الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[1] من قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} الآية:1
تاريخ النشر: ٢٩ / شعبان / ١٤٣٤
التحميل: 8727
مرات الإستماع: 16905

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولجميع المستمعين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ۝ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ۝ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ۝ كَلا سَيَعْلَمُونَ ۝ ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ۝ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا ۝ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ۝ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ۝ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ۝ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ۝ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ۝ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ۝ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ۝ وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ۝ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ۝ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [سورة النبأ:1-16].

يقول تعالى منكرًا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارًا لوقوعها: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ۝ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ أي: عن أي شيء يتساءلون من أمر القيامة؟ وهو النبأ العظيم يعني: الخبر الهائل المفظع الباهر.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، التساؤل: عن أي شيء يتساءلون؟ عن أي شيء يسأل بعضهم بعضاً؟ وقد يأتي التساؤل بمعنى التحدث بينهم بالشيء، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ [سورة الصافات:27]، فهذا الموضع أعني قوله: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، "عم" هذه موضوعة لطلب معرفة حقائق الأشياء، عن أي شيء، عن ماذا يتساءلون؟ فكأن المطلوب مجهول فيتساءلون عنه، فجعل الشيء العظيم عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الذي تعجز العقول عن إدراك كنهه بمنزلة المجهول، كأنه مجهول، عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عن أي شيء يتساءل هؤلاء الكفار؟ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر أن هذا التساؤل عن يوم القيامة إنكاراً لوقوعه، يتساءلون هل يقع هذا؟ هل يمكن أن تعاد الأجساد ثانية وتبعث؟ يقول: وهو النبأ العظيم، وهذا أحد القولين المشهورين في معنى الآية، أن التساؤل عن النبأ العظيم، وهو يوم القيامة، والقرينة التي تدل على ذلك هي أن السورة برمتها تتحدث عن يوم القيامة، عن البعث والجزاء والحساب، تتحدث عن أهوال ذلك اليوم وما يقع فيه من الأوجال، وما يكون لأهل الإيمان وللكفار من النعيم أو العذاب.

فموضوع السورة قرينة تُقوي قول من قال: إن النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه هو يوم القيامة، السورة تتحدث عن هذا، والقول الآخر: إنه القرآن، النبأ العظيم هو القرآن، عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ۝ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ۝ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، القرينة التي تقوي هذا القول أن البعث والنشور لا خلاف بينهم في أن ذلك غير واقع، وأنه مستبعد غاية الاستبعاد، فهم ينكرون ذلك، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [سورة ق:3]، فسيقولون: من يعيدنا؟ يقولونه على سبيل الاستبعاد، وقالوا: تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [سورة النازعات:12].

فهذا كله يؤيد أن القول الذي هم مختلفون فيه -أو النبأ العظيم الذي اختلفوا فيه- هو القرآن، وقالوا: سحر، شعر، كهانة، أساطير الأولين، مختلق، أملاه عليه بعض الأعجمين، اختلفت أقاويلهم في القرآن واضطربت، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ۝ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ۝ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [سورة الذاريات:8-10]، فهم يتخرصون، ويطلقون مثل هذه الأوصاف على القرآن، وعلى من جاء بالقرآن ﷺ.

فهنا النبأ العظيم القول بأنه القرآن يؤيده أن الاختلاف واقع في أقوالهم فيه، بخلاف البعث، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، والقول بأنه القرآن قد يشمل القول الذي قبله أنه البعث، باعتبار أن البعث قد جاء تقريره في القرآن في مواضع كثيرة متكرراً، فيكون هذا القول أن المراد القرآن يشمل ويتضمن القول الأول.

لكن يمكن لأصحاب القول الأول الذين قالوا: إنه القيامة والبعث والنشور أن يقولوا: إن الاختلاف الواقع ليس بين هؤلاء المشركين الذين أنكروه وذَكَرَ القرآن إنكارهم، السورة مكية، لكن في طوائف الكفار يوجد من كان يؤمن بالبعث، بل وجد أيضاً في أهل مكة من كان يؤمن بالبعث، مثلاً شعر أمية بن أبي الصلت مليء بذكر البعث وبتقريره، وهذا جاء في عدد من كلامهم في المنثور والمنظوم، كلام أهل الجاهلية، ولكن السمة الغالبة على هؤلاء هو إنكار البعث.

فقد يقال: إن القليل أو النادر لا عبرة به، ومن ثَمّ فهم مطبقون على إنكار البعث بهذا الاعتبار، لكن ليس كل الكفار ينكرون البعث، ليس جميع الكفار، أهل الكتاب مثلاً يثبتونه، لكن لما كانت السورة مكية والخطاب كأنه يتوجه إلى هؤلاء قال من قال إن المقصود: القرآن، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يعني: القرآن، ابن كثير -رحمه الله- حمله هنا كما ترون على القيامة، وبعضهم يعبر بالبعث ولا فرق، كما يقول قتادة وابن زيد: البعث والنشور.

وقول ابن كثير -رحمه الله- هنا بأنه القرآن هو مسبوق إليه، قال به بعض السلف -رضي الله تعالى عنهم، فهو قول مجاهد، واختلافهم كما وصفت، والأول أظهر، أي أنه البعث، والله أعلم.

قال قتادة وابن زيد: النَّبَإِ الْعَظِيمِ: البعث بعد الموت، وقال مجاهد: هو القرآن، والأظهر الأول لقوله: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ.

يعني قوله -تبارك وتعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ۝ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ۝ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، النبأ هو الخبر الذي له خطب وشأن، ومن ثم فهو أخص من مطلق الخبر، الخبر عام ينتظم ما له شأن، وما ليس له شأن، كل ذلك يقال له: خبر، وأما النبأ فلا يقال إلا للخبر الذي له أهمية، ولهذا يقال: جاء نبأ الحرب، جاء نبأ الجيش، ولا يقال: جاء نبأ حمار الحجام؛ لأن حمار الحجاب ليس له شأن، وإنما يقال: خبر حمار الحجام. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ

ثم قال تعالى متوعدًا لمنكري القيامة: كَلا سَيَعْلَمُونَ ۝ ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ وهذا تهديدٌ شديد ووعيد أكيد.

فهذه كَلا للإنكار، ويعبر بعضهم عنها بأنها للردع والزجر، كلا ليس الأمر كما يقولون، ليس كما يتوهمون، ليس كما يدعون، كَلا سَيَعْلَمُونَ ۝ ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ، سيعلمون وعيد الله أعداءه ما هو فاعل بهم، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، أو أنهم يعلمون حقيقة هذا النبأ الذي كذب به من كذب، أو تساءلوا على سبيل الاستبعاد لوقوعه، كلا سيعلمون أنه حق، أنه واقع لا محالة.

ثم شرع -تبارك وتعالى- يُبَيّن قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة، الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره، فقال: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا؟ أي: ممهدة للخلائق ذَلُولا لهم، قارّةً ساكنة ثابتة.

هذا كله مما يقوي أن المراد بذلك البعث والقيامة، فذكر دلائل البعث، دلائل القدرة، ثم ذكر بعد ذلك القيامة، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [سورة النبأ:17]، بعدما ذكر هذه الدلائل، فهذا كله يقوي أن المقصود القيامة، لكن الذي يشكل على هذا: هل وقع بينهم اختلاف في القيامة أو لا؟

قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا أي: ممهدة للخلائق ذلولاً لهم، قارّة ساكنة ثاتبة، كما قال الله : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً [سورة البقرة:22]، والمهاد ما يوضع للصبي، فهي بهذه المثابة يتقلبون عليها، ويتحولون، ويسافرون، وينامون، ويجلسون، ويبتغون مصالحهم ومعايشهم دون عناء ولا مشقة، فهي ساكنة لا تضطرب ولا تميد بهم، تصور لو كانت الأرض في اضطراب كيف يتنقل الناس؟ كيف ينامون؟ كيف يجلسون، إذا كانت وقعت اهتزازات لمدة ثوانٍ معدودة، لعلكم رأيتم في بعض المقاطع ما الذي يحصل للناس من الاضطراب، فهنا جعلها الله بمنزلة المهاد الذي يكون للصغير، تتحقق عليها مصالحهم، وتقوم معايشهم، فهذا كله من دلائل قدرته.

وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها وثبتها وقرّرها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها.

ثم قال تعالى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا يعني: ذكرًا وأنثى، يستمتع كل منهما بالآخر، ويحصل التناسل بذلك، كقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم:21]، وقوله: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا أي: قطعاً للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار، وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة الفرقان.

قوله -تبارك وتعالى: وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا بمنزلة الوتد وهو ما يثبت به الشيء، المسمار، فهي تثبت الأرض من أجل أن لا تميد ولا تضطرب.

وقوله -تبارك وتعالى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا قال: يعني ذكراً وأنثى يستمتع كل منهما بالآخر، ويحصل التناسل بذلك، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، فهذا هو المتبادر في هذا السياق؛ لأنه سياق امتنان، يقول: جعل لكم ما تقوم به مصالحكم ومعايشكم، وما يحصل لكم به السكون والاستقرار، وجعل الأرض ممهدة، وجعل لها رواسي من فوقها، هذه الجبال تثبتها، وجعل لكم من أنفسكم أزواجاً، جعلكم أزواجاً ذكراً وأنثى، كلمة الأزواج كما سبق في بعض المناسبات تأتي بمعنى الأصناف، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [سورة الصافات:22] يعني: وأشباههم ونظراءهم، لكن هنا المتبادر أن المقصود الذكر والأنثى، بينما ابن جرير حمله على ما هو أعم من ذلك من الأصناف، قال: ذكراً وأنثى، طوالاً وقصاراً، وكذلك أيضاً ذوي دمامة وجمال، يعني جعلهم على صنفين، جعلهم على حالتين، لكن الأول هو المتبادر، والله أعلم.

قال: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا قال: أي قطعاً للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش، الآن وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا، السبات ما هو؟ هو يرجع إلى معنى الراحة، وأصل السبت يأتي لمعانٍ متعددة منها القطع، ولهذا يوم السبت هو يوم انقطاع من الأعمال مثلاً عند اليهود، لا يعملون فيه، لا يزاولون أي عمل، كما قال الله في خبر القرية الذين قص الله خبرهم، كانوا يعدون في السبت، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ [سورة الأعراف:163] فينقطعون من الأعمال والأشغال فلا يزاولون شيئاً.

ولذلك لا يجوز للمسلمين أن يتركوا المزاولات والأعمال والتجارات والاكتساب في يوم من الأيام حتى يوم الجمعة، لكن بقاء الناس في إجازة يوم الجمعة مثلاً، هذا من أجل أن متطلبات الحياة في العصر الحديث، حيث الناس صاروا يزاولون وظائف وما إلى ذلك يحتاجون إلى يوم يتفرغون فيه لأشغالهم وشئونهم الخاصة، فاليوم المناسب هو يوم الجمعة، من أجل أنه عيد، ومن أجل أنه فيه صلاة الجمعة، وما إلى ذلك؛ لئلا يُشغل الناس عن الصلاة، لكن لا يجوز للناس أن يجعلوا من يوم الجمعة مثلاً يوماً للانقطاع الكامل عن كل الأعمال، المتاجر لا تفتح، المستشفيات لا تفتح كما هو شأن اليهود إلا ما يدخل في حيز الضرورات، طوارئ يعني، وإلا تقفل الأسواق وما إلى هذا، هذا لا يجوز أن يفعله المسلمون.

فأخبر الله  أنه جعل نومنا سباتاً، قال: أي قطعاً للحركة لتحصل الراحة، فهنا ركب المعنى من هذين، القطع، قطعاً للحركة؛ لتحصل الراحة، وتجد عبارات أهل العلم مقاربة تدور حول هذا المعنى في تفسير هذه الآية، كما يقول ابن جرير: السبات السكون، ولذلك سمي يوم السبت سباتاً؛ لأنه يوم راحة ودعة، فهذا ترجع إليه عبارات أهل العلم، فإن أصل هذه المادة "السين والباء والتاء" يرجع إلى معنى القطع.

والمقصود هنا من السياق الانقطاع الذي تحصل به راحة الأبدان، فيستريحون من العناء، من الأعمال، من الأشغال وما إلى ذلك، أي راحة لأبدانكم، وتجد أصحاب المعاني مثل الزجَّاج يقول: أنْ ينقطع عن الحركة والروح في بدنه، أي: جعلنا نومكم راحة لكم، أي: نائم، انقطع عن الحركة، روحه ونفسه يتردد ولكنه ساكن، فهذا يرجع إلى ما قبله.

وهكذا قول البعض: جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم، كما يقوله ابن الأنباري، فهذا يرجع إلى ما سبق، ولا يبعد منه قول من قال: إن ذلك بمعنى التمدد، رجل مسبوت الخلق، أي ممدوده، ممدود الخلق، الرجل إذا أراد أن يستريح تمدد، فالتمدد يدل على الاسترخاء، فهو يرجع إلى معنى الراحة كذلك وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا، فيحصل للبدن وللنفس الاستجمام، فهذه نعمة يمتن الله بها، وابن فارس -رحمه الله- أعاد المعنى لهذه المادة "السين، والباء، والتاء" إلى أصل واحد يدل على الراحة والسكون، مع أن العلماء يذكرون لها في كتب اللغة معاني أخرى، فالسبت: الفرس الذي لا يسبق، والعالم الذي لا يجارى، كل هذه تأتي لمعنى.

لكن هنا السياق يدل على الراحة والاسترخاء، وهذا يدل على أن قلب الناس للحال فيكون ليلهم نهاراً ونهارهم ليلاً أن هذا عكس للفطرة، وهو قلب لهذه النعمة، ورفض لها، وكلام الأطباء معلوم في أثر السهر، وحاجة الجسد والغدد التي لا تفرز إلا في ساعات الليل أن هذا أمر لابد منه للجسم ولعافيته، وآثار السهر كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى- على أحد الأقوال سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ [سورة الفتح:29]، في الكلام على الأمثال في القرآن، فهذه السيما قال بعض السلف: المقصود ما يظهر عليهم من الصفرة والتغير والشحوب بسبب السهر، لكن السهر في قيام الليل، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة السجد:16].

فهذا أحد المعاني هناك، وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله، ولكن لا شك أن السهر يؤثر، ويعرف ذلك من هيئة صاحبه، ومن وجهه، فهو مضر، ولا يلجأ الإنسان إليه إلا لضرورة، لكن تحول الحياة اليوم بهذه الطريقة لا شك أنه خطأ، وأنها قضية تحتاج إلى التفات وإلى معالجة، وإعادة نظر، ولذلك تجدون في البيئات الريفية الذين ينامون من بعد صلاة العشاء -والآن قد تغيرت أيضاً حتى أحوال هؤلاء- تجد أن هؤلاء يقومون في غاية النشاط قبل صلاة الفجر، وأن أجسامهم أصح، ونشاطهم أصح، بينما تجد اليوم الواحد منا ينام النهار، ويقوم وهو يتأوه، يشعر أن بدنه في غاية الإنهاك والتعب من النوم، وقد لا يحصل به غناء للبدن.

فهذه نعمة يمتن الله بها على الناس، فاللائق هو أن توضع الأمور في نصابها الصحيح، وأن ينام الناس في الليل وأن يستيقظوا في النهار، جعل النهار معاشاً؛ ولهذا من أراد الاكتساب والرزق فإن مزاولة ذلك في النهار أدعى لتحصيله، وتحقق مطالبه من الظفر والربح والنجاح في تجارته وأعماله؛ لأن الله جعل النهار معاشاً، وقل مثل ذلك في طلب العلم، فهو من الرزق أيضاً، فجعْلُ ذلك في النهار هو الصحيح، وهو الذي يرجى أن يحصل أثره وعائدته على صاحبه، وهذا الانقلاب سبّب ضموراً في الأوقات، فصار الإنجاز ضعيفاً، وسبّب أيضاً ضعفاً في الأبدان فأنهكها.

كما أن ذلك أيضاً يقلق النفوس، والنفس مرتبطة بالبدن غاية الارتباط، فإذا لم يحصل للإنسان الراحة المطلوبة بدأ بعد ذلك تنتابه الآلام والمتاعب النفسية، فهذا أحد أسباب ما يعانيه الناس اليوم من المتاعب النفسية والضيق والقلق إلى آخره، انقلاب الفطرة، انعكاس الفطرة، فالله ركب هذه النفوس وهذه الأبدان تركيباً معيناً، وما يؤثر في الأبدان يؤثر في النفوس غالباً، والعكس صحيح، تعرف الإنسان الذي عنده معاناة نفسية من هيئته، الحزين تعرفه من هيئته، والفَرِح تعرفه من هيئته، وهكذا.

فمثل هذه الأشياء لابد من الالتفات إليها ومراعاتها، واليوم استوى الناس في القرى والمدن من هذه الحيثية، في بعض البلاد قبل عشر سنوات أو أقل إذا جاءت الساعة الخامسة عصراً بالكثير كأقصى حد -يعني أكثرهم الساعة الرابعة- تقفل الأسواق، فإذا جاء المغرب هدأت الحركة، بعد المغرب لا يكاد يخرج أحد في الطرقات على كثرتهم، يصلون إلى أكثر من مائتين وثلاثين مليوناً لا تكاد ترى من يمر في الطرقات، لا تكاد ترى في الطرقات إلا السيارة بعد السيارة نادراً، أو الدراجة النارية، فإذا كان بعد الفجر رأيت الحركة بدأت تدب في أوساط هؤلاء الناس، وبعد الفجر ترى الجموع تخرج، إن كان يوم إجازة رأيت الصغار والكبار يذهبون إلى الملاعب المتفرقة في كل ناحية بعد الفجر، وهذا يذكرك تماماً بمثل هذه الآيات، كيف جعل الله الليل سكناً، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ [سورة يونس:67]، وجعل النهار بهذه المثابة مَعَاشًا، مبصراً، وتغيرت هذه الأحوال أيضاً هناك، وصارت الحال مشابهة لما عندنا، فتأتي في الساعات المتأخرة من الليل وتجد الناس كأنهم في الصباح.

قال هنا: لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش، يعني وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا أي: نُلبسكم ظلمته، يغشاكم كاللباس، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، يغشاكم كما يغشاكم اللباس، كما يقول ابن جرير -رحمه   الله، فإذا كان يغشاهم بهذه المثابة فهذا يعني أنه يكون محلاً للسكون، فمن فسره بالسكون فإن ذلك يرجع إلى هذا المعنى، يغشاهم بظلامه فتسكن الحركة، فيحصل للنفوس الهدوء والسكون.

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا أي: يغشى الناسَ ظلامُه وسواده، كما قال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [سورة الشمس:4].

يغشى: يعني يغشى بظلامه، أرخى سدوله، فأقسم الله به في هذه الحال؛ لأنه مظهر من مظاهر العظمة، فكل هذا من دلائل القدرة، قدرته -تبارك وتعالى- على البعث، صرف هذه النيّرات، وصرف هذه الأفلاك، وصرف هذا الكون بهذا التصريف العجيب، واليوم توجد في بعض المقاطع صور حقيقية لحركة الليل، حيث يغشى النهار، بحيث إنها عُملت لها عمليات تسريع شديدة، فهي صورة حقيقية، تجد الليل على الكرة الأرضية يتبع النهار، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:40]، يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [سورة الزمر:5].

وقال قتادة في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا أي: سكنًا.

يعني هذا أيضاً قال به غير قتادة، جماعة مثل سعيد بن جبير، والسدي، سكناً، هذا لا يعارض ما سبق، يعني: كأنه تفسير بالمعنى، فاللباس معروف، يعني: يغشاهم بظلامه فيكون بمنزلة اللباس، يغطيهم بظلامه، وهذا يقتضي السكون، فتهدأ الحركة، فيكون هذا من قبيل التفسير على المعنى، كما قال الله : وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96]، تسكن فيه النفوس، يغشاهم الظلام كاللباس، فتسكن الحركة، لِتَسْكُنُواْ فِيهِ [سورة يونس:67].

وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا أي: جعلناه مشرقا مُنيرًا مضيئًا، ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات، وغير ذلك.

يعني موضعاً للمعاش، تعيشون، تتقلبون، تطلبون المعايش فيه، فتفسيره هنا: جعلناه مشرقاً نيّراً هذا باعتبار مقتضى ذلك كونه معاشاً، وإلا فليس هذا معنى معاش، لكن كيف جعله معاشاً؟ جعله مبصراً نيّراً من أجل طلب المعايش، وركَّب الله هذه الأبدان كما سبق بهذا التركيب، ففي النهار تكون مهيأة للانطلاق والحركة والعمل، لكن بعد أن تنال حظها من الراحة، فيتجدد نشاطها، فتعاود العمل من جديد، لكن إذا عُكست القضية صار النهار محلاً للإرهاق والتعب، والذبول، وضعف النشاط والحركة، الفطرة التي فطر الله  الناس عليها، هو ما ذكره الله هنا.

وقوله تعالى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا يعني: السماوات السبع، في اتساعها وارتفاعها وإحكامها وإتقانها، وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات؛ ولهذا قال: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا يعني: الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوءها لأهل الأرض كلهم.

وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا، هذه الشمس بمنزلة السراج الذي يضيء هذا العالم، والوهاج يقول هنا: يتوهج ضوءها لأهل الأرض كلهم، الوهج كما يقول مقاتل: هو الذي يجمع بين الإضاءة والحرارة، متوهجة، فالشمس بهذه المثابة، هي سراج وهاج، هي متقدة تتوهج بالحرارة، وأيضاً تضيء وتنير هذا الكون الذي نشاهده.

وابن جرير -رحمه الله- يفسر وهاجاً، يقول: أي وقّاداً مضيئاً، وهذه المعاني متقاربة لا إشكال فيها، سراجاً وهاجاً.

وقوله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: مِنَ الْمُعْصِرَاتِ أي: من السحاب. وكذا قال عكرمة أيضاً، وأبو العالية، والضحاك، والحسن، والربيع بن أنس، والثوري، واختاره ابن جرير.

وقال الفراء: هي السحاب التي تَتَحَلَّب بالمطر ولم تُمطر بعدُ، كما يقال امرأة مُعصِر إذا دنا حيضها ولم تحض، وهذا كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [سورة الروم:48] أي: من بينه.

يعني من ثقوبه، هنا قوله -تبارك وتعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ، قال: يعني السحاب، وقيده بعضهم كما قال الفراء بالسحاب الذي لم يمطر بعد، يعني هو ممتلئ ولكنه لم يمطر، وهذا المعنى الذي قاله الفراء سبقه إليه جماعة من السلف كالربيع وسفيان وأبي العالية والضحاك.

هنا يقول: وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا يعني: السحاب، قال: واختاره ابن جرير، يعني السحاب مطلقاً.

عبارة ابن جرير: هي السحاب، وقيدها: التي قد تحلبت بالماء، يقول: هي السحاب أو هي التي قد تحلبت بالماء من السحاب، يعني ليس مطلق السحاب، وإنما الذي تحلّب بالماء.

والمشهور أن المعصرات هي السحاب، لكن بعضهم يقيدها بالتي قد امتلأت من المطر ولكنها لم تمطر بعد، وبعضهم يطلق ذلك، ولا إشكال في أن المقصود بالمعصرات هي السحاب ذات المطر، وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا.

لكن بعض السلف فسره بالرياح، وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ قالوا: الرياح، وهذا منقول عن مجاهد ومقاتل، وقتادة، قالوا: الرياح، وأنها تسمى معصرات، يقال: أعصرت الريح إذا أثارت العجاج، وهذا ذكره بعض أهل اللغة كالأزهري، قال: هي الرياح ذوات الأعاصير، بأي اعتبار؟ باعتبار أن هذه الرياح هي التي تستدر المطر، وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا، فالرياح سبب، هي التي تستدر المطر، وهي التي تلقحه، وهي التي تسوقه، وتجمعه، وتؤلف بينه حتى يصير متراكماً متراكباً.

هذا باعتبار أن "مِن" في وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ بمعنى الباء، أنزلنا بالمعصرات يعني: السحابمَاء ثَجَّاجًا، ومعلوم أن حروف الجر تتناوب، لكن المتبادر من السياق هو السحاب، وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ، وليست "من" هنا بمعنى الباء، وإنما هي على بابها، وهذا الأصل في حروف المعاني، أن يبقى الحرف على أصله، فلا يقال بتعاورها إلا إذا لم يمكن حمل ذلك على المعنى المتبادر لكل حرف؛ لأن كل حرف له معنى متبادر، يعني "في" مثلاً للظرفية، "على" للعلو، "من" ابتداء الغاية مثلاً، إلى غير ذلك من معانيها، فهذا باعتبار أنها بمعنى الباء، يعني إذا فسر بالسحاب.

ولهذا فإن بعض أصحاب المعاني -معاني القرآن- قال: إن هذه المعاني يمكن أن تجتمع وتلتئم، ذكر هذا النحَّاس، قال: وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ يعني: ذوات المعصرات، مَاء ثَجَّاجًا، فهذه المعصرات هي السحب تسوقها الرياح، وتكون سبباً لنزول المطر، وهذا لمن أراد أن يجمع هذه المعاني، ولا شك أن من معاني المعصرات في كلام العرب السحب، ومن معانيها الرياح، فهؤلاء أئمة في اللغة فسروها بالرياح، فصار لها هذا المعنى وهذا المعنى، وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ، السياق هنا يدل على أحد هذين المعنيين وهو السحاب، أنزلنا من السحاب المشحون بالمطر مَاء ثَجَّاجًا.

والمبِّرد يقول: سحاب معصِر أي: ممسك للماء يعتصر منه يعني شيئاً بعد شيء، مثلما تقول: عصرت الثوب، فأنت بذلك تستنطف ما فيه من الماء، وجاء عن أبي بن كعب، والحسن، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان بأنها السماوات، لاحظ هؤلاء جماعة من السلف فسروا المعصرات بالسماء، أو السماوات، هذا يمكن أن يوجه فيقال: باعتبار أن السحاب يقال له: سماء، وكل ما علاك فهو سماء، والشاعر يقول:

إذا نزلَ السماءُ بأرضِ قومٍ رعيناه ولو كانوا غِضابا

إذا نزل السماء يعني: السحاب، المطر، وأحاديث استراق السمع إذا تتبعت المرويات الواردة فيها تجد في بعضها أن الملائكة تنزل في العنان، يعني السحاب، مع قول الجن: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ [سورة الجن:9]، يعني السماء، فدل الحديث على أن الملائكة تنزل إلى السحاب، وأنهم مع قولهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [سورة الجن:8]، ثَجَّاجًا، الثجاج هو الكثير المنصب بكثرة المتتابع، فالكثرة مع التتابع هذا هو الثجاج، وعبارات أهل العلم في ذلك متقاربة ترجع إلى هذا المعنى، مَاء ثَجَّاجًا كثيراً متتابعاً، ينصب بكثرة وتتابع، وهذا كله من دلائل قدرته -تبارك وتعالى.

في الأصل ابن كثير يقول: والأظهر أن المراد بالمعصرات السحاب، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ...الآية.

ما ذكره هنا لا ينافيه، يعني هو اقتصر على هذا، هو ذكر لكنه رجّح السحاب، فكونه في المختصر يقتصر على هذا لا إشكال؛ لأنه هو اختيار ابن كثير.

وقوله -جل وعلا: مَاءً ثَجَّاجًا قال مجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس: ثَجَّاجًامنصباً، وقال الثوري: متتابعًا، وقال ابن زيد: كثيراً.

وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله ﷺ: أنعتُ لك الكُرسُفَ -يعني: أن تحتشي بالقطن: قالت: "يا رسول الله، هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجًا"[1]، وهذا فيه دَلالة على استعمال الثَّج في الصبّ المتتابع الكثير، والله أعلم.

فاجتماع هذه المعاني هو معنى الثجاج، الكثرة والتتابع، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، جمعوا هذه العبارات للسلف وعبروا بهذه العبارة، مَاء ثَجَّاجًا، والمطر القليل كذلك نعمة، ولكن المنة تكون أعظم بالأول، الماء الكثير المتتابع، هذا الذي يحصل به رواء الأرض ومن المنافع ما لا يخفى، تسيل منه الأودية وما إلى ذلك، لا من المطر اليسير القليل، والناس يستبشرون بكثرة المطر وتتابعه، وليس بالشيء القليل الذي يكون كالدِّيَم.

وقوله تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ۝ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا أي: لنخرجَ بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارَك حَبًّا يدخر للأناسي والأنعام.

فلا حاجة لتقييد الحب بما يأكله الناس؛ لأن من الحبوب ما يأكله الأنعام، الشعير مثلاً فيما سبق كان الناس يأكلونه، ويخبزون منه، واليوم هو طعام للأنعام، فالحب يكون للأناسي والأنعام.

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا، وكذلك النبات، قال: أي: خضِراً يؤكل رطباً، ابن جرير يقول: الكلأ الذي يرعى من الحشيش والزروع، وهنا النبات لا يختص بهذا، النبات هو خلاف الحب، ما ينبت مما يأكله الناس والأنعام أيضاً.

وَنَبَاتًا أي: خضِرًا يؤكل رطباً، وَجَنَّاتٍ أي: بساتين وحدائقَ من ثمرات متنوعة، وألوان مختلفة، وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعًا؛ ولهذا قال: وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا قال ابن عباس، وغيره: أَلْفَافًا مجتمعة، وهذا كقوله تعالى: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة الرعد:4].

هنا نقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير أَلْفَافًا قال: مجتمعة، وفسره طائفة من السلف بأنها يلتف بعضها على بعض، تتشابك أغصانها، وتلتف لتشعبها، فيكون تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- هنا أَلْفَافًا قال: مجتمعة، يكون من قبيل التفسير على المعنى، باعتبار أنها إذا كانت ألفافاً تتشابك أغصانها وتلتف.. إلى آخره، يدل على اجتماعها وتقارب أشجارها، وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا كثيرة الأشجار، كثيرة الأغصان والفروع المتشابكة، يلتف بعضها على بعض لاجتماعها وقربها، فيكون تفسير ابن عباس من قبيل التفسير على المعنى، يعني مجتمعة، وأَلْفَافًا يلتف بعضها على بعض ، هذا هو التفسير على الظاهر، معنى كلمة "ألفافاً"، فلا إشكال في هاتين العبارتين، فذلك يرجع إلى معنى واحد بهذا الاعتبار، بهذه الطريقة نستطيع أن نلائم بين الأقوال ونجمع بينها، ولا نحتاج إلى الترجيح.

  1. رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم (287)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله ﷺ، باب في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، برقم (128)، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، برقم (622)، وأحمد في المسند، برقم (27474)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وحسن إسناده الألباني في صحيح أبي داود، برقم (293)، وفي صحيح الجامع، برقم (1510).

مواد ذات صلة