الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[66] من قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ} الآية 151 إلى قوله تعالى: {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} الآية 152
تاريخ النشر: ١١ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 4398
مرات الإستماع: 3034

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على  رسول الله، أما بعد:

فأنبه أولاً في بداية هذا الدرس إلى أمر مهم وهو حينما يسمع أو يقرأ الإنسان الآيات التي علم تفسيرها يجد فرقاً بينها وبين الآيات التي لم يطلع على تفسيرها، فرق عظيم جداً إذا كنت تستحضر ما قيل، مع أنه شيء يسير، لكن فرق كبير جداً، لا تشبع من سماع القرآن، فهكذا يؤثر فهم المعاني في تدبره، والرغبة في قراءته وسماعه، ومن ثم فإن الإنسان قد لا يستطيل الصلاة إطلاقاً، مهما طالت في قيام الليل في رمضان أو في غيره، أو في التلاوة إذا كان يفقه المعاني.

ولهذا يقول ابن جرير -رحمه الله: "عجبت لمن يقرأ القرآن وهو لا يعرف معانيه كيف يلتذ به؟!" فهذا مثال ونموذج، فكيف لو كانت معرفتك بمعانيه أكثر وأوسع، فهذه القضية نتحدث عنها كثيراً، ولكن لعلك تجرب في نفسك في بعض الأجزاء التي علمت تفسيرها، ستجد فرقاًَ شاسعاً بين الحال الأولى والحال الثانية، أسال الله أن يفتح علينا جميعاً، ويشرح صدورنا لفهم كتابه.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى: وقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي أهل الكتاب، فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس.

وقوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] يعني مشركي قريش، ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة أن قالوا: إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم رجع عنه؟

والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة.

قوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] هذا الاستثناء هل هو متصل أو منقطع؟

أكثر المفسرين على أنه منقطع، بناءً على أي شيء قالوا ذلك ورجحوه؟ بناءً على أن هؤلاء المكابرين الظالمين لا حجة لهم أصلاً، فالله يقول: حولناكم إلى الكعبة لقطع الحجة عنكم؛ لئلا يقول أهل الكتاب: وافقونا في قبلتنا، هديناهم إلى القبلة، فلماذا لا يوافقوننا في ديننا؟ أو يتوهم متوهم منهم فيقول: إنا نجد من صفة هذا النبي أنه يوجه إلى الكعبة، فهي قبلة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فلماذا يتوجه إلى بيت المقدس؟

فهم يعلمون أنه سيحول، ويجدون ذلك في كتابهم، فلقطع حجتهم حولناكم إلى الكعبة، لكن الذين ظلموا منهم وهم المجادلون عناداً ومكابرةً لا حجة لهم، فالله حول المؤمنين إلى الكعبة لقطع حجة الناس وهم اليهود، لكن هؤلاء المكابرين الظالمين لا تعبئوا بهم، ولا تلتفتوا إليهم، هذا قول من قال: إن الاستثناء منقطع، وهذا هو الملحظ الذي جعلهم يقولون بهذا القول، لماذا قالوا به؟ لهذا السبب، أن الظالمين لا حجة لهم.

وإذا قيل: إنه متصل، وهذا عليه جماعة من المحققين، منهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري، والشيخ تقي الدين ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وجماعة، يقولون: هذا الاستثناء متصل وليس منقطعاً لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] سيحتجون، لن تنقطع دعاواهم الباطلة، بأي اعتبار؟ قلنا: إن الظالمين المكابرين لا حجة صحيحة لهم، إذاً ما المراد؟

المراد: أن الحجة تأتي في القرآن بمعنى ما يحتج به ويتشبث به، سواء كان صحيحاً أو باطلاً، فهذا أمر موجود في كتاب الله حيث يذكر دعاوى المبطلين في عدد من المواضع.

وربما سماها حجة مع بطلانها، يقول الله  في نظائر هذا: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ [سورة الشورى:16] فسماها حجة ووصفها بالبطلان، داحضة: بمعنى باطلة ذاهبة، وأيضاً: لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [سورة آل عمران:65] وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ [سورة البقرة:258] وقوله: قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [سورة البقرة:139] وقوله: وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَآجُّونِّي فِي اللّهِ [سورة الأنعام:80] وقوله: فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ [سورة آل عمران:20] والشواهد على هذا كثيرة جداً.

فهذه الدعاوى الباطلة التي يقولها الكفار سماها الله حجة، فدل ذلك على أن الحجة تطلق على ما يُحتج به بصرف النظر عن كونه صحيحاً أو باطلاً، يعني: ما يُستدل به، وهو الدليل والحجة. 

وهنا ما يمكن أن نسميه قاعدة وهي: أن القرآن يعبر أحياناً باعتبار حال السامع، وهذا له أمثلة كثيرة متنوعة، مثل: تسمية دعاوى المبطلين حجة، ومثل تسمية المعبودات التي يعبدونها آلهة، وهي ليست آلهة، ويسميها أرباباً، ويُجري عليها ما يجري على العقلاء فيقول: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [سورة الأعراف:195] فهي أصنام غير عاقلة فالأصل أن يقال: تمشي بها، تبطش بها، ما يقال: يمشون بها، يبطشون بها، تقول مثلاً: لا تسقط عليك هذه الثريات، وإذا كانت للعقلاء تقول: لا يسقطون عليك، ولكنه يجري عليها أحياناً ما يجريه على العقلاء، يبطشون، يمشون، يسمعون، يبصرون، ينظرون، وما أشبه ذلك.

وكذلك حينما يعبر بالترجي مثل (لعلّ) في أحد الوجهين في تفسيرها، إذا صدرت من الله فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] يعني على رجائكما، هذا إذا ما فسرت بالوجه الآخر الذي هو التعليل، يعني على رجائكما بنظر المخلوقين، فاحتمال أن يهتدي إذا قلتما له كلاماً ليناً وإلا فالله يعلم أنه لن يهتدي.

كذلك أيضاً حينما تأتي (أو) التي قد تفيد الشك على أحد وجوه التفسير، في مثل قوله تبارك تعالى عن يونس ﷺ: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ[سورةالصافات:147] إذا قلنا: (أو) هنا بمعنى (بل) فلا إشكال، لكن إذا قلنا: إنها تدل على الشك والاحتمال فهذا لا يكون من الله ، لكن بحسب الناظر إليهم من المخلوقين، يقدرهم فيقول: مائة ألف أو يزيدون، وهناك أمثلة أخرى في مثل هذه وغيرها.

فهنا يمكن أن يكون الاستثناء متصلاً إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] يعني ستبقى لهم حجة باطلة؛ لأن قصدهم العناد والمكابرة، سيحتجون ويشغبون عليكم.

ومن هم هؤلاء الذين ظلموا؟ بعض أهل العلم يقول: هم اليهود. 

وكثير منهم يقول: هم أهل الإشراك، وهذا اختاره ابن جرير، وهو الذي مشى عليه ابن كثير كما هنا، فهؤلاء من أهل الإشراك إذا حولت القبلة ماذا سيقولون؟ يقولون: وافَقَنا وعاد إلى قبلتنا، حنّ إلى دين أبيه، فهذا يؤذن بتحوله إلى ديننا، فلن يسكتوا فلا تعبئوا بهم، واشتغلوا بما أنتم بصدده، فهذا على القول بأن الاستثناء متصل، فالحجة تأتي بمعنى ما يحتج به، بناءً على الأصل الذي ذكرته آنفاً، وهو أن القرآن يعبر أحياناً باعتبار حال السامع ونظره.

يقول: يعني مشركي قريش، إذاً هذا اتفق عليه ابن جرير وابن كثير وكثير من المفسرين إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] يعني: المشركين، ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة أن قالوا: إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم رجع عنها؟

والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً لما له تعالى من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في هذا، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة فامتثل، وهذا الكلام سبق الإشارة إليه.

وقوله: فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150] أي: لا تخشوا شبه الظالمين المتعنتين، وأفردوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يُخشى منه.

وهذا أصل كبير لأهل الإيمان لا بد أن يدركوا أن ما يثيره أعداؤهم ويشغبون به لا ينبغي أن يكون مثار قلق بالنسبة إليهم، فضلاً عن أن يغيروا دينهم من أجل كسب ودهم ورضاهم، فإن هذا أمر لن يتحقق، إنما هي الهزيمة الحقيقية العظيمة التي لا تقف عند حد، وهذا التقهقر الذي لا يمكن الثبات معه في أرض المعركة، فإن من هزم في مبادئه، وتضعضع، كان ذلك سبباً لتتابع الهزائم عليه، فلا تثبت له قدم، ولا يكون مؤهلاً بحال من الأحوال للثبات أمام عدوه عند المواجهة، فاثبتوا على ما أنتم عليه من حقائق هذا الدين الذي سنه الله لكم.

وأما هؤلاء فلن يفتئوا ولن ينقطعوا من الشغب على دينكم، ولا يكون ذلك سبباً لقلقكم وخوفكم فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150] فالخشية تكون من الله وحده، قد لا تقدرون على مواجهتهم، ولكن يجب عليكم أن تثبتوا على دينكم، وهذا لا خيار فيه.

أما التراجع وتغيير المبادئ وتبديل دين الله من أجل كسب رضاء المخلوقين فإن هذا أمر لا يحل بحال من الأحوال.

وقوله: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:150] عطف على لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي: لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة؛ لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها، وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150].

يعني ذكر لهم ثلاثة أشياء من حكمة هذا التحويل وهي:

  • قطع حجة الظالمين عنهم. 
  • وإتمام النعمة عليهم بتحويلهم إلى القبلة التي هي قبلة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام. 
  • وهي القبلة الوسط التي ضل عنها اليهود والنصارى، فهدى الله لها هذه الأمة وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150] وهذه هي القضية الثالثة أي: من أجل هدايتكم.
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150] أي: إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه، وخصصناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.

الآيات التي مضت في تحويل القبلة مما يوطئ لقضية النسخ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106] وهذه الآية رقمها مائة وستة، والآيات التي جاءت بعدها مقررة لها، يعني أن الله -تبارك وتعالى- ذكر قضية النسخ وقررها، وبيّن أنه ما ينسخ من آية إلا ويأتي بمثلها أو أفضل منها، وبيّن عموم قدرته أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] وأن الملك ملكه، والخلق خلقه، يفعل فيهم ويتصرف كما يشاء من غير منازع.

ثم علمهم كيف تكون حالهم مع نبيهم ﷺ من الانقياد والقبول والتسليم، ثم ذكر حال أهل الكتاب معهم وأمانيهم حيث يتمنون إضلال هذه الأمة، ورجوعها عن دينها، فهو يبيّن لهم حال عدوهم وأن بغيتهم هو ردتكم عن دينكم، فلا تعبئوا بهم، ولا تكترثوا بكلامهم وأقوالهم ومطالبهم، وإنما أعرضِوا عنهم، وأَمَرَهم بما يكون به صلاحهم، وصلاح معاشهم ومعادهم ومجتمعاتهم، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.

وبعد ذلك ذكر جملة من مخازي هؤلاء من أهل الكتاب، وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] وقول اليهود: لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ [سورة البقرة:113] ..إلى آخر ما ذكر عنهم، ورد عليهم.

ثم بيّن بعض فظائعهم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114] وبيّن أن الجهات جميعاً لله ، وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]​​​​​​، ثم ذكر أيضاً فظائع أخرى من نسبتهم الولد إليه ، والأماني أو المطالب التي يتعنت فيها المتعنتون لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [سورة البقرة:119]​​​​​.

ثم بيّن حال النبي ﷺ، وأنه ما أرسل لهذا إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سورة البقرة:119] وإنما يأتي بالآيات الله ، فهو إنما مهمته البلاغ والإنذار، ثم قطع أمله من اليهود والنصارى في تحصيل رضاهم وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120] وبيّن أن هدى الله هو الهدى الذي يجب أن يتمسك به، وبيّن حال طائفة من أهل الكتاب الذين اتبعوا الحق وآمنوا به، ثم ذكّر بني إسرائيل بما ذكّرهم به من إفضاله عليهم وخوّفهم.

ثم ذكر إبراهيم ﷺ وما جرى له من الابتلاء العظيم والامتحان، وما جعل الله لبيته الحرام، حيث جعله مثابة للناس وأمناً، وذكر بناء إبراهيم ﷺ لهذا البيت، ودعاءه له، وأن يبعث الله فيهم رسولاًً منهم، ثم بعد ذلك بيّن أن من يرغب عن ملة إبراهيم ﷺ فقد أضاع حظ نفسه وضيعها، واشتغل بما يضره، وأن دين إبراهيم هو الإسلام، وأن إبراهيم ﷺ وصى بذلك أبناءه، ويعقوب وصى بذلك أبناءه أيضاً، فهذا هو دين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وبيّن لهؤلاء اليهود والنصارى الذين ينازعون في إبراهيم ﷺ وإسحاق ويعقوب، أن هؤلاء لهم أعمالهم، وقد مضوا بأعمالهم وآمالهم، وأن الله يتولاهم ويجازيهم، فأين عملكم أنتم؟ وأين ما فيه نجاتكم؟

ثم ذكر حجة وكلاماً باطلاً لهم، وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ [سورة البقرة:135] ثم بيّن لهم المنهج الصحيح، وهو الإيمان بالله ، والملائكة والكتب والرسل.. إلى آخره، وبيّن أن هذا هو مهيع الهدى إن فعلوه وآمنوا به فقد صاروا على الطريق، وإلا فهم في ضلال وشقاق.

ورد عليهم في المحاجة في الله  وفي إبراهيم، قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [سورة البقرة:139] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [سورة البقرة:140] ورد عليهم في هذا، ثم قال: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ [سورة البقرة:142] بهذه التوطئة من قوله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ [سورة البقرة:106] الآية مائة وستة، كل ذلك توطئة لما ذكره هنا من تحويل القبلة سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ [سورة البقرة:142] قطع حجتهم عن هؤلاء، وبيّن أنهم ضُلال، وأن الحق هو ما أنتم عليه، وأنه من عند الله فالتزموه، وبيّن عظم هذا النبي الكبير إبراهيم ﷺ، وعظّم بيته الحرام، ثم بعد ذلك بيّن لهم حال هؤلاء اليهود، وأنهم سيقولون كذا وكذا، وقال بعده: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144].. إلى آخر الآيات، وأن أهل الكتاب لن يقتنعوا مهما أتيتهم؛ لأنهم يكابرون وهم يعرفون هذا الحق، وأن جميع الملل والطوائف كلٌّ له وجهة.. إلى آخر ما ذكر.

هذا وجه الترابط، أو ما يسمى بالمناسبات بين الآيات في هذا المقطع الطويل، من مائة وستة إلى مائة وأربعة وخمسين، بل إن شئت أن تقول بأكثر من هذا، إلى مائة وسبعة وخمسين.

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ۝ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [سورةالبقرة:151-152] يذكّر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد ﷺ إليهم يتلو عليهم آيات الله مبينات ويزكيهم."

في قوله: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ [سورة البقرة:151] قوله: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ هل هو متعلق بالذي بعده؟ أي كما أنعمت عليكم بهذه النعمة فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:151​​​​​​​] كما أني فعلت لكم هذا فاذكروني شكراً على هذا الإنعام والإفضال، هل هذا هو المراد؟ أم أن قوله: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْمتعلق بأمر قبله وليس بعده، بحيث يكون الكلام مثلاً هكذا: الزموا طاعتي وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم؛ لتنقطع عنكم حجة اليهود؛ ولأتم نعمتي عليكم؛ ولعكم تهتدون كما ابتدأتكم بنعمتي فأرسلت إليكم رسولاً؟ بهذا الشكل. 

أو: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل ما أرسلنا فيكم رسولاً، فتكون الكاف في موضع نصب، وقد تكون في موضع الحال، أو نعتاً لمصدر محذوف، الحال مثل: ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا، تكون الكاف في موضع الحال كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً، وبهذا يكون الكلام مرتبطاً بما قبله، وليس كلاماً جديداً استئنافياً يبتدئ الله فيه تقرير قضية جديدة، ليس المعنى قل لهم: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:151​​​​​​​] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152​​​​​​​] وإنما هو يخاطبهم كما سبق فيقول لهم: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۝ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [سورة البقرة:150-151] فهذا من نعمته عليهم وإفضاله، فهو يمتن عليهم بهذا، أتممت نعمتي عليكم بتحويلكم إلى أعدل قبلة، وهديتكم إليها، كما أني أرسلت إليكم رسولاً هذه صفته، يعني أنه أضاف إليهم بعْثَ الرسول ﷺ وهو أفضل الأنبياء هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة الجمعة:2] فإضافة إلى ذلك أتم نعمته عليهم بتحويلهم إلى أعدل قبلة وهي قبلة الأنبياء وقبلة أبيهم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام.

ويزكيهم: أي يطهرهم من رذائل الأخلاق، ودنس النفوس، وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.

 التزكية تشمل المعاني كلها التي يذكرها السلف، يزكيهم من المعاصي، ويزكيهم أيضاً من الشرك، ويزكيهم بالطاعات، ويزكيهم بالتوحيد، فكل ذلك يحصل به التزكية، فعلى قدر استقامة العبد على أمر ربه -تبارك وتعالى- على قدر ما تكون زكاته، فتجد بعض العبارات: يزكيهم بتخليصهم من الشرك، يزكيهم بتطهيرهم من الشرك، يزكيهم بالتوحيد، يزكيهم بإبعادهم عن الذنوب والمعاصي والآثام، كل هذه العبارات بمعنىً واحد، وتدخل في معنى التزكية.

 التزكية تشمل المعاني كلها التي يذكرها السلف، يزكيهم من المعاصي، ويزكيهم أيضاً من الشرك، ويزكيهم بالطاعات، ويزكيهم بالتوحيد، فكل ذلك يحصل به التزكية، فعلى قدر استقامة العبد على أمر ربه -تبارك وتعالى- على قدر ما تكون زكاته، فتجد بعض العبارات: يزكيهم بتخليصهم من الشرك، يزكيهم بتطهيرهم من الشرك، يزكيهم بالتوحيد، يزكيهم بإبعادهم عن الذنوب والمعاصي والآثام، كل هذه العبارات بمعنىً واحد، وتدخل في معنى التزكية.
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة:151] وهو القرآن، وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:151] وهي السنة وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:151​​​​​​​] فكانوا في الجاهلية الجهلاء يُسفَّهون بالقول الفري ...

القول الفري، يعني المفترى، فكانوا في الجاهلية يُسفَّهون أي: ينسبهم الناس للسفه، ويمكن أن يقال: يَسْفَهون بالقول الفري، يعني: المفترى المختلق.

"فكانوا في الجاهلية الجهلاء يُسفَّهون بالقول الفري، فانتقلوا ببركة رسالته، ويمن سفارته إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء، فصاروا أعمق الناس علماً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصدقهم لهجة."

كانوا يقولون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً لك تملكه وما ملك" وأشياء مضحكة محزنة مما كانوا يتعاطونه ويقولونه، من يقرأ في مثل كتاب: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، أو في غيره من الكتب كقصص العرب وغيرها يجد أموراً يندى لها الجبين، يستحي العاقل منها ويتعجب كيف كان هؤلاء بهذه المثابة؟! ثم صاروا في عداد العلماء والكبراء والعظماء ببعث محمد ﷺ، فصار اشتغالهم بعظائم الأمور من الجهاد والعلم، وتجد كلامهم في تصانيفهم وفيما ينقل ويروى عنهم يُهتدى به، ويُذكر وتُعطر به المجالس، بعد ما كانت تلك الحماقات والسفه والخزعبلات التي يعرق لها الجبين.

وصاروا إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء، وصاروا أعمق الناس علماً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصدقهم لهجة...

مواد ذات صلة