغابة بعيدة إلى حد ما، وهي التي وقع فيها ما يعرف بغزوة الغابة في قصة سلمة بن الأكوع، فالمقصود الغابة القريبة.

يقول: "ما ترك ديناراً ولا درهماً إلا أرضين منها الغابة، وإحدى عشرة داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة، وداراً بالكوفة وداراً بمصر"، قال: "وإنما كان سبب دينه الذي كان عليه أن الرجل كان يأتيه فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكن هو سلف، إني أخشى عليه الضيعة"، فلو قال للناس هي ودائع، ثم ضاعت من غير تفريط فليس عليه شيء، ولكن لشدة حرصه أن يعيدها حتى لو حصل لها تلف بغير تفريط هو الذي جعله يتحمل هذه الديون، يقول: "وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا شيئاً إلا أن يكون في غزو"، يريد أن يبين شدة ورع الزبير ، فلم يجمع شيئاً من الدنيا، أو يلي عملاً يلحقه فيه تهمة؛ لئلا يقال: إنه استغل ذلك، ولا جباية، وجباية الأموال أن يذهب ويجمع أموال الخراج مثلاً أو الجزية أو الزكاة، "إلا أن يكون في غزو مع رسول الله ﷺ أو مع أبي بكر وعمر وعثمان فيأتيه من الغنيمة"، قال عبد الله: "فحسبت ما كان عليه من الدين، فوجدته ألفي ألف، ومائتي ألف"، ألف ألف أي مليون، يعني: وجد عليه مليونين ومائتي ألف، فلقى حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير، و حكيم بن حزام بن خويلد ابن أخ خديجة بنت خويلد -ا، وعرفنا أن الزبير هو ابن العوام بن خويلد، فحكيم بن حزام هذا ابن عم الزبير، يقول: "فلقى حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن أخي، كم على أخي من الدين؟" كم على أخي؟ تجوزاً، ويقول: يا ابن أخي باعتبار أنه صغير بالنسبة إليه، فعبد الله بن الزبير بلغ الأربعين تقريباً، وحكيم بن حزام في ذلك الوقت كان قد بلغ المائة، فيقول له: يا ابن أخي، كم على ابن عمي الزبير؟، يقول: "فكتمته، وقلت مائة ألف"، وهي مليونان ومائتا ألف، وليس هذا من الكذب، وإنما قال ذلك إخباراً عن بعض ما عليه، ولا ينفي أن عليه أكثر من مائة ألف، ولكن كأنه كره أن يخبره بالدين بكامله فلربما يتوهم أن الزبير كان مفرطاً، وهو لايعرف سبب هذه الديون، وكيف وقعت عليه، وقد يلحقه بذلك ملامة، أو لربما يشعر أن عبد الله بن الزبير يريد منه أن يعينه على هذا، فذكر له هذا المبلغ اليسير، فقال حكيم: "والله ما أرى أموالكم تسع هذه".

يقول: من أين تأتون بهذا المبلغ وتقضون هذا الدين؟، فلما سمع عبد الله هذا الكلام من حكيم، قال له: "أرأيتُك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟"، أعطاه الرقم الحقيقي، فعبد الله كان لا يريد من حكيم أن يلحق ملامة أو يتلكم بمثل هذا، من أين تسددونها؟ وكيف؟ فلما رآه مستكثرًا لهذ المبلغ، قال له: أجل اسمع الدين الحقيقي، ألفي ألف ومائتي ألف، قال حكيم: "ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي"، ولكن كانت نفوسهم عزيزة، لم يقل له: نعم، أنت ابن عمنا وهذا وقتك، ولكن سكت، قال: "وكان الزبير قد اشترى الغابة بمائة وسبعين ألفًا" عقار، أرض، وفيها نواحٍ خربة، ليس فيها شيء، "فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف"، أي: بمليون وستمائة ألف، ولم يبعها كاملة، بل باع جزءًا منها، فقد قسمها إلى ستة عشر سهماً، كل سهم بمائة ألف، ثم قام فقال: "من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة"، وكان قبل ذلك قد ذهب إلى عبد الله بن عمر وأخذ ابن عمه حكيم بن حزام، ذهبوا إلى عبد الله بن جعفر؛ لأن عبد الله بن جعفر كان يريد من الزبير أربعمائة ألف، فذهب عبد الله بن الزبير يستشفع بعبد الله بن عمر وكان من كبراء الصحابة وعبادهم وخيارهم وعلمائهم، وأخذ حكيم بن حزام ابن العم، والكبير، حوالي مائة سنة، ذهبوا لعبد الله بن جعفر من أجل التفاهم في موضوع الدين، ليس من أجل إسقاطه، وإنما التفاوض في قضية الدين هذه كيف يتعامل معها، فلما رآه عبد الله بن جعفر وكان من أجود الناس، من ينظر في جوده وكرمه شيء لا يقادر قدره، عبد الله بن جعفر كان يرى الرجلَ الرقيقَ أمامه كلبٌ عند بستان، فيأكل خبزه ويلقي على الكلب قطعة أخرى، فقال له: لماذا تفعل هذا؟ قال أستحي أن ينظر إليّ ذو عينين ولا أعطيه شيئاً، فقال: أنت حر وهذا البستان لك، فاشترى العبد وقال له: أنت حر، واشترى البستان وأعطاه إياه، فذهب الرقيقُ وقال: أشهدك أنه صدقة لفقراء المدينة، فقال: ويحك، وأنت لا تملك شيئاً!، قال: إن الله قد أعطاني وأولاني، فكرهت أن يراني وفي المدينة فقير، هؤلاء الأرقاء في ذلك الزمان! فلما رأى ابنُ جعفر عبدَ الله بن الزبير دخل عليه قبل أن يتكلم قال: جئت تستشفع بهؤلاء، هي لك، يقول: فقلت: لا، فقال: هي بنعليك، أي: ثمن النعال الذي عليك، أو بما تشاء، فقلت لا، فقال: هي في ذمتك إلى يوم القيامة، هذا الذي تريد؟ فقلت: لا، ولكن أعطيك أرضاً وعقاراً من أرض الغابة، فقال: لك ذلك، احكم بما شئت، يقول: فقال: أعطيك جزءًا من الغابة.

فلما نادوا جاء عبد الله بن جعفر إلى الغابة، وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: "إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون"، اقضوا الناس فقال عبد الله: "لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، قال عبد الله: لك من هاهنا إلى هاهنا"، وفي بعض أخباره أنه قال له: أريد أن أخلو بك ولا يكون معنا أحد، قال: لك ذلك، فمشى معه وقال: لك من هاهنا إلى هاهنا، وأشار إلى ناحية فيها خراب، أي: ليس فيها شيء، فقال عبد الله بن جعفر لغلامه: ضع لي هاهنا شيئاً أصلي عليه في أسوأ بقعة، فصلى وأطال في السجود، فلما فرغ قال: يا غلام احفر هاهنا بئراً، فحفر فظهرت عين فوارة، فقال عبد الله بن الزبير: أقلني، فقال: إني دعوت ربي هاهنا ولا أقيل، قال له: الآن قيمتها أكثر بكثير أقلني، هذا في الموقف، قال: لا أقيلك قد تبايعنا على هذا، فصارت هذه أفضل تلك الأرض؛ لأنه بقي جزء من الغابة لأبناء الزبير كميراث، فصارت هي أفضل مكان في الغابة، على نياتهم أعطاهم الله ورزقهم، ما تشاجروا ولا تشاحنوا ولا تقاطعوا على شيء من حطام الدنيا، نسأل الله أن يلحقنا بركابهم، وأن يرضى عنهم، وأن يحشرنا معهم تحت لواء محمد ﷺ، هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، (1/ 15)، رقم: (31)، ومسلم، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، (4/ 2214)، رقم: (2888).

مواد ذات صلة