الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[5] من قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ..} الآية:43 إلى آخرالسورة
تاريخ النشر: ٢٠ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 5627
مرات الإستماع: 2742

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير في قوله تعالى:

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ۝ وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ۝ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سورة سبأ:43-45].

يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب؛ لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها غَضَّةً طرية من لسان رسوله ﷺ، قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، يعنون أن دين آبائهم هو الحق، وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل -عليهم وعلى آبائهم لعائن الله-وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ، قال الله تعالى: وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي: ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبيًا قبل محمد ﷺ، وقد كانوا يَوَدّون ذلك ويقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا، فلما مَنَّ الله عليهم بذلك كذبوه وعاندوه وجحدوه.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ، قوله عن قيلهم: مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى قال: يعنون القرآن أي أنه مختلق، اختلقه من عنده، وهذا الذي قاله ابن كثير هو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- وهذا لا إشكال فيه، فالإشارة عائدة إلى القرآن.

وأما قوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ فما المراد بذلك هل المراد به أيضاً القرآن؟ أو المراد بذلك النبي ﷺ؟ وابن جرير يقول: إن الثاني وهو قوله: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ المقصود به النبي ﷺ، الأول في القرآن، والثاني في الرسول -عليه الصلاة والسلام.

وبعض أهل العلم يقول: إن المراد بالأول مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى يعني ما تضمنه القرآن، ما فيه من المعاني والهدايات والتشريع والأحكام، والحِكَم وإن قولهم: إنه سحر يعنون به ألفاظه ومبانيه؛ لأنه معجزة فهو معجز بلفظه فعجزوا عن الإتيان بمثله فقالوا: هذا سحر، وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك يرجع إلى شيء واحد فهؤلاء الكفار طائفة منهم قالت: إنه مفترى، كذب مفترى، وطائفة قالوا: إنه سحر مبين، وبعضهم يقول: إنهم قالوا هذا تارة، وهذا تارة.

والله -تبارك وتعالى- أخبر عن أقوال الكافرين في القرآن كما أخبر عن أقوالهم في النبي ﷺ، فهم قالوا عن النبي ﷺ: إنه تلقى هذا القرآن من أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:5]، وقالوا عنه: إنه شاعر، وقالوا: إنه ساحر، وقالوا: إنه كاهن، وقالوا عنه الأقاويل المعروفة التي قصها الله -تبارك وتعالى، كما قالوا عن القرآن: إنه كذلك أيضاً سحر أو متلقى من غيره أو إنه غير ذلك من الأقاويل التي يزعمونها، فهذه أمور متلازمة كلُّ ذلك قد صدر عنهم.

وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى يعني ما جاء به النبي ﷺ وهو القرآن، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ فهم قالوا عن القرآن: إنه سحر، وقالوا عن النبي ﷺ: إنه ساحر، قالوا كذلك عن معجزاته -عليه الصلاة والسلام- فكل هذا واقع، قالوا تارة هذه المقالة، وتارة هذه المقالة، وبعضهم صدر منه هذا، وبعضهم صدر منه هذا، ولا حاجة لحمل ذلك على الألفاظ، الأول على الألفاظ، والثاني على المعاني أو العكس، حمل الأول على المعاني والثاني على الألفاظ، لا حاجة إلى هذا.

هم قالوا: إنه سحر، وقالوا: إنه مفترى، وإذا كان من قبيل السحر فهو في الوقت نفسه مفترى، فهو يضيفه إلى الله -تبارك وتعالى، يقول هذا كلام الله وهذا وحيه فإذا كان من قبيل السحر فإن إضافته إلى الله تكون من قبيل الافتراء، فهذه الأمور متلازمة ولا حاجة للترجيح بينها، كل ذلك قالوه عن القرآن إنه سحر ومفترى، وقالوا عن النبي ﷺ لأنه هو الذي بلغه عن ربه -تبارك وتعالى.

وقوله: وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ، هذا كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- على ظاهره يصور حال العرب الذين بعث فيهم النبي ﷺ أنه لم ينزل عليهم قبله من كتاب، ولم يأتِ قبله نذير لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ [سورة السجدة:3] باعتبار أن ما نافية، فهذا يصور حالهم.

لكن من أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- من يحمل قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا على أنه يعني تنزلت بقولهم هذا، بأنه سحرُ مفترى يعني هذه المقالات من أين جاءوا بها؟ ما أنزلنا عليهم قبل ذلك من كتب يدرسونها ويجدون فيها أن هذا إفك مفترى وأنه سحرٌ مبين، لم يحصل ذلك، ولكن ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كأنه أقرب -والله تعالى أعلم- هو يصف حالهم وما هم فيه من الجهالة، ولكن يمكن أن يكون من لازم ذلك أنهم في جهالتهم هذه لا خبرة لهم ولا دراية بالكتب فكيف حكموا على شيء لا عهد لهم به ولا يعرفونه؟

ويمكن أن يكون ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار المنّة أن هؤلاء ما نزل عليهم من كتاب ولا بُعث إليهم رسول فكان اللائق بهم أن يغتبطوا ببعثته ﷺ وأن يفرحوا بإنزال الكتاب عليهم ولكنهم قابلوا هذا بالتكذيب والكفر.

ثم قال: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: من الأمم، وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ قال ابن عباس -رضي الله عنهما: أي من القوة في الدنيا، وكذلك قال قتادة، والسدّي، وابن زيد.

يعني أنهم لا شيء بالنسبة للأمم التي قبلهم، أمم قوية ممكّنة ذات عَدد وعُدد كما وصفها الله -تبارك وتعالى- في مواضع في كتابه، لأنه مكن لهم وأعطاهم ما لم يعط هؤلاء، وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ المعشار بمعنى العشر يعني أن المشركين هؤلاء ما بلغوا عشر ما أعطيه الأولون من القوة والتمكين والكثرة في العدد وما إلى ذلك، وبعضهم يقول: إن المعشار هو عشر العشر، عشر العشر كأن يكون واحد من مائة، عشر العشر، وبعضهم يقول: عشر العشير، والعشير هو عشر العشر بمعنى أنه واحد على ألف.

والمشهور هو الأول أن المعشار بمعنى العشر وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ يعني ما بلغوا عشر ما أعطيه هؤلاء وذلك يقال للتقليل، يقال للتقليل بمعنى أن هؤلاء لا يقارنون بأولائك تقول: فلان لا يبلغ معشار ما بلغه فلان، فلان ما عنده معشار ما عند فلان، والله أعلم.

كما قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [سورة الأحقاف:26]، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً[سورة غافر:82]، أي: وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده، بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله؛ ولهذا قال: فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أي: فكيف كان نكالي وعقابي وانتصاري لرسلي؟

آثارهم تدل على هذا على قوتهم وتمكينهم، ما بقي منها يعني الأهرام مثلاً تدل على هذا التمكين والقوة التي يتحير فيها أهل العصور المتعاقبة، وقد مضى في بعض المناسبات أن الكثيرين من أهل العلم كانوا يقولون: إن هذه الأهرام لا يعرف لها تاريخ، لا يعرف من الذي بناها وإن ذلك يعني أنها كانت قبل الطوفان لأنهم ما يعرفون التاريخ قبل الطوفان، ويقولون: لو بنيت بعد الطوفان عرفت مع أنهم دخلوها قديماً ونظروا ما فيها فتحوا فيها باباً ووصفوا التوابيت التي يتحدث عنها المعاصرون اليوم، وذكروا مضامينها، حصل هذا، وهدمت بعض الأهرام الصغيرة، كل هذا قد حصل هدمت يعني ليست قصداً وإنما كان الناس الأهالي يحملون الأحجار لزروعهم وما إلى ذلك -بعض الأهرام الصغيرة- لكن هذه الكبيرة العظيمة الشاهقة ما يستطيعون هدمها وإنما يرون أمثال الجبال.

مثل هذه الأشياء وهذا النحت، هذا الذي وجد فقط وكان كثير من هذا مطموراً في الأرض، فالذي ذهب في الممالك والمدن وغير ذلك تحت الأرض شيء كثير لا يحصيه إلا الله ، ذهبوا وذهبت آثارهم لكن ما وجد منها يدل على شدة التمكين والدقة في البناء والنحت نحت الصخور بطريقة عجيبة كأنما ألين لهم الصخر، كل هذا يدل على التمكين، المشركون الذين بعث فيهم النبي ﷺ ماذا كانوا يستطيعون من مثل هذه الأعمال والمزاولات؟

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سورة سبأ:46].

يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون: إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أي: إنما آمركم بواحدة، وهي: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أي: تقوموا قياما خالصًا لله، من غير هوى ولا عصبية، فيسأل بعضكم بعضا: هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضا، ثُمَّ تَتَفَكَّرُواأي: ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد ﷺ، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه، ويتفكر في ذلك؛ ولهذا قال: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ.

هذا معنى ما ذكره مجاهد، ومحمد بن كعب، والسُّدِّيّ، وقتادة، وغيرهم، وهذا هو المراد من الآية.

قوله -تبارك وتعالى: إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ يعني بخصلة واحدة قال: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى مثنى بعضهم كابن جرير يقول: اثنان اثنان، وفرادى واحد واحد بمعنى: أنهم يقومون يتفكرون منفردين تارة ومجتمعين تارة أخرى.

وابن كثير -رحمه الله- يقول: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى: يعني تقوموا قياماً خالصاً لله من غير هوى ولا عصبية فيسأل بعضكم بعضاً هل بمحمد من جنون؟! فينصح بعضكم بعضاً، ثم تتفكروا أي ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد ويسأل غيره من الناس، يعني حاصل هذا القول الذي ذكره أنهم يقومون منفردين يتفكرون، وأيضاً يحصل بينهم سؤال وتفكر في حال اجتماعهم يجتمعون يسأل بعضهم بعضاً ويطارح بعضهم بعضاً هل بمحمد -عليه الصلاة والسلام- من جنون؟

فهم يعرفون أنه أعقل الناس وأن هذا الكلام الذي جاء به لا يمكن أن يصدر عن مجنون وأن هذه الدعوى دعوى النبوة لا يجترئ عليها أحد إلا أن يكون مرسلاً من عند الله فيأتي بالبينات على ذلك، ويصدر عنه ما يدل على صدقه، أو أن يكون مجنوناً الذي يجترئ على هذه الدعوى الكبيرة، لو جاءك إنسان وقال لك: إنه رسول، مباشرة يتبادر إلى ذهنك أنه مجنون يضحك الناس من عقله ويُستهدف، ويشمت الناس به، فمن جاء بمثل هذه الدعوى وجاء بما يدل على صدقه بالبينات فمثل هذا يكون صادقاً، جاء بهذا القرآن المعجز وتحداهم به فعجزوا عن الإتيان بمثله إلى غير ذلك من دلائل صدقه الكثيرة، فإذا تفكرتم هذا التفكر علمتم أنه ليس بمجنون.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول في هذا الموضع: إن ذلك في مقام الاستدلال والاحتجاج والمناظرة أمرهم أن يقوموا منفردين مع التجرد؛ ليتفكر الواحد منهم حتى يتوصل إلى المطلوب، وأمرهم أن ينظروا مجتمعين من أجل أن يسأل بعضهم بعضاً، وأن يذكر بعضهم بعضاً وأن يجاوب بعضهم بعضاً عن حال محمد ﷺ هل به من جنون؟ فيقول: المطلوب تارة يحصل للمكلف بتجرده وقيامه بنفسه وتفكره، وتارة يكون ذلك بالرجوع إلى غيره ومسائلته ليصل إلى مطلوبه، فالله -تبارك وتعالى- أرشدهم إلى هذا وإلى هذا، النظر والتفكر بانفراد ويكون ذلك أدعى إلى صفاء الذهن والبعد عن المشوشات والأمور التي تؤثر في أحكام الناس، وأن ينظروا مجتمعين لأن من الأمور ما يحتاج فيه إلى التشاور والسؤال وما إلى ذلك، فأرشدهم إلى هذا وهذا.

مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة أي فإنكم عند ذلك تعلمون أن صاحبكم ليس بمجنون، يعني إذا فعلتم هذا توصلتم إلى هذه النتيجة، وبعضهم يقول: إن هذه الجملة مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ مستأنفة من الله -تبارك وتعالى- يعني الكلام الأول الذي أرشدهم إليه أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا يكون الوقف هنا ثم يبدأ كلام جديد مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ينفي عنه هذا الوصف الذي نسبوه إليه فيكون ذلك على طريق التنبيه، فهذا الأمر لا يمكن أن يصدر أو لا يمكن أن يتعرض له أو يجترئ عليه إلا من كان به جنون أو كان صادقاً، وبعضهم يقول: إن ما هذه استفهامية تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ما الذي به من الجنون؟! وكأن الأول -والله تعالى أعلم- أقرب، يعني أنهم إن حصل منهم هذا التفكر بتجرد توصلوا إلى هذه النتيجة.

وقوله: إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ: قال البخاري عن ابن عباس قال: صَعدَ النبي ﷺ الصفا ذات يوم، فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم، أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ[1] [سورة المسد:1].

وقد تقدم عند قوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ [سورة الشعراء:214].

قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ۝ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ۝ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ[سورة سبأ:47-50].

يقول تعالى آمرًا رسوله أن يقول للمشركين: مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أي: لا أريد منكم جُعلا ولا عَطاء على أداء رسالة الله إليكم، ونصحي إياكم، وأمْركم بعبادة الله، إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ أي: إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: عالم بجميع الأمور، بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم، وما أنتم عليه.

قوله: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ يعني هذا دفعٌ للتهمة، لو كان يسألهم أجراً على دعوته لكان في ذلك نوع تهمة أنه يريد أن يتحصل على شيء من أموالهم، ولكنه لكمال تجرده يقول لهم هذا كما قالت الرسل قبله -عليهم الصلاة والسلام- فنفوا أن يكونوا يسألون على ذلك شيئاً من المال أو الأجر، لا أسألكم عليه أجراً، لا أسألكم عليه مالاً هكذا كان الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يقولون لأقوامهم، وينفون ذلك عن أنفسهم، فمن يدعو إلى الله -تبارك وتعالى- ينبغي عليه أن يتجرد وألا يتاجر بدعوته، فلا يتخذ الدعوة سبيلاً إلى التجارة والتوصل إلى الأموال بطريق أو بآخر، تكون دعوته مجاناً.

وقوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ، كقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [سورة غافر:15]، أي: يرسل الملك إلى مَنْ يشاء من عباده من أهل الأرض، وهو علام الغيوب، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.

قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ القذف هو الرمي والمعنى يتكلم بالحق وهو القرآن والوحي يعني يبين الحجة ويظهرها على ألسن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فينكشف الباطل ويظهر الحق بذلك إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ وابن جرير -رحمه الله- يفسر هذا بالوحي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يعني بالوحي وهو معنى ما ذكرت، وكلام أهل العلم في غالبه ومجمله يدور على هذا بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [سورة الأنبياء:18]، فإن النبي ﷺ لا ينطق عن الهوى ومن فسر ذلك بالحجج والبراهين والأدلة الدامغة فإن هذا إنما جاء في الوحي، فكل هذا صحيح لا إشكال فيه، وبعضهم خص ذلك يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يعني يقذف به الباطل، والمعنى أعم من هذا، والله تعالى أعلم.

وقوله: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ أي: جاء الحق من الله والشرع العظيم، وذهبَ الباطل وزهق واضمحل، كقوله: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، ولهذا لما دخل رسول الله ﷺ المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يَطعنُ الصنم منها بِسِيَةِ قَوْسِه، ويقرأ: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ.[2] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وحده عند هذه الآية.

ما نقله صاحب المختصر ليس فيه بيان معنى وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ فيراجع الأصل، حُذف كلام يتعلق بالآية فبقي بلا تفسير أصلاً في هذا المختصر.

والشاهد قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ يعني ذهب ذهاباً فاضمحل ولم يبقَ معه أو لم يبقَ منه ما يبقى من الباطل لا إقبالاً ولا إدبارًا، إذا لم يبقَ منه ما يبقى إقبالاً ولا إدباراً ولا إبداء ولا إعادة يعني تلاشى واضمحل وذهب، وانظر الآية وتأمل جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ يعني فزهق الباطل، جاء الحق فاضمحل الباطل، جاء النور وتلاشى الظلام فصار الباطل في حق لا يُبدئ معه ولا يعيد، لم يعد فيه إقبال ولا إدبار ولا إبداء ولا إعادة، ذلك يرجع إلى الباطل.

والباطل المقصود به الباطل المعروف الكفر وما تفرع منه، هذا هو الباطل، وبعضهم -كما أشار ابن كثير -رحمه الله- في الأصل- يقول كقتادة: إن الباطل هو الشيطان، وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ الشيطان، ومعنى كون الباطل لا يبدئ ولا يعيد، يعني ما منه إبداء الخلق ولا الإعادة إعادة الخلق من جديد، هذا على قول قتادة وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ يعني الشيطان.

قال: وزعم قتادة والسدي: أن المراد بالباطل هاهنا إبليس، أنه لا يخلق أحدا ولا يعيده، ولا يقدر على ذلك، وهذا وإن كان حقًا ولكن ليس هو المراد هاهنا والله أعلم.

قوله: وهذا وإن كان حقًا ولكن ليس هو المراد هاهنا يعني أن إبليس باطل، ويقال له: باطل وأنه لا يستطيع الإبداء ولا الإعادة إلى آخره، ولكن هنا ظاهر السياق لا يدل عليه، والله تعالى أعلم.

وقوله: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي: الخير كله من عند الله، وفيما أنزله الله من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد، ومَنْ ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه، كما قال عبد الله بن مسعود ، لما سئل عن تلك المسألة في المُفوّضة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.

المُفوّضة: الواقعة التي حصلت، السؤال الذي وُجه لابن مسعود يترددون عليه شهراً كاملاً رجل توفي عن امرأة قبل الدخول بها ولم يسم لها مهراً صداقاً، كانوا يترددون عليه، فأجابهم بعد شهر بأن لها مثل مهر مثيلاتها، وعليها العدة ولها الميراث، فالشاهد أنه قال ذلك، قال: أقول فيها برأيي، المفوّضة يعني لم تحدد صداقاً معيناً.

وقوله: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أي: سميع لأقوال عباده، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وقد روى النسائي هاهنا حديث أبي موسى الذي في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا[3].

وهنا ذكر الحافظ ابن القيم معنى يحسن الرجوع إليه في قوله -تبارك وتعالى: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي حاصله أن الهدى إنما يحصل بما أوحاه الله إليه، الهدى في هذا الوحي وليس في الآراء والعقول والإحالة إلى رأي فلان، وقول فلان، ونظر فلان، إنما الهدى باتباع الوحي، إذا كان ذلك في حق النبي ﷺ فكيف بمن دونه؟ فمن طلب الهدى فإنه يجد ذلك في الوحي في الكتاب والسنة وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فقدم المعمول وذلك يفيد الحصر أن الهدى إنما يؤخذ من الوحي لا من الآراء والإحالة إلى قول فلان وما إلى ذلك، فيراجع كلام ابن القيم فهو جيد في هذا الموضع يُحتاج إليه في مثل هذه الأيام التي صار الناس فيها يخوضون بعقولهم وآرائهم دون نظر في الوحي والاعتبار بذلك.

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ۝ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ۝ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ۝ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ[سورة سبأ:51-54].

يقول تعالى: ولو ترى -يا محمد- إذ فَزِع هؤلاء المكذبون يوم القيامة، فَلا فَوْتَ أي: فلا مفر لهم، ولا وَزَر ولا ملجأ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ أي: لم يمكّنوا أن يُمعنوا في الهرب بل أخذوا من أول وهلة.

قال الحسن البصري: حين خرجوا من قبورهم.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ متى يكون الفزع؟ قول الحسن هنا: حين خرجوا من قبورهم فَلا فَوْتَ أو الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، فهم في ذلك اليوم يكونون في حال من الأمن.

وبعضهم يقول: إِذْ فَزِعُوا يعني في القبور يكونون في حال من الفزع من الصيحة، وبعضهم يقول: هذا كان في الدنيا إِذْ فَزِعُوا إذ نزل بهم بأس الله -تبارك وتعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ يحملها على يوم بدر لمّا تلقتهم الملائكة بالقتل والتنكيل فلا خلاص لهم من ذلك ولا يستطيعون الهرب والفرار مما قضاه الله عليهم إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ لمّا يجيبون الداعي ولا يفوتونه تقول: فلان يفزع لفلان، يعني كما يقال في النجدة، ولا يزال هذا يقال اليوم في بعض البلاد القريبة يسمونها الفزعة هكذا، يعني النجدة، الفزعة تجد سيارة مكتوباً عليها الفزعة يعني النجدة لكن هذا القول بعيد، -والله تعالى أعلم.

وابن جرير -رحمه الله- يحمله على نزول العذاب بهم إذا أخذهم العذاب حل بهم بأس الله -تبارك وتعالى- فعند ذلك لا يستطيعون الخلاص إذا نزل بهم بأسه إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ فيكون هذا في الدنيا إذا نزل بهم عذابه -تبارك وتعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ لا فوت: لا مفر، وَأُخِذُوايعني لا فوت، يعني لا مفر ولا وَزَر ولا ملجأ، لا يفوت اللهَ منهم أحدٌ إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ يعني لرأيت أمراً هائلاً.

فأقرب هذه الأقوال أن يكون ذلك في الآخرة حيث يحصل الفزع إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [سورة غافر:18] كما وصف الله ذلك اليوم والأهوال والأوجال التي تقع فيه، والله يقول: وَاتَّقُواْ يَوْماً يعني أهوال يوم، ويقول أيضاً في أهواله وأوجاله: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [سورة الحج:2] ولا يبعد أن يكون ذلك أيضاً حينما ينزل بهم بأس الله في الدنيا وعذابه، والمختصر حذف كلاماً كان لا ينبغي أن يحذف، فالحافظ -رحمه الله- يقول: ...والصحيح: أن المراد بذلك يوم القيامة.

وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ أي: يوم القيامة يقولون: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [سورة السجدة:12]؛ ولهذا قال تعالى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ أي: وكيف لهم تعاطي الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم وصاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء، فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان، كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد.

قال مجاهد: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُقال: التناول لذلك.

وقال الزهري: التناوش: تناولهم الإيمان وهم في الآخرة، وقد انقطعت عنهم الدنيا.

وقال الحسن البصري: أمَا إنهم طلبوا الأمر من حيث لا يُنال، تعاطوا الإيمان من مكان بعيد.

قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ يعني يقولون: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، آمَنَّا بِهِ أي آمنا بالله، وبعضهم يقول: آمَنَّا بِهِ يعني بالقرآن، وبعضهم يقول: آمَنَّا بِهِ أي بمحمد ﷺ، وبعضهم يقول: آمَنَّا بِهِ أي بالبعث الذي أخبر عنه الرسل -عليهم الصلاة والسلام، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- قد جمع بين هذه الأقوال جميعاً، هذه الأمور كذبوا بها واستبعدوها غاية الاستبعاد.

فالحافظ ابن كثير يقول: وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ التناوش تناول الشيء، مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ كيف لهم تعاطي الإيمان وقد صاروا إلى الآخرة، آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ تناول الإيمان وَقَالُوا آمَنَّا فهذا الإيمان لا ينفعهم لأنه وقع في محل لا يقبل لهم فيه.

وبعضهم يقول كابن جرير: المراد بذلك التوبة وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ يعني أن هذه التوبة لا تنفع يوم القيامة أو إذا نزل بأس الله بهم إذا رأوا العذاب إذا عاينوا العذاب فلا تنفعهم توبتهم، وهذا القول بأنه التوبة أو قول من قال بأنه الإيمان غير متعارض؛ لأن توبتهم تعني الإيمان، التوبة من الكفر في الدخول في الإيمان، فلا إشكال في هذا، فمثل ما ذكر هنا عن بعض السلف أن المقصود بذلك -كقول الزهري: تناولهم الإيمان وهم في الآخرة وكذلك قول الحسن البصري، ويقول به جماعة من أهل العلم، وهو يتضمن ما عداه يعني من يقول: إنه آمنا بالبعث أو آمنا بالنبي ﷺ أو بالقرآن أو غير ذلك وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ يعني الإيمان تناوش الإيمان، تناول الإيمان أنى يصح أن يقبل منهم وقد وقع بغير وقته الذي يقبل فيه إيمان مَن آمن.

وقوله: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي: كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا بالرسل؟

وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ قال مالك عن زيد بن أسلم: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ قال: بالظن.

قلت: كما قال تعالى: رَجْمًا بِالْغَيْبِ [سورة الكهف:22]، فتارة يقولون: شاعر، وتارة يقولون: كاهن، وتارة يقولون: ساحر، وتارة يقولون: مجنون، إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالغيب والنشور والمعاد، ويقولون: إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [سورة الجاثية:32].

قال قتادة ومجاهد: يرجمون بالظن، لا بعث ولا جنة ولا نار.

من مكان بعيد يعني من جهة بعيدة لا مستند لهم فيها، إنما هو التخرص والظنون الكاذبة.

وقوله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ قال الحسن البصري، والضحاك، وغيرهما: يعني الإيمان.

وهذا الذي اختاره ابن جرير وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ يعني الإيمان وهكذا أيضاً قول من قال: التوبة وقول من قال: إنه الرجوع إلى الدنيا، هم يريدون الرجوع إلى الدنيا من أجل العمل الصالح رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [سورة فاطر:37] فهذه كلها أقوال لازمة، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ يعنيالإيمان أو التوبة أو الرجوع إلى الدنيا كل ذلك صحيح، الرجوع إلى الدنيا من أجل العمل والإيمان.

وقال السُّدِّي: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ وهي التوبة، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله.

اختيار ابن جرير وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ قال الإيمان، ولكن التوبة ذكرها هناك في قوله: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ قال: التوبة، ولا إشكال، التوبة من الكفر بمعنى الإيمان كما سبق؛ ولهذا عبر هناك بالتوبة وعبر هنا بالإيمان يعني ابن جرير -رحمه الله.

وقال مجاهد: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ من هذه الدنيا، من مال وزهرة وأهل، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر والربيع بن أنس، وهو قول البخاري وجماعة

لاحظ الآن هذه الأقوال وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ من الأموال وزهرة الدنيا أو التوبة أو الإيمان أو الرجوع، الآن انظر ابن كثير الآن جمع بين هذه الأقوال.

والصحيح: أنه لا منافاة بين القولين؛ فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة، فمُنعوا منه.

قوله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ما الذي يشتهونه لا يتحقق لهم مطلوب لا يتحقق لهم؟ هم في الكلام الذي قبله وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ فهم يطلبون أي يستعتبون أن يرجعوا إلى الدنيا، وأن يقبل منهم الإيمان ويتخلصوا من العذاب، كل ذلك حيل بينهم وبينه، كما حيل بينهم وبين شهواتهم التي تطمح إليها نفوسهم، ومن أجلها تركوا اتباع الرسول -ﷺ.

وقوله: كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي: كما جرى للأمم الماضية المكذبة للرسل، لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا، فلم يقبل منهم، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ۝ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [سورة غافر:84-85].

قوله: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَاابن جرير -رحمه الله- كأنه يرى أن هذه قرينة على أن المقصود العذاب -نزول العذاب بهم، فلم يفسر ذلك بالقيامة، ومن قال إنه القيامة فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فالقرآن مفسر بعضه بعضاً فما ذكر في موضع يفسره الموضع الآخر، والله تعالى أعلم.

وقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ أي: كانوا في الدنيا في شك وريبة، فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب.

قال قتادة: إياكم والشك والريبة، فإن من مات على شك بُعِثَ عليه، ومن مات على يقين بعث عليه.

يعني إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ الشك والريب متقاربان، إلا أن الريب هو شك مقلق، أي شك مع قلق، فالشك المريب يعني الشك الموقع في الريبة.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الشعراء، برقم (4492).
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة بني إسرائيل "الإسراء"، برقم (4443)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة، برقم (1781).
  3. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (3968)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، برقم (2704).

مواد ذات صلة