الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[1] من قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً} الآية:5
تاريخ النشر: ١٤ / جمادى الأولى / ١٤٣٤
التحميل: 8051
مرات الإستماع: 14912

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

تفسير سورة الحشر وهي مدنية.

وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير.

روى سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: "أنزلت في بني النضير"[1]، وراه البخاري ومسلم من وجه آخر عن هشيم به.

ورواه البخاري من حديث أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: "سورة بني النضير"[2].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسورة الحشر من السور النازلة في المدينة، وفيما ورد من الروايات التي تذكر ترتيب السور -وإن كانت ضعيفة- هي نازلة بعد البينة وقبل النصر، ولها اسمان، سورة الحشر، والاسم الثاني سورة بني النضير، وذلك أنها نازلة في هذه الوقعة، والموضوع الذي تدور عليه هذه السورة في مجمل آياتها هو الحديث عن غزوة بني النضير، وما تبعها وما ترتب عليها من أحكام الفيء تفصيلًا، فمجمل الآيات تحدثت عن موقف المنافقين في هذه السورة، إلى غير ذلك.

يقول: أنزلت في بني النضير، أورد المؤلف -رحمه الله- جملة من الروايات في نزولها تأتي -إن شاء الله، ومن هذه الروايات أنها نزلت بسبب أن النبي ﷺ لما أتى هؤلاء اليهود بعدما جاء إلى مسجد قباء، وهم قريب من قباء، هم في الناحية التي تكون إلى جهة اليسار من المسجد وأنت متجه إلى الحَرَّة الشرقية، فهناك تأتي على يمينك أرض النضير في حَرّة من تلك الحِرار، فهي إلى حد ما تعتبر حرة جنوبية وأنت متجه إلى الشرق حتى تأتي على الحرة الشرقية، وهناك كانت أرض قريظة، ولا زال بعض العامة إلى اليوم يسمون الحرة الشرقية قريظة، ويوجد في بعض الخرائط التي تبين منازل الناس في ذلك الوقت من بطون الأنصار وغيرهم، ولا زالت بعض آثارهم موجودة إلى اليوم في تلك الحرة التي يقال لموضعهم فيها: البويرة.

وهذه الحرة فيها قصر كعب بن الأشرف، وهو قصر بقيت آثاره، جدرانه وما إلى ذلك لا زالت موجودة، وهي جدران ضخمة لربما عرض الجدار أكثر من متر، ومما يذكر في هذه الروايات أن النبي ﷺ أتى قباء، ثم أتى إليهم من أجل طلب الإعانة في دية رجلين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في القصة المعروفة بعد بئر معونة وهو يظن أنهما من أولئك الكفار الذين غدروا بأصحابه، فقتلهم ثم تبين أن بينهما وبين النبي ﷺ عهدًا.

فالنبي ﷺ تحمل الدية، فمر على هؤلاء اليهود فرحبوا به، وأظهروا له أنهم سيعطونه ما يريد، وأنه جلس تحت حجرة، وأنهم ائتمروا فيما بينهم أن يلقوا عليه صخرة، فأتاه الوحي، فخرج النبي ﷺ حتى أتى المدينة وجهز لهم الجيش، هذا في سبب وقعة بني النضير، وليس سبب نزول الآيات، وإنما في سبب وقعة بني النضير.

وجاء في روايات أخرى أن هؤلاء هددهم المشركون، وتوعدوهم لاسيما بعد بدر إن لم يقاتلوا النبي ﷺ وأنهم عزموا على الغدر، وأنهم طلبوا منه أن يخرج في نفر من أصحابه -في مجموعة من أصحابه- ويخرجون لهم في أحبار لهم، ويلتقون في منتصف الطريق، يتحاورون وإن كان على حق أو كانوا على حق يسمع منهم ويسمعون منه، يخرج في ثلاثين رجلًا وهم يخرجون في ثلاثين رجلًا، ثم بعد ذلك قال بعضهم لبعض: إنكم لا تستطيعون أن تخلصوا إليه ومعه أصحابه، فقالوا له: إنا لا نستطيع أن نسمع منك وتسمع منا ونحن ستون رجلًا فاخرج في ثلاثة من أصحابك من أجل أن نسمع منك وتسمع منا، فجاءه الوحي وأخبره بما أضمروا من الغدر، فجهز لهم الجيش، ويذكر فيها أشياء أخرى.

والنبي ﷺ لما قدم المدينة -كما هو معلوم- صالح اليهود بطوائفهم الثلاث قريظة والنضير وقينقاع.

والنضير هؤلاء كانوا من أشرف اليهود، يعني هم ينظرون إلى أنهم أشرف من قريظة، وكانوا كما يقولون من رهط أو من نسل هارون -عليه الصلاة والسلام، وأنه لم يحصل لهم في التاريخ جلاء؛ لأن اليهود العادة أنهم يشردون كثيرًا، فهؤلاء لم يحصل لهم جلاء كما يقولون.

فالشاهد أن النبي ﷺ صالحهم على أن يكونوا لا له ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر، فلما انهزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا إلى مكة، وحالفوا أبا سفيان عند الكعبة، فأمر النبي ﷺ محمد بن مسلمة فقتل كعب بن الأشرف، وكان أخاه من الرضاعة.

ثم صبّحهم النبي ﷺ بالكتائب، فأمرهم بالخروج من المدينة، فاستمهلوا النبي ﷺ عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فبعث إليهم عبدُ الله بن أبي وقال: لا تخرجوا، فإن قاتلوكم فنحن معكم، وإن خرجتم لنخرجن معكم، فحصَّنوا الأزقة، فحاصرهم النبي ﷺ -جاء في بعض الروايات إحدى وعشرين ليلة- حتى طلبوا الصلح فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل أهل ثلاثة بيوت ما شاءوا من متاعهم على بعير واحد، فأجلوا إلى الشام وإلى أريحا وأذرعات، يقولون: إلا أهل بيتين من آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فقد لحقوا بخيبر، وذهبت طائفة إلى الحيرة.

هذا أيضاً سبب ثالث في وقوع هذه الغزوة، وهو أنهم هم الذين قاموا بتحريض قريش، وجاء كما سبق في سورة النساء: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً [سورة النساء:51] أنهم قالوا لهؤلاء من المشركين: أنتم أهدى من محمد، لما ذهبوا يحرضون على قتاله، وسجدوا لأصنام المشركين، فنزلت هذه الآيات في سورة النساء، والرواية لا تخلو من ضعف.

فهذا يذكر في أسباب هذه الغزوة، وتجدون هذا في كتب السير وفي كتب التفسير، وكان وقت هذه الغزوة التي بسببها نزلت هذه الآيات في السنة الرابعة فيما ذكره بعض أهل العلم، وجاء عن عروة بن الزبير أنها كانت بعد ستة أشهر من بدر، ومعلوم أن غزوة بدر كانت في رمضان من السنة الثانية للهجرة، فبعد ستة أشهر من بدر متى تكون؟ طبعًا قبل أحد، يعني بين بدر وأحد، بعد ستة أشهر من رمضان: شوال وذي القعدة وذي الحجة ومحرم وصفر وربيع الأول، هذه ستة أشهر، بعد ستة أشهر يعني في ربيع الثاني، بعد ستة أشهر من غزوة بدر يعني أنها في أوائل السنة الثالثة من الهجرة، بدر في السنة الثانية، والنضير في أوائل السنة الثالثة.

وصح عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- مثل هذا، وابن إسحاق يقول: إنها كانت بعد أحد وبئر معونة، المشركون ساروا من مكة إلى أحد في السنة الثالثة في الخامس من شهر شوال، وبئر معونة كانت في صفر بعد أحد بأربعة أشهر يعني في أوائل السنة الرابعة، وعلى هذا تكون وقعة بني النضير على القول الثاني في أوائل السنة الرابعة، وعلى الأول في أوائل السنة الثالثة من الهجرة.

يعني على القول الأول تكون في ربيع، وعرفنا أن غزوة أُحد كانت في شوال من السنة الثالثة، وهذه في ربيع من السنة الثالثة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ۝ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ۝ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ۝ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:1-5].

يخبر تعالى أن جميع ما في السماوات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه ويصلي له ويوحده كقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44]، وقوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ أي: منيع الجناب، الْحَكِيمُفي قدره وشرعه.

هذه السورة افتتحت بالتسبيح، وبصيغة الماضي، سَبَّحَ لِلَّهِ، والتسبيح كما هو معلوم جاء بالصيغ الثلاث سبح لله، يسبح لله، سبح اسم ربك الأعلى، فالله -تبارك وتعالى- مستحق للتنزيه والتسبيح في الأزمنة الثلاثة في الماضي والحاضر والمستقبل.

وافتتاح هذه السورة بالتسبيح سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ من أهل العلم كالطاهر بن عاشور من يقول: إن ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أنه إذا كان كل شيء يسبح لله مما في السماوات وفي الأرض فهذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لعباده من أهل الإيمان أن يسبحوه تسبيح شكر على ما امتن به وتفضل عليهم من فتح النضير.

ويمكن أن يقال: إن الله -تبارك وتعالى- افتتح هذه السورة بالتسبيح مع ذكر هذين الاسمين الكريمين العزيز الحكيم باعتبار أن ما وقع في هذه الغزوة إنما هو من كمال عدله ، وأنه لا يظلم الناس شيئًا، فما حصل لهم ليس بظلم، وإنما هو عدل منه وتقدست أسماؤه، وأن الله -تبارك وتعالى- ما كان ليذر هؤلاء يفسدون ويحرضون على رسول الله ﷺ، ويغدرون وينقضون عهوده، ثم بعد ذلك يبقون في حال من العافية والسلامة، فإن من سنته -تبارك وتعالى- أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وهؤلاء يمكرون وهم أهل مكر ودسائس فسبح نفسه -تبارك وتعالى- وذكر هذين الاسمين العزيز الحكيم.

فإن إخراج هؤلاء من هذه الحصون التي كانت في غاية القوة والمنعة من مقتضى هذه الأسماء -العزيز الحكيم؛ فإن عزته قهر بها هؤلاء اليهود وأخرجهم من ديارهم وحصونهم، وما كانوا يظنون أن ذلك يقع، وما كان أهل الإيمان أيضًا يتوقعون ذلك أو يؤملونه لشدة ما لهؤلاء اليهود من المنعة، الأرض حَرّة المشي فيها في غاية الصعوبة، والحصار أصعب، ثم بعد ذلك عندهم هذه القلاع والحصون والأسلحة المكدسة والآبار، وعندهم من التجارة والأموال والزروع ما يمكن أن يصمدوا معه.

فالمقصود أن مثل هذا هو من مقتضى عزته -تبارك وتعالى- وحكمته حيث يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فهذه السورة مفتتحة بالتسبيح ومختتمة بالتسبيح، لما ذكر الله أسماءه الحسنى في آخرها قال: يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الحشر:24] في آخر السورة هذا يسمونه المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها، افتتحت بالتسبيح واختتمت بالتسبيح.

وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني يهود بني النضير، قاله ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد.

هذا بلا شك بالاتفاق هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهنا جاء بالضمير في مقام الاسم المضمر؛ لأن هذا أفخم في هذا المقام هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وأرى أننا في مثل هذه الأيام بحاجة إلى التنبيه إلى أن قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أن اليهود من جملة الكفار الملاعين، لأننا ابتلينا بمن يقول: إن اليهود من المؤمنين، وإنه تجمعنا بهم الرابطة الإيمانية والأخوة الإيمانية، وإن الذين نعاديهم هؤلاء الصهاينة؛ لأنهم احتلوا فلسطين، وهناك من يدعي أنهم يدخلون الجنة، ويحتجون بآيات متشابهات، فإلى الله المشتكى.

وبعضهم يسأل يقول: ما الدليل على أن اليهود كفار والنصارى كفار؟ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

كان رسول الله ﷺ لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدًا وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحل الله بهم بأسه الذي لا مرد له، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصدّ، فأجلاهم النبي ﷺ وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئًا، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول الله ﷺ وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر.

وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي لا يمكن أن تحمل معهم، ولهذا قال تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ أي: تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله وكذب كتابه كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من العذاب الأليم.

روى أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي ﷺ أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أُبي ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس والخزرج -ورسول الله ﷺ يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنّه أو لتخرجنّه أو لنسيرنّ إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم.

فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله ﷺ، فلما بلغ ذلك النبي ﷺ لقيهم فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟ فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتب كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلنّ مع صاحبنا، أو لنفعلن كذا وكذا ولا يحول بينا وبين خَدْم نسائكم شيئًا وهي الخلاخيل.

فلما بلغ كتابهم النبي ﷺ أجمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي ﷺ: اخرج إلينا في ثلاثين رجلًا من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبرًا حتى نلتقي بمكان المنصف، فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله ﷺ بالكتائب فحصرهم فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدونني عليه، فأبوا أن يعطوه عهدًا، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكان نخل بني النضير لرسول الله ﷺ خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها فقال تعالى: وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [سورة الحشر:6].

يقول تعالى: بغير قتال، فأعطى النبي ﷺ أكثرها للمهاجرين، قسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة ولم يقسم للأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول الله ﷺ التي في أيدي بني فاطمة[3]، ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار، وبالله المستعان.

هذه الرواية عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي ﷺ، والجهالة في الصحابي لا تضر، وهذه الرواية هي رواية صحيحة ثابتة في سبب الغزوة، لكن ما ورد من كونها بسبب الدية، وطلب الدية، وأنهم أرادوا إلقاء حجر ونحو ذلك هذه الرواية فيها ضعف.

وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول الله ﷺ وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله ﷺ وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ: لقد قتلت رجلين لأدِيَنَّهُما[4]، وكان بين بني النضير وبين بني عامر حلف وعهد، فخرج رسول الله ﷺ إلى بني النضير ليستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكانت منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيّها.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة: ثم خرج رسول الله ﷺ إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذيْن قتلهما عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله ﷺ عقد لهما فيما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف فلما أتاهم رسول الله ﷺ يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه -ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى جنب جدار من بيوتهم- فمَن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟

فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال: أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله ﷺ في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي فأتى رسولَ الله ﷺ الخبرُ من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبث النبي ﷺ أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلًا مقبلًا من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخل المدينة.

فأقبل أصحاب رسول الله ﷺ حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله ﷺ بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله ﷺ بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض وتعيبه على من يصنعه فما بال قطع النخل وتحريقها؟

وكان رهط من بني عوف من الخزرج منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله ﷺ أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحَلْقة، ففعل.

فاحتملوا من أموالهم ما استثقلت به الإبل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن إيجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام وخلوا الأموال لرسول الله ﷺ، فكانت لرسول الله ﷺ خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرًا فأعطاهما رسول الله ﷺ، قال: ولم يُسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله ﷺ قال ليامين: ألم تر ما لقيتُ من ابن عمك وما همّ به من شأني؟[5] فجعل يامين بن عمير لرجل جُعلًا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون.

قال ابن إسحاق: ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها، وهكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق بنحو ما تقدم، فقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني بني النضير.

هذه الرواية بهذا السياق يذكرها أصحاب السير وكثير من المفسرين ولكنها لا تصح من جهة الإسناد، وهنا يقول بهذه الرواية: إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة أعطاهم النبي ﷺ من هذا الفيء، وبعضهم يقول: إنه أعطى ثلاثة أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف والحارث بن الصِمَّة، وبعضهم يقول: إن النبي ﷺ أعطى سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه- سيفَ ابن أبي الحُقيق.

فسبب الغزوة لا شك أنه غدر اليهود، وما هموا به من قتل رسول الله ﷺ في الراوية التي سبقت عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي ﷺ.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما المقصود بـ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ؟ المفسرون ذكروا أقوالًا في معنى لِأَوَّلِ الْحَشْرِ وأقوالهم يمكن في مجملها أن ترجع إلى معنيين، أو إلى اعتبارين:

الاعتبار الأول: أن الأولية مكانية.

والاعتبار الثاني: أن الأولية زمانية، يعني الأولية إما مكانية وإما زمانية، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ فإذا أردنا أن نضم الأقوال باعتبار أن الأولية مثلًا زمانية، أو أن الأولية مكانية، فـ "لأول الحشر" باعتبار أنها مكانية يعني لأول أرض المحشر، وأرض المحشر هي الشام، وأولها أطرافها، وهم ذهبوا إلى أذرعات في أطراف الشام، هذا أول الحشر باعتبار أن الأولية مكانية، يعني أنه كان جلاؤهم أول الحشر في الدنيا إلى الشام، وهذا صح عن عائشة -رضي الله عنها، تقول: "فكان جلاؤهم ذلك أول الحشر في الدنيا إلى الشام"[6].

لكن إذا تأملت هذا القول تجد أنه جمع بين الأولية الزمانية والمكانية، أول حشر في الدنيا إلى الشام، الشام التي هي أرض المحشر، وباعتبار أنها زمانية بعضهم يقول: المراد بذلك أول من حُشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره، يعني أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة الطوائف الثلاث باعتبار أن قريظة كانت بعدهم. 

ولهذا عندما جاء الأوس إلى سعد بن معاذ لمّا قَبِل اليهود أن يكون الذي يحكم فيهم هو سعد بن معاذ، فجيء به، وكان جريحًا كما هو معلوم، فجيء به على حمار فكانوا يطوفون به: اللهَ اللهَ في أحلافك، يريدون أن يكونوا كالخزرج فإن عبد الله بن أبي من الخزرج وقد شفع لهؤلاء من بني النضير فلم يُقتلوا، وأُخرجوا وأجلوا، فأراد الأوس أن يفعل كفعل الخزرج أن يفعلوا شيئًا لحلفائهم؛ لأن النضير حلفاء للخزرج، وقريظة حلفاء للأوس، فقال سعد بن معاذ حينها: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فعرفوا أنه يريد قتلهم، فحكم فيهم بالحكم المعروف أن تقتل المقاتلة، وأن تُسبى النساء والذرية، وقال له النبي ﷺ: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة[7]

فالمقصود أن قريظة كانت بعد النضير؛ لأن قريظة كانت بعد الأحزاب، والأحزاب كانت في السنة الخامسة للهجرة، فبعض أهل العلم يقول: "لأول الحشر" هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما، فالأولية هنا باعتبار أنهم أول مجموعة تحشر من هؤلاء الطوائف الذين كانوا في المدينة أو حول المدينة.

وبعضهم يقول -باعتبار أن الحشر زماني: الحشر الأول إخراجهم إلى خيبر، أول الحشر، والحشر الثاني قالوا: إخراج عمر لهم من خيبر إلى أذرعات في الشام؛ لأن النبي ﷺ قال لأهل خيبر لما فتحها: "نقركم فيها ما نشاء"، فجاء عمر وأخرجهم منها، أخرج اليهود من خيبر وكان هؤلاء من بني النضير، بعضهم نزل في خيبر، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ فهذا الحشر الأول، والثاني من خيبر.

وبعضهم كالقرطبي يقول: هما حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ لا زلنا في الحشر الزماني، في الدنيا حشران وفي الآخرة حشران، فهذا أول حشر في الدنيا إلى الشام، الحشر الثاني في الدنيا أيضاً قرب القيامة النار التي تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى محشرهم، هذا الحشر الثاني في الدنيا.

وابن العربي المالكي يقول: للحشر أول ووسط وآخر، فالأول: إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء يهود خيبر، والآخر حشر يوم القيامة.

وبعضهم يذكر قولًا آخر لكنه لا يخلو من بعد -والله أعلم، وهو داخل في هذا المعنى باعتبار أن الأولية زمانية، يقول: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ: لأول حشر الجيش لهم، يعني بمجرد ما حشر لهم الجيش سقطوا واستسلموا، لكن هذا لا يخلو من إشكال، يعني بمجرد ما حشر لهم الجيش تهافتوا لا يخلو من إشكال؛ لأنه كما سيأتي أن هذا الحصار استمر مدة على اختلاف في الروايات، لكن ليس لمجرد مجيء الجيش وحشر الجيش لهم أو وقوع الحصار استسلموا مباشرة، فهم لم يستسلموا مباشرة، وإنما بقوا مدة، وكان عبد الله بن أبي وعدهم بأن ينصرهم وأن يأتيهم بأحلافه، وقال لهم: لا تنزلوا عن أرضكم ولا تخرجوا من دياركم.

فهذا رجل يدعي الإسلام الآن، ويقول لهم: لا تخرجوا ولا تنزلوا عن أرضكم، اثبتوا وسوف أدعو لكم أحلافي أربعة آلاف، سيدعو لهم بعض القبائل من غطفان وغيرهم، فصدقوه وكانوا يتفاوضون مع النبي ﷺ، ويميلون إلى الجلاء والخروج منذ البداية فثبتهم هذا التثبيت بهذا الوعد الكاذب -أعني عبد الله بن أبي، ثم حصنوا الأزقة، واستعدوا للحرب، وبعثوا إلى النبي ﷺ من يخبره أنهم لن ينزلوا عن ديارهم، وبقوا ينتظرون، والروايات التي في السير جاء في بعضها أن أحدهم لما أخبر النبيُّ ﷺ أنهم لن ينزلوا مر على عبد الله بن أبي فوجده يتعشى فقال: أين المدد؟ أين الوعد؟ قال: سأبعث إلى حلفائي، هؤلاء يواجهون الموت وهذا يقول: سأبعث إلى حلفائي وجالس يتعشى وما يفعل من ذلك شيئًا كما سيأتي في الآيات التي أكذبهم الله بها.

فلا جديد في تحالف المنافقين مع اليهود ومع أعداء الملة، ووفد آخر يذهب إلى الشام من أجل الاستعانة والاستنصار بالروم على رسول الله ﷺ وبنوا مسجد ضرار من الناحية الشمالية مخرج المدينة من أجل إذا جاء الجيش يكون التجمع هناك في مسجد يصلون، فيكون هذا المكان مكانًا للتجمع ويدخلون مع الجيش، كل واحد يضرب صدره ويقول: أنا أعرف المدينة حجرًا حجرًا، إليّ إليّ أنا أدلكم على الأماكن، وأعرّف لكم الشخصيات واحدًا بعد الآخر من الشخصيات المؤثرة، ويأتون مع الغزاة كما فعلوا في العراق، وكما فعلوا في أفغانستان، كل واحد يقول: أنا أعرف.

بعض الذين كانوا للأسف ينتسبون للجهاد قديمًا في أفغانستان في الحرب مع الروس لما جاء الأمريكان ما الذي حصل وكان من قبل يكذب قبلها بمدة يسيرة ويقول: لا يمكن أن نقر وأن نقبل بوجود ذباب أمريكي فضلًا عن جندي أمريكي في أفغانستان ولحيته تتجاوز سرته من طولها، ولما احتلت البلد لم يظفر بشيء، وُضع في وقت من الأوقات في حكومة هزيلة وزيرًا لشئون المقابر والموتى؛ لكثرة الموت والقتل هناك تحتاج وزارة، وزير لشئون المقابر والموتى، قريب من هذا الاسم.

والآن الجيل الجديد الشباب لو ذكرنا هذه الأسماء ما يعرفونه، وكانت هذه الأسماء تشرِّق وتغرِّب قادت الجهاد في وقت من الأوقات، ثم انظر -نسأل الله العافية- الحَوْر بعد الكَوْر، والنفاق الذي يحصل لبعض الناس حينما يأتي العدو ويغلب على بلد من بلاد المسلمين، ولذلك تجد مثل هذه العبارة كثيرًا في كتب التواريخ على ألسن المؤرخين "ونَجَمَ النفاقُ"، بدأ التسابق إلى هؤلاء الأعداء والجحافل التي تحتل البلاد يقدم لهم الخدمات ونحو ذلك.

لِأَوَّلِ الْحَشْرِ اللام هذه بمعنى عند أول الحشر، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ والحشر معناه إخراج الجمع من مكان إلى مكان.

وقوله تعالى: مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا أي: في مدة حصاركم لهم وقِصَرها، وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم ومنعتها.

هو ليس فقط في مدة الحصار والقِصَر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا لشدة تمنعهم وتمكنهم وتحصيناتهم.

ولهذا قال تعالى: مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي: جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال، كما قال تعالى في الآية الأخرى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة النحل:26].

وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ الظن هذا يحتمل أن يكون بمعناه المتبادر، يعني طرف الرجحان من طرفي الاحتمال، يعني لا يصل إلى مرتبة العلم اليقيني، ومعلوم أن الظن يأتي كثيرًا في القرآن بمعنى العلم، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة البقرة:46] يعني يتيقنون ويعلمون، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا [سورة الجن:12]، يعني علمنا وتيقنا، ويأتي بمعنى الراجح من طرفي الاحتمال، وفي حال التساوي يقال له: شك.

فالشاهد أن الظن هنا يحتمل أنهم ظنوا بمعنى غلب على وهمهم أن حصونهم هذه تمنعهم من الله، وهذه الحصون بعضهم يقول: هي أربعة الكُتيبة والوَطيح والسُّلالم والنَّطاط، هذه أربعة، وبعضهم يزيد الوَخْدة، وشق، فصار المجموع ستة، حاصرهم النبي ﷺ مدة، بعضهم يقول: خمسة عشر يومًا –أسبوعين، وبعضهم يقول: قريب من عشرين ليلة، وبعضهم يقول: في ثلاث وعشرين ليلة، وبعضهم يقول: في خمس وعشرين ليلة، يعني أقل الروايات أن النبي ﷺ حاصرهم أسبوعين، وهذا يضعف القول السابق من أن لِأَوَّلِ الْحَشْرِ معناه لمجرد أول حشر الجيش لهم تهافتوا وسقطوا، هم بقوا هذه المدة التي لا تقل عن أسبوعين ليس شجاعة، وإنما كانوا ينتظرون المدد من هؤلاء الألوف الذين وعدهم بهم عبد الله بن أبي.

التركيب هنا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ، يعني لو أردنا أن نذكر الكلام على ما يتبادر عادة في ترتيبه يكون هكذا: وظنوا أن حصونهم تمنعهم من الله، قال: وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فصار فيه تقديم وتأخير، فتقديم ما حقه التأخير لا يكون إلا لمعنى، إلا لنكتة، إلا لعلة، فهذا التقديم للخبر على المبتدأ يدل على ماذا؟

وَظَنُّوا أَنَّهُم قدم الضمير المتعلق بهم "أنهم" وبعد ذلك جاء بمانعتهم حصونهم، يعني وظنوا أن حصونهم مانعتهم، فحصونهم هي اسم أنّ، والخبر ما بعده، فقدم الخبر على المبتدأ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ؛ ليدل على شدة وثوقهم بهذه الحصون، وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ أنهم يملكون منعة وقوة، فهم واثقون بهذه الحصون أنها تمنعهم من الله وتقيهم بأسه.

كذلك تقديم الضمير المتعلق بهم؛ لشدة الثقة بأنفسهم، فهم واثقون جداً بأنفسهم وواثقون جدًا بحصونهم حتى بلغ بهم الغرور أن ظنوا أن هذه الحصون تمنعهم من بأس الله -تبارك وتعالى، وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ مع أنه لا تُحصن الديار والبلاد إلا بالإيمان وطاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله ﷺ، هذا يؤخذ من هذا التركيب، -والله تعالى أعلم.

وقوله -تبارك وتعالى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا يعني لم يتوقعوا، أي وقع بهم أمر لم يحسبوا له حسابًا، يعني لربما كانوا يخططون لأشياء، ويظنون أشياء، ويرسمون كما يقال سيناريوهات للمستقبل وللمواجهة في المستقبل، وللحروب في المستقبل، لكن جاءهم شيء ما توقعوه ولا خطر لهم في بال.

الأحداث التي تقع في أيامنا هذه مما شاهده العالم هي تدل على هذا المعنى أن الله قد يأتي الناس من حيث لم يحتسبوا، الذين يتجبرون على الله -تبارك وتعالى- فيحاربون أولياءه، ويفسدون في الأرض، هؤلاء قد يكونون في حال من القوة والتمكن والتسلط على الناس بحيث يظنون أنه لا يمكن أن تقع تحريكة، ولا تسكينة إلا كانت تحت نظرهم، وتحت قهرهم وقدرتهم وتمكنهم، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.

كانوا لربما يتخوفون طويلًا عبر عقود من أهل الصلاح والدين والخير وملئوا السجون بهم وحاربوهم وآذوهم غاية الأذى، عقود متطاولة يظنون أنهم سيُؤتون من قبل هؤلاء فأُتوا من قبل شباب غير متدينين عبر هذه الوسائل التي تبدو لأول وهلة أنها ضعيفة وهشة تويتر وفيس بوك وما أشبه ذلك، فجاء من قِبَل هؤلاء الذين لطالما اشتغلوا باللهو والشهوات واللعب، وصار نهاية هؤلاء الجبابرة على يد هؤلاء الذين ما كانوا يتوقعون أنهم يُؤتون من قبلهم فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ.

انظر إلى أعتى العتاة على الله في هذه الأوقات في هذه الأيام كيف كان حالهم؟ وكيف كانت نهايتهم؟ ما كانوا يتوقعون هذا، وما كان أحد يظن أن ذلك يمكن أن يحصل، ولكن محادة الله -تبارك وتعالى- لا شك أنها تورث مثل هذه الأحوال من الخزي -نسأل الله العافية، والنهايات الأليمة، وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، لم يظنوا لم يعلموا بأي أمر كان، بنزول النبي ﷺ في ساحتهم، أو بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، فاختلطت الأوراق، هو الذي كان يخطط ويتآمر فقُتل بدم بارد، فبقوا بلا رأس، وذهب تدبيرهم وكيدهم وصاروا كالنعاج تقاد إلى حتفها.

وقوله تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي: الخوف والهلع والجزع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر -صلوات الله وسلامه عليه؟!

وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، القذف هو الإلقاء بقوة، والرعب هو خوف شديد، يعني الخوف مراتب كما أن الحب مراتب، والخوف أنواع هناك خوف، وهناك شفقة وهي خوف مع رقة مثلًا، وخشية أي خوف مع معرفة المخوف منه، وهناك رعب وهو الخوف الذي يملأ القلب، فيضطرب القلب، وهناك هلع وهو خوف يخلع القلب أو تنخلع له القلوب، هلع بحيث يصير الإنسان لا يهتدي لشيء من شدة الخوف، وهناك أيضًا مراتب أخرى متنوعة ومتفاوتة، فهؤلاء قذف الله في قلوبهم الرعب، وهذا هو مبتدأ الهزيمة، فإذا وجد الرعب في القلوب فإن المقاتل لا يثبت في أرض المعركة في حال من الأحوال.

والنبي ﷺ يقول: (نصرت بالرعب مسيرة شهر[8]، يعني احسب مسيرة شهر، مسيرة الجيش على الوسائل القديمة، فالذين يبعدون من موقعه ﷺ على مسيرة شهر هم يعيشون في حال من الرعب، ليس الخوف وإنما الرعب، يعني يكونون في حال الاضطراب الشديد من شدة الخوف.

وهذا كما يقول الشاطبي: إن مثل هذه الخصائص للنبي ﷺ لأمته منها نصيب، فهذا الرعب نصر به النبي ﷺ وأمته منصورة به، فهو لا يختص برسول الله -عليه الصلاة والسلام، فإذا كان على مسيرة شهر يعيشون في حال من الرعب، ونُصر بالرعب، بمجرد ما يأتيهم يتهافتون فكيف بمن كان في طرف المدينة من اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة، وهم أجبن الناس؟! فمثل هؤلاء إذاً كيف تكون قلوبهم؟ كالريشة في مهب الريح، تُكفئها وتقلبها الرياح، هؤلاء في مرتبة ومنزلة من القرب الشديد في طرف المدينة ويهود، أي أجبن الناس، وأذل الناس، وأحط الناس، ما ظنك بحال مثل هؤلاء؟!.

وقوله: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قد تقدم تفسير ابن إسحاق بذلك وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وبيوتهم وتَحَمُّلها على الإبل، وكذلك قاله عروة بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد.

يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ الآية فيها قراءتان يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم هذه قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى المتواترة قراءة أبي عمرو يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُم بعضهم يقول: المعنى واحد، وأن القراءة بالتشديد يُخَرِّبُونَ بناء على أن زيادة المبنى لزيادة المعنى تدل على كثرة التخريب.

وبعض أهل العلم يفرق بين القراءتين فيقول: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم يعني يتركونها خرابًا، ويُخَرِّبُونَ أي: أنهم يقومون بعملية التخريب، يُخْرِبون يعني يتركونها خرابًا، وهذا يمكن أن يتمشى مع قول بعض الناس اليوم للبعيد: "يِخْرب بيتَه"، يُخْرِب يعني يتركها خرابًا، ويُخَرِّب يعني يقوم بالتخريب بناء على التفريق بين المعنيين.

فمعنى أنه يُخْرِب يتركه خرابًا عند بعض أهل العلم الذين فرقوا بين القراءتين يُخْرِبون بيوتهم، ويُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ يُخرِّبونها بأيديهم باعتبار أولًا: أنهم نقضوا العهد مع رسول الله ﷺ فكان ذلك سببًا لهذا التخريب الذي حصل.

ثانيًا: أنهم كان إذا حصل في الحصن ثُلْمة أثناء الحصار قاموا بأخذ أبواب أو غير ذلك من بيوتهم يردمون بها هذه الثغرة التي فتحت في الحصن، فهم يقومون بالتخريب لبيوتهم من أجل ترقيع ما هدم أو انثلم من هذه الحصون.

ثالثًا: أنهم حينما أجلاهم النبي ﷺ صاروا يأخذون ما استحسنوا من بيوتهم فيأخذ بابًا، يأخذ نوافذ، يأخذ أشياء بحيث تبقى هذه البيوت بلا أبواب، وتتحول إلى أشبه بالخرائب.

رابعًا: أنهم لشدة حسدهم لا يريدون أن يُنتفع بهذه البيوت من بعدهم فيقومون بالتخريب من أجل ألا ينتفع بها أحد، وهؤلاء كما في قصة قريظة أيضًا سيد قريظة كعب بن أسد لما جيء به للقتل كانوا حشروا في دار ويؤتى بهم مجموعات متتابعة للقتل حفرت لهم خنادق فلما جيء به كان عليه رداء أو بردة، وكان قد شققها ومزقها بقدر الأنامل، يعني ما ترك فيها مكانًا، لاحظ هو الآن مأسور ويعلم أنه يساق للقتل والشيء الذي يهمه الشيء الذي يقلقه أن هذا الرداء أو البردة أنه لا ينتفع بها لا يأخذها أحد ليلبسها، فهذا جالس مربوط للقتل، ويعلم أنه سيقتل؛ لأنهم كانوا يقولون: إلى أين يذهب بهم؟ أي المجموعات التي كانت تخرج، قال: ويحكم والله لا تعقلون، أما ترون الرجال يخرجون ولا يرجعون؟ إنه القتل، فجيء به لتضرب عنقه، هذا الذي عليه الرداء البردة أو نحو ذلك قد مزقها بقدر الأنامل.

الشاهد أننا نتحدث الآن عن النضير والشيء بالشيء يذكر أن من شدة حسدهم جاء كعب بن أسد الذي هو سيد قريظة ومزق هذه البردة التي عليه بهذه الصفة؛ لئلا يستفيد منها أحد، فهؤلاء كانوا يخربون بيوتهم؛ من أجل ألا ينتفع المسلمون بها من بعدهم، يعني هذه البيوت التي بذلوا فيها الأموال وتعبوا في بنائها صاروا يخربونها بأيديهم، فهذا فيه عبرة عظيمة، وهذا يتكرر قد يكون التخريب للبيوت، وقد يكون التخريب لغيرها من القوى والإمكانات والقدر والمفاعلات وغيرها التي بنوها وبذلوا فيها المليارات، قد يقومون بتخريبها لأمر أو لآخر يقيّضه الله ، فيعمدون إلى هذا الذي لطالما بذلوا فيه الأموال فيخربونه بأيديهم، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة الحشر:6].

وأقرب مثال لذلك انظر الزلازل التي حصلت في اليابان، عبرة كبيرة مما حصل للمفاعلات النووية هناك، تسربات وأشياء أرعبت العالم، فهذا هو مثال بسيط وصورة مصغرة لما يمكن أن يوقعه الله بأعدائه، ويمكن لهذه الأشياء التي يرعبون بها العالم ويرهبونه أن تتحول إلى شبح يرعبهم ويخوفهم؛ لأن هذه قد تتحول إلى سبب لهلاكهم هم بما يقيّضه الله من الأمور التي يقدرها، زلزال أو غير ذلك، فقد تتحول إلى سبب لإهلاكهم وتدميرهم، وهذه معانٍ داخلة في يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ.

لكن بأيدي المؤمنين كيف كان هذا بأيدي المؤمنين؟ أخربوها بأيدي المؤمنين بمعنى أنهم حينما نقضوا العهد وامتنعوا من الإيمان كان ذلك سببًا لتخريب المؤمنين لبيوتهم، يعني هم الذين تسببوا في هذا الحصار الذي وقع، والمتسبب ينزَّل منزلة الفاعل أو المباشر في كثير من الأحيان، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ والمؤمنون كانوا يهدمون هذه الحصون من الخارج حينما كانوا يطوقونهم ويحاصرونهم، ولك أن تتخيل اليهودَ محاصَرين والذين يحاصرونهم صحابة مع النبي ﷺ في حَرَّة سوداء ليس لهم ناصر ولا ولي، وأسلمهم شياطين الإنس والجن إلى مصيرهم المحتوم، ما حال هؤلاء اليهود البائسين في مثل هذا الحصار؟ لا تسأل عن حالهم.

أنا أظنهم ما ناموا طوال الخمس والعشرين ليلة أبدًا، هؤلاء أرعب الناس، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [سورة البقرة:96] هل رأيت جنودًا يبكون غير اليهود؟ مقابلة مع شاليط هذا الولد الذي أُسر يذكر أنهم لمّا جاءوه يقول -وهو كان يراهم وفي الدبابة: لم أستطع أن أفعل شيئًا، معه سلاح، ودخلوا عليه في الدبابة وأخذوه منها وأسروه! يقول: كنت في ذهول! هكذا اليهود، قال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، هنا ما فسر هذه الجملة في المختصر.

فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، العلماء يتكلمون في القياس في أصول الفقه، ويذكرون أول ما يذكرون من أدلة القياس وأنه دليل صحيح: أن الله قال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ فالاعتبار فيه نوع مقايسة، يعني تنظر إلى هذا ثم ترجع إلى هذا، فهذا الاعتبار فيه انتقال من شيء إلى آخر، يعني القياس أن تلحق فرعًا بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، فأنت تريد معرفة حكم هذا الذي لم يرد فيه دليل فتلحقه بأصل ورد فيه دليل، فيه جامع مشترك بين الأمرين، العلة واحدة.

يعني عندما نقول مثلًا: ما حكم المشروبات الكحولية التي ليست من عصير العنب، طيب لم يرد فيها دليل، نقول: هذه ملحقة بالأصل وهو الخمر، فهذا فرع وذاك أصل -أي الخمر- والعلة المشتركة "الإسكار"، فإذا وجد الإسكار وجد الحكم، والحكم هو التحريم.

فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ أصل مادة الاعتبار العين والباء والراء تدل على عبور ومجاوزة، تعبر من شيء إلى شيء، تنتقل من شيء إلى شيء، ولهذا يقال: عبّارة ومعبر يعني ما ينتقل بواسطته من ناحية إلى ناحية، من طرف إلى طرف، من شيء لآخر، فأصل الاعتبار من العبور والمجاوزة، ولهذا قيل للعَبرة: عَبرة؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخد، استعبر: بكى، وبكى عبرة.

ويقال أيضًا للألفاظ: عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويمكن أن نقول: تنقل المعاني من قلب المتكلم إلى لسانه فتَعْبُر، يعني يُعبِّر عنها، ومن الأمثال المعروفة: السعيد من اعتبر بغيره، يقول: جعله عبرة، ليكون عبرة، يعني ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، يعني يرى ما وقع لغيره فيعتبر بذلك فيقول: لا أفعل فعله، ينتقل لنفسه يقول: لا أفعل فعله؛ لئلا أقع، ويحصل لي هذا الأمر الذي حصل له، هذا يسمى اعتبارًا، والعاقل من وعظ بغيره، من اعتبر بغيره، والشقي من اعتبر بنفسه.

والاعتبار النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها أشياء أخرى من جنسها، فتقول: هذا الموقف فيه عبرة، هذا فيه عبر، ما حصل فيه عبر، العبر مما وقع، وتعدد هذه العبر، فهنا الله يقول: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ يعني يا أصحاب العقول والألباب والبصائر؛ لأن الأبصار هنا ليست أبصار العيون، وإنما أبصار القلوب، أصحاب البصائر، يعني يا أصحاب القلوب الحية التي تبصر وتعقل، أما من كان قلبه ميتًا فإنه لا يتعظ ولا يعتبر لا بما يسمع ولا بما يشاهد، فيكرر الفعل نفسه.

وقوله: وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [سورة الحشر:3] أي: لولا أن الله كتب عليهم هذا الجلاء وهو النفي من ديارهم وأموالهم لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك، قاله الزهري عن عروة والسدي وابن زيد؛ لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الآخرة من العذاب في نار جهنم.

الجلاء يعني الخروج لكنه خروج خاص، يعني الجلاء أخص من مطلق الخروج، ما كل خروج يقال له: جلاء، أنت حينما تخرج الآن من البلد مسافرًا وسترجع هذا يقال له: جلاء؟ لا، ليس بجلاء، إنما هو خروج خاص، وذلك أنهم يقولون: الجلاء لا يكون إلا بالأهل والولد، هذه أولًا، يقول: أجلاهم أُجلوا، جَلَوْا يعني خرجوا بأولادهم وأهلهم ومن ثَمّ فإن الجلاء لا يكون إلا بجماعة، خروج الواحد لا يقال له: جلاء، فالجلاء في اللغة هو الخروج من الوطن، والتحول عنه بنية عدم العودة إليه، يخرج خروجًا نهائيًا.

لكن لاحظ هنا أنه قال: وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ "لولا" تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، أي امتناع لوجود، امتنع العذاب لوجود الكَتْب، أي ما كتب الله عليهم من الجلاء، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا امتنع التعذيب في الدنيا بسبب وجود التقدير الأزلي وهو أن هؤلاء يُجلون، فيلزم من ثبوت الجلاء عدم التعذيب مع أن الجلاء عذاب، يعني أنه لم يحصل لهم العذاب في الدنيا بسبب أن الله كتب عليهم الجلاء وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ إذاً لم يعذبهم؛ لأنه كتب عليهم الجلاء.

فالسؤال أليس الجلاء الخروج من الدار والوطن أليس عذابًا وقد قرنه الله بالقتل كما مضى في قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ [سورة البقرة:85] فقرن الإخراج من الديار بالقتل فهو ليس بالشيء السهل فكيف قال الله -تبارك وتعالى- إذاً: وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا هذا الجلاء عذاب وظاهر الآية أنه امتنع العذاب لوجود ما كتب الله عليهم من الجلاء، ما الجواب؟

الجواب أن المقصود بقوله: لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا يعني بالقتل كما وقع لقريظة، أي عذبهم بالقتل، وإلا فالإخراج من الديار لا شك أنه عذاب ومعاناة وخروج في غاية الإهانة، ما يخرجون بسلاح، كل أهل ثلاثة بيوت على بعير واحد، هم يحملون عليه الشيخ الكبير، أو الأطفال، أو المرأة الحامل، أو حديثة الولادة، أو يحملون عليه المتاع، وهم ليسوا ذاهبين لمسافة خمسمائة متر مثلا وإنما سيذهبون مسافة شاسعة تتجاوز الألف كيلو متر إذا كانوا سيذهبون إلى أطراف الشام، في مناطق جبلية وعرة وفيها عقبات، ويذهبون على الأقدام يحملون الأمتعة على ظهورهم، وكل أهل ثلاثة بيوت على جمل.

تصور وهم يتقاسمون الحصص في الحمل على هذا الجمل هم يتعاقبون الركوب، أو الأطفال الذين يبكون، أو النساء اللاتي قد أوهنهن المشي، هذا عذاب في غاية الإهانة، إخراج مهين، لكنه مقبول بالنسبة لليهودي ما دام حياة، أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [سورة البقرة:96] نكرة في سياق الإثبات يعني أقل ما يصدق عليه الحياة يتمسك بأهدابه، أيّ حياة ولو كانت في غاية الذل والمهانة المهم حياة، والمقصود بالعذاب القتل، فهو ألم محسوس بالأبدان، بعض أهل العلم يقول: إن الإخراج ألم محسوس بالوجدان، يعني فقد الوطن.

قوله تعالى: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ أي: حتم لازم لابدّ لهم منه، وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: إنما فعل الله بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد ﷺ وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم.

قوله: ذَلِكَ الإشارة هنا ترجع إلى جميع ما ذكر، "ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله" من إخراجهم وقذف الرعب في قلوبهم وتخريب البيوت بأيديهم وأيدي المؤمنين وإعداد العذاب لهم في الآخرة؛ لأنهم شاقوا الله ورسوله، فذكر هنا العلة ثم جاء بالحكم العام كما هي عادة القرآن يذكر قضية خاصة ثم يأتي بالحكم العام ليبين أن ذلك لا يختص بهم، وإنما من فعل فعلهم فإن عاقبته كعاقبتهم ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في القواعد الحسان ذكر قاعدة مثل هذه في مجيء الحكم العام بعد القضية الخاصة، يعني ما قال مثلًا: ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله والله شديد العقاب، لا، وإنما قال: وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فهو وعيد لكل المشاقين، والمشاقة بمعنى المخاصمة والمعاداة، هذا كأنه في شق والآخر في شق آخر فهي مشتقة من الشِق كما اشتقت المحادة من الحد، والعداوة من العدوة، وهكذا.

وقوله تعالى: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:5] اللين نوع من التمر وهو جيد.

اللين نوع من التمر وهو جيد، يعني الجيد من التمر، وحينما يقال: الجيد من التمر فإن ذلك يرجع إلى أصله يعني الجيد من النخيل؛ لأن القطع هنا ليس للتمر، وإنما للنخيل، هذا قصدهم، النخيل أنواع منه ما هو جيد باعتبار الثمر، ومنه ما يكون دون ذلك، ومنه ما يكون رديئًا، فالجيد هو الذي يقال له: اللين، والواحدة لِينة، هذا على قول بعض أهل العلم، واختاره ابن كثير -رحمه الله.

قال أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة والبَرْنِيّ من التمر.

يعني كل أنواع التمر أنواع النخيل إلا العجوة والبرني، البرني نوع من أنواع التمر معروف إلى اليوم في المدينة.

وقال الكثير من المفسرين: اللينة ألوان التمر سوى العجوة، قال ابن جرير: هو جميع النخل.

ابن جرير -رحمه الله- لا يقول: إنها جميع أنواع النخل، وإنما يقول كالقول الذي قبله، يقول: جميع النخل ما لم يكن عجوة، فابن جرير يستثني العجوة.

ونقله عن مجاهد وهو البُوَيرة أيضًا.

البُويرة المقصود بها منازل بني النضير، المكان الذي كانوا فيه يقال له ذلك، كما سيأتي.

فهنا مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ هنا ذكر بعض الأقوال في اللينة وهي أكثر من هذا، القرطبي ذكر عشرة أقوال في معنى اللينة، فمن قائل بأنها جميع الأنواع سوى العجوة، وهذا قال به كثير من السلف كعكرمة ويزيد بن رومان وقتادة والزهري ومالك وسعيد بن جبير والخليل بن أحمد الفراهيدي، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله.

وبعضهم يطلق يقول: كل أنواع النخل يقال له: لينة، وهذا منقول عن مجاهد وعن ابن عباس قبله وعن الحسن وعمرو بن ميمون، وبعضهم يقول: كرام النخل، كما يقول ابن كثير: إنه الجيد من التمر، كرام النخل.

وبعضهم عممه في جميع الأشجار لِلِينها بالحياة، وهذا بعيد، وأبعد منه من قال: إن المقصود باللينة الفسيل، يعني الذي نسميه الفرخ من النخل الصغير الذي يغرس؛ لأنه لا يغرس إلا في أوقات الاعتدال لضعفه، ما يحتمل، يعني هناك أوقات معينة، الآن مثل هذه الأوقات قبلها بقليل وقت غرس النخيل، ما يغرس في أي وقت، لو غرسته في الصيف يموت، ما يحتمل، فهو يغرس في وقت الاعتدال في مرتين في السنة في الربيع والخريف، فبعضهم يقول: لضعفه ولينه لا يحتمل الحر، لكن هل الذي قطعوه هو هذا؟

الجواب: لا، إنما الذي قطعوه هو النخل مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ، والمقصود أنهم قطعوا بعض النخيل، وربما أحرق بعضه.

وذلك أن رسول الله ﷺ لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم، وإرهابًا وإرعابًا لقلوبهم، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: فبعث بنو النضير يقولون لرسول الله ﷺ: إنك تنهى عن الفساد فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟! فأنزل الله هذه الآية الكريمة، أي: ما قطعتم من لينة وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم وإرغام لأنوفهم.

يعني هذا أمر شديد عليهم، والألوسي ذكر في تفسيره وهو من أهل العراق ذكر أنه سمع من بعض أهل النخيل الناس الذين يحبون النخيل ويعتنون بها غاية العناية يقول: وددت لو أن أنْمُلتي قُطعت ولا يقطع طرف العسيب! يعني من شدة محبته وحرصه على هذا النخيل، وعنايته بها، تقطع أنملته ولا يقطع طرف العسيب، والذين لهم عناية بالنخيل يبلغ بهم الأمر إلى هذا الحد بحيث إنه تجد هذه النخلة لربما تكون مؤذية لهم في البيت بحيث إنها تضيق الطريق، ومع ذلك لا يمكن لأحد أن يقطع منها طرفًا، وتجد هذا المعتني بها قد يكون رجلًا كبيرًا في السن، وهو في غاية الحرص عليها، يعرف ما زاد فيها وما نقص، يصبحها ويمسيها.

فكيف إذا أحرقت أو قطعت وهم ينظرون من فوق الحصون؟!، هذا يتمنى أن أنملته تقطع ولا يقطع طرف العسيب، فهذا يرى النخلة التي يسقيها صباح مساء ويعتني بها يراها تحترق أمامه، وتضطرم النار في هذه النخلة ما الذي يحصل؟ يحصل له غيظ، يعني هذه النخيل قطعت لربما لمصلحة الحصار؛ لأمور احتاجوا إليها، احتاجوا مثلًا لجذوعها لقضايا تتعلق بالحصار لمساحة أو غير ذلك، أو إغاظة، فغاظ ذلك أعداء الله، فيؤخذ منه أنه في حال الحصار للعدو أو الحرب مع أعداء الله يمكن أن تخرب دارهم إذا دعت المصلحة إلى ذلك كما قاله الإمام مالك -رحمه الله.

وكانت حوائطهم -المزارع- خارج القرية، بعضهم يقول: المقصود بالبُويرة هي المكان الذي فيه المزارع، وليست أرض النضير بكاملها، البويرة التي مضت قبل قليل في بعض الروايات، وجاءت في شعر حسان -رضي الله عنه- لما نظم يهجو قريشاً الذين أغروهم بنقض العهد مع النبي ﷺ ثم أسلموهم لهذا المصير البائس، فحسان بن ثابت كان فيما قال:

تفاقَدَ معشرٌ نصروا قريشًا وليس لهم ببلدتهم نصيرُ
وهانَ على سَراةِ بني لؤي حريقٌ بالبُويرة مستطيرُ

يقول أسلموهم إلى هذا المصير المحتوم -نسأل الله العافية، رد عليه أبو سفيان بن الحارث ابن عم النبي ﷺ كان أكثر الناس شبهًا به، وكان هو الذي يقول القصائد التي يهجو فيها النبي ﷺ وأصحابه، ثم رد عليه حسان في القصيدة المعروفة:

ألا أبلغْ أبا سفيانَ عني فأنتَ مُجوَّفٌ نَخِبٌ هواءُ

 وقال فيها:

أتَهْجُوهُ، وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ

هذه قيلت في أبي سفيان ليس ابن حرب والد معاوية وإنما في أبي سفيان بن الحارث ابن عم النبي ﷺ، كان شديد العداوة له، فكانت هناك مجاوبة بين أبي سفيان بن الحارث هذا، وبين حسان بن ثابت ، فرد أبو سفيان على حسان في قصيدة أخرى، ومن شاء فليراجع كتب السيرة، وكان مما قال:

 أدام اللهُ ذلك من صنيعٍ وحَرّق في نواحيها السعيرُ
ستعلمُ أيّنا منها بنُزْهٍ وتعلمُ أيَّ أرضيْنا تضيرُ

يقول: نحن في مكة بعيد عنكم، هذه عندكم، من الذي يتضرر فيها نحن أو أنتم؟ والنخيل التي قطعت أصلًا كانت قليلة جدًا، بعضهم يقول: ست، وبعضم يقول: قطع نخلتان مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ، والإذن هنا يحتمل أن يكون الإذن الكوني، أي بقدر الله، ويحتمل أن يكون الإذن الشرعي، وإذا قلنا: إن الإذن شرعي فهذا يقتضي أنه كوني أيضًا؛ لأن هذا شيء وقع فاجتمع فيه الإذن الكوني والإذن الشرعي، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم-؛ لأن أهل الإيمان إنما يصدرون عن أمر الله -تبارك وتعالى، والنبي ﷺ بين أظهرهم.

وهذا طريقة في الرد على الأعداء حينما يستغلون بعض التصرفات في تشويه سمعة المسلمين، والوقيعة بهم وتحريك الآلة الإعلامية في تشويه هذه الصورة، فاليهود استغلوا هذا وقالوا: أين الإصلاح الذي تدعيه؟ ما بال قطع النخيل وأنت تدعي الإصلاح؟ فجاء الرد هكذا محكمًا مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ، انتهى، لو كان اليوم لاختلفنا وبدأنا نتراشق في التويتر وفي غيره، هذا يؤيد، وهذا لا يؤيد وهذا يقول، وهذا يتهم، كما هي عادتنا في كل شيء، لاحظ الردود القرآنية قطعت عليهم الطريق، فَبِإِذْنِ اللَّهِ.

وأيضًا في قصة السرية التي قتل فيها ابن الحضرمي في نخلة قريبة من مكة بين الطائف ومكة، وكان ذلك أول يوم من الشهر الحرام، وما كانوا يعلمون بدخول الشهر، فتظاهروا أنهم عمار وحلقوا رءوسهم -أي المسلمون، وتعرضوا لقافلة أو ركب من المشركين، وكان أولئك أمنوا على أنفسهم، ظنوا أنهم عمار، فأراد المسلمون لما هجموا عليهم أرادوا منهم أن يستسلموا، فأبى المشركون فحصلت مناوشة، وقتل هذا الرجل، فاستغلها المشركون وقالوا: أين الذي يقول: إنه يعظم الأشهر الحرم وعلى ملة إبراهيم؟ فما بال انتهاك الشهر الحرام؟ وجعلوها دعاية كبيرة، فكيف جاء الرد في القرآن؟

جاء الرد محكمًا يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [سورة البقرة:217] انتهى.

لكن تعالوا أنتم أيها المجرمون وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ تحول الهجوم عليهم، ولو كان عندنا كنا تحولنا نحن أيضًا إلى جند من جملة جندهم، وأدخلونا في عباءتهم وصرنا نخرب بيوتنا بأيدينا وأيديهم، وصدقنا ما يقولون واشتغلنا ببعضنا في الرد.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ خلاص لم تتحول القضية إلى مشكلة كبرى، وحرب داخلية ومقاولة ومجاوبات ومهاترات وخصومات وفرقة، لا، قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وتعالوا أنتم ماذا سويتم؟ أنتم مجرمون تفعلون أعظم من هذا، وتفسدون في الأرض، وتصدون عن المسجد الحرام، فهذا الفعل ماذا يكون بالنسبة إليكم ولجرائمكم؟

هذه طريقة القرآن في الرد على هؤلاء في دعواهم، وفي دعايتهم في إعلامهم الفاسد، فليت المسلمين وليتنا نتعلم من هذا، فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ فلم يقل: وليخزيهم، أو وليخزي اليهود، وإنما عدل إلى الوصف بالفاسقين؛ ليؤذن بالعلة، هذا الخزي لماذا؟ لكونهم خارجين عن طاعة الله ، فهذا هو الفسق، بمعنى الخروج عن طاعته -تبارك وتعالى.

وقال مجاهد: نهى بعض المهاجرين البعض عن قطع النخل، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه، وقد روي نحو هذا مرفوعًا، فروى النسائي عن ابن عباس في قوله:مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ قال: يستنزلونهم من حصونهم، وأُمروا بقطع النخل، فحاك في صدورهم، فقال المسلمون: قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا فلنسألن رسول الله ﷺ هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ[9].

هذا ثابت في سبب نزول مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا.

وروى الإمام أحمد عن عمر أن رسول الله ﷺ قطع نخل بني النضير وحَرّق[10]، وأخرج صاحبا الصحيح بنحوه، ولفظ البخاري عن ابن عمر قال: "حاربَتِ النضيرُ وقريظةُ فأَجْلَي بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربتْ قريظةُ، فقَتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي ﷺ فأمّنهم وأسلموا، وأجلوا يهود المدينة كلهم: بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهود بالمدينة[11]، ولهما أيضًا عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ حرق نخيل بني النضير وقطع -وهي البويرة- فأنزل الله : مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ قال ابن إسحاق: كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة.

  1. رواه البخاري، في أوائل كتاب فرض الخمس، برقم (3094)، وبرقم (4031)، كتاب المغازي، باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله ﷺ إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله ﷺ.
  2. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله ﷺ إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله ﷺ، برقم (4029).
  3. رواه أبو داود، كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب في خبر النضير، برقم (3004).
  4. انظر: السيرة النبوية لابن كثير (3/ 145)، والأغصان الندية شرح الخلاصة البهية بترتيب أحداث السيرة النبوية، أبو أسماء محمد بن طه (ص:264).
  5. انظر: سيرة ابن هشام، تحقيق السقا (2/ 192)، والسيرة النبوية لابن كثير (3/ 148).
  6. انظر: تفسير الطبري (23/ 263).
  7. انظر: تفسير الطبري (20/ 248)، ورواه مسلم، بلفظ: لقد حكمت فيهم بحكم الله، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهلٍ للحكم، برقم (1768).
  8. رواه البخاري، في أوائل كتاب التيمم، برقم (335)، ومسلم، في أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521).
  9. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [سورة الحشر:5]، برقم (4884)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، برقم (1746).
  10. رواه أحمد في المسند من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما، برقم (4532)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  11. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله ﷺ إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله ﷺ، برقم (4028)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، برقم (1746).

مواد ذات صلة