الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[3] من قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} الآية:18 إلى قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} الآية:28
تاريخ النشر: ١٦ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 4695
مرات الإستماع: 7520

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: كَلَّا ليس الأمر كما يظن هؤلاء الكفار من أنهم غير مبعوثين، أو أن لهم منزلة عند الله إن بعثوا، إن كتابهم الذي كتبت فيه أعمالهم أو إن هؤلاء قد قضي عليهم وكتب أنهم في سجين، وذلك اسم لهذا الكتاب والديوان الذي فيه أعمال الأشرار والفجار، أو أنه الموضع الذي وضع فيه هذا الكتاب، أو أنه الموضع الذي تصير إليه أرواحهم، وسجين هذه في الأرض السفلى كما صح ذلك في الحديث، وعليه فلا يكون ذلك اسمًا لهذا الكتاب.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ۝ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ [سورة المطففين:8، 9] يعني أن ذلك قد كتب وفرغ منه، أن هؤلاء يكونون في ذلك الموضع، أو كتابهم يكون في ذلك الموضع، ثم توعدهم بقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ۝ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [سورة المطففين:10، 11] بيوم الجزاء والحساب.

وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [سورة المطففين:12] إلا كل مجترئ على الله -تبارك وتعالى- وعلى حدوده وشرائعه وعلى رسله وأنبيائه وعباده المؤمنين.

أَثِيمٍ كثير الآثام.

إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة المطففين:13]، وهذا من تكذيبه أنه لا يؤمن بآيات الله ووحيه وكتابه، وإنما يقول: هذه أساطير الأولين، أي: مختلقات الغابرين، مختلقات السابقين، وما يُحكى ويذكر مما لا حقيقة له.

كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم [سورة المطففين:14] كلا، ليس الأمر كما قالوا، بل ران على قلوبهم، أي: إن حقيقة الأمر أن هؤلاء صارت قلوبهم بمنزلة وحالة لا يصل إليها الإيمان، ولا تؤثر فيها آيات القرآن وذلك لِمَا غطاها من الذنوب والمقارفات والجرائر والجرائم والأعمال القبيحة التي قارفوها.

رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۝ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [سورة المطففين:14، 15] فهؤلاء لا يرونه، وبمفهوم مخالفته دل ذلك على أن أهل الإيمان وأهل الرضا يرون ربهم -تبارك وتعالى- كما دلت على ذلك النصوص صراحة.

قال: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ [سورة المطففين:16] يُحجبون عن رؤيته عقوبة لهم وهذا من أعظم الحرمان، ثم بعد ذلك أيضًا يدخلون النار ويقاسون حرها لَصَالُو الْجَحِيمِ ۝ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ [سورة المطففين:16، 17]، تقولون: لا بعث أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [سورة ق:3]، هذا هو الذي كنتم تكذبون به، وهذا ما أخبر عنه القرآن كما قال الله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53] يعني وقوع ما أخبر به، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:53].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين، يقول الله تعالى:كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ۝ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ۝ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ۝ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ۝ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ۝ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ۝ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۝ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ۝ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [سورة المطففين:18-28].

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: يقول تعالى: حقًّا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ وهم بخلاف الفجار، لَفِي عِلِّيِّينَ أي: مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين.

عن هلال بن يَسَاف قال: سأل ابن عباس كعبًا -وأنا حاضر- عن سجين، قال: هي الأرض السابعة، وفيها أرواح الكفار، وسأله عن عِلّيين فقال: هي السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين.

وهكذا قال غير واحد: إنها السماء السابعة.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ يعني: الجنة.

 وقال غيره: عليون عند سدرة المنتهى.

والظاهر: أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع؛ ولهذا قال تعالى معظمًا أمره ومفخمًا شأنه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّون.

قوله -تبارك وتعالى: كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ يقول هنا: حقًا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ وهم بخلاف الفجار، وهم المطيعون أهل الإيمان والعمل الصالح الذين بروا الله بأداء فرائضه واتقاء محارمه، وهذا على طريقة القرآن حيث ينوع فيما يتصل بالترغيب والترهيب؛ ليكون المؤمن بين الخوف والرجاء، فلما ذكر ما للكفار والفجار أعقبه بذكر ما للأبرار إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، كتاب الأبرار ما المراد به؟

هنا يقول: إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ وهم بخلاف الفجار، لَفِي عِلِّيِّينَ أي: مصيرهم... إلخ، هذا -كما سبق- كتاب الأبرار، بعضهم يقول: إن عليين كتاب الأبرار، لَفِي عِلِّيِّينَ أي أن هذا الكتاب الذي كتب فيه الأبرار وأعمال الأبرار اسمه هكذا لَفِي عِلِّيِّينَ لفي هذا الكتاب المسمى بعليين، كتاب الأبرار يعني أن أعمال الأبرار مكتوبة، كتاب هنا بمعنى مكتوب.

لَفِي عِلِّيِّينَ لفي هذا الكتاب المسمى بعليين، كما يقول بعض المفسرين، وذلك من العلو والارتفاع كما سبق في سجين، فهذا يقابله تمامًا، فأصل هذه المادة يدل على الارتفاع، يدل على العلو لَفِي عِلِّيِّينَ ارتفاع بعد ارتفاع، لا غاية له، ولهذا بعض أصحاب المعاني كالزجاج يقول: أعلى الأمكنة، لَفِي عِلِّيِّينَ في أعلى الأمكنة وأرفعها، وهو يرجع إلى هذا المعنى.

وابن جرير يقول: كتاب أعمال الأبرار كتاب الأعمال هذا لفي ارتفاع، لا علم لنا بغايته، لكنه يقول: غير أن ذلك لا يقصر عن السماء السابعة، يعني أن مرجع أقوال السلف على تنوعها تدور حول هذا المعنى، أن عليين فوق السماء السابعة على تفاصيل يذكرونها، بعضهم يقول: معلق بالعرش بناء على أنه اسم للكتاب، وحتى من قال: إن المراد العلو فذلك يعني غاية في الارتفاع، وهكذا من يقول: عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [سورة النجم:14] فإن سدرة المنتهى في السماء السابعة.

فأقوالهم ترجع إلى هذا على اختلاف عباراتهم؛ ولهذا ابن جرير يقول: هو في غاية الارتفاع، في ارتفاع لا يكون دون السماء السابعة لَفِي عِلِّيِّينَ يكون في علو وارتفاع، يكون غاية في ذلك، وابن جرير يعلل هذا بالإجماع، والإجماع عند ابن جرير كما هو معلوم يقصد به قول عامة المفسرين، قول الجمهور يسميه إجماعًا، فإذا رأيت ابن جرير يقول: غير أنا لا نستجيز مثلاً مخالفة إجماع الحجة، أو نقول ذلك لإجماع الحجة، أو لا نرتضي خلافه لإجماع الحجة فهو يقصد به قول عامة المفسرين، وهو يريد هذا تمامًا؛ لأنه يعلم بوجود الأقوال الأخرى والخلاف.

وأحيانًا يذكر هذه الجملة والسطر الذي قبلها يذكر قولاً مخالفًا، فدل هذا قطعًا على أنه يريد قول الأكثر، يسميه إجماعًا، وهذا مهم في فهم عبارات العلماء، فإن العلماء في إطلاق الإجماع ليسوا على رتبة واحدة.

بعضهم يقصد به ابتداء قول الأكثر كابن جرير، وبعضهم يذكر الإجماع ولكنه يتساهل في إطلاقه فينقل الإجماع والواقع أنه لا يوجد فيه إجماع، وهذا تجده في إجماعات ابن المنذر، وتجده في كثير من كلام المتأخرين يذكرون الإجماع والواقع أنه لا يوجد إجماع، ويمر بنا هذا كثيرًا في التفسير وفي غيره.

والذي حكاه الواحدي أيضًا عن المفسرين -يقصد عامة المفسرين- أن لَفِي عِلِّيِّينَ أي: السماء السابعة، وعبارات بعض السلف مثل الضحاك ومجاهد وقتادة يقولون: السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين، يعني جعلوا عليين ليس ذلك الكتاب، يعني ليس بكتاب يسمى بعليين، وإنما كما سبق في سجين أنه موضع تكون فيه أرواح الكفار، تصير إليه أرواح الكفار، وأراوح المؤمنين تكون في السماء السابعة، طبعًا يقصدون بهذا في البرزخ يعني بعد الموت وقبل البعث أين تكون أرواح أهل الإيمان.

فهنا قوله -تبارك وتعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ يحتمل أنهم كُتبوا وقضي لهم أنهم في عليين يعني يصيرون إلى ذلك، وهذا تجده حتى في كلام الناس يقول: أسأل الله أن يجعلك في عليين، فيفهم المقول له ذلك أن روحه تصير ثمَّة بهذا العلو والمنزلة وما إلى ذلك، فهو يحتمل من حيث اللفظ أن يراد به اسم هذا الكتاب الذي دونت فيه الأعمال كما قلنا في سجين، ولكن نحن نستبعد هذا الاحتمال كما استبعدناه في سجين بناء على الرواية؛ ففي حديث البراء أن سجين في الأرض السابعة السفلى، وهنا عندنا أيضًا في عليين أنه في السماء السابعة، فحتى قول من قال: سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كالضحاك هو أيضًا يعود إلى هذا القول أنه السماء السابعة، وبعضهم يقول: في عليين يعني الجنة، والذي عليه أهل العلم وهو المشهور الذي نقل عليه ابن جرير الإجماع -بالمعنى الذي ذكرنا- أن المقصود به السماء السابعة.

هنا يقول ابن كثير: والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع، وفي حديث البراء الذي أشرتُ إليه في ذكر الروح حينما يموت الإنسان وتأخذ روحَه ملائكةُ الرحمة فيصعدون بها، وفيه حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، لاحظ الروح ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول: اكتبوا كتاب عبدي في عليين[1]، هنا لما تنتهي إلى السماء السابعة فهل هذا يعني أن عليين هو الكتاب الذي كتبت فيه أعمالهم؟ والله يقول حينها حين يبلغون بها إلى السماء السابعة: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ليس باسم للكتاب، وجاء في رواية: اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة فما معناه؟

يعني أنه يصير إلى ذلك -والله تعالى أعلم، يعني أنه يكتب له، يحكم له، فلان في عليين، الروح يبقى لها اتصال بالجسد، ولكن كما سبق النبي ﷺ رأى الأنبياء في السماوات، ورأى إبراهيم ﷺ وعنده الولدان، وهؤلاء الولدان في قبورهم، فالأرواح لها أحوال -كما سبق- غيبية الله أعلم بها، ولكن نحن نقول بقدر ما جاء به النقل -والله تعالى أعلم.

قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ قال: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ أي مكتوب، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ قال: وهم الملائكة، قاله قتادة، وقال العوفي عن ابن عباس: يشهده من كل سماء مقربوها، يعني أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب، هذا إذا قلنا: إن عليين بمعنى الكتاب، اسم للكتاب.

يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ بمعنى يحضرون، وإذا قيل: مكتوب فـ "يشهده القربون" أي يشهدون على ما فيه، الشهود هم الملائكة، ويحتمل أن يفسر بما في حديث البراء ثم يشيعه مقربو كل سماء، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ لكن ذاك في الروح روح المؤمن، والكلام هنا في الكتاب سواء قلنا: الكتاب الذي يسمى بذلك يحضره المقربون، أو أن هذه الكتابة أنه كتب أن فلانًا في عليين من الذي يشهد؟ المقربون من الملائكة -عليهم الصلاة والسلام.

ابن جرير -رحمه الله- يقول: يشهد ذلك الكتاب المكتوب بأمان الله للبَرِّ من عباده، لاحظ شهادة على الكتابة التي فيها كُتب الأمان له أنه في عليين، أمان له من النار والفوز بالجنة، يشهد ذلك المقربون من الملائكة من كل سماء، هذا كلام ابن جرير، ولا شك أن في كل سماء من يوصف بذلك من الملائكة، ويدل عليه حديث البراء الذي ذكرته آنفًا "ثم يشيعه مقربو كل سماء" يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ من أهل كل سماء -والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى مؤكدًا لما كتب لهم: كِتَابٌ مَرْقُومٌ ۝ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وهم الملائكة، قاله قتادة.

وقال العوفي عن ابن عباس: يشهده من كل سماء مقربوها.

ثم قال تعالى: إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ أي: يوم القيامة هم في نعيم مقيم، وجنات فيها فضل عميم.

وهذا كما سبق في كلام ابن القيم: هذا يوم القيامة، ولكن ابن القيم أيضًا قال: لَفِي نَعِيمٍ في القيامة، وفي البرزخ، وفي الدنيا، وإن كان السياق هنا بلا شك في القيامة.

يعني هنا يصف النعيم، هناك في صِلِيِّ النار، وهنا في نعيم الجنة، هذا هو النعيم على الأرائك.

عَلَى الأرَائِكِ وهي: السرر تحت الحِجَال.

العرب تقول: الأريكة والمقصود بها السرر تحت الحجال، يعني لا تقول العرب للسرير مطلقًا أريكة، وإنما يقولون للسرير الذي يكون عليه مثل المظلة، سقف، ليس سقف الغرفة، وإنما سقف خاص به، فهذا يكون أكثر جمالاً وتنعمًا وزينة وبهاء وما إلى ذلك، يقال له: أريكة، فلا يقال: أريكة لسرير ليس فيه ذلك، السرر تحت الحجال هذه هي الأرائك.

أما اصطلاح الناس اليوم على أن الأريكة تقال لمكان الجلوس الذي لربما لا يكون له ظهر فضلاً عن سقف فهذا ليس بمراد، وإنما هو شيء حادث، يعني التسمية هذه.

يَنْظُرُونَ قيل: معناه: ينظرون في مُلكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد. وقيل: معناه عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ إلى الله ، وهذا مقابل لما وُصف به أؤلئك الفجار كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فذكر عن هؤلاء أنهم يُباحون النظر إلى الله وهم على سررهم وفرشهم.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ هنا حذف المتعلق، ما قال: ينظرون إلى كذا، وكما سبق أن حذف المتعلق يقتضي العموم، فهنا ينظرون إلى النعيم، ينظرون إلى ملكهم، ينظرون إلى الزوجات الحسان، الحور العين، ينظرون إلى وجه الله الكريم الذي هو أعظم نعيم، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين يرون ربهم -تبارك وتعالى، فذلك أعظم نعيم يعطونه.

وبعض أهل العلم يقول: أيضًا ينظرون إلى أهل النار قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [سورة الصافات:51] إلى أن قال: قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ۝ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ [سورة الصافات:54، 55]، فالله -تبارك وتعالى- لم يقيد هذا النظر بنوع من النعيم، وإنما ينظرون إلى أنواع الملاذ، وما يبهج النفوس، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منهم.

وقوله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي: تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم، أي: صفة التَّرافة والحشمة والسرور والدِّعة والرياسة مما هم فيه من النعيم العظيم.

بمعنى أن النعيم يظهر على وجه الإنسان كما أن البؤس والفقر وشظف العيش يظهر على وجهه؛ ولذلك قال الله عن فقراء المهاجرين: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [سورة البقرة:273] وذكرنا هناك قول من قال كابن جرير: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ أي: ما يظهر عليهم من شحوب الوجه، الفقراء الذين لا يجدون كفايتهم أولئك الذين يجهدون ويكدحون في طلب الأقوات يظهر ذلك على وجوههم، ويظهر على هيئتهم وعلى لباسهم، يظهر عليهم الشحوب، فمن رآه عرف أنه فقير مع أنه لم يسأل، يكون متعففًا، فهكذا أهل النعيم والترف يظهر ذلك في وجوههم، فإذا رأيته عرفت أنه غني من تقاسيم وجهه، ومما يظهر عليه من النعمة والنعيم، فلا شك أن هذه الأمور تؤثر في الإنسان، ولذلك انظروا أحيانًا تجد بعض العمال أو الخدم في البيوت حينما يسافر إلى بلده في أجازة يجلس شهرين أو نحو ذلك في بلد فقر شديد يرجع بحال غير التي ذهب بها، يظهر عليه أثر شظف العيش، والمعاناة، والفقر، فهذه أمور تظهر على الإنسان، الإنسان الذي يكابد لقمة العيش ويعمل كل يوم، ويذهب صباح مساء وفي الشمس إلى آخره يظهر عليه، ولذلك يستغرب الناس أحيانًا حينما يعلمون ويكتشفون أن فلانًا يملك أموالاً طائلة وهم يظنونه حينما يرونه من أفقر الناس؛ لكون هذا الإنسان يزاول أعمالاً مما يزاولها الفقراء، ويشح بهذا المال ولا ينفق منه على نفسه، ولا عياله، فلا يظهر عليه سِيما الغنى والنعيم؛ لأنه لم يتنعم بهذا المال، وإنما كان حارسًا فقط عليه، فالشاهد أنهم يتعجبون؛ لأنهم لا يرون سيما ذلك عليه، ما يظهر الأثر، الهيئة هيئة فقير، وهذا شيء مشاهد، يأتي أحيانًا بعض الناس تظن أنه يطلب صدقة ثم تكتشف أنه يريد أن يسأل عن قضية أو يسأل عن حساب عند الصرافة، وهو لا يعرف كيف يستعمل البطاقة، ويظن أن معرفة الرقم الذي في الحساب يعني الرصيد المالي له يظن أنه لابدّ أن يسحب مبلغًا فيقول: اسحب لي مائة ريال ببطاقته هو وأنت تظن أنه يسأل عند الصرافة، ثم يخرج الرقم -نسأل الله أن يبارك للجميع ويزيد الجميع من فضله- لا تستطيع أن تقرأه، وهذا حصل، قيل لهذا الإنسان: عفوًا الرقم ما نعرف أن نقرأه، أنت تريد مائة؟ قال: لا، أنا أريد فقط أن أعرف الرقم، فقيل له: هذا يخرج لك الرصيد بدون ما تسحب مائة، والذي ينظر إلى هيئته كأنه خرج من قبر يبدو أنه يعمل في كسّارة أو شيء من هذا القبيل، يعني عنده كسارة وجالس مع العمال، هذا يحصل وموجود، والله المستعان.

على كل حال نضرة النعيم هذه لأهل الجنة، أهل الجنة الذين أكثر الناس أمراضًا في الدنيا، ففي الجنة شيء آخر، نضرة النعيم، أفقر الناس أبأس الناس، يذهب الذي في الدنيا هذا كله البؤس والشحوب والتعب والمعاناة والأمراض والأوجاع والعلل والسرطانات والوباء الكبدي إلى آخره كل هذا يذهب، نَضْرَةَ النَّعِيمِ الجميع تراهم في صور في غاية البهاء، كما يقول بعض المفسرين: وجهه يتلألأ، فهذا في الجنة، هذا الذي يحتاج إلى عمل، أكثر أهل الجنة الضعفاء المساكين الفقراء ضعفاء الناس، هؤلاء هم أكثر أهل الجنة، القضية لا تحتاج إلى وقت وجهد حتى يأكل ويشرب من الجنة يحتاج لشهور حتى يظهر عليه أثر هذا، لا، لا، هذا كله ينتهي بأقل من لحظة، أبأس أهل الدنيا يغمس في الجنة غمسة واحدة ثم يخرج يقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ يقول: لا، والله، ويحلف ما مر بي بؤس قط، تخيل أبأس إنسان أي مليء بالأمراض مليء، بالهموم، مليء بالمشاكل، مليء بالفقر، أبأس إنسان المصائب تطوف به من كل ناحية غمسة واحدة فقط فكيف إذا بقي في النعيم أبد الآبد، يقول: لا، والله ما رأيت بؤسًا قط، وأنعم واحد تخيل من بعد آدم ﷺ إلى قيام الساعة، يكون ساكنًا في ذهب، وحمامه -أعزكم الله- من ذهب، وما بقي إلا أن يأكل ذهبًا، أنعم إنسان مركبه ذهب لا يتنزل للفضة، يغمس غمسة واحدة في النار ويقال له: هل مر بك نعيم قط؟ يقول: لا، والله يا رب ما مر بي نعيم قط.

فالدار التي تستحق الجد والاجتهاد والعمل وإخلاص النية هي الدار الآخرة، أما هذه فلا تكترث إن جاء مرض، إن جاء تعب، إن جاء مصيبة، إن جاء غم، هذا مثل الحر والرطوبة والصيف، اليوم رطوبة وغدًا الجو أبرد، هو متاع قليل ثم يمضي على الجميع ولكن هناك الناس يصيرون إلى ماذا؟.

وقوله تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ أي: يسقون من خمر من الجنة، والرحيق من أسماء الخمر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد.

روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري -أُراه قد رفعه إلى النبي ﷺ قال: أيُّما مؤمنٍ سقى مؤمنًا شربة ماء على ظمأ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن أطعم مؤمنًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مؤمن كسا مؤمناً ثوبًا على عُري كساه الله من خُضر الجنة[2].

وقال ابن مسعود في قوله: خِتَامُهُ مِسْكٌأي: خلطه مسك.

وقال العوفي، عن ابن عباس: طيَّب الله لهم الخمر، فكان آخرَ شيء جُعل فيها مسك، خُتِم بمسك، وكذا قال قتادة والضحاك.

هنا قال:يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ كما ذكر ابن كثير -رحمه الله- وهو قول السلف -رضي الله عنهم- أن الرحيق اسم من أسماءالخمر يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ يعني: من خمر، لكن وصفها هنا بقوله: مَخْتُومٍ ثم قال: خِتَامُهُ مِسْكٌ هذا تفسير لمختوم لكن ما المراد بذلك خِتَامُهُ مِسْكٌ؟ أقوال السلف فيه ترجع إلى ثلاثة أقوال:

الرحيق اسم من أسماء الخمر يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ يعني: من خمر، لكن وصفها هنا بقوله: مَخْتُومٍ ثم قال: خِتَامُهُ مِسْكٌ هذا تفسير لمختوم لكن ما المراد بذلك خِتَامُهُ مِسْكٌ؟ أقوال السلف فيه ترجع إلى ثلاثة أقوال:

أكثرهم على قولين ولكن إذا أردنا الاستقراء لو قال به قائل واحد نقول: ثلاثة، وإلا فالمشهور عند السلف في قوله: خِتَامُهُ مِسْكٌ قولان:

القول الأول: الختام بمعنى ما يختم به، يعني أن أغطيته مسك، كما يقول ذلك مجاهد وابن زيد، أي: مُطيَّن، يعني كأنه خُتم بالطين، فخمر الدنان في الدنيا تختم من أجل أنها لا يدخلها غش، وأنها كما يقال مختومة بالشمع، قديمًا كانت تطين رءوسها بحيث إنها تكون مضمونة كما يقال، معتق كما يقول ابن جرير، هو لا يختار هذا القول لكن يرد على القائلين فيستعمل مثل هذه العبارة -معتق.

فهذا التطيين قديمًا لها هذا مثل هذه القوارير التي نشرب بها، أو قوارير المشروبات عمومًا تجد أنها عندما تفتح يكون ذلك أشبه بنوع كسر باعتبار أنها ما فتحت قبل ذلك، ما غُير الشراب، ما بدل، ما خلط، ما صب عليه ماء، ما جاء أحد عبث فيه، في السابق ما عندهم هذه الآلات التي تجعلها بهذه المثابة بحيث كما تفتح القوارير الآن بضغطة معينة ثم بعد ذلك يكون هنا فصل لطرفيها إلى آخره، لا، أول الطين بحيث لو جاء أحد يريد تنكسر، فهنا من أجل أن يطمئن إلى أنها من المصنع مباشرة، ما مستها الأيدي.

ولهذا يقول بعضهم مثل السندي في بعض حواشيه على كتب الحديث يفسر بالمعنى هذا اسمه تفسير بالمعنى يقول: المختوم: المصون الذي لم يتبدل لأجل ختامه، يعني فسرها هنا بالمعنى، مختوم أي مصون، كما أنهم يطينون رءوس هذه الدنان -أفواه الدنان- هنا فهم منه أن المقصود مختوم أي مصون لم يتبدل من أجل ختامه، فهذا معنى، وقال به قائلون من السلف؛ ولهذا يقولون: معنى ذلك أنه ممنوع من أن تمسه الأيدي إلى أن يفك ختامه الأبرار، الأبرار هم الذين يقومون بذلك، هذا قول.

القول الثاني: وهو لجماعة من السلف كسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وهو اختيار ابن جرير أن المقصود بختامه آخر الطعم، آخر طعم هذا الخمر المسك، لمّا يشرب يكون ختامه مسكًا، فيكون هذا أطيب، الخمر رائحتها قبيحة جدًا، وهكذا هذه البلايا المحرمة التي يتعاطاها هؤلاء الناس-نسأل الله العافية للجميع.

الآن عندما تقرأ تقريرًا -أعزكم الله- عن الشيشة هذه التي فيها روائح ويقولون: هذه رائحة الفراولة، وهذه نكهة الفراولة تستهوي بعض الناس السذج، ويظن هذا فعلاً، بينما هي سموم ممتلئة، وطريقة عمل هذه الأشياء وطريقة إنتاجها لو اطلعوا عليها لنفروا منها غاية النفور، خمر الجنة ختامها مسك، يعني أن آخرها يكون مسكًا فليس فيها رائحة سيئة، وليس فيها من الطعوم ما يكون سيئًا كما هو الحال في خمر الدنيا.

وابن جرير -رحمه الله- يرجح هذا القول؛ لأن خمر الجنة كما أخبر الله أنهار، فليس فيه دنان حتى يحتاج إلى ختم بطين، بمعنى أنه يوضع المسك في أفواهها لتغطيتها وتغليفها، يقول: ليس بحاجة إلى هذا هي أنهار جارية، واضح وجه ترجيح ابن جرير؟

لكن لو ثبت أنه يوجد في الجنة دنان من الخمر مثلاً لكان هذا مشكلاً على قول ابن جرير، لكن الذي ذكر في الجنة: الكأس، الأباريق، الأكواب، هذه ذكرت وهذه ليست الدنان، فآخر طعم الخمر مسك، إذا رفع الشارب الإناء عن فيه وجد طعم المسك ورائحة المسك، وهذا أطيب ما يكون في الشراب، ترون الآن تباع أنواع من الأشياء التي توضع مع الشراب، وأحيانًا توضع في الأوعية وما هذه الأشياء التي توضع؟ إما ماء الورد أو يوضع ما يسمونه اللقاح، أو يوضع أشياء مما يسميه بعضهم القطران يوضع في الأسقية نفسها، في الأوعية نفسها أحيانًا، يعني الوعاء في تصنيعه توضع فيه مادة يسمونها القطران تشبه القار، كلها طعم يستسيغه بعض الناس، ومن الناس من يرى أن هذا في غاية السوء في الطعم.

كذلك اللقاح يستسيغه بعضهم، وبعضهم لا يستسيغه أبدًا، الجنة شأن آخر، أقصد أن الناس في الدنيا يحتالون على تطييب أسقيتهم بهذه الأشياء التي يضعونها، أما في الجنة فشأن آخر مع أن بعض أهل العلم يقول: إن هذا الختام للمسك أنه للأواني، الأكواب، الأباريق إلى آخره، هي مغلفة بالمسك، يعني ابن جرير يقول: أنهار فلا يوجد دنان للخمر حتى تختم وتطين بالمسك مثلاً، إذًا المقصود بالختام آخر ما يصل إلى الشارب المسك، فالختام يحتمل هذا، ويحتمل هذا، مع أن بعض أهل العلم يقول: إن الختام المقصود به أنه مخلوط بالمسك، وهذا نقله ابن كثير كما ترون هنا.

والثالث: هو الذي أشرت إليه أنه مخلوط بالمسك، نقله عن ابن مسعود، فهذا بعض أهل العلم يقول: هذا لا يعرف في لغة العرب، يعني أن لفظة الختام بمعنى الخلط، ما تأتي بمعنى الخلط إنما آخر الشيء ختام الشيء أو ما يختم به على هذا الشيء، لكن نقول: لو صح هذا الأثر عن ابن مسعود وهو عربي قح فكيف يقال: لا يعرف عند العرب؟ إلا إن قصد التوسع في العبارة بمعنى أنه مخلوط بالمسك، يعني لما كان آخره بطعم المسك كان ذلك نوع خلط له، بمعنى أنه فيه ممازجة بالمسك لكن في آخره، تظهر في آخره، يعني ليس بخمر صرف، وإنما معه مسك، لكن هذا المسك في الآخر فيكون عبّر بالخلط بهذا الاعتبار، وإلا فالممازِج بعض أهل العلم يقول: لا يقال له ختامه كذا، وإنما يقال: ممازِجه كذا، فيمكن أن يوجه قول ابن مسعود  بهذا الاعتبار -والله تعالى أعلم، لكن الأثر المذكور هنا الحديث وهو حديث أبي سعيد الخدري: أيما مؤمن سقى مؤمنًا شربة... الحديث في إسناده ضعف.

وقوله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ أي: وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، وليتباهَ ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون، كقوله تعالى: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [سورة الصافات:61].

كلام ابن مسعود الذي سبق في أنه خلْطُه مسك أيضًا قال به غيره، فقال به علقمة من أصحاب ابن مسعود، علقمة النخعي، وابن جرير -رحمه الله- يقول: هذا لا يعرف في لغة العرب، لكن كما سمعتم.

خاتَم، ختامه مسك، خاتَمه مسك هذه ليست بالضرورة فإن خاتَم الشيء قد يكون أيضًا آخر الشيء، فالنبي ﷺ خاتم النبيين لا نبي بعده، يعني هو آخر الأنبياء -عليه الصلاة والسلام، "ومزاجه من تسنيم" هذا الخلط، فرَّق بين العبارتين، كلام ابن جرير يمكن أن يوجه بالطريقة التي ذكرتُ: لما كان معه مسك عبر عن ذلك على سبيل التوسع بالخلط، وقراءة الجمهور هي التي نقرأ بها، خِتَامُهُ مِسْكٌ، والقراءة الأخرى متواترة قرأ بها الكسائي: خاتَمُه مسك والمعنى واحد -والله أعلم، الختام والخاتَم بمعنى واحد.

قال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، أي وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، ويتباهَ ويكاثر، ويستبق إلى مثله المستبقون، يعني فليرغب الراغبون، هذا كله قريب من المعنى، "في ذلك" أي هذا النعيم، أو إلى هذا الرحيق الموصوف بهذه الصفة، فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ.

وبعضهم يقول: إن "وفي ذلك" بمعنى إلى ذلك فليتنافس المتنافسون، يتبادر المتبادرون في العمل كما قال الله : لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [سورة الصافات:61]، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ هذه التفسيرات هي تقرب المعنى، لكن أصل التنافس بمعنى التشاجر، أصله التشاجر على الشيء التنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون غيره، يقال: نفِستُ الشيء عليه، يعني أنه ضن به وأحب أن يكون إليه ويختص به دون سواه.

والبغوي -رحمه الله- يُرجع ذلك إلى أن أصله من الشيء النفيس، والشيء النفيس تضن به النفوس، وتحرص عليه غاية الحرص بخلاف الشيء المبتذل، فكل واحد يريد هذا الشيء النفيس لنفسه، ويَنْفَس به على غيره: يضن به على غيره، كما يقول ابن جرير أيضًا، وهذا هو المجال الحقيقي للمنافسة والمسارعة، ولهذا يقولون: لا مجال للإيثار في القُرب؛ لأن ذلك مؤذن بالزهد فيما عند الله -تبارك وتعالى، ولهذا ذكر النبي ﷺ الأذان والصف الأول، وذكر فيهما المنافسة ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا..[3]، فهذا الاستهام للمنافسة الشديدة بحيث لا يتنازل أحد عن حقه، كل واحد يريد أن يستأثر بذلك، إلى منتهى النَّفَس يحتمل -والله أعلم، البغوي ذكر أنه من الشيء النفيس يتسابق الناس عليه.

وقوله تعالى: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ أي: ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم، أي: من شراب يقال له تسنيم، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه، قاله أبو صالح والضحاك؛ ولهذا قال: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي: يشربها المقربون صِرْفًا، وتُمزَجُ لأصحاب اليمين مَزجًا، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومسروق، وقتادة، وغيرهم.

تَسْنِيمٍ قال: هو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه، وقال: أعلاه؛ لأن أصل التسنيم في اللغة أصل هذه المادة يدل على الارتفاع والعلو، ولهذا يقال لسنام البعير؛ لأنه أرفع شيء فيه، وقال النبي ﷺ: وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله[4]، فالشيء الرفيع الشيء العالي هو مأخوذ من العلو والارتفاع، هذا التسنيم عين ماء تجري من أعلى إلى أسفل، أعلى الجنة، وبنحو هذا يقول ابن جرير -رحمه الله، هذا الذي قال الله عنه: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ يعني أن هذا الخمر مخلوط بالتسنيم، وهذا التسنيم هو عين في أعلى الجنة يشرب بها المقربون، هي شرابهم صرفًا لا يخلط ولا يمزج بشيء، ويمزج منها خمر أهل الجنة، أمّا مَن دون المقربين فإنه يمزج لهم في شرابهم من التسنيم.

يقول: وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا، فالمقربون أعلى مرتبة فيشربون منها صرفًا بلا خلط، ومَن دونهم يشربون ذلك مخلوطًا بغيره.

يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ۝ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ۝ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أخبر تعالى أن كتابهم مرقوم تحقيقًا لكونه مكتوبًا كتابة حقيقية، وخص تعالى كتاب الأبرار بأنه يكتب ويوقع لهم به بمشهد المقربين من الملائكة والنبيين"[5].

لاحظ فما جعله اسمًا للكتاب، وإنما كتاب الأبرار يعني ما يكتب لهم ويحكم لهم به من السعادة يشهده الملائكة، يشهدون هذه الكتابة.

وقال -رحمه الله: "بمشهد المقربين من الملائكة والنبيين وسادات المؤمنين، ولم يذكر شهادة هؤلاء لكتاب الفجار تنويهًا بكتاب الأبرار، وما وقع لهم به وإشهارًا له، وإظهارًا بيْن خواص خلقه، كما يكتب الملوك تواقيع من تعظمه بين الأمراء وخواص أهل المملكة، تنويهًا باسم المكتوب له، وإشادة بذكره، وهذا نوع من صلاة الله وملائكته على عبده"[6].

وقال -رحمه الله: "فهؤلاء الأبرار المقتصدون، وأخبر أن المقربين يشهدون كتابهم أي يُكتب بحضرتهم ومشهدهم لا يغيبون عنه، اعتناء به وإظهارًا لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربه"[7].

وقال -رحمه الله: "قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفًا، ويمزج لأصحاب اليمين مزجًا، وهذا لأن الجزاء وفاق العمل، فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله خلص شرابهم، وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات مزج لهم شرابهم، فمن أخلص أُخلص شرابه ومن مزج مُزج شرابه"[8].

فهذه من اللفتات الجميلة في التدبر التي يرفع الناس إليها أبصارهم، هذا النوع الراقي الذي أشرت إليه في الكلام على التدبر في المجلس الأول.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1676).
  2. رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في فضل سقي الماء، برقم (1682)، والترمذي، في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2449)، وأحمد في المسند، برقم (11101)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف عطية بن سعد العوفي، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين غير سعد أبي المجاهد الطائي، فمن رجال البخاري، وروى له أصحاب السنن غير النسائي، وهو ثقة، حسن: هو ابن موسى الأشيب، زهير: هو ابن معاوية الجُعْفي، وروي موقوفاً وهو الصحيح"، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (300)، وفي ضعيف الجامع، برقم (2249).
  3. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، برقم (615)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل، وتقريبهم من الإمام، برقم (437).
  4. رواه الترمذي، أبواب الإيمان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم (2616)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3973)، وأحمد في المسند، برقم (22016)، وقال محققوه: "صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد منقطع"، وصححه الألباني في إرواء الغليل، (2/ 138)، برقم (413).
  5. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص:70).
  6. المصدر نفسه.
  7. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:194).
  8. المصدر نفسه.

مواد ذات صلة