الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[3] من قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا..} الآية:11 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١٦ / جمادى الأولى / ١٤٣٤
التحميل: 8460
مرات الإستماع: 13528

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا وللمستمعين أجمعين يا رب العالمين .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ۝ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ۝ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ۝ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ۝ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ [سورة الحشر:11-17].

يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أُبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم، فقال تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ الآية.

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- طوائف المؤمنين الثلاث، وأثنى عليهم ذكر بعد ذلك حال هؤلاء المنافقين معجِّبًا نبيه ﷺ من تلك الحال، وكما مضى في قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ [سورة المجادلة:14]، وأن الله عجّب نبيه ﷺ من تلك الحال، وهكذا أيضًا هنا أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا كعبد الله بن أُبي، وعبد الله بن نبتل، وأوس بن قيظي ورفاعة بن تابوت، وأمثال هؤلاء من أهل النفاق.

يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، يعني عندما كان المنافقون كفارًا في الباطن صارت بينهم هذه الأخوّة لإخوانهم من أهل الكتاب، والمقصود اليهود يهود النضير، فإن عبد الله بن أُبي هو الذي قال لهم: اثبتوا ولا تخرجوا من دياركم، وسنقف معكم، ونعينكم وننصركم، ومصيرنا واحد، كما أخبر الله -تبارك وتعالى.

والأخوة كما في سورة الأحزاب وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18] تكون لنوع علاقة، فالأخوة تارة تكون بالنسب، وتارة تكون باعتبار القبيلة، وتارة تكون باعتبار البلد الذي يجمعهم، وتارة تكون باعتبار الاعتقاد، فالمنافقون إخوة لليهود بهذا الاعتبار أنهم جميعًا كفار في الباطن، والرؤية هنا كما سبق في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم يمكن أن تكون بصرية.

قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أي: لكاذبون فيما وعدوهم به، إما لأنهم قالوا لهم قولا من نيتهم ألا يفوا لهم به، وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه.

سبق أن الكذب تارة يطلق على هذا، وتارة يطلق على هذا، يعني تارة يطلق على ما يحصل به الخلف بين اللسان والقلب، وهذا هو الذي ورد فيه الذم شرعًا، يقول بلسانه ما لا يعتقد بقلبه، التخالف بين قول اللسان وما ينطوي عليه القلب، والإطلاق الآخر وهو أوسع من هذا يقال لكل تخالف بين قول اللسان وما في الخارج، يعني وما يقع أو ما هو واقع، فذلك يقال له: كذب.

وابن كثير -رحمه الله- يشير إلى الأمرين، يقول: يحتمل أنهم قالوا ذلك كذبًا وهم لا يريدون أن يفعلوا ذلك، فيكون التخالف وقع ما بين اللسان وماينطوي عليه القلب، يعني قالوا لهم بألسنتهم شيئًا لا يريدون أن يحققوه، أو أنهم قالوا شيئًا علم الله أنه لن يحصل، وإن كانوا يريدون في البداية أن يفعلوا حينما قالوا هذا القول، ولكن لن يقع، فهذا الخلف يكون كذبًا.

قد مضى الكلام في درس يتصل بقوله تعالى: وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [سورة الإسراء:80]، وقلنا هناك: إن الصدق هو الحق الثابت، ويقابله مخرج الكذب، فكل مخرج يكون في باطل فهو مخرج كذب؛ لأن الباطل لا ثبات له فهو ذاهب مضمحل فصح أن يقال عنه: إنه كذب، باطل، ذاهب، زاهق، مضمحل لا حقيقة له، كل ما لا حقيقة له فهو باطل، ويمكن أن يقال عنه: إنه كذب بهذا الاعتبار.

ولهذا قال تعالى: وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ أي: لا يقاتلون معهم، وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ أي: قاتلوا معهم لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَوهذه بشارة مستقلة بنفسها، كقوله تعالى:لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ أي: يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، كقوله: إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [سورة النساء:77]؛ ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ثم قال تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ.

قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ لاحظ عبر هنا بالفعل المضارع أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لم يقل: "قالوا" مع أن هذا قد وقع وانتهى؛ لاستحضار الصورة الواقعة كأنك تشاهدها، كأن هذا يحصل الآن أمامك، وهذا كثير في القرآن في قوله -تبارك وتعالى: وَجَاءُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ [سورة يوسف:16] كأنك تشاهدهم وهم يبكون.

وهكذا في قوله: وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء [سورة آل عمران:112]، كأنك تشاهد القتل، عبر بالمضارع وهذا أمر كان في الماضي، وهكذا: يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ اللام للتبليغ، يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ لاحظ هذا قسم باعتبار أن اللام موطئة للقسم، لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي والله لئن أخرجتم لنخرجن معكم، هم يحلفون لهم على هذا الأمر الذي لا حقيقة له، وهو كذب وذاهب ولا يكون، وهذا مثال يذكر كثيرًا على كون الله -تبارك وتعالى- يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، علم ما كان وهو أن هؤلاء أهل النفاق، يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وعلم ما لا يكون حينما قالوا لهم: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ هذا أمر لا يقع، ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

لاحظ هنا قال: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ هذا علم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ هم لا ينصرونهم لكن لو نصروهم لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ، فاشتملت هذه الآية على هذه الأنواع من علم الله -تبارك وتعالى- للغيوب.

وقوله: لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ الرهبة شدة الخوف كأنه خوف مع تعظيم، خوف شديد مع تعظيم لهذا المرهوب أو لهذا المخوف منه، تقول: هذا الشيء رهيب، هذا الشيء له رهبة، هذا مقام له رهبة، بخلاف حينما تقول: هذا شيء مخيف، وهذا يختلف عن كون الشيء مثلًا مرعبًا، غير رهيب.

فهناك فروقات بين هذه الألفاظ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ أشد رهبة يعني أشد مرهوبية، فهؤلاء يخشونكم أعظم من خشيتهم لله -تبارك وتعالى، والسبب في ذلك؛ لأنهم قوم لا يفقهون، والفقه هو علم خاص، يعني ما يحتاج إلى فهم يقال له: فقه، فهؤلاء لو عرفوا الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته لما تعاظم المخلوق في قلوبهم حتى يصير خوفهم منه أعظم من خوفهم من الله -تبارك وتعالى.

ولذلك فإن من أعظم دواعي الخوف من الله أن يعرف العبد معبوده معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، فكلما كان العبد بربه أعرف كان له أخوف وأشد تعظيمًا وإجلالًا، فهؤلاء لا يعرفون الله معرفة صحيحة، ولو كانوا يعرفونه ما نافقوا، يقول: إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [سورة النساء:77] -نسأل الله العافية- هؤلاء بهذه المثابة، وهذه الرهبة في صدورهم؛ لأن القلب هو موضع هذه المعاني من الخوف والرجاء والمحبة وما إلى ذلك.

ثم إن هذا من الأمور الخفية الله -تبارك وتعالى- أطلع أهل الإيمان عليها، فكل منافق ففي قلبه من هذه الرهبة لأهل الإيمان بحسب حاله في هذا النفاق، فمن كان نفاقه أعظم كانت الرهبة في قلبه أشدّ؛ ولذلك ينبغي على أهل الإيمان أن يدركوا هذا المعنى، ومن ثمّ فلا يتعاظم المنافق في قلوبهم، ويلقي الشيطان في نفوسهم وقلوبهم المخاوف من هؤلاء المنافقين فيجبنون عن الإنكار عليهم، وعن إقامتهم على أمر الله -تبارك وتعالى، فذلك كما قال الله : إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:175].

كيف تخاف منه وهو أصلًا إذا دخلت عليه خيل إليه أنه دخل عليه سبع أو أسد وامتلأ قلبه بالرهبة، أما أهل الإيمان الذين عرفوا الله معرفة صحيحة فإن المخلوق لا يتعدى طوره، ولا يتعاظم في نفوسهم فيخافونه كهذا الخوف، فهؤلاء أهل النفاق -نسأل الله العافية- لا يفقهون فوقعوا في هذه المعاطب؛ لأنهم راعوا المُشاهَد وغفلوا عن الغائب، هؤلاء ليس بين أعينهم إلا هذا العالم المادي الذين يشاهدونه، وإذا شاهدوا قوة وشيئًا من الجرأة أو الجيوش أو العتاد أو الآلات الحربية وما إلى ذلك امتلأت قلوبهم من الخوف والرهبة والهلع، فمثل هؤلاء حينما ينظرون في الأمور ويقايسونها فإنهم لا يعول على كلامهم؛ لأن المخلوقين يتعاظمون في نفوسهم، وتقع الرهبة في قلوبهم؛ لأنهم لا ينظرون إلا إلى هذا العالم المشهود ويغفلون عن المغيب.

ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ، ثم قال تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ، يعني: أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون، أو من وراء جدر محاصرين، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.

لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ الآيات تتحدث عن المنافقين، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني المنافقين قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ۝ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ فسياق الآيات في المنافقين، وكثيراً ما تنزّل هذه الآية على اليهود، والسياق في المنافقين لكن قوله -تبارك وتعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا يحتمل معنيين:

المعنى الأول: أنهم لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا يعني المنافقين لا يقاتلونكم في جمع، مجتمعين كجيش؛ لأنهم أجبن من ذلك إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر فهم جبناء، وهذا هو الذي سبب لهم هذا النفاق، وصاروا يبيعون المبدأ والدين لكل من غلب بحسب مصالحهم، هذا معنى، وهذا الموضع منها في المنافقين خاصة.

ويحتمل قوله: جَمِيعًا معنى آخر لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا يعني مع اليهود، فالمنافقون واليهود لا يقاتلونكم مجتمعين، هم وعدوهم بالنصر وأن المصير واحد، وقالوا لهم هذه الوعود، قالوا لهم: والله لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ فهنا يحتمل أن يكون المراد لا يقاتلونكم جميعًا يعني المنافقين واليهود، فالسياق في المنافقين لكن قوله: جَمِيعًا هو الذي يحتمل معنيين، لكن لا يمكن أن يخرج المنافقون من هذا السياق وتجعل في اليهود خاصة، والأصل أنه مهما أمكن توحيد مرجع الضمائر فهو أولى من تفريقها، وهنا الضمائر متتابعة في المنافقين فكيف يُجعل هذا من بينها في اليهود؟ هذا فيه نظر -والله تعالى أعلم.

لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا يعني على صفة الجيوش التي تجتمع لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ يعني لا يقاتلونكم جميعًا بحال من الأحوال لكن يقاتلونكم في قرى محصنة أو من وراء جدر، وعليه يكون الاستثناء -على قول بعض أهل العلم- من قبيل المنقطع، بمعنى لكن، يعني هم لا يقاتلون جميعًا على صفة جيش يقابل جيشًا، يجتمعون ويقاتلون، وإنما يختبئون خلف الجدران، وخلف الحصون.

وباعتبار أنها في المنافقين واليهود معًا يكون الاستثناء متصلًا، يعني أنهم يمكن أن يجتمعوا لكن ليس في ميدان المعركة، فأجبن خلق الله أهل النفاق واليهود، هؤلاء لا يستطيعون أن يجتمعوا في معركة، هؤلاء بنفخة يطيرون، فهذا لابدّ أن يكون قتاله من وراء جدر؛ لأن الجبان لا يستطيع أن يواجه، ولذلك يُذكر عن أول من اكتشف أو اخترع الكلاشنكوف أنه قال: الآن قُتلت الشجاعة بأول رصاصة.

يعني كان في السابق الناس الأبطال ينزلون أرض المعركة ويواجهون الأبطال، والقتال ضرب في الحديد، ضرب في الأجسام، وضرب في الرءوس، وضرب بكل مستطاع من سيف ورمح ونبل وفأس وساطور، وإن تكسرت السيوف فالحجارة، هذه كانت الشجاعة في السابق مواجهة، والجبان لا يستطيع؛ لأن أقدامه لا تحمله فبمجرد ما يرى قطرة دم يغمى عليه، هذا إذا جاء.

هؤلاء لا يستطيعون هذه المواجهة، فالجبان من بعيد فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ، والآن عبر الطائرات بحيث يكون في ارتفاع لا تصل إليه المضادات، فيأمن، أو يكون في مكان لا توجد فيه مضادات أصلًا فيضرب من بعيد، أو يكون في غواصة داخل البحر بينه وبين الأعداء ألف ميل، أو بمدافع من بُعد مسافات كيلو مترات بعيدًا لا يراهم ولا يرونه، ما عليه إلا أن يضع هذه الأشياء ثم بعد ذلك لا شأن له بما يقع بعد ذلك، ولا يرى العدو أصلًا، ولا يستطيع أن يواجهه، فإذا حصلت مواجهة مباشرة تخور القوى، فهذا هو حالهم، وهذا هو حالهم اليوم هل رأيتم الأعداء يواجهون وجهًا لوجه؟

أبدًا هم لا يواجهون، وإنما من بعيد بهذه الأسلحة التي وجدت في هذا العصر، وأصبح الشجاع والجبان سواء كما هو الحال في الوسائل الحديثة حيث يسرت للناس أمورًا كثيرة، ففي الأسفار مثلًا كان في السابق لربما لا يسافر الأسفار البعيدة إلا من كان لديه من الصبر والثبات والقوة ومعرفة الطريق وما إلى ذلك، ويحتاج إلى دليل وما إلى هذا، وأما الآن فأصبح الإنسان يسافر للحج بكل سهولة، في السابق كان من الأسفار المخوفة، والآن لربما حجت بعض النساء مع غير محرم، ويحج الرجل الذي لا يدبر قليلًا ولا كثيرًا، ما عليه إلا أن يركب فقط فإن لم يركب حُمل، ثم بعد ذلك يرجع، ولا حاجة له في أن يدبر قليلًا ولا كثيرًا، لا يحتاج أن يعرف الطرق، وليس خِرِّيتًا ولا صاحب همة وعزيمة، فاستوى أضعف الناس وأقوى الناس وأحسن الناس نظرًا وتدبيرًا في مثل هذه الأمور.

فهذان معنيان في قوله: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ، ومثل ذلك في المصفحات والدبابات يختبئ خلف شيء، الآن لو نظرت إلى إنسان يريد أحد أن يعتدي عليه أو اضطر إلى المدافعة عن نفسه إن دافع عن نفسه لربما خلف الجدار من وراء الجدار، ولا يستطيع أن يقابل الناس، هذا الإنسان حتى في الأشياء العادية البسيطة لو أنه يخاف من دابة أو حشرة أو شيء أو فأرة أو نحو ذلك هذا لا يستطيع، فهو يخاف، وإن اضطر فهو يحتاج إلى أن يكون من وراء الباب بعصا ويغلق الأبواب؛ لأنه يخاف، هذا معلوم، لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ، هذه قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى بالإفراد أو من وراء جدار وهذه متواترة لأبي عمرو وابن كثير.

ثم قال تعالى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: عداوتهم فيما بينهم شديدة، كما قال: وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ [سورة الأنعام:65].

افتتحت بهذا بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ للاهتمام بالإخبار عن هذا البأس أنه واقع بينهم، وكما سبق في الاحتمالين في قوله: جَمِيعًا يحتمل أن يكون المراد أن أهل النفاق بأسهم بينهم شديد وكل السياق كما سبق في المنافقين، فإذا قلنا: الآية السابقة في المنافقين لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا أي: جبناء، فأيضًا هذه صفة أخرى لهم بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، وإذا قلنا: إن قوله: جَمِيعًا يعني المنافقين واليهود فإن قوله: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني بينهم عداوة شديدة لكنهم اجتمعوا على حربكم فقط، وإلا فبينهم من الشر والعداوات ما لا يقادر قدره، وقد فُسر بهذا.

فبعض أهل العلم يقول: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني العداوة الواقعة فيما بينهم، وهذا هو المشهور، وهو الأقرب والمناسب للسياق، العداوة عداوة شديدة لكن اجتمعوا لحربكم فقط.

وبعضهم يقول: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني أنهم جبناء عن المواجهة، ولكن إذا كانوا يجلسون مع بعضهم فإنهم يتحدثون عن بطولات وهمية لا حقيقة لها، يعني يذكر أنه فعل وفعل وفعل، هذا في المجالس حينما يأمن، وأنه سيفعل هذا الكلام، وهو بعيد آمن مع أصحابه وأشكاله ونظرائه، يتحدث عن بطولات لا حقيقة لها، وعن أعمال لم تقع وأنه يواجه الأبطال مثل ما يذكر كثير من الشعراء أنه يقطع الفيافي ولا يخاف ولا يجبن ويصبر على المساحات الشاسعة الموحشة التي لا يقطعها إلا الواحد بعد الواحد، وقد لا يكون هذا الكلام له حقيقة، وهذا كثير في كلام الشعراء -والله المستعان.

فيكون بهذا الاعتبار أنه بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني في الكلام الذي ينسبونه إلى أنفسهم في الدعاوى الفجة العريضة، يقول لك: أنا لقيت واحدًا وقطعته نصفين وأشياء لا حقيقة لها.

وبعضهم يقول: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ في الملاسنة والكلام، ولكن في ميدان المعركة والمواجهة هم دجاج لها مناقير من حديد، لسان ولكن القلب أجوف، وليس عند هؤلاء شجاعة ولا قوة، وهذا يدل -باعتبار المعنى الذي عليه الأكثر- على اختلاف قلوبهم، وشدة العداوة الواقعة بينهم.

فإن قلتَ: هي في المنافقين فهم كذلك بلا شك؛ لأنه لا يجمعهم جامع إنما كل واحد منهم يحركه هواه، حيثما وجدت مصلحته توجه، فهم لا يرتبطون بعقيدة، وليس لهم مبدأ يجتمعون عليه ويدافعون عنه إطلاقًا، فتجدهم تارة هنا وتارة هناك.

وانظر إليهم في مصر على سبيل المثال هؤلاء الذين أشبعوا العالم كلامًا كثيرًا في الليبرالية والحرية في التعبير والحرية في الرأي والحرية في الاقتصاد إلى آخره أنواع الحريات التي تقوم عليها ليبراليتهم، ويطالبون بأن يكون الشعب هو الذي يملك القرار، وأن هذه إرادة الشعب وما إلى ذلك، وانظر إليهم تحولوا إلى بلطجية وباعوا كل هذه الدعاوى العريضة والمبادئ التي كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بها، أحرقوها تمامًا، فهي وإن كانت تحوي كثيرًا من الباطل في منظور الشرع إلا أنهم أيضًا لم يرعوها، ولم يلتفتوا إليها حيث كانت أهواؤهم تخالف ذلك، هم أصحاب هوى ليسوا بأصحاب مبدأ.

هؤلاء الذين يقولون: إرادة الشعب وحريته هم من أكثر الناس مخالفة لهذا إذا كانت مصالحهم تقتضي خلافه، أصحاب هوى، أصحاب شهوات، عبيد لهذه النفوس والشهوات، ليسوا أصحاب مبدأ وإن حاولوا أن يرفعوا بعض الشعارات، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى هذا المنافق يمكن أن يباع ويشترى، خذها من هذه الآية، يعني لو جاءه أحد وقال له: أنا أدفع لك إما مالًا وإما منصبًا، جاء له هذا الذي يعاديه معاداة شديدة، وجلس معه، وقال: سنعطيك ونوليك وكذا تحول إلى محالف له وترك ما كان يقوله، وتنصل من أصحابه الذين كان متحالفًا معهم، وهكذا فهم عبيد للشهوات.

بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى هذا في المنافقين فكذلك الحال بينهم، وهذا الذي ذهب إليه مجاهد -رحمه الله، وإن قلت: إنها في اليهود والمنافقين فهم كذلك اجتمعوا فقط لحربكم، والجامع المشترك هو عداوتكم، وهذا أيضًا يروى عن مجاهد، لكن هناك من قال: إن هذه الآية في المشركين وأهل الكتاب، وهذا وإن قال به مثل سفيان الثوري -رحمه الله- لكنه بعيد.

تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى الآية تتحدث عن المنافقين، فالمقصود أن المنافقين داخلون في الآية قطعًا، ودخول أهل الكتاب تحتمله الآية، لكن تنزيل الآية على اليهود هكذا هذا فيه نظر، يعني أن الآية تتحدث عن اليهود -في صفة اليهود- بهذا الاعتبار لا، وإن كان اليهود فيهم هذه الصفات بلا شك، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ، وهناك في رهبتهم من أهل الإيمان التي هي أعظم من خوفهم من الله قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ.

هناك ذكر الفقه، والفقه علم خاص وهو فهم ما خفي ودق، وهذا يحتاج إلى معرفة تفصيلية بأسماء الله وصفاته وما إلى ذلك، فهؤلاء أبعد الناس عن معرفة الله ، لكن قضية العقل هنا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ في التفرق، فلماذا ذكر العقل هنا والفقه هناك؟

يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إن عاقبة التفرق لا تخفى على عاقل، لا تحتاج إلى فقه، فإن التفرق من شأنه أن يورث الفشل والهزيمة، فلو كانوا يعقلون ما حصل بينهم هذا التفرق فإن اجتماعهم هو الشرط الأساس للنصر، والله يقول: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46] هذه الفاء تدل على التعقيب المباشر، وتدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فهي تدل على التعليل، فالتنازع يكون سببًا للفشل، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، بقدر ما عندنا من التنازع يحصل الفشل.

والذين يتنازعون وهم يواجهون الأعداء سواء كانوا في ميدان المعركة الحربية أو في ميدان المعركة الفكرية أو السياسية هؤلاء قوم لا يعقلون، هؤلاء يتربصون بهم الدوائر ثم بعد ذلك يقع هذا التفرق الشديد والتراشق على الفضائيات، ويعلنون هذا الانقسام وهذه الخلافات يسمعها القريب والبعيد والعدو والصديق، هذا خلاف العقل.

وقل مثل ذلك إذا كان في ميدان المعركة، وهذا أخطر، يواجهون عدوًا غاشمًا لا يرقب فيهم إلًّا ولا ذمة ومع ذلك يواجهونه وهم في غاية التفرق، هذا قطعًا خلاف مراد الله -تبارك وتعالى، لاسيما أنهم لا يختلفون على مبدأ، لا يختلفون على دين، ولكن كيانات، هذا يقول: نحن، وهذا يقول: نحن -نحن هنا مفخمة من أنا، أعظم وأكبر من أنا، وهذا يقول: نحن، ولا أحد يريد أن يتنازل عن نحن هذه.

ولو كان المبدأ على طريقة شيخ الإسلام ما منِّي شيء ولا لي شيء كانت انتهت كل هذه الأوهام واضمحلت كل تلك الأسماء، واجتمع الناس على الحق، وقالوا: المقصود هو نصر الدين، وإعزاز كلمة الله فليكن ذلك ولا نُذكَر، ولا يكون لنا شيء، فنحن نريد ما عند الله -تبارك وتعالى، هذا هو الصحيح.

لكن هذا التفرق هو من قلة العقل، يواجهون مصيرًا حتميًّا، يعني إما وجود وإما تلف، وأعداء كثر أنواع، ومع ذلك هذا التفرق في حال الشدة فهم في الرخاء أكثر تفرقًا، ولو لم يكن ربنا -تبارك وتعالى- أمر بالاجتماع وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا [سورة آل عمران:103] -وهذا من المحكمات، والنصوص الواردة فيه كثيرة جدًا، وهي متكررة ومتنوعة- لكان العقل يقضي بالاجتماع، لو لم يرد فيه نص واحد، فكيف بهذه النصوص المتضافرة؟!

ولهذا بعضهم يقول: لا توجد أمة عندها من النصوص التي تدعو إلى اجتماع الكلمة كهذه الأمة، وفي الوقت نفسه حالهم تدل على خلاف ذلك تمامًا، كأن هؤلاء قد جاءت هذه النصوص تأمرهم بالتفرق، لا توجد أمة عندها ما يدعو للاجتماع كهذه الأمة، وفي المقابل هم من أكثر الناس تفرقًا وتشرذمًا وانقسامًا -والله المستعان.

ولهذا قال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي: تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف.

قال إبراهيم النخعي: يعني: أهل الكتاب والمنافقين، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ، ثم قال تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وقال ابن عباس: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني يهود بني قينقاع، وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق.

قول الله -تبارك وتعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني مثل هؤلاء المنافقين ومن تحالفوا معهم من اليهود كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا هنا قيده بقريب، يعني ما يمكن أن نقول: الأمم السابقة التي أهلكت، وإنما هذا في وقت قريب؛ ولهذا قال: حمله بعضهم على بني قينقاع، قال: مصير هؤلاء مثل أولئك اليهود الذين حصل لهم عن وقت قريب ما خُذلوا معه، وأجلاهم النبي ﷺ كما يقوله ابن عباس .

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا بعضهم يقول: بنو النضير بعد قريظة، لكن كانت وقعة قريظة بعد النضير، في حصار النبي ﷺ للنضير انتقل منه إلى قريظة فصالحوه قبل المرة الثانية التي حصل فيها القتل لهم، يعني النبي ﷺ حاصر النضير ثم انسحب بالجيش إلى قريظة فصالحوه فرجع إلى النضير، كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ لكن قريظة في هذه الأثناء ما ذاقوا وبال أمرهم، يعني ماذا حصل لهم؟ حصلت مصالحة، لم يحصل إخراج ولا قتل، وإنما حصل القتل بعد ذلك في السنة الخامسة للهجرة، وبعضهم حمله على بدر، يعني على ما وقع للمشركين في يوم بدر، ونحن عرفنا أن وقعة النضير كانت بعد غزوة بدر، فهذا أمر قريب، وبعضهم يقول: هذا عام في كل من انتقم الله منه، وهذا لا بأس به مع اعتبار التقييد "قريبًا" فليس لكل من انتقم الله منه ولو منذ زمان بعيد، وإنما منذ وقت وعهد قريب، وابن جرير -رحمه الله- رجح شمولها للفئتين، والله تعالى أعلم.

قال مجاهد، والسدى، ومقاتل بن حيان: يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر.

وقال ابن عباس: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني: يهود بني قينقاع، وكذا قال قتادة، ومحمد ابن إسحاق.

وهذا القول أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله ﷺ قد أجلاهم قبل هذا.

هو يشمل هؤلاء اليهود من بني قينقاع وكذلك ما وقع للمشركين في يوم بدر فهي شاملة للفئتين، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، والله أعلم؛ لأن الله لم يحدد طائفة فلهم عبرة بما وقع عن قريب، فقد شاهدوه.

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ "وبال" هذه كلمة واحدة والواو من بنية الكلمة ليست حرف عطف، ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ يعني جزاء كفرهم، عاقبة كفرهم، يعني نالهم عذاب الله وعقابه على هذا الكفر، وأصل الوبال هو المرعى الوخيم الذي تهش له الدواب، وتستلذ ذلك ثم يقتلها، والمرعى الوخيم يقال له: "وبيل" مرعى وبيل، ويقال: هذا كلأ وبيل، أي وخيم تهش له الدابة لجودته، لجماله، لخضرته، ولكنه يقتلها فيه نباتات سامة قاتلة، يقال: هذا كلأ وبيل، مرعى وبيل، ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ هذا أخضر حلو تطرب له الدواب ولكن النهاية أنه يحبطها ويقتلها، فشبه هؤلاء في إقدامهم على المسلمين وتحالفهم ضدهم بهذه الدواب والبهائم التي ترتع في مرعى تطرب لرؤيته ولكن نهايتها وحتفها في هذا المرعى، فهنا كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ عاقبة تدبيرهم وفعلهم وكفرهم، ولهذا يمكن أن يقال: ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ يعني عاقبة ما دبروه، وأمرهم هو شأنهم.

وقوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين، وقول المنافقين لهم: وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ثم لما حقت الحقائق، وجدّ بهم الحصار والقتال تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان -والعياذ بالله- الكفر، فإذا دخل فيما سول له تبرأ منه وتنصل، وقال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

هنا أكثر السلف خصوا ذلك بإنسان معين، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ يعني باعتبار أن "ال" عهدية، "للإنسان" أي لإنسان معين معهود، وبعضهم كمجاهد يقول: إنها عامة، يعني أن ذلك شأن الشيطان يغري الإنسان بالكفر، ومحادة الله -تبارك وتعالى- ثم يتنصل ويتبرأ منه، كما قال الله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ [سورة إبراهيم:22] فيتبرأ منهم.

وهكذا في يوم بدر كان معهم ولما رأى الملائكة قال: إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ [سورة الأنفال:48] فسلمهم إلى مصيرهم المحتوم، فقُتل سراتهم، ومن نجا من القتل أسر، وهذا هو الراجح، لكن على القول الأول والذي يقوله أكثر السلف هو مبناه على رواية إسرائيلية، لكن لكثرة القائلين بها لا بأس أن يذكر من باب الاعتبار.

وخلاصة هذه الرواية أن نفرًا من اليهود أربعة أخوة اكتتبوا في غزوة، وكانت عندهم أخت فتفكروا ونظروا أين يضعونها حينما ينطلقون للغزو، فأتوا راهبًا في صومعته وقالوا له: اكتتبنا في غزوة ونريد أن نضع أختنا عندك حتى نرجع، بحيث يأمنون عليها، فأبى، فقالوا له: نبني لها صومعة قريبة من صومعتك بحيث تكون تحت نظرك وملاحظتك إذا احتاجت أو نابها شيء، فقال: شأنكم، المهم لا تأتي عندي، فبنوا لها صومعة وكانوا إذا ذهبوا للغزو يطيلون لربما جلسوا سنة وأكثر، وخرجوا، فكان هذا الراهب يضع الطعام خارج باب الصومعة ويغلق الباب، وتأتي هي وتأخذ الطعام وتنصرف إلى صومعتها.

فجاءه الشيطان فقال له: هذه امرأة وضعيفة وأمانة وعورة وأنت رجل، فلماذا هي التي تخرج من صومعتها وتأتي إلى باب صومعتك من أجل أن تأخذ الطعام؟ لماذا لا تضع أنت الطعام عند باب صومعتها بحيث لا تضطر إلى الخروج، -لاحظ خطوات الشيطان- فصار يضع الطعام عند باب صومعتها ثم ينصرف، فتفتح الباب وتأخذ الطعام.

ثم جاءه الشيطان، وقال له: هذه جارية ضعيفة تستوحش من الوحدة في هذه المدة الطويلة ولابدّ لها من مؤانسة، وهي لا تصبر كما تصبر أنت، أنت معتاد على هذا ورجل، وهذه في مكان بعيد عن الناس وخالٍ وتستوحش، لا تجد من يكلمها هذه المدة الطويلة، فلو جلست خارج الباب تسمع صوتك وتأنس بك تحدثها، يعني يحدث عليها، فصار يجلس خارج الباب خارج الصومعة ويحدثها وهي تسمع، -إلى هنا الآن لا إشكال.

ثم جاءه الشيطان وقال: لو أنك دخلت داخل الصومعة حتى تراك وتأنس برؤيتك، هي تسمع فقط صوتًا لكن ما ترى أحدًا، فصار يدخل ويحدثها وهو في الصومعة، لاحظ انتقل من كونه يضع الطعام خارج باب صومعته إلى أن صار يدخل في صومعتها، ثم بعد ذلك أغراه الشيطان فوقع بها فحملت ثم قتلها، تخلص منها ودفنها، فجاء إخوتها أين الأمانة؟ فأثنى عليها خيرًا، وقال: رحمها الله أصابها مرض ثم توفيت، فدعوا له وشكروه وانصرفوا، لا يشكون فيه.

فأصبحوا ذات يوم متغيرة نفوسهم، فقال أحدهم: لقد رأيت الليلة شيئًا لا أدري ما هو -يعني رأى رؤيا، ماذا رأيت؟ والثاني يقول: أنا رأيت رؤيا، والثالث والرابع الأربعة كلهم رأوا رؤى، ماذا رأيت؟ فإذا الرؤى متفقة أن الراهب كذب عليهم، وأنه زنا بها، وأنها حملت، وأنه قتلها، وأن المكان الذي أوقفهم عليه على أنه قبر لها ليس قبرها، وقالوا: والله ما هذا إلا لشيء، يعني ما يمكن أن تتفق الرؤى.

ثم ذهبوا إلى الملك الذي كان في ذلك العصر وأتوا إلى الراهب وأخذوه ثم بعد ذلك اعترف وأراهم قبرها، وأنه قتلها إلى آخره، فجاءه الشيطان وقال: أنا صاحبك، هذا لا يرجع إليك، يعني هذا الضرر ما يرجع إليك وحدك، هذا يرجع إلى الرهبان وإلى الدين وثقة الناس بالدين وتشويه سمعة رجال الدين، فأخلصك من ذلك كله بسجدة، تسجد لي سجدة وأخلصك من هذا، فهو نظر -في زعمه- إلى المصلحة العامة، ومصلحة الدين، وثقة الناس بالدين، فيقولون: إنه سجد فكان ذهاب نفسه وخاتمته بهذه السجدة، فمات -نسأل الله العافية- بسجدة للشيطان بعدما كان راهباً عابداً.

فهذه من خطوات الشيطان، هذه فيها عبرة، والنبي ﷺ قال: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[1]، وأكثر السلف يذكرون هذه في هذا المقام عند تفسير هذه الآية، وهي مروية عن جمع من الصحابة فمن بعدهم ولا تخلو من عبرة، وهذا مروي عن علي وابن مسعود وابن عباس فضلًا عن بعض التابعين كطاوس وغيرهم، والله المستعان.

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ جزاء كل ظالم، بعضهم يقول: مثل هؤلاء في تسببهم لأنفسهم بعذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر ثم يتركه ويتبرأ منه، فلا ينتفع أحدهما بصاحبه، ويقعان معًا في النار، يعني هؤلاء أغرى بعضهم بعضاً، وتحالف بعضهم مع بعض: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ، ممكن أن يكون في المصير الذي لاقوه في الدنيا وما سيلاقونه في الآخرة، فإن هؤلاء المنافقين قالوا لهم: اثبتوا ولا تستسلموا وحصنوا دياركم وسننصركم، لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ إلى آخره، ثم بعد ذلك خذلوهم كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ أغروهم بالمواجهة، أو بعدم التسليم للنبي ﷺ ثم تخلوا عنهم كما يفعل الشيطان بأوليائه.

وقوله تعالى: فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا أي: فكان عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له ومصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها، وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ أي: جزاء كل ظالم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۝ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۝ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [سورة الحشر:18-20].

روى الإمام أحمد عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار -أو العَباء- متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله ﷺ لما رأى بهم من الفاقة، قال: فدخل ثم خرج فأمر بلالًا فأذن وأقام الصلاة فصلى ثم خطب، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة النساء:1] إلى آخر الآية.

وقرأ الآية التي في الحشر: وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بُره من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله ﷺ يتهلل وجهه كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله ﷺ: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء[2]. انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبة.

فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أمرٌ بتقواه وهي تشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر.

وقوله تعالى: وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، وَاتَّقُوا اللَّهَ تأكيد ثان، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي: اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير.  

الله -تبارك وتعالى- لما ذكر حال المنافقين وجه الخطاب لأهل الإيمان بتقواه وبمحاسبة النفوس وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، ونهاهم عن الغفلة وما يورث الغفلة، وما تؤثره الغفلة، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ، اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ فإن العبد إذا كان متقيًا لله -تبارك وتعالى- فإن ذلك يقوده إلى الاستجابة لأمر الله ، وكذلك فإنه يحاسب نفسه، فإن التقي يحاسب نفسه ولا يكون غافلًا بحال من الأحوال.

وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ يعني كل نفس، وجاءت النفس منكرة، وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ بعضهم يقول: نكرت هنا لبيان أن الأنفس الناظرة في معادها قليلة، كأنه قال: ولتنظر نفس واحدة، وأين تلك النفس؟ هكذا قال بعض المفسرين.

ويمكن أن يقال بأن ذلك بمعنى أنه يقع على النفوس كل نفس على حدة، يعني كل أحد ينظر في حاله، وفي عمله، وما يصير إليه، وهنا وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ و"غد" هنا جاء منكراً أيضًا، وهذا قد يشعر بالتعظيم، ذلك اليوم الذي لا تعرفه النفس أو لا تعرف نفس كنه عظمته وأهواله، كما قال الله وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً [سورة البقرة:123] اتقوا أوجال يوم، أهوال يوم، والغد الأصل أنه اليوم الذي يعقب يومك، بينك وبينه ليلة، هذا هو الغد، ويطلق ذلك ويراد به ما هو مستقبل، ويقال له: غد باعتبار القرب، فكل ما هو آت قريب، وكذلك يمكن أن يقال باعتبار قصر الدنيا، وهما معنيان متلازمان، وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ويوم القيامة يوم قريب، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ۝ وَنَرَاهُ قَرِيبًا [سورة المعارج:6، 7]، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55].

ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: هذا للتوكيد، ويمكن أن يقال: إنه ليس لمجرد التوكيد وإن التأسيس مقدم على التوكيد، يقول لهم: اتَّقُوا اللَّهَ أمر عام بالتقوى وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ، أي أن المعنى اتقوا الله في محاسبتكم أيضًا هذه لأنفسكم، فإن الإنسان قد يحاسب نفسه ولا يتقي الله في ذلك كمن ينظر إلى من هو دونه في المطالب العالية وأمور الآخرة، فيقول: أنا أفضل من غيري، أنا أحسن من غيري أنا أصلي في المسجد، لكنه لا يأتي إلا في آخر الصلاة، يقول: أنا أصلي في المسجد وغيري لا يصلي في المسجد، والذي لا يصلي في المسجد يقول: أنا أحسن من غيري أصلي في الوقت وغيري لا يصليها إلا إذا خرج الوقت، والذي يصلي خارج الوقت يقول: أنا أحسن من غيري، غيري لا يصلي، كثير من الناس لا يصلون أصلًا، والذي لا يصلي إلا الجمعة يقول: أنا أفضل من غيري، أنا أصلي الجمعة، هنا من لا يعرف لا الجمعة ولا الجماعة، وهكذا حتى يصل إلى الدرك الأسفل من النار، وهو يقول: أنا أحسن من غيري؛ لأنه سيجد تحته في دركات جهنم من هو دونه، فهو لا يزال يقول: أنا أحسن من غيري، أنا أفضل من غيري.

فكثير من الناس لا يتذكر، وليس له قلب يتفكر به، ويحاسب نفسه وينتفع ويتعظ ويعتبر، لكن من الناس من إذا ذُكر تذكر، ومنهم من لا يتذكر بل يكابر، إما إنه يأبى النصيحة من أصلها يقول: هذا شأني، أو أنه يسمع النصيحة ولكنه يكابر ويجادل ويقول: أنا لست كما تقولون، لست كما تظنون، فهو يرى أنه مكمَّل ليس بحاجة إلى تكميل، وأنه على حال مرضية، وهو في غاية التقصير، وإذا دُعي له بالهداية قيل: هداك الله غضب، ويرى أنه قد حصّل أكمل الهدايات ليس بحاجة إلى هداية، ولا أن يُدعى له بالهداية، هذا سفه.

وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ بهذه المحاسبة، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، فمهما كابر الإنسان ومهما حاول أن يظهر نفسه بصورة على غير حقيقته فالله -تبارك وتعالى- خبير يعلم الخفايا والخبايا، وذلك لا ينطلي عليه وإن خفي ذلك على الناس، وإن كابر الإنسان أو ادعى لنفسه ما ليس فيه من الأعمال، وقال: أنا أصلي، أنا ما تفوتني الصلاة، أنا محافظ على الصلاة، أنا الحمد لله حتى صلاة الفجر أصليها مع الجماعة في المسجد، بمجرد ما يؤذن المؤذن أخرج، والناس لا يرونه أبدًا هو حلس داره، مثل هذا ينبغي أن يوقن أن الله خبير بالإنسان، وحاله وعمله، والناس لا يغنون عنه شيئًا، وعليه أن يراقب الله -تبارك وتعالى، وأن يحاسب نفسه محاسبة صحيحة، والله المستعان.

وقوله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أي: لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم، فإن الجزاء من جنس العمل.

النسيان هنا المقصود به الترك، ليس المقصود به الذهول عن المعلوم، وإنما وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ يعني تركوا الإيمان، تركوا طاعة الله -تبارك وتعالى- فكانت النتيجة فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ الفاء تدل على التعليل وترتيب ما بعدها على ما قبلها، هذه يسمونها دلالة الإيماء والتنبيه: أن يُقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكن ذلك معيبًا عند العقلاء، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ يعني أن من نسي الله من ترك الإيمان أو ترك طاعته النتيجة ما هي؟ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.

يعني بقدر ما يغفل العبد عن طاعة الله ويترك أمر الله فإن الله ينسيه نفسه، فإذا أنسى الله العبد نفسه فلا تسأل عن حاله، إذا أنساه نفسه صار شغله وكده وكدحه وعمله وقيامه وقعوده فيما يضره، ويحمل على نفسه الأوزار، ولربما يجد لذلك متعة ولذة فينفق الأموال ليحجز له مقعدًا في النار، جهود متواصلة حثيثة كدح إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [سورة الإنشقاق:6] لكن هذا الكدح في ماذا؟

يكدح من أجل أن يحصّل مقعدًا من النار، فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ لا يفكر ولا يحاسب نفسه بعد ذلك، ولا ينظر في عمله ولا يفيق من غفلته، فهو في غفلة دائمة مستمرة حتى يوافي ربه -تبارك وتعالى- فيقدم على الآخرة إقدام المفاليس ليس له بضاعة ولا عمل يسعف، هكذا إذا كان الإنسان في حال من الغفلة عن ربه -تبارك وتعالى- نسي الله ترك طاعته فينسيه نفسه، تقول: هذا ما يفكر؟ هذا ما يؤمن بالآخرة؟ هذا ما يعرف أنه في حساب؟ كيف يأخذ هذه الأموال؟ كيف يفعل هذه الأفاعيل؟ كيف يقارف هذه الجرائم؟ كأنه لا توجد آخرة، وكأن الله لا يراه! ما هذه القلوب؟ ما هؤلاء الناس؟ كيف يفكرون؟ كيف يعيشون؟!

هي هكذا نسوا الله فأنساهم أنفسهم فتجد هذا الإنسان سادرًا في غيه، لا يفكر في حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار، كما يقول بعضهم: إذا وقعنا في حفرته يفعل فينا قدرته، -نسأل الله العافية، هذه قالها رجل حينما نُصح وذكر بالله يتعاطى أمورًا محرمة من مخدرات ونحوها فناصحه الذي يبيع له عندما رآه موغلًا في ذلك، قال له: يا فلان ترى هذا لا يصح، ولا يجوز، فقال: إذا وقعنا في حفرته يفعل فينا قدرته، حكى لي هذا من سمعه، هذا ممن نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ.

وصورة هؤلاء أصحاب المخدرات -نسأل الله العافية- هي من أجلى الصور، طبعًا الكفار لا تسأل عن حالهم، هؤلاء في عالم يذهبون كل يوم إلى أعمالهم يغدون، وفي كد ونكد في هذا العيش، -نسأل الله العافية، والوحشة والكآبة تملأ قلوبهم، قلوب مظلومة يعيشون للدنيا فقط، ويحصل لهم من الألم بسببها والهم بتحصيلها وجمعها ما الله به عليم، وهم آخر من يفكرون في الآخرة، تلقي عليهم محاضرة طويلة عن الإيمان بالله ثم في النهاية يقول لك بعبارة قصيرة: ولكني لا أعرف، لا أؤمن إلا بالدولار فقط، مثل هذا ليس فيه حيلة.

فهذا الآخر صاحب البلاء هذه الأدواء من المخدرات ونحوها تجده -نسأل الله العافية- لا يلوي على شيء، لا أهل ولا عرض ولا دين ولا ذمة ولا عهد ولا شيء، يمكن أن يقدم بنته إن كان عنده بنت من أجل أن يحصّل حبة واحدة، ويقع هو عليها أيضًا ويقتل، والقتل أسهل شيء عنده، فليس عنده شيء يخسره ولا يخاف عليه، ولا يبالي، ليس عنده شرف ولا دين ولا خلق ولا مروءة، في غاية الانحطاط، نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ في غي، سكرة، تنصح، تذكِّر، تعظ:

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي

كأنك تكلم صخرة، تكلم جلمودًا، وتظن أنه يسمع، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [سورة الاعراف:179]، وينظر إليك ولكنه لا يبصر الحق أصلًا، ويسمع بأذنه سماع البهيمة، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ [سورة البقرة:171]، لا يعقل ولا يدرك ولا يفهم كالذي ينعق -ينادي، يصوت- بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، هو يسمع صوتًا فقط لكن ماذا يقول؟ لا يفقه.

وهنا وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الخارجون عن طاعته -تبارك وتعالى، هكذا تكون الغفلة مستحكمة إذا كان العبد معرضًا عن ربه، وعن طاعته؛ ولهذا القضايا هذه متلازمة اعمل بطاعة الله فالإيمان قول وعمل، وجاهد النفس فإن هذه هي الحياة، وبها تحصل اليقظة، فإذا وقع الذنب من العبد تألم وحزن، وبدأت النفس اللوامة لماذا تفعل هذا الفعل؟ فيبادر بالتوبة إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201].

والمجموعة الثانية من إخوان الشيطان وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202]، لا يرجع ولا يتوب ولا يرعوي، -والله المستعان، فهذه أمور يحتاج العبد أنه يعمل بطاعة الله، هذا من الإيمان بحيث يكون قلبه حيًّا وإيمانه نابضًا، فإذا وقع منه الذنب بادر إلى التوبة، أما إذا ترك فإن هذا يورثه غفلة متراكمة متراكبة متتابعة، الذنب على الذنب على الذنب يورث هذه الغفلة كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين:14] ثم بعد ذلك ما لجُرحٍ بميتٍ إيلام، انتهى، قلب مثخن بالجراح، فلمّا يجيء جرح زائد عليه!، لكن القلب السليم لو جاء خدش، وهذا الخدش يعني كما لو وقع في عينه أو في عدسة العين، -والله المستعان.

ولهذا قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي: الخارجون عن طاعة الله الهالكون يوم القيامة الخاسرون يوم معادهم كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة المنافقون:9].

هذا هو الفسق الأكبر، ولذلك في قوله: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات:6] في مفهوم الموافقة الأولية يقول الأصوليون دائمًا هذا المثال: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ إن جاءكم كافر فهذا من باب أولى، فيقال: هذا ليس بلازم، هذا المثال فيه نظر على شهرته عند الأصوليين؛ لأن الفاسق يطلق ويراد به أيضًا الكافر، فلا يُحمل على العاصي ثم يقال: الكافر من باب أولى.

وقوله تعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أي: لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم القيامة.

هو ليس فقط يوم القيامة، نعم يوم القيامة بلا شك، ولكن نفي الاستواء يحمل على أعم معانيه، لا يستوون في شيء، لا يستوون في أعمالهم، لا يستوون في حالهم، لا يستوون في نعيمهم في الدنيا، لا يستوون في حالهم ونعيمهم في البرزخ، ولا يستوون في المحشر، فهؤلاء يأتون في حال من الأمن، وأولئك يأتون في حال من الخوف الشديد، ولا يستوون في منازلهم في الجنة والنار، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ وكلمة أصحاب هنا -كما سبق- تدل على الخلود والملازمة، أصحاب النار وأصحاب الجنة.

كما قال تعالى: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [سورة الجاثية:21]، وقال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ [سورة غافر:58].

وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [سورة ص:28] في آيات أُخَر دالات على أن الله تعالى يكرم الأبرار ويهين الفجار، ولهذا قال الله تعالى هاهنا: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ أي: الناجون السالمون من عذاب الله .

هذه الآية: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ استدل بها أصحاب الشافعي -رحمه الله- على أن المؤمن لا يقتل بالكافر قصاصًا؛ لأنهم لا يستوون، لا يكافئه، والعلماء يتكلمون على مسائل مثل: لماذا بدأ بأصحاب النار لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ؟ فيذكرون بعض المعاني قد يكون بعضها صحيحًا وقد يكون بعضها متكلفًا، راجع مثلًا تفسير القاسمي تكلم على هذه الجزئية، لماذا قدم هذا على هذا؟

لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۝ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الحشر:21-24].

يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن ومبينًا علو قدرته وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه بما فيه من الوعد الحق والوعيد الحق.

يعني المناسبة أن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر أهل الجنة وأهل النار وبين عدم التساوي بين هؤلاء وهؤلاء في شيء من الأشياء ذكر تعظيم كتابه، وأخبر عن جلالته، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب، وترق له الأفئدة.

لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله فكيف يليق بكم يا أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه؟؛ ولهذا قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ .

وقد ثبت في الصحيح المتواتر أن رسول الله ﷺ لما عُمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد فلما وضع المنبر أول ما وضع وجاء النبي ﷺ ليخطب فجاوزَ الجذعَ إلى نحو المنبر، فعند ذلك حن الجذع، وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكن لِمَا كان يسمع من الذكر والوحي عنده، ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده: فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله ﷺ من الجذع، وهكذا هذه الآية الكريمة إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟

وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى [سورة الرعد:31] الآية، وقد تقدم أن معنى ذلك أي: لكان هذا القرآن، وقد قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ [سورة البقرة:74].

يعني إذا كانت الأحجار والجبال الصم التي في غاية الصلابة والغلظة لو نزل عليها هذا القرآن لتصدعت، والقلوب تصل في حالة قساوتها إلى حال أشد من الحجارة، فهذا لا شك فيه أعظم العبرة في بيان أحوال هذا القلب وضرورة العناية به، وإزالة العلائق التي تورثه مثل هذه الحال.

وبعض أهل العلم يقول في قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74] لماذا لم يقل كالحديد مثلًا أو النحاس بما هو في بادئ الرأي أقسى من الحجارة وأشد وأقوى؟ فبعض أهل العلم يقول: إن الحديد إذا عرض في النار ذاب وانصهر، أما الحجارة فإذا أحرقت في النار فإنها لا تنصهر، فهكذا القلوب القاسية تكون بهذه المثابة كالأحجار.

ثم قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

هنا كيف يُترك هذا المعبود الذي له هذه الأسماء والصفات؟ تُترك عبادته وطاعته والخشوع لذاته وهو بهذه العظمة؟!، أولئك أهل النفاق ما عرفوا الله -تبارك وتعالى- فتعاظم المخلوق في أنفسهم فصارت رهبته في قلوبهم أعظم من رهبتهم من الله ؛ لأنهم لا يفقهون، فهنا الله -تبارك وتعالى- يذكر أسماءه وصفاته ويختم هذه السورة بهذه الأسماء الحسنى.

أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما عبد من دونه فباطل، وأنه عالم الغيب والشهادة، أي: يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير حتى الذر في الظلمات، وقوله تعالى: هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير بما أغنى عن إعادته هاهنا، والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها، وقد قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [سورة الأعراف:156]، وقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:54]، وقال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58].

ذكرنا هناك في أول التفسير في الفرق بين الرحمن والرحيم قلنا: الفرق من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، فكان مما ذكر أن الرحمن على وزن فَعْلان، وأن الرحيم على وزن فَعِيل صيغة مبالغة، وذكرنا كلام ابن جرير أن الرحمن على وزن فعلان عُدل به عن زنة نظائره، يعني رَحِمَ يرحم فهو رحيم، أكرم يكرم فهو كريم، فهنا رَحِمَ يرحم فهو رحمن، فعل يفعل فهو فعيل، هنا فعل يفعل فهو فعلان، عُدل به عن وزن نظائره، الصيغة.

يقول: وهذا يكون في ما كان، ويكون أبلغ في الوصف وأعظم، هذا من حيث الصيغة، وهي تدل على الامتلاء، تقول: عطشان، شبعان، غضبان، زعلان، تدل على الامتلاء صيغة فعلان.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر في الفرق بين الرحمن والرحيم من جهة المعنى معنى حسنًا لعله من أحسن ما قيل على كثرة الأقوال في الفرق بينهما، فهو يرى أن الرحمن يتضمن صفة الرحمة، فهو فيما يعود إلى الله من هذه الصفة، ما يعود إلى الله من صفته، يعني وصف الله بالرحمة، ما يعود إلى الله من هذه الصفة يدل عليها الرحمن، والرحيم يدل على صفة الرحمة يتضمنها وهو دال على القدر المتعدي من هذه الصفة إلى المخلوقين.

رحمن هذا يعود إلى الله، اتصافه بالرحمة، رحيم رحمته تتعدى إلى المخلوقين، القدر المتعدي، هذا ذكره ابن القيم -رحمه الله- وقيل غير هذا.

ثم قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.

المُلْك هو التصرف المطلق، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يتصرف في هذا الكون، في هذا الخلق ويدبر أموره، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [سورة الأنبياء:23].

وقوله تعالى: الْقُدُّوسُ قال وهب بن منبه: أي: الطاهر، وقال مجاهد وقتادة: أي: المبارك، وقال ابن جرير: تقدسه الملائكة الكرام.

فسر بهذا، وهذا الطاهر من كل عيب، أو المنزه عن كل نقص، أو المبارك قدوس تقول: هذا مكان مقدس، والتقديس يدل على معنى التطهير -والله أعلم- مع التعظيم، تطهير مع تعظيم، التطهير بمعنى التنزيه وزيادة مع التعظيم.

السَّلَامُ أي: من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.

فالقدوس مع السلام متقاربان؛ ولهذا تجد العلماء -رحمهم الله- يحاولون أن يفسروا هذا بتفسير وهذا بتفسير؛ بحيث يكون هذا له معنى وهذا له معنى، فالسلام بعضهم يقول: هو السالم من كل عيب ونقص، وهذا قريب من معنى القدوس أي المنزه من كل عيب ونقص، وبعضهم يقول: الذي سَلِم خلقُه أو سلَّم خلقَه من أن يظلمهم، السلام: يسلمون من ظلمه لا يظلم الناس شيئًا، لكن بناء على أن السلام هو السالم من كل عيب ونقص ما الفرق بينه وبين القدوس عند هؤلاء؟

بعضهم يقول: إن السلام والقدوس الفرق بينهما أن القدوس الخالي من كل عيب ونقص، والمنزه من العيوب والنقائص في الماضي والحاضر، هذا القدوس، والسلام: السالم من كل عيب ونقص في المستقبل، ففرقوا من جهة الزمان، يعني ما قالوا: هما بمعنى واحد من كل وجه، قالوا: أصل المعنى واحد السلامة من الآفات والنقائص لكن الفرق من جهة الزمان.

وقوله تعالى: الْمُؤْمِنُ قال الضحاك عن ابن عباس: أي: أمَّن خلقَه من أن يظلمهم، وقال قتادة: أمَّن بقوله: إِنَّهُ لَحَقٌّ [سورة يونس:53] وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به.

قوله: الْمُؤْمِنُ هذا الاسم هذه المادة أصلها تدل على معنيين: تدل على معنى الأمن، وتدل على معنى التصديق، ومن ثمّ تنوعت عبارات أهل العلم في تفسير هذا الاسم الكريم، فبعضهم يقول: إن المؤمن هو الذي يؤمِّن خلقه من أن يظلمهم، لاحظ هنا ذهبوا إلى معنى الأمن.

ومن نظر إلى معنى التصديق قال: المصدق لرسله -عليهم الصلاة والسلام- بإظهار المعجزات على أيديهم، هم يقولون: نحن رسل من عند الله، ما البرهان؟ فيصدقهم بخرق العادات، وإظهار المعجزات على أيديهم، وهو مصدق للمؤمنين أيضًا بما وعدهم من الثواب، وعدهم بالجنة، وعدهم بالنصر في الدنيا، وكذلك الكافرين وعدهم بالعقاب، أو بإنزال السكينة على أهل الإيمان، وكذلك من فزع الآخرة، يؤمنهم من فزع الآخرة.

فالمؤمن يشمل هذا وهذا، ففيه معنى الأمن وفيه معنى التصديق، الْمُؤْمِنُ فالله -تبارك وتعالى- يؤمِّن عباده من أن يظلمهم، وهو الذي ينزل السكينة على المؤمنين ويربط على قلوبهم، ويؤمنهم من المخاوف في الدنيا والآخرة، وكذلك أيضًا هو الذي يصدق رسله بإظهار المعجزات، وهو الذي صدق عباده فيما وعدهم من الجزاء والثواب، أو العقاب الذي وعدهم إياه.

وقوله تعالى: الْمُهَيْمِنُ قال ابن عباس وغير واحد: أي: الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى هو رقيب عليهم، كقوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة المجادلة:6]، وقوله: ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [سورة يونس:46]، وقوله: أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الرعد:33] الآية.

وبعضهم فسر المهيمن بمعنى الأمين، وبعضهم فسره بالمصدق، لكن لو قيل: إن المهيمن هو القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم وهم تحت قدرته وتصرفه وتدبيره ونواصيهم في يده كل هذا، فالهيمنة تدل على معنى التمكن من الشيء والقدرة عليه، ويكون حاكمًا عليه تحت قهره وتصرفه وتدبيره، فالقرآن مهيمن على الكتب السابقة بمعنى أنه حاكم عليها، مصدق لها، ينسخ، يبين ما فيها من تحريف.

وقوله تعالى:الْعَزِيزُ أي: الذي قد عز كل شيء فقهر وغلب الأشياء، فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه؛ ولهذا قال تعالى: الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ أي: الذي لا تليق الجبرية إلا له، ولا التكبر إلا له كما ثبت في الصحيح: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته[3].

الْجَبَّارُ يأتي لعدة معانٍ، فمن معانيه: الجبار هو المصلح أمور خلقه المصرفهم فيما فيه صلاحهم مصلح أمور الخلق، ومنه جبْر الكسير، جبر الضعيف، جبر القلوب المنكسرة، وهذا معنى صحيح من معاني الجبار، تقول: اللهم اجبر كسرنا، اللهم اجبرنا، اللهم اجبر فلانًا، جبركم الله على مصابكم، هذا من معاني الجبار، فالذي يجبر الكسر معناه أنه يصلح الكسر وهذا العضو الذي تطرق إليه الخلل، وبعضهم يفسره بالعظيم، وبعضهم يقول: مِن أجبره أي قهره، بمعنى القهر، فالله -تبارك وتعالى- جبار يقهر الجبابرة والمجرمين والظالمين؛ ولهذا فسر أيضًا بالذي لا تطاق سطوته، ويفسر أيضًا بالشيء العالي، معنى العلو يقال: نخلة جبارة يعني لا تنالها الأيدي من طولها، طويلة جدًا، وابن القيم -رحمه الله- يقول:

وكذلك الجبارُ من أوصافه والجبرُ في أوصافه قسمانِ
جبرُ الضعيف وكل قلبٍ قد غدا ذا كَسْرة فالجبرُ منه دانِ
 والثانِ جبرُ القهر بالعز الذي لا ينبغي لسواه من إنسانِ
وله مسمى ثالثٌ وهو العلو فليس يدنو منه من إنسانِ
من قولهم جبارةٌ للنخلة الـ ـعليا التي فاتت لكل بنانِ

يعني ابن القيم جمع هذه المعاني كلها تحت هذا الاسم الكريم الجبار، المتكبر: أصل الكبرياء الامتناع وقلة الانقياد، ولهذا يفسره بعضهم بالذي يرى الكل حقيرًا بالإضافة إلى ذاته ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه، وفسره بعضهم بالكبير وبالعالي.

وبعضهم يقول: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله كما ذكر ابن كثير -رحمه الله، وذكر حديث: "العظمة إزاري والكبرياء ردائي"، وبعضهم يقول: المتعظم عن كل سوء، ولكن هذا الاسم -المتكبر- يتضمن وصفًا يدل على التعاظم والتعالي والترفع، فكل شيء يُرى دونه حقيرًا وصغيرًا، فهو العظيم الأعظم -تبارك وتعالى.

ثم قال تعالى: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، وقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، الخلق التقدير، والبَرء هو الفري وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدّر شيئًا ورتبه يقدِر على تنفيذه وإيجاده سوى الله .

فرّق بين هذه الأسماء بهذه المعاني باعتبار أن الله جمعها، وعطف بعضها على بعض في هذا الموضع، فالخالق يأتي بمعنى المقدر، ويأتي بمعنى الموجد من العدم، ويأتي بمعنى المصور الذي يعطي هيئة وشكلًا لهذا المخلوق، ولذلك فإن الخلق بمعنى التقدير يفسر به هذا الموضع هنا باعتبار أنه ذكر بعده الْبَارِئُ فهذا أحد معاني الخالق، الخلق بمعنى التقدير، يعني هذا المبنى الآن قبل أن يوجد وُجد تصور له، وُجد مخطط له هذا يسمى تقديرًا، وهذه الطاولة قبل أن يصنعها النجار وَضع تصورًا لها بطولها وعرضها وارتفاعها، فهذا يقال له: تقدير، ويكون قبل الخلق والإيجاد، فيفسر هنا الخالق بالمقدر في هذا الموضع فقط، لكن في المواضع الأخرى الخالق يتضمن المقدر والموجد إلى آخره.

ويأتي الخالق بمعنى المصور والموجد من العدم أيضًا، يعني وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [سورة المائدة:110] فالخلق هنا بمعنى التصوير والتشكيل، وهو أحد معاني الخالق لكن لما ذكر هنا المصور، وذكر البارئ حُمل الخالق على المقدر، والبارئ على الموجد من العدم، والمصور هو الذي يعطي كل مخلوق صورته اللائقة به، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [سورة السجدة:7]، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4]، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [سورة التغابن:3] كل هذا مضى الكلام عليه، والذين يمتهنون التصوير هؤلاء معتدون على هذا الاسم الكريم، والله -تبارك وتعالى- توعدهم، والناس للأسف أسرعوا في ذلك وتساهلوا به كثيرًا.

وقوله تعالى: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ أي: الذي إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون على الصفة التي يريد والصورة التي يختار، كقوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [سورة الإنفطار:8]، ولهذا قال: الْمُصَوِّرُ أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.

وقوله تعالى: لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف ونذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ: إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر[4].

وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الأعراف:180] يعني البالغة في الحسن غايته، والحسنى جمع للأحسن وليست بجمع للحَسن، وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فهي حسنى في ألفاظها لا يوجد فيها لفظ موحش، وهي حسنة في معانيها وما تضمنته من الأوصاف، فهي أسماء متضمنة لأوصاف الكمال.

أسماء المخلوقين قد تكون فيها أسماء غير جيدة في اللفظ، وقد تكون تحمل معانيَ غير جيدة، وقد لا يكون لها معنى أصلًا، والناس أولعوا بالإغراب يبحثون عن أسماء غريبة يَسبقون إليها، وأحيانًا لو سألتهم عن المعنى لا يوجد لها معنى، وأحيانًا يقول: نبتة في الصحراء، وأحيانًا معنى ركيك، وأحيانًا اسم للقرد، أو اسم لأشياء قبيحة، ولكن هم يرون أن هذا الاسم جديد، وأنه غريب وما سُبقوا إليه، الله أسماؤه حسنى ليس فيها شيء من ذلك.

وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى، في ألفاظها وفي معانيها، وتحمل أوصافًا، الإنسان يسمى بأسماء ولا يرجع إليه من هذه الأسماء ما تضمنته معانيها، لا يرجع إليه منها شيء، فهي مجرد أعلام، أما أسماء الله تعالى فهي أعلام وأوصاف تتضمن أوصاف الكمال.

وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [سورة الإسراء:44].

كما قلنا: السورة افتتحت بالتسبيح واختتمت بالتسبيح، وهذا التسبيح حقيقي، يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يؤول ويحمل ذلك على الخضوع أو غير ذلك، وإنما هو تسبيح حقيقي، وكما قال الله : وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فكل شيء يسبح بحمد الله، والنبي ﷺ يقول: إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليّ في مكة[5]، والجذع حنّ لفراق رسول الله ﷺ حينما تركه بعد أن كان يخطب عليه[6]، وكذلك أيضًا تسبيح الطعام[7]، وما أشبه ذلك، يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سورة سبأ:10]، عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [سورة النمل:16]، قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [سورة النمل:18].

وقوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ أي فلا يرام جنابه، الْحَكِيمُ في شرعه وقدره.

آخر تفسير  سورة الحشر، ولله الحمد والمنة.

  1. رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3461).
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (19174)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1017)، وفي كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674)، واللفظ لأحمد.
  3. رواه أبو داود، بلفظ: قال الله : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار، كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، برقم (4090)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر والتواضع، برقم (4175)، وأحمد في المسند، برقم (7382)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (541)، وفي صحيح الجامع، برقم (1908).
  4. رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب لله مائة اسم غير واحد، برقم (6410)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، برقم (2677).
  5. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
  6. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3583).
  7. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3579).

مواد ذات صلة