السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
[3] من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الآية:30 إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} الآية:43
تاريخ النشر: ١٧ / ربيع الآخر / ١٤٣٤
التحميل: 8225
مرات الإستماع: 31159

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۝ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [سورة فصلت:31، 32].

قال المؤلف -رحمنا الله وإياه: يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا أي: أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم.

روى ابن جرير عن سعيد بن عمران قال: "قرأت عند أبي بكر الصديق هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئًا"[1]، ثم روى من حديث الأسود بن هلال قال: قال أبو بكر الصديق : "ما تقولون في هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا؟ قال: فقالوا: ربنا الله ثم استقاموا من ذنب، فقال: لقد حملتموه على غير المحمل قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فلم يلتفتوا إلى إله غيره"[2]، وكذا قال مجاهد وعكرمة والسدي وغير واحد.

وروى أحمد عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به؟ قال ﷺ: قل ربي الله ثم استقم، قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تخاف عليّ؟ فأخذ رسول الله ﷺ بطرف لسان نفسه ثم قال: هذا[3]، وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حسن صحيح، وقد أخرجه مسلم في صحيحه، والنسائي عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال ﷺ: قل آمنت بالله ثم استقم[4]، وذكر تمام الحديث.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من تفسيرها بإخلاص العمل لله، والعمل بطاعته على ما شرع لهم بمعنى أن قولهم: "ربنا الله" هذا هو الإيمان، وأن قولهم: "ثم استقاموا" يعني عملوا الصالحات، أي أنهم عملوا الأعمال التي شرعها الله لهم على وفق ما جاء به رسول الله ﷺ، يعني جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح بشرطه فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110]، هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو الذي قاله أيضًا كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله.

والمعنى الآخر الذي ذكره منقولا عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- مفاده أنهم استقاموا على هذه الكلمة وهي التوحيد والإخلاص، بمعنى أنه لم يقع منهم إشراك قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا على هذه الكلمة، يعني لم يحصل لهم التفات إلى غير الله -تبارك وتعالى، ولا عبادة لأحد سواه، هذا معنى القول الآخر وهو الذي عزاه هنا لمجاهد وعكرمة والسدي بعد أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عن الجميع.

لكن القول الأول أيضًا قال به جماعات من السلف، يعني الذي رده عليهم أبو بكر ، فهم في البداية عندما سألهم قالوا: استقاموا من ذنب، بمعنى أنهم جمعوا بين الإيمان والطاعة، فالذنب هنا يشمل ترك المأمور، أو فعل المحظور، يعني مثل قول ابن جرير وابن كثير، فرد ذلك عليهم، ثم ذكر المعنى الآخر، لكن المعنى الأول أن المقصود بالاستقامة طاعة الله مع الإيمان، وهو ما يفسره قول النبي ﷺ: قل آمنت بالله ثم استقم.

لكن هذه الجملة مثل الآية استقم على ماذا؟ على هذه الكلمة؟ أو استقم في سيرك على الصراط في فعل الطاعات، واجتناب المعاصي مع تحقيق الإخلاص؟

وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير واختاره ابن جرير قال به جماعة من السلف وإن اختلفت عباراتهم، كقول قتادة وابن زيد: استقاموا على طاعة الله، هذا مثل قول ابن كثير قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا يعني على طاعته، وقول الحسن: على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، وهذا أوضح وأكثر تفصيلًا، وقول الثوري: عملوا على وفق ما قالوا، يعني عملوا بمقتضى ما قالوا، بمعنى أنه لم يحصل منهم إشراك، "قالوا ربنا الله" آمنوا إيمانًا صحيحًا، وعملوا بطاعة الله

فالآية -والله تعالى أعلم- تشمل ذلك جميعًا، قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فأطلق الاستقامة هنا ولم يقيدها بشيء، والأصل حمل ذلك على أعم معانيه، هذا الذي يسمونه بعموم المقتضى، يعني أنه لم يقدّر أو يقيد بمعنى معين، استقاموا على هذه الكلمة لم يحصل منهم إشراك؛ لأنه إذا حصل إشراك لا يُقبل عمل، واستقاموا أيضًا على طاعة الله، فإن هذا القول وحده لا يكفي؛ ولذلك تجد في النصوص كثيرًا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فلابدّ من هذا وهذا، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ قال مجاهد والسدي وزيد بن أسلم وابنه: يعني عند الموت، قائلين: أَلَّا تَخَافُوا، قال مجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم: أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة، وَلَا تَحْزَنُوا على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين فإنا نخلفكم فيه.

هنا قوله -تبارك وتعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ قال مجاهد والسدي وزيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن بن زيد: يعني عند الموت، تتنزل عليهم الملائكة تطمئنهم عند موتهم وتبشرهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، قائلين لهم: "ألا تخافوا"، يخافوا من ماذا؟

قال مجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم: أي: مما تقدمون عليه من أمر الآخرة، فالخوف في الأصل يقال للقلق من أمر مستقبل، والحزن لأمر مضى، وإن كان الحزن قد يستعمل فيما يتصل بالمستقبل، ولكن الكثير في الاستعمال هو الأول.

ومن الثاني ما قيل في قوله -تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34]، على أحد المعاني المشهورة لذلك أنه أذهب عنهم الحزن يعني بشأن الآخرة، الحزن يعني الخوف من الآخرة، كانوا في الدنيا في أهلهم مشفقين فأطلقوا على ذلك الحزن -لكن هذا التفسير ليس محل اتفاق- ففي هذا الموضع على هذا القول عبر بالحزن عن الخوف، وهنا هذا المعنى الذي نقله عن مجاهد وعكرمة وزيد -رحمهم الله: "ألا تخافوا" مما تقدمون عليه من أمر الآخرة "ولا تحزنوا" على ما خلفتموه من أمر الدنيا، لا تحزنوا على ما فات، هذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم قال غير ذلك.

يعني كقول مجاهد مثلًا: "ألا تخافوا" يعني الموت، أي طمأَنَهم أو طمأنوهم وقالوا لهم: لا تخافوا من الموت الذين تقدمون عليه، "ولا تحزنوا" على ما خلفتم من الأولاد؛ فإن الله خليفتكم على ما تركتم، فإن الإنسان عادة يحزن من أجل أولاده لاسيما إذا كانوا صغارًا، أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا.

وبعضهم يقول كعطاء: ألا تخافوا من رد أعمالكم وإثابتكم، فإن أعمالكم مقبولة، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم، لكن هنا لو نظرت أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا حُذف المتعلق أيضًا ما قال: ألا تخافوا الموت، ألا تخافوا من رد الأعمال، ألا تخافوا من الآخرة، ألا تحزنوا على أولادكم، ألا تحزنوا على ما خلفتم في الدنيا، كل هذه لم يذكر ربنا -تبارك وتعالى- واحدًا منها بعينه، بخصوصه، فنهاهم عن ذلك كله أَلَّا تَخَافُوا على سبيل الطمأنة، وَلَا تَحْزَنُوا فيدخل فيه انتفاء ذلك جميعًا، الخوف من أي شيء كان، رد الأعمال، أمر الآخرة، الخوف من الموت، اطمئِنوا تمامًا.

فإن الإنسان لا شك أنه يكون في حال من الخوف عند الموت يخاف ويحاذر من أمور كثيرة، يخاف الموت، يخاف سؤال الملكين، يخاف عذاب القبر، يخاف من أمر البعث والنشور والقيامة، يخاف من النار، من عذاب الله ، هنا "ألا تخافوا" نفي للخوف عنهم من كل وجه، "ولا تحزنوا" على فائت أيًّا كان هذا الفائت، فأهل الميت يحزنون على فراقه، وهو أيضًا عند الموت يتألم لفقدهم، ويحزن على ما ترك، ويحزن على ما فرط وما حصل من تقصير، في تلك اللحظات يراجع مسيرته في الحياة، وكيف كان خطوه فيها، فيتسلل إلى نفسه الحزن، وكيف ترك طاعة الله وقصر فيها، يعني أنه لم يعمل ويجد ويجتهد ويشمر أكثر؛ لأن الدنيا تركها خلف ظهره.

ليس معنى ذلك أنه كان مضيعًا لحق الله، فإن هؤلاء الذين قالوا: آمنا بالله واستقاموا هم على حال من الإيمان والطاعة، لكن المقصود هنا أن كل أحد يتمنى في تلك اللحظات أن لو تزود من طاعة الله ، وأنه كان على حال أفضل، فهنا يقول لهم: أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا، والله المستعان.

وقوله تعالى: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير، وهذا كما جاء في حديث البراء قال: إن الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان[5]، وقيل: إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم، وقال زيد بن أسلم: يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث، رواه ابن أبي حاتم، وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جدا وهو الواقع.

هذا أيضًا قال به وكيع، والقول بأنه تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم قال به أيضًا جماعة من السلف كمقاتل وقتادة، والقول الأول الذي نقله عن مجاهد والسدي وابن زيد أن ذلك عند الموت هو اختيار ابن جرير -رحمه الله.

تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وهذا القول الذي جمع هذه الأقوال -قول زيد بن أسلم: عند الموت وفي القبر وحين يبعث- ابن كثير استحسنه؛ وذلك أن هذه المواطن هي التي يتعاظم فيها الخوف، ويرى الإنسان فيها الملائكة، أو تتنزل على أهل الإيمان بالطمأنة، والله -تبارك وتعالى- نفى عن أهل الإيمان الخوف في ذلك اليوم في المحشر، وقال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، وقال: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأحقاف:13].

فالملائكة تتنزل عليهم عند الموت في القبر، وكذلك أيضًا في القيامة، والحشر والنشور، والله تعالى أعلم.

وقوله -تبارك وتعالى: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ أي: تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن كنا أولياءكم أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْأي: في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به العيون.

هنا قوله -تبارك وتعالى- عن قيل الملائكة: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني كنا معكم في الدنيا نسددكم ونثبتكم وما إلى ذلك من هذا المعنى الذي ذكره، وكأنه المتبادر -والله تعالى أعلم، بخلاف قول من قال: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني كنا نحفظ أعمالكم ونحصيها ونكتبها في الدنيا، ونحن اليوم أولياؤكم في الآخرة، لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن هذا المعنى الذي ذُكر من كتابة الأعمال وإحصاء الأفعال لا يختص بأهل الإيمان، وإنما يكون لهم ولغيرهم، ونَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لا شك أن هذا من قول الملائكة، وهذا الذي عليه عامة السلف وهو ظاهر القرآن.

وبعضهم يقول: إن هذا من كلام الله نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، لكن السياق يدل على أن هذا من جملة ما تقوله الملائكة لأهل الإيمان عندما يبشرونهم ويطمئنونهم، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ أي: مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم، نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ أي: ضيافةً وعطاءً وإنعامًا من غفور لذنوبكم، رحيم بكم رءوف حيث غفر وستر ورحم ولطف.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ مضى الكلام على مثل ذلك في موضع سابق، وأن ذلك يحمل -والله تعالى أعلم- على ما يتمنونه وتطمح إليه نفوسهم أو ما يطلبونه فيكون حاضرًا بين أيديهم لا يحتاجون إلى تعب وعناء في جلبه، لا كما يحصل في هذه الحياة الدنيا حيث يحتاج الإنسان أن يبذل جهدًا في تحصيل مطلوباته وصنع ذلك وإعداده وما إلى ذلك، وذكرنا هناك قول من قال: إن المراد أنه لا يدَّعي شيئًا إلا كان له، يعني يدعيه لنفسه، ليس ذلك بمعنى أنه يطلبه وإنما يدعي أنه له، والمعنى الأول أقرب، والله أعلم.

"تدَّعون" يعني تطلبون، تطمح إليه نفوسكم، تتمنون، فالجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فكل ما يتمناه يجده، وكما في الحديث: أنه يقال لأدنى أهل الجنة منزلة تمنَّ[6]، فيتمنى فيعطيه الله ضعف ما تمنى، فهذا فُسر بالطلب، وفسر بالتمني، والقول الآخر لربما يكون أبعد من هذين أي أنه يدّعي أن هذا له، البينة على المدعي واليمين على من أنكر[7]، فكل ما ادعى أنه له كان كذلك.

فيما يتعلق بقوله: نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ النُّزُل معروف أنه ما أعد للضيف، "من غفور رحيم" ذكر هنا هذين الاسمين الكريمين، فالغفور للزلات والتقصير؛ لأن الإنسان مهما كان على حال من الطاعة والاستقامة فلابدّ من تقصير، فالله يغفر ويتجاوز، ولو أنه حاسب عباده على نعمه وأفضاله لما نجا أحد، وهو رحيم أيضًا فهذا من باب التحلية، يعني الأول من باب التخلية غفور الذنوب والتقصير، وبرحمته -تبارك وتعالى- أدخلهم الجنة وأورثهم هذا النعيم وأعطاهم وحباهم فكان لهم فيها ما تدعي أنفسهم، ولهم فيها كل ما يشتهونه ويطلبونه.

قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في تفسير قوله: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: "فالملَك يتولى من يناسبه بالنصح له والإرشاد والتثبيت والتعليم وإلقاء الصواب على لسانه، ودفع عدوه عنه، والاستغفار له إذا زل، وتذكيره إذا نسي وتسليته إذا حزن، وإلقاء السكينة في قلبه إذا خاف، وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها، وإيعاد صاحبه بالخير، وحضه على التصديق بالوعد، وتحذيره من الركون إلى الدنيا، وتقصير أمله وترغيبه فيما عند الله، فهو أنيسه في الوحدة ووليه ومعلمه ومثبته، ومُسكن جأشه ومرغبه في الخير، ومحذره من الشر، يستغفر له إن أساء، ويدعو له بالثبات إن أحسن، وإن بات طاهراً يذكر الله بات معه في شعاره، فإن قصده عدو له بسوء وهو نائم دفعه عنه"[8].

هذا الكلام بهذه الطريقة لا تجده في شيء من كتب التفسير.

قال تعالى:وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۝ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة فصلت:33-36].

يقول : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ أي: دعا عباد الله إليه، وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: هو في نفسه مهتدٍ بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعدٍّ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ويدع الخلق إلى الخالق -تبارك وتعالى، وهذه عامة في كل من دعا إلى الخير وهو في نفسه مهتدٍ، ورسول الله ﷺ أولى الناس بذلك، كما قال محمد بن سيرين والسدي وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم.

وقيل: المراد بها المؤذنون الصلحاء كما ثبت في صحيح مسلم: المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة[9]، وفي السنن مرفوعًا: الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن[10]، فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين، والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم، فأمّا حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعًا بالكلية؛ لأنها مكية والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أُرِيه عبد الله بن عبد ربه الأنصاري في منامه فقصه على رسول الله ﷺ فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتًا[11] كما هو مقرر في موضعه.

فالصحيح إذاً أنها عامة كما قال عبدالرزاق عن معمر عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ هذا الاستفهام معناه النفي يعني لا أحد أحسن قولًا ممن دعا إلى الله، لا يوجد أحد أحسن قولًا من هذا، والجمع بين الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- والعمل الصالح أمر ينبغي أن يقف المؤمن عنده بحيث يعرض نفسه على ذلك، يعني قد يكون الإنسان ممن يدعو إلى الله -تبارك وتعالى- ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكنه لا يكون ممتثلًا، فهذا الثناء جاء لمن جمع بين هذا وهذا، يدعو إلى الله ويعمل صالحًا.

والناس في ذلك على مراتب: فأعلى هذه المراتب هو هذا، يدعو إلى الله ويعمل ويمتثل، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2، 3]، وكذلك في ذمه لبني إسرائيل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44]، فهذه المرتبة الأولى أن يتوافق قوله مع فعله، أن تتوافق دعوته مع الامتثال.

وليس المقصود بذلك أن كل ما قاله الإنسان ودعا الناس إليه من نوافل العبادات، وألوان القربات أنه يفعل ذلك جميعاً؛ لأنه لا يستطيع أن يحصي، فقد يترك بعض النوافل؛ لأنه مشغول لربما بما هو آكد في حقه، فمثل هذا لا إشكال فيه؛ لأنه لا يستطيع أن يستوعب جميع شرائع الإسلام من أبواب العبادات، فإن ذلك لا يفي به العمر، ولكنه لا يكون متخلياً عن العمل، فأما الواجبات وترك المحرمات فيجب عليه أن يكون ممتثلاً سواء كان ممن يدعو أو ممن لا يدعو، هذا واجب على الجميع، وأما النوافل فكلٌّ بحسبه لكن لا يكون مقصرًا في ذلك مُغفلًا لهذا الباب، لابدّ من تقصير ولكن المؤمن يتوب ويراجع نفسه، ولا يستمر على التقصير وكما قيل:

إذا لم يعظ الناسَ من هو مذنبٌ فمَن يعظُ العاصين بعد محمد

ﷺ، وكما جاء عن السلف: وأيُّنا لم يذنب؟ أيُّنا لم يقصر؟ فهذه المرتبة الأولى.

المرتبة الثانية: أن يكون الإنسان ممتثلًا عاملًا بطاعة الله تاركًا لمعصيته، ولكنه لا يدعو إلى الله، وهذا تقصير في الامتثال في الواقع.

المرتبة الثالثة: أن يكون هذا الإنسان يدعو إلى الله، ويقضي أوقاته في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه في نفسه مقصر، فهذا الذي جاء فيه المعاتبة والإنكار أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، والرجل الذي يلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور فيها كما يدور الحمار في رحاه، فيجتمع إليه أهل النار يا فلان، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنتم آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وأفعله[12].

فمثل هذا فعله غير حسن ولا محمود، وهؤلاء جاء الوعيد فيهم، فينبغي للمؤمن أن يحذر أن يكون بهذه المثابة -نسأل الله العافية- كالشمعة يضيء للآخرين ويحرق نفسه، ويدخل في قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [سورة التغابن:9] ما ذكره الحسن من الصور الثلاث: الرجل الذي علّم فانتفع وعمل بعلمه غيرُه فدخل الجنة، وهذا لم ينتفع بعلمه ولم يعمل بمقتضاه فدخل النار، فذلك من التغابن الذي يكون في الآخرة، هذا المُعلم صار في النار -نسأل الله العافية، وهذا الذي تعلم صار في الجنة، دخل بسببه الجنة، وهذا لم ينتفع بعمله، وقد قيل:

وعالمٌ بعلمه لم يعملَنْ معذبٌ مِن قَبل عُبّاد الوثن

فهذا قد يكون فتنة -نسأل الله العافية، قد يفتن بعض الناس بهذا فيشغله لربما تعليم الناس ودعوتهم عن نفسه وعن أهله وولده، فيكون في غاية التقصير في عمله وامتثاله، ويكون أيضًا في غاية التقصير في حق من يعول، في حق من تحت يده من ولد وأهل وزوجة فلا يعلمهم، ولا يأمرهم، ولا ينهاهم، فيكون في حال من الغفلة والتضييع والتفريط، ولكن نفعه للبعيد، وهكذا هذا الاشتغال الدائم في الدعوة إلى الله والذهاب والمجيء ولربما الفضائيات ونحو ذلك مع الغفلة التامة عن النفس، ولربما عما يلج إليها دون أن يشعر، فيكون الإنسان أحيانًا في نفسه مفتونًا غافلًا مضيعًا مقصرًا، لكنه اتخذ الكلام صنعة كغيرها من الصنائع، فهو يتكلم كصاحب المهنة، ويلقي ويخاطب ويحاضر ويخطب على المنابر، ويخرج في الفضائيات، إنما اتخذ ذلك مهنة من المهن، لكن إذا نظرت إلى الحال والعمل وجدت غاية التقصير، فلا ينبغي للمؤمن أن يكون بهذه المثابة، المفروض أنه يكون على حال من الاستقامة والتقوى والطاعة إذا كان يؤمن بهذه المبادئ التي يدعو الناس إليها.

وهذا هو الذي يكون له القبول والأثر، أما الذي يردد كلامًا وواقعه يدل على خلافه فهذا لا يبارك في قوله، ولا ينتفع بكلامه، وقلوب الناس تجفوه، والله المستعان.

فهذا معنى نغفل عنه كثيرًا دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا الدعوة وحدها لا تكفي، فهذه المراتب الثلاث، ثم تأتي -نسأل الله العافية- مراتب دونها، فيأتي بعد ذلك من لا يمتثل ولا يدعو، يعني هو مقصر في نفسه، وأيضًا لا يدعو غيره، ولا يأمر ولا ينهى، فيكون قد ترك الواجب من الناحيتين، ودون ذلك -نسأل الله العافية- من يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، ودعاة الضلالة ودعاة الشر فهؤلاء كُثر، والله المستعان.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا في قوله: وهذه عامة في كل من دعا إلى الخير وهو في نفسه مهتدٍ، ورسول الله ﷺ أولى الناس بذلك، هو جمع هنا بين القولين، يعني أن بعضهم قال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ هو النبي ﷺ، ولا شك أن النبي ﷺ هو أولى بهذا الوصف ولكنه لا يختص به، فجمع بين القولين، وبهذا تعرف فضل هذا التفسير، فهو في مضامينه وتحت عبارة المؤلف -رحمه الله- من هذا كثير، يجمع بين القولين، ولكن القارئ الذي لم يكن له خلفية في أقوال السلف لا يشعر بهذا، فجاء بهذه العبارة التي جمع فيها بين هذا وهذا.

ثم نقل عن جماعة من السلف هذا المعنى قال: وقيل: المراد بها المؤذنون الصلحاء؛ لأنه دعا إلى الله وعمل صالحًا، فالمؤذن داعٍ لكنها لا تختص به، والسبب الذي ذكره واضح، وذلك أن هذه السورة مكية والأذان إنما شرع في المدينة، لكن المؤذن داخل في عمومها، فهو داعٍ إلى الله حينما يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، ويدعو الناس إلى المسجد فهذا من الدعاء إلى الله -تبارك وتعالى.

وحمْلُ ذلك على المؤذنين منقول عن جماعة من السلف كعكرمة ومجاهد وقيس بن حازم، ولكن كأنهم ذكروا ذلك -والله أعلم- من باب المثال، لا يقصدون الحصر، ولا يخفى عليهم أن هذه الآية مكية، وأن الأذان شرع في المدينة، ولكنهم يذكرون أحيانًا بعض ما يدخل تحت معنى الآية ولا يقصدون الحصر، وإنما يفسرونه بالمثال، قال: والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وغيرهم، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ أي: فرق عظيم بين هذه وهذه، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي: من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه كما قال عمر : ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

قول -تبارك وتعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لم يبين معنى الحسنة والسيئة بخصوصها، ما المراد بالحسنة والسيئة؟ من أهل العلم من حمل ذلك على الإيمان بالله والشرك والطاعة والمعصية، يعني حمل ذلك على معنى عام، كل حسنة وسيئة، رأس الحسنات الإيمان، ورأس السيئات الشرك، ويدخل في الحسنات سائر الطاعات، ويدخل في السيئات سائر المعاصي، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم خصه بأحد هذه المعاني كقول من قال: الحسنة هي التوحيد، والسيئة هي الشرك، وهذا يشبه التفسير بالمثال، يعني كأنه من قبيل التفسير بالمثال وإلا فالآية ليس فيها التقييد بالإيمان أو الشرك.

وهكذا قول من قال: إن الحسنة هي المداراة، يعني هنا حمله على التعامل بقرينة قوله بعده: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ فبعضهم حمله على المداراة وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فالحسنة هي المداراة ويقابلها الغلظة والشدة.

وهكذا قول من قال: الحسنة العفو والصفح، ويقابل ذلك الانتصار للنفس، وقول من قال: الحسنة الحِلم، وضده الفحش، يعني استبدِلْ الكلمة بكلمة والتصرف بتصرف آخر، فإذا كانت الكلمة موحشة فاستبدِلْ ذلك بكلمة طيبة.

والذي يظهر -والله أعلم- أن الآية عامة فيدخل فيها هذا وهذا، فالله قال: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ فنفي الاستواء يُحمل على أعم معانيه، لا يستوي الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، والكلمة الطيبة والكلمة الموحشة، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فلا يقال: إن ذلك يختص بالإيمان والكفر، أو مجرد الطاعة والمعصية، وإنما ما يتصل بالتعامل يدخل في هذا؛ لأن السياق يدل عليه، بل السياق فيه، فيتخير الإنسان الكلمة الطيبة بدلًا من الكلمة الموحشة، والمعاملة الحسنة والمداراة بدلًا من الغلظة والشدة والمكاشرة للناس بما يكرهون.

فهذا توجيه وتعليم من الله -تبارك وتعالى- لعباده كيف يكون فعلهم، وكيف يكون صنيعهم في تعاملهم ابتداء، وكذلك أيضًا في مقابل ما يلاقون ويواجهون من تعامل الناس وأفعالهم، وما يواجهونهم به مما قد يكرهونه، فتبدأ النفوس لربما تتحرك فيها دواعي الانتصار والغضب، فتصدر من العبد كلمات لربما يندم عليها، ويسبب ذلك الجفوة والنفرة سواء كان ذلك مما يبتدِئ به غيرَه أو كان مما يقابل به أقوالهم أو أفعالهم، فالله يعلم عباده كيف يتصرفون، كيف يكون التعامل فيما بينهم ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فإذا ترددت بين كلمتين إحداهما فيها جفاء والأخرى فيها لين فالكلام الطيب يأسر النفوس، وله تأثير بالغ عليها، فيرجع صاحب الإساءة إلى حال من القرب والولاية والمحبة وما إلى ذلك، أما إذا قوبل بمثل صنيعه وقوبلت الإساءة بالإساءة فإن ذلك من شأنه أن يفرق ولا يجمع، ويورث القطيعة والشر بين الناس، فيقابل بمثل هذا أيضًا، وتحصل العداوة والبغضاء بين أهل الإيمان، فهذا كله -والله تعالى أعلم- داخل في الآية.

وقوله : فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي حميم، أي: قريب إليك، من الشفقة عليك والإحسان إليك.

هنا قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ وقبله قوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي: من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، يعني حملها ابن كثير على ما يتصل بالتعامل، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- لكن هل هذا ينفي أيضًا ما ذكره بعض السلف من التوحيد والشرك والطاعة والمعصية؟ "لا تستوي الحسنة ولا السيئة" لا شك أن هذه لا تستوي، ولكن السياق في التعامل.

وقوله تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك؛ فإنه يشق على النفوس.

صحيح ما يقبل هذه الوصية، وبعضهم يقول: ما يقبل هذه الخصلة يعني الدفع بالتي هي أحسن، وهذا مبناه أيضًا على أصل قبله وهو احتمال الأذى، فإنه لا يفعل ذلك ويرتقي إلى الدفع بالتي هي أحسن إلا من كان صابرًا محتملًا للأذى؛ ولهذا وَمَا يُلَقَّاهَا يعني هذه الخصلة، الضمير جاء مؤنثًا كما يقول ابن جرير -رحمه الله، ما يلقى هذه الخصلة، هذه الصفة الدفع بالتي هي أحسن.

وبعضهم يقول: وَمَا يُلَقَّاهَا يعني الجنة، وبعضهم يقول: وَمَا يُلَقَّاهَا أي: كلمة التوحيد، ولكن السياق -والله أعلم- في هذا المعنى الذي ذكره ابن جرير، وذكره الحافظ ابن كثير، يعني ما يقبل هذه الوصية، أو ما يُلقّى هذه الخصلة إلا من صبّر نفسه على ذلك، وذلك أن النفوس لها حضور قوي لاسيما في حال الخصومة فتطلب الانتصار ورد الإساءة بالإساءة، ولربما يشق على كثير من النفوس العفو والصفح فضلًا عن المقابلة بالإحسان، ولربما يخيل إليه أو يزين له شيطانُ الإنس والجن الانتصار ورد الظلم بمثله من أجل أنه يتوهم أن العفو والصفح فضلًا عن المقابلة بالإحسان أن ذلك من قبيل الضعف، وأن ذلك يجرئ المسيء عليه، وهذا كله من الشيطان.

لكن حتى لو بقي الإنسان مدركًا أن ذلك لا يجرئ عليه، وأن ذلك ليس من الضعف في شيء، ولكن النفس تأبى، من الناس من تأبى نفسه الإحسان ابتداء لمن لم يسئ إليه، تأبى نفسه الإحسان بل قد تأبى نفسه حتى السلام والكلمات الطيبة واختيار العبارات اللطيفة وتكنية الناس ومناداتهم بما يحبون، تأبى نفسه هذا، هو اعتاد على الشدة والغلظة فلو أراد أن يتكلم بكلام لطيف أن ينادي هذا بكنيته، أن يناديه بأحب أسمائه إليه، أن يختار العبارات الجميلة اللطيفة الرفيقة تأبى نفسه ذلك مع كل أحد ممن لم يسئ إليه أصلًا، وإنما يبخل بهذه العبارات، ويعبر بعبارات فيها شيء من الجفاف، وإن لم تكن إساءة لكن ليس فيها تلطف ورفق حتى مع من لربما يكون له فضل عليه كالوالدين، أو معلميه أو نحو ذلك.

يعني بعض التلاميذ لربما يأنف من أنه يتلطف مع أستاذه، ولربما يظن أن هذا من الضعف والخنوع أو المَلَق أو نحو هذا، وهذا يبدو أنه كثير في الجيل الجديد، وما كان الناس كذلك، كان الناس يعرفون كيف يتأدبون مع من له فضل عليهم في التعليم ونحو هذا، ويتسابقون في خدمته ولربما لا يدعونه يفعل شيئًا مما يزاوله فيمسحون السبورة ويبادرون إلى هذا، ويحملون حقيبته، هذا الذي أدركنا عليه الناس، ثم جاء جيل لا يحرك ساكنًا ولا يمكن أن تتحرك فيه شعرة تجاه هذه الأمور.

والذي يبدو -والله أعلم- في أحوال هؤلاء الناس أنهم يتوهمون أن هذا نوع من المَلَق والضعف والخنوع، وأن هذا شيء يترفعون عنه، هكذا يبدو لي -والله أعلم- مع كثرة التأمل والمقارنة بين جيل عرفناه وأدركناه وجيل آخر في غاية الجمود والتبلد في المشاعر تجاه هذه القضايا، فهذا تقصير وخطأ، والبعض يستكبر أن يقبل رأس أبيه وأمه، وسمعت من يقول: يستغربون لو فعلتُ هذا؛ لأنهم ما اعتادوا على ذلك منه، اعتادوا على الجفاء، لو قلت له: تُكني إخوانك أو تقبل رأس أخيك الأكبر منك أو نحو ذلك يأنف غاية الأنفة ويتعاظم هذا، فنفسه لا تطاوعه ولا تطيق ذلك.

بينما يوجد أناس الله قد أعطاهم وحباهم، فأعرف من أعطاهم الله الكثير فكل واحد يقبل رأس من هو أكبر منه، وإذا جاءوا -وأعمارهم بالثمانين وما يقاربها يعني من الستين إلى التسعين- كل واحد يقبل رأس الذي أكبر منه، وهكذا نشأ أولادهم، وإذا جاءوا إلى أي مكان لا يمكن أن يدخل أحد قبل من هو أكبر منه، وتجدونهم يدخلون صفًّا، يعني مثل هذه الأشياء مثل هذا الأدب مثل هذه الأخلاق يحتاج الإنسان أن يروض نفسه عليها، أما الجفاء والأخلاق الصحراوية هذه فلا تورث خيرًا، والنفس تحتاج إلى شيء من المجاهدة، هي تأبى لربما على صاحبها هذا في الذين لم يسيئوا إليه فكيف مع من أساء إليه -نسأل الله العافية؟

بعض الناس لا يحتمل أن تلتفت إليه عند الإشارة، نسمع أشياء غريبة، يعني لا يحتمل أن ينظر إليه أحد عند الإشارة، فقط نظر.

وقوله تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي: ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.

قوله: ذو نصيب وافر من السعادةفي الدنيا والآخرة هذا معنى عام، صاحب حظٍّ من كان بهذه المثابة، بهذه التربية، بهذه الأخلاق، وهكذا قول من قال: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ يعني في الثواب والخير، وقول من قال: ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ يعني وجبت له الجنة كما يقول قتادة -رحمه الله، والمعنى أقرب فيما ذكره ابن كثير -رحمه الله.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم.

وقوله تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي: إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه، فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك، فإذا استعذت بالله والتجأت إليه كفه عنك ورد كيده، وقد كان رسول الله ﷺ إذا قام إلى الصلاة يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه[13]، وقد قدمنا أن هذا لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف عند قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۝ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:199، 200]، وفي سورة المؤمنين عند قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ۝ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:96-98].

يعني في هذه المواضع الثلاثة هو يصانع شيطان الإنس أو العدو من الإنس بالفعل الجميل، والإحسان فيرده ذلك إلى أصله الطيب فيتحول من العداوة إلى الموالاة كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وأما الشيطان من الجن فلا سبيل إلى مصانعته، ولهذا جاء في شيطان الإنس أو في العدو من الإنس ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وفي شيطان الجن الأمر بالاستعاذة؛ لأنه لا سبيل إلى التخلص من وسواسه وأذاه إلا بالاستعاذة منه.

 وقوله -تبارك وتعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالنزغ شبيه بالنخس، والمقصود -والله تعالى أعلم- ما يلقيه الشيطان من الوسواس، والخواطر السيئة، وما يُغري به الإنسان من دواعي الانتقام والغضب ومقابلة الإساءة بالإساءة تحت أي ذريعة كانت، يعني من أجل ألا يُستضعف، من أجل ألا يقال: أنت جدار قصير، بل يقصِّر في المعروف والبر والإحسان تحت هذه الذرائع، يعني من الناس من لا يريد أن يبادر في خدمة الآخرين، والبذل والإحسان وتقديم ما يحتاجون إليه إلى آخره؛ لئلا يجترئ الناس عليه في طلب الخير وفعل الخير، فالبخل يصل بصاحبه أحيانًا إلى أن يقول: لا تفعل، لا تبادر، لا تقم بشيء من قبيل الإحسان والنفع المتعدي لهؤلاء الناس من أجل أن لا يُنتظر بعد ذلك منك، يظن أن هذا مما يجرئ الناس عليه، وأنه حطٌّ في مرتبته.

والشيطان له مع الناس طرق ووسائل، ولا يترك أحدًا، من الناس من يكون من طلاب العلم فيترك وعظ الناس من أجل ألا يقال عنه: إنه واعظ، فيتكلم مثلًا في الحديث والعلل فقط، أو يتكلم في الفقه فقط، فلا يريد أن يتبادر إلى ذهن أحد أنه يمارس الوعظ، كأن الوعظ من العيوب والنقائص التي يترفع عنها، والله سمى القرآن موعظة، والنبي ﷺ كان يعظ أصحابه، والصحابة يعظون، فالوعظ ليس بعيب وشيء يتنزه الإنسان منه، فيأبى كل الإباء من أن يلقي كلمة أو يعظ الناس، أو أن يذكّر الناس؛ لئلا يتبادر إلى الأذهان أنه واعظ، وقد يترك المشاركة في أي عمل من أعمال البر المتعدي والخير والنفع إذا احتيج إليه في أمور الدعوة أو في إغاثة الناس في النكبات أو غير ذلك؛ لئلا يتبادر إلى الأذهان أنه لربما من الدعاة إلى الله، وهل هذا من العيوب؟ هذا من الكمالات، ولكن يوجد من الناس من هو بهذه المثابة ويفكر بهذا، ويوجد غير ذلك أصحاب العقل المعيشي، مِن هؤلاء لربما مَن لا يصدر منه لا خير ولا شر، كأن لسان حاله:

قد هيئوك لأمرٍ لو فطنتَ له فاربأ بنفسك أنْ ترعى مع الهَمَلِ

الراعي مع الهمل يكون باذلاً للخير آمراً بالمعروف ناهٍ عن المنكر، فعند نفسه أن أوراقه تحترق، ومن ثمّ قد لا تحصل له بعض مطامحه، هكذا الشيطان يفعل ببعض النفوس، وأسوأ من هؤلاء جميعًا من يتكلم بالباطل، ويزين الباطل طمعًا في شأن من الدنيا، فيكون كما قال الله : فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۝ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [سورة الأعراف:175، 176] هذا صاحب العقل المعيشي بهذه الطريقة البائسة يظن أنه عاقل، وأنه ذكي، وأنه يفكر، وعنده بُعد نظر لما بعد عشر وأكثر من عشر سنوات وعشرين سنة، فلا يصدر منه خير ولا نفع ولا بر ولا معروف -نسأل الله العافية، وعند نفسه أنه صاحب أفق واسع، ونظر بعيد للمستقبل، وله مطامح نسأل الله أن يخيبها، وأن لا يحقق له مطلوبًا، لا كثّر الله في المسلمين من هؤلاء.

العبد المؤمن ينبغي أن يكون أمره لله، يريد ما عند الله، فهذا الذي تحصل به الرفعة في الدنيا والآخرة.

قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في الفرق بين التعبير بقوله هنا: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقوله في الأعراف: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: "وسر ذلك -والله أعلم- أنه حيث اقتصر على مجرد الاسم ولم يؤكده أريد إثبات مجرد الوصف الكافي في الاستعاذة، والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم، فيسمع استعاذتك فيجيبك، ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك، فالسمع لكلام المستعيذ، والعلم بالفعل المستعاذ منه، وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة، وهذا المعنى شامل للموضعين.

وامتاز المذكور في سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص؛ لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا في سمعه لقولهم وعلمه بهم، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: "اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، فقال الآخر: إن سمع بعضه سمع كله، فأنزل الله : وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصاَرُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلِكنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مما تَعْمَلُونَ ۝ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ[14].

فجاء التوكيد في قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ في سياق هذا الإنكار: أي هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون أنه لا يسمع إن أخفوا، وأنه لا يعلم كثيرا مما يعملون، وحسَّن ذلك أيضا أن المأمور به في سورة "فصلت" دفْعُ إساءتهم إليه بإحسانه إليهم، وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم؛ ولهذا عقبه بقوله: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ.

وأيضا: فإن السياق هاهنا لإثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها، وآيات ربوبيته وشواهد توحيده؛ ولهذا عقب ذلك بقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ، وبقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أنك تَرَى الأرْضَ خَاشِعَة [سورة فصلت:39].

فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه "السميع العليم" كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرَّفة، والذى في الأعراف في سياق وعيد المشركين وإخوانهم من الشياطين ووعد المستعيذ بأن له ربًّا يسمع ويعلم، وآلهة المشركين التي عبدوها من دونه ليس لهم أعين يبصرون بها، ولا آذان يسمعون بها، فإنه سميع عليم، وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم، فكيف تُسَوُّونها به في العبادة؟!، فعلمتَ أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير، كما لا يليق بذلك غير التعريف، والله أعلم بأسرار كلامه"[15].

هنا في هذه السورة وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فجاء هنا بضمير الفصل بين طرفي الكلام؛ لتقويته إِنَّهُ هُوَ، وجاءت "أل" المعرِّفة السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وفي سورة الأعراف وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:200] ما قال: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هذا الذي يسمونه بالمتشابه اللفظي، وتوجيه هذا المتشابه اللفظي أحيانًا يظهر فيه لطائف في المعاني، معانٍ جميلة ولفتات بلاغية وغير بلاغية، لكن قد لا يتوقف عليها المعنى الأصلي الذي سيقت الآية لتقريره، فما كان من ذلك له وجه ظاهر بيِّنٌ من غير تكلف فهذا حسن.

وهذه اللفتات يذكرها ابن القيم، ويذكرها أصحاب التفاسير التي تُعني بالجانب البلاغي، ويذكرها آخرون ممن ألفوا في المتشابه اللفظي، كـ "ملاك التأويل" لابن الزبير الغرناطي، و"درة التنزيل وغرة التأويل" للإسكافي، و"البرهان في متشابه القرآن" للكرماني، وكذلك أيضًا كتاب زكريا الأنصاري، هم يتكلمون في هذه المتشابهات اللفظية، فابن القيم كان يتحدث عن هذه القضية لماذا قال في الأعراف: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وهنا قال: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؟

فهو يرى أنه في سورة فصلت المقام يحتاج إلى مزيد من التقوية؛ لأن هذه الأشياء التي يُواجَه بها تحتاج إلى دفع للنفس من أجل التحلي بما ذكر، والله يسمع كلامه وكلامهم، وجوابه وجوابهم، وهو عليم بفعلهم وإساءتهم، وعليم بعفوه وتجاوزه وإحسانه إلى من أساء إليه، فيحتسب ذلك عند الله -تبارك وتعالى- ولا يطلب الانتصار لنفسه.

قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ۝ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ۝ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة فصلت:37-39].

يقول تعالى منبهًا خلقه على قدرته العظيمة وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أي: أنه خلق الليلَ بظلامه والنهار بضيائه وهما متعاقبان لا يفتران، والشمسَ ونورها وإشراقها، والقمرَ وضياءه وتقدير منازله في فلكه واختلاف سيره في سمائه، ليُعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار والجمع والشهور والأعوام، ويتبين بذلك حلول الحقوق وأوقات العبادات والمعاملات، ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره فقال: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي: ولا تشركوا به، فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به؛ ولهذا قال تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي: عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يعني الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَكقوله : فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89].

وقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أي: على قدرته على إعادة الموتى، أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً أي: هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أي: أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار، إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

قوله -تبارك وتعالى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أين موضع السجود؟ هل هو هنا أو بعد التي تليها فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ علامة السجود في المصحف عندنا بعد الثانية، فبعض السلف يقول: بعد الأولى؛ لاتصاله بالأمر بالسجود، يعني لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فهذا أمر بالسجود فيسجد في هذا الموضع، وهذا قال به ابن مسعود ، وهو رواية عن ابن عمر -رضي الله عن الجميع.

وبعضهم يقول: إنه يسجد بعد التي تليها؛ لأنه تمام المعنى فإن الله قال: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وقالوا: هذا من تمام معناه فيسجد بعد الثانية، وهذه الرواية عن ابن عمر، وبه قال ابن عباس -رضي الله تعالى عن الجميع.

وقوله -تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً خاشعة يعني أنها هامدة جدباء يابسة لا نبات فيها، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ يعني تحولت من حال اليبس إلى حال أخرى اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ما معنى اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ؟ اهتزت بالنبات، تحركت بالنبات، وربت أي أن الأرض تنتفخ بسبب حركة النبات تحتها، ومعلوم أن النبات أول ما يظهر إنما يكون تحت الأرض لا تراه العيون، فحركته تحت الأرض اهتزاز وظهوره وبدوُّ هذا الظهور قبل أن يخرج إلى الظاهر يكون سببًا لارتفاعها وَرَبَتْ يعني الرابية تقال للأرض المرتفعة انتفخت بالنبات ارتفعت بالنبات ثم بعد ذلك يظهر على السطح.

وبعضهم يقول: الآية فيها تقديم وتأخير، فإنها تربو أولًا، تنتفخ بالنبات ثم بعد ذلك يهتز هذا النبات ويتحرك، يعني إذا ظهر، ولكن هذا لا حاجة إليه، والأصل أنه إذا دار الكلام بين التقديم والتأخير أو الترتيب، فالأصل الترتيب كما ذكر الله فيكون الاهتزاز هو حركة النبات تحت سطح الأرض تحت التربة، وربت يعني انتفخت به هو إذا تحرك تحت الأرض، فإن الأرض تنتفخ وهذا معروف، يعني ترتفع وتتحرك بالنبات، يحصل لها هذا وهذا.

وأحيانًا قد لا يكون له ظهور إذا لم يحصل له بعد ذلك أن يُعقبه المطر فيظهر، أو قد يحصل سبب آخر من شدة برد أو نحو هذا فيقولون: صامت عليه الأرض، يعني إنه تحرك وُجد في داخلها لكنه ما ظهر إلى الخارج لسبب أو لآخر، وقد يكون بسبب ذنوبنا كما هو الآن المشاهد أمطار نزلت وكثيرة في وقت مبكر، وقت نزول الأمطار، والأرض جدباء كأنه لم ينزل عليها مطر إطلاقًا، يعني استوت السنة التي نزل فيها مطر كثير في وقته وحينه مع السنوات التي لم ينزل فيها المطر، فهي جدباء، ومن ثمّ فلم يكن ذلك من قبيل الغيث، وإنما هو مجرد مطر نزل لكنه لم يخرج به النبات، فعلى الحالين -نسأل الله العافية- إما انحباس المطر، وإما أن ينزل المطر فلا ينتفع به، ويكون نزوله كعدمه، وهذا بسبب هذه الذنوب، ومنع الزكاة، والحسد والبغضاء التي بين الناس، وكثرة الذنوب والمعاصي، وظهور هذا، وكثرة الفساد والشر، كل ذلك من أسبابه.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ۝ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ۝ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [سورة فصلت:40-43].

قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا قال ابن عباس: الإلحاد وضع الكلام على غير مواضعه، وقال قتادة وغيره: هو الكفر والعناد، وقوله : لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا فيه تهديد شديد ووعيد أكيد، أي: إنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته، وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال؛ ولهذا قال تعالى: أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: أيستوي هذا وهذا؟ لا يستويان.

قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا، الإلحاد مضى الكلام عليه، وأن المقصود به الميل، هذا أصله في كلام العرب ومنه اللحد؛ لأنه يكون من قبيل الشق المائل في القبر جهة القبلة، فالمعاني التي ذكرها السلف كما نقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بأنه وضع الكلام على غير مواضعه. 

وهكذا قول من قال كما جاء عن مجاهد: يميلون عن الإيمان بالقرآن، يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا، ونُقل عنه: يميلون عن القرآن بالمكاء والتصدية، يعني من أجل أن يصرفوا الناس عنه، وكذا قال: بالمكاء والتصدية واللهو والغناء، وقول من قال: يكذبون في آياتنا، وقول من قال: يعادون ويشاقون، وقول من قال: يشركون، كل هذه المعاني من الإلحاد "يلحدون في آياتنا" فيشمل التكذيب بآيات الله -تبارك وتعالى، بمعنى أنه ينكر أن ذلك من عند الله -تبارك وتعالى- وأنه نزله، وأنه من كلامه.

ويدخل في هذا الإلحاد أيضًا أن يحرف الكلام عن مواضعه فيحمل كلام الله على معانٍ لم يُردها، فهذا داخل فيه، وهذا قول ابن عباس وضع الكلام على غير مواضعه، هذا الذي يقال له: التحريف المعنوي، ويدخل في ذلك أيضًا التحريف الحسي، وقد عصم الله منه كتابه، فعل ذلك أعداء الله -تبارك وتعالى- في الكتب المنزلة قبله فهو من جملة هذا الإلحاد، فالكفر بها إلحاد، وحملها على غير مراد الله -تبارك وتعالى- هذا أيضًا من جملة الإلحاد إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا.

ثم قال تهديدً للكفرة:اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قال مجاهد والضحاك وعطاء الخرساني: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ وعيد، أي: من خير أو شر إنه عالم بكم وبصير بأعمالكم؛ ولهذا قال: إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

التهديد -كما هو معلوم- من معاني الأمر، والأصل أن الأمر للوجوب إلا لصارف، وقد يأتي للاستحباب، وقد يأتي للإرشاد، وقد يأتي للتهديد، فهنا هذا مثال على هذا النوع الأمر للتهديد اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، يعني كما تقول لغيرك: اعمل ما بدا لك، على سبيل التهديد، إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

ثم قال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ قال الضحاك والسدي وقتادة: وهو القرآن، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ أي: منيع الجناب لا يُرام أن يأتي أحد بمثله، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ أي: ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منزل من رب العالمين.

قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ الذكر هو القرآن بلا شك، لكن أين الجواب؟

الأكثر على أن الجواب محذوف يفهم من السياق إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ يعني يجازون بكفرهم يجازيهم الله بكفرهم أو يعذبون أو هالكون أو نحو ذلك من المقدرات، وبعضهم يقول: إنه مذكور، يعني الجواب هو قوله -تبارك وتعالى: يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ، والأول أشهر وعليه الأكثر.

وبعضهم يقول: إن الجواب هنا اكتُفي عنه يعني سد وأغنى عنه الخبر السابق، وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا، فهذا خبر، ثم قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ يعني أيضًا كالذي قبله لا يخفون علينا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ أي: منيع الجناب لا يرام أن يأتي أحد بمثله، هذا مما يدخل في معناه وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، لا يستطيع أحد أن يحرفه، لا يستطيع أحد أن يأتي بحجة في تكذيبه أو يجد فيه تناقضًا وتعارضًا وتضاربًا وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82].

وذكرتُ في بعض المناسبات أن من عزته أن معانيه لا تدخل في القلوب المعرضة عنه المشتغلة بغيره من اللهو والغناء والغفلة والمعاصي، فلابدّ من محل قابل، من قلب نظيف فيُفتح له من معانيه وهداياته، ويحصل له من تدبره ما لا يخطر له على بال، قال: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، أي: ليس للبطلان إليه سبيل، هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أجمل في هذه العبارة، يعني ما المراد بقوله: مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؟

بعض السلف فسر "من بين يديه" أنه محفوظ من النقص، "ولا من خلفه" يعني الزيادة، يعني لا يُنقص منه ولا يزاد فيه، فلا يأتيه الباطل من هنا لا من هذه الجهة ولا من هذه الجهة، وهذا منقول عن قتادة والسدي، وقال به من أصحاب المعاني -معاني القرآن- الزجاج، يعني لا يتطرق إليه نقص ولا زيادة، وبعضهم يقول: إن المراد لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ يعني لا يوجد في كتاب قبله ما يدل على تكذيبه بل الكتب التي قبله مصدقة له، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ليس بعده كتاب ينسخه أو يبطله، وهذا قاله مقاتل، وقال به آخرون أيضًا كسعيد بن جبير.

وبعضهم يقول: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ يعني من جهة المعنى، في معانيه، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ لا يزاد فيه، لا يأتيه الباطل من بين يديه في المعاني، ولا من خلفه أي لا يزاد عليه، هذا قاله ابن جرير -رحمه الله، فالله أطلق هذا لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ فلا يتطرق إليه نقص ولا زيادة، ولا يوجد في كتاب قبله ما يدل على تكذيبه، ولا يأتي بعده ما يمكن أن يدل على نسخه أو بطلانه، فهو محفوظ من هذا كله، يعني حفظه الله من جميع جهاته، لا يتطرق إليه خلل ولا نقص ولا زيادة ولا يوجد فيه تناقض ولا تعارض ولا تضارب، ولهذا قال الله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [سورة الزمر:23] يعني يشبه بعضه بعضًا في الحسن، ويكمل بعضه بعضًا، فهو نسيج متحد من أوله إلى آخره.

ولهذا يقول الشاطبي -رحمه الله: إن الآيات المكية تُنزَّل على بعضها في الفهم كما تُنزَّل الآيات المدنية على الآيات المكية؛ لأنه وحدة واحدة كما نعبر اليوم، والله قال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا.

ولهذا قال: تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي: حكيم في أقواله وأفعاله، حَمِيدٍ بمعنى محمود، أي: في مجموع ما يأمر به وينهى عنه الجميعُ محمودة عواقبه وغاياته، ثم قال : مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ، قال قتادة والسدي وغيرهما: ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك، فكما كُذبت كُذبوا، وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر أنت على أذى قومك لك.

هذا هو المعنى المشهور، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- أنه ما يقال لك إلا الكلام نفسه، والاتهام الذي وجه إلى الأنبياء قبلك، لا جديد، هذه دعاوى الكافرين والمبطلين عبر القرون، هكذا واجهوا الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فلست أول من يُكذب ويُرمى بهذه الأوصاف القبيحة أنه كذاب ومجنون إلى آخره، فقد قيل للرسل -عليهم الصلاة والسلام- قبلك كذلك.

وبعضهم يقول: ما يقال لك يعني من قِبَل الله من الأمر بالعبادة وإخلاص الدين لله -تبارك وتعالى، لم تؤمر بشيء يستنكر، أو جديد على هؤلاء، وإنما هي سنة الله مع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، فقد أمرناك بما أمرنا به المرسلين، وله وجه، ولكن الأول أقرب -والله تعالى أعلم، وهكذا بعضهم يقول: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إن هذا استفهام، والأقرب أنها ليست من قبيل الاستفهام، وأن "ما" نافية، هذا الذي عليه الجماهير من أهل العلم سلفًا وخلفًا -والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أي: لمن تاب إليه، وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ أي: لمن استمر على كفره وطغيانه وعناده وشقاقه ومخالفته.
  1. رواه الطبري في تفسيره، تحقيق: شاكر (21/ 464).
  2. المصدر نفسه.
  3. رواه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حفظ اللسان، برقم (2410)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3972)، وأحمد في المسند، برقم (15418)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، والحاكم في المستدرك، برقم (7874)، وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
  4. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، برقم (38)، وأحمد في المسند، برقم (15416)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين غير أن صحابيّه لم يخرج له البخاري، وابن حبان في صحيحه، برقم (942)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4395).
  5. أخرجه بمعناه الإمام مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم (2872).
  6. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم (182).
  7. رواه البخاري، بلفظ: "إن النبي ﷺ قضى أن اليمين على المدعى عليه"، كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، برقم (2514).
  8. روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص 260).
  9. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه، برقم (387).
  10. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، برقم (517)، والترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، برقم (207)، وأحمد في المسند، برقم (7169)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (530).
  11. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم (499)، وابن ماجه، كتاب الأذان والسنة فيه، باب بدء الأذان، برقم (706)، وأحمد في المسند، برقم (16478)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث هنا، فانتفت شبهة تدليسه، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح غير أن صحابيّه لم يخرج له سوى البخاري في "خلق أفعال العباد" وأصحاب السنن، يعقوب: هو ابن إبراهيم بن سعد الزهري"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (512).
  12. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم (3267)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، برقم (2989).
  13. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، برقم (775)، والترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم (242)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الاستعاذة في الصلاة، برقم (807)، وصحح إسناده الألباني في صحيح أبي داود، برقم (748).
  14. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ [سورة فصلت:23]، برقم (4817)، ومسلم في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2775).
  15. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 96، 97).

مواد ذات صلة