الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
حديث "من أحق الناس بحسن صحابتي؟"
تاريخ النشر: ٢٩ / صفر / ١٤٢٨
التحميل: 2210
مرات الإستماع: 40672

من أحق الناس بحسن صحابتي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب بر الوالدين وصلة الأرحام أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -يعني: صحبتي، قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك[1]. متفق عليه.
وفي رواية: يا رسول الله، من أحق بحسن الصحبة؟، قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك أدناك[2].

فهذا الحديث يبيّن فضل الأم ومنزلتها، وأن الأم لها من الحق في هذا الجانب وهو حسن الصحبة ثلاثة أضعاف ما للأب، والمقصود بحسن الصحبة: حسن المعاشرة، والملاطفة، والإحسان والبر، وذلك أن الأم تحملت الحمل وآلام الولادة، وكذلك أيضاً الرضاع والحضانة، كل هذا شقيت به وتعبت، والأب كذلك هو سبب في وجود الإنسان، وهو الذي يبذل ويتعب، ولكن الأم تحملت زيادة على ذلك هذه الأمور الثلاثة التي ليس للأب شيء منها، فهذا الإنسان حينما يكون في بطنها يعيش على دمها، وحينما يخرج تعاين الموت، وحينما يولد فإنها تقدمه على نفسها، وراحته على راحتها، وتفرح لفرحه، وتتألم لألمه وحزنه، وإذا مرض مرضت معه، وإذا صار في المدرسة فكأنها هي التي تدرس، وإذا اختبر كأنها هي التي تختبر، وهكذا حتى يتم، ثم بعد ذلك تشقى بعياله من بعده، وتجد لهم ما تجد له، كل هذا يقع للأم، فالمقصود أنها أولى الناس، لكن هذا الحديث إنما هو في حسن الصحبة، ولهذا يقال: لو أنه تعارض أمر الأم وأمر الأب من الذي يقدم؟.

أبوه يقول: لا تفعل كذا، وأمه تقول: افعل كذا، في غير معصية الله ، أبوه يقول: اعمل بالمكان الفلاني، وأمه تقول: اعمل في المكان الفلاني، أبوه يقول: ادرس في الجامعة الفلانية، وأمه تقول: ادرس في الجامعة الفلانية، يطيع من؟.

من أهل العلم من قال: إن الأم مقدمة؛ لأن النبي ﷺ ذكر حقها ثلاث مرات.

ومنهم من قال: الأب، ونقل عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه سأله رجل فقال: إن أبي في السودان، والمقصود بالسودان القارة الإفريقية في ذلك الوقت، وإلى وقت قريب كان يقال لذلك: السودان، بلد السودان وما حولها، قال: إن أبي في السودان ويدعوني، يطلب مني أن أقدم إليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال الإمام مالك -رحمه الله: أطع أباك ولا تعصِ أمك، فمن أصحاب الإمام مالك من فهم من هذا أنه قصد أنه يطاع الأب فيما لا يكون معصية للأم، يعني: أن الأم مقدمة.

ومنهم من فهم أنه قدّم طاعة الأب، والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه في مثل هذه الأمور التي تتعلق بالتدبير فهي من شأن الولاية، والولاية إنما تكون للأب وليست للأم.

فهذا الحديث إنما هو في حسن الصحبة، فالذي يدبره هو أبوه، وليس أمه التي تدبره، فوليه الأب، فيجب عليه أن يطيعه في مثل هذه الأمور، إلا فيما يلحقه به ضرر أو يحصل له عنت أو نحو هذا، فمثل هذه الأمور يحصل فيها التفاهم والملاطفة والإقناع وما أشبه هذا، لكن الذي يأمره وينهاه فيما يتعلق بأموره الحياتية هو أبوه؛ لأنه هو وليه، الأب هو الذي يطالبه أن يدرس، يذهب به إلى المدرسة، يدرس في هذه المدرسة أو تلك، إلى آخره، أمه تقول: لا، أريده أن يدرس في مدرسة خاصة، ليس هذا للأم، إنما هو للأب، القرار الأول والأخير للأب، لماذا؟ لأنه هو الولي، أما في المعاشرة والمخالطة وحسن الصحبة فالأم ثلاثة أضعاف الأب من التلطف، يعني: إذا كان الإنسان مأمورًا ببر أبيه والتلطف به، والإحسان إليه، فماذا يصنع مع أمه؟، ثلاثة أضعاف، ولهذا كان ابن سيرين -رحمه الله- إذا كلّم أمه مَن لا يعرفه يظن أنه مريض، كأنه ضارع، يتضرع بصوت منخفض جدًّا، وبغاية التذلل والتواضع، هكذا يصنع مع أمه، وما كان يأكل معها؛ يخاف أن تمتد عينها إلى شيء ثم تسبق يده إليه، من شدة بره بها، فيتلطف الإنسان غاية التلطف، يقبّل رأسها، ويدها، ويكلمها بأحسن عبارة، وبألطف أسلوب، ولا يرفع صوته، ولا ينصب يده في وجه أبيه ولا أمه، ولهذا قال بعض السلف: ما بر أبويه من مد إليهما النظر.

هذا جاء عن عروة بن الزبير -رحمه الله، يعني يجلس ينظر إليهما، يحدق في النظر إليهما، هذا يدل على أنه في شيء من عدم الهيبة وعدم الاكتراث، فكيف إذا كان يأمرهما: أعطني كذا، هات لي كذا؟!، هذا ما يليق، هو الذي يقوم على خدمتهما، وشئونهما ونحو ذلك.

فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم البر، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وأن يجعل ما نسمع سبباً وسبيلاً إلى مرضاته، وأن يجعله سبيلاً إلى العمل بطاعته، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، (8/ 2)، برقم: (5971)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، (4/ 1974)، برقم: (2548).
  2. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، (4/ 1974)، برقم: (2548).

مواد ذات صلة