الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث "لم أتخلف عن رسول الله إلا في غزوة تبوك.." (4-7)
تاريخ النشر: ١٥ / شعبان / ١٤٢٥
التحميل: 3361
مرات الإستماع: 2872

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد جاء في خبر كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك فأمر النبي ﷺ بهجره حتى مضى عليه في ذلك أربعون ليلة، أي: في الهجر، يقول:" واستلبث الوحي -أي تأخر- حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله ﷺ يأتيني فقال: إن رسول الله ﷺ يأمرك أن تعتزل امرأتك".

قد هُجروا أربعين ليلة، وجاءه كتاب من ملك الغساسنة يحرضه على أن يلحق به، ثم يأتيه أيضاً خطاب آخر من رسول الله ﷺ يأمره بأن يعتزل امرأته، فانظروا إلى التسليم التام والانقياد والانضباط الكامل، فقال : "أطلقها أم ماذا أفعل؟" ولم يقل: لماذا هذا كله؟ ولم يقل: التخلف عن عزوة تبوك لا يستحق كل هذا الهجر، بل امتثل لأمر النبي ﷺ: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، ويقول الله : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] فحكمه أنفذ فيهم من حكمهم على أنفسهم، وهو أولى ﷺ من أنفسهم، وهو أولى بهم في قضاء ديونهم إذا ماتوا وليس لهم ما يوفون به، إلى غير ذلك من المعاني.

فالمقصود أن حكم النبي ﷺ ينبغي أن يكون أنفذ من حكم العبد على نفسه، ونحن للأسف الشديد إذا فتشنا في أحوالنا وجدنا تفريطاً كثيراً، ونجد أن الإنسان يتخير ويتشهى ويتردد في بعض الأمور، ويتغافل عنها.

يقول: "فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟، فقال: لا، بل اعتزلها، فلا تقربنها"، فقط نهيٌ عن معاشرتها، يقول: "وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك"، يعني: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.

يقول: "فقلت لامرأتي: الحَقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر"، الحَقي بأهلك هذه من كنايات الطلاق، فالطلاق منه ما هو صريح مثل أنت طالق، ومنه ما هو كناية مثل الحقي بأهلك، والكنايات يُسأل الإنسان عنها بحسب قصده، إن قصد الطلاق فهي طلاق، وإن لم يقصد الطلاق فليست بطلاق، وكعب لم يقصد الطلاق، وإنما يقصد أن تبقى عندهم حتى يحكم الله .

يقول: "فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله ﷺ فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع" أي: أنه لا يستقل بحاجته، فيحتاج إلى من يقوم بشئونه، فهو رجل كبير في السن، "ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟"، فقال النبي ﷺ: لا، ولكن لا يقربنك، فقالت: "إنه والله ما به من حركة إلى شيء"، لا يخطر في باله هذا، "ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا".

يقول: "فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله ﷺ في امرأتك، فقد أذن لامرأة  هلال بن أمية أن تخدمه" جاءوا إلى كعب مرة ثانية، أول شيء قالوا له: اكذب على النبي ﷺ مثلما كذب أهل النفاق ويستغفر لك النبي ﷺ، وجاءوه يوم سمعوا أن هلال بن أمية امرأته أذن النبي ﷺ أن تبقى عنده.

وهنا إشكال: النبي ﷺ نهى عن مكالمتهم، فكيف كلموه، وقالوا هذا الكلام؟

قد يقال: إن النهي كان لعموم الناس، لكن أهله كامرأته وولده غير منهيين، أو أن من يقوم بخدمته غير منهي، أو أن يقال: لعل هؤلاء فهموا أن النهي إنما هو نهي عن المباسطة، وهذا ليس بمباسطة، وإنما فيه توجيه له بشيء يذهب به إلى النبي ﷺ، ويحتمل أن يكون ذلك وقع من بعض ضعفة الإيمان أو المنافقين، فكانوا موجودين في المدينة.

يقول: "فقلت: لا استأذن فيها رسول الله ﷺ وما يدريني ماذا يقول رسول الله ﷺ إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب" وهذا هو الفرق، هلال بن أمية رجل كبير في السن لا يهِمّ بشيء، وهذا رجل شاب، معناها أن الرسول ﷺ قد يمنعه من ذلك؛ لأن المَظِنَّة تُنزَّل منزلة المَئِنَّة، والشيء الذي يغلب وقوعه ينزل منزلة الواقع، فكعب بن مالك فهمها.

ولذلك ينبغي للعاقل أن يدرك ما يأتي وما يذر، قد جاء عن علي : "أن الأحمق هو الذي لا يعرف لا، حتى تقال له: لا، والعاقل يعرف موارد لا قبل أن يردها" فلا يقدم على شيء وهو يعرف أنه سيقال له: لا، هذا العاقل، لكن الذي لا يعقل هو الذي يخبط ويطلب أموراً فوق الإمكان.

وهذا في أمور كثيرة جداً، هذا تجده في التبرعات المالية، وغيره مما يتعاطاه الناس من العقود، ومن المعاملات وغيرها، تجد إنساناً أحياناً يأتي بفكرة أو مشروع يعرف أنه لا أحد يوافقه على ذلك، ومع ذلك يطرح هذه الفكرة، وهو يعلم أنه سيقال له: لا، ما الفائدة؟.

يقول: "فلبثت في ذلك عشر ليالٍ" يعني: زيادة على الأربعين، "فكَمُل لنا خمسون ليلة من حين نُهي عن كلامنا"، كملت الخمسون وهم على هذه الحال.

يقول: "ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى...".

الذي يظهر أن بيته كان بعيدا لا يسمع النداء، وبالتالي لا يجب عليه حضور الجماعة، فصلى في السطح، يقول: "فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ"

جاءه الفرج، ولذلك إذا استحكم الظلام انفلق الصبح، فهما طال الليل وظلمته فإن الذي يعقبه ضياء الصباح، ومهما استحكمت الأمور الضيقة، والأمور الشديدة على الإنسان فإنه يعقب بعد ذلك الفرج، والله يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6].

والنبي ﷺ يقول: لن يغلب عسر يسرين[1]، فينبغي للإنسان أن يحسن ظنه بالله وأن يؤمل خيراً مع إصلاح الحال والعمل والقصد، فهما اشتدت به الأمور وضاقت عليه الأحوال فإن الفرج قريب، ولكن ينطرح بين يدي الله ويتضرع إليه، فيكون حاله أقرب إلى الله -تبارك وتعالى، وإنما ساق الله له الشدة، ليخلصه ويمحصه وينقيه، لا ليكسره، ويرديه، ويهلكه، فإن الله أرحم بعبده من ذلك، ومن لطفه -تبارك وتعالى- أن البلاء على قدر الطاقة، وعلى قدر الإيمان، يبتلى الناس على قدر إيمانهم، فأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل[2]، فإذا كان في دينه صلابة شدد عليه، وإذا كان في دينه رقة خفف عنه، اليوم لو أحد من الناس هُجر مثل هذا الهجر خمسين ليلة، وجاءه خطاب من ملك من ملوك أوروبا، ويقول له: تعال عندنا، ونعطيك، ونكرمك، وتسكن منتجعات، ماذا سيفعل؟

أنا أعرف رجلاً عمره بالخمسين –تقريباً- لا يدخل المسجد أبداً الذي بجوار بيته، والسبب أنه قال له أحد الجيران: ما رأيناك في صلاة الفجر، يقول: يتهمني؟، أنا لا أصلي؟، أنا آتي أصلي من أجله؟ فقاطع المسجد مقاطعة كاملة، كيف هذا لو هُجر؟! نسأل الله العافية.

فأقول: الناس على قدر ما عندهم من إيمان ويقين يبتلون، وهذه حكمة في التربية، فنعامل الناس بحسب قدرتهم، في تربية الزوجة، وتربية الأولاد، في تربية من حولنا، في معاملتهم، من الناس من تكله إلى إيمانه وتشد عليه، وتقسو عليه ويتحمل، ومن الناس من يحتاج إلى مداراة ومراعاة وتكسبه أحياناً بالمال والعطية وما أشبه ذلك، ولذلك النبي ﷺ تعرفون في سبي أوطاس بعد غزوة حنين والطائف، أعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل، وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل، وأعطى معاوية بن أبي سفيان مائة من الإبل، وأعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس مائة من الإبل، وترك الأنصار، الذين نصروا الله ورسوله، فوقع ذلك في نفوس بعضهم، فالنبي ﷺ بين لهم،  وجمعهم، وقال لهم: يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟،  كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله ﷺ؟، قال: كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي ﷺ إلى رحالكم؟، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض[3].

 فالنبي ﷺ وَكَل الأنصار إلى إيمانهم، أعطى الجدد المؤلفة قلوبهم من سادة قريش الذين أسلموا حديثاً يتألفهم، فكان بعضهم ينادي بعضاً، يقول: تعال إن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، بينما الأنصار إيمانهم ثابت فلم يعطهم من هذه العطية فنفوسهم كبيرة.

هذا وأسأل الله أن يلهمنا وإياكم رشدنا، وأن يجعل قلوبنا عامرة بالإيمان والتقى، وأن يصلح أحوالنا جميعاً، وأن يتوب علينا، وأن يعلي منازلنا في الجنة ووالدينا وإخواننا المسلمين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجهاد، الترغيب في الجهاد (2/ 446)، رقم: (961)، والمستدرك،  كتاب التفسير،  تفسير سورة ألم نشرح (2/575)، رقم: (3950)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 205)، رقم: (10010).
  2. أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصبر على البلاء (4/ 601)، رقم: (2398)، والنسائي  في السنن الكبرى، كتاب الطب، أي الناس أشد بلاء (4/ 352)، رقم: (7481)، وأحمد (3/ 78)، رقم: (1481)، وصححه الألباني.
  3. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4/ 1574)، رقم: (4075)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه (2/ 738)، رقم: (1061).

مواد ذات صلة