الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[2] من قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} الآية:8 إلى نهاية السورة
تاريخ النشر: ٢٦ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 4360
مرات الإستماع: 7555

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] أمره بالتذكير، وذكر أشرف الاحتمالين من التذكير وهو النفع، والذكرى واجبة، فهي تنفع من وفقه الله وهداه، كما أنها إقامة للحجة على المعاندين والمكذبين، قال: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [سورة الأعلى:10] فهذا هو الذي ينتفع بالذكرى -التذكير- وهم أهل الخشية، من يخشى الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى [سورة الأعلى:11] يعني أنه يُعرض عنها ولا ينتفع بها الأشقياء من الناس الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [سورة الأعلى:12] هذا الشقي يدخل النار ويقاسي حرها، وهي نار الآخرة، فهي نار كبرى بالنسبة لنار الدنيا، ثم يكون فيها بحال لا يحيا حياة نافعة، ولا يموت فيستريح، ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى [سورة الأعلى:13] بل هو في عذاب دائم وشقاء مستمر. 

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى:14، 15] "قد" هذه تفيد التحقيق، دخلت على الفعل الماضي، "قد أفلح" يعني حصّل المطلوب ونجا من المرهوب "من تزكى" زكى نفسه بالإيمان والعمل الصالح وخلصها من أضداد ذلك.

 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ذكر ربه -تبارك وتعالى- باسمه ذاكرًا اسمه فصلى لله ، فجمع بين الذكر والصلاة، قال: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة الأعلى:16، 17] فهذا حال الكفار وضعفاء أهل الإيمان، هذا الإنسان بما جُبل عليه من محبة الدنيا والتعلق بها بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا تقدمونها على الآخرة وتؤثرونها عليها، والآخرة خير من الدنيا وأبقى منها، فالدنيا فانية، ثم قال: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى [سورة الأعلى:18] يعني أن ما ذكره قبله من قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ۝ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ۝ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى [سورة الأعلى:14-18] مثبت، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [سورة الأعلى:19] -عليهما الصلاة والسلام. 

وأما [سورة الغاشية فذكرنا أنها تتحدث عن الآخرة عن القيامة، وما فيها من العذاب والنعيم، وما إلى ذلك مع التعجيب من حال المكذبين المنكرين لها الكافرين بالله مع ظهور دلائل قدرته ووحدانيته، وعظمته، وفيها تهديد مبطن لهؤلاء وما سيكون لمن أعرض وكذب من العذاب والحساب الذي ينتظره.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لي ولشيخنا وللحاضرين.

قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ۝ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ۝ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ۝ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ۝ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ۝ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ۝ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ۝ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ۝ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ  [سورة الغاشية:8-16].

لما ذكر حال الأشقياء ثنّى بذكر السعداء فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة، نَاعِمَةٌ أي: يُعرف النعيم فيها، وإنما حصل لها ذلك بسعيها، وقال سفيان: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ قد رضيت عملها، وقوله تعالى: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ أي: رفيعة بهية في الغرفات آمنون، لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً أي: لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو كما قال تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [سورة مريم:62]، وقال تعالى: لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ [سورة الطور:23]، وقال تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ۝ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [سورة الواقعة:25، 26].

قوله -تبارك وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ۝ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ۝ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ هذا كما سبق أنه يؤيد قول من قال: إن قوله -تبارك وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [سورة الغاشية:2، 3] ذلك من صفتهم في الآخرة وليس ذلك في الدنيا، وهكذا ما يقابله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ۝ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ۝ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، وقوله: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قد يكون ذلك أيضًا قرينة على أن قوله -تبارك وتعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [سورة الغاشية:1] المقصود بها النار، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ يعني كل ذلك في النار؛ لأن ما يقابله في جنة عالية، فهذا يحتمل.

وقوله -تبارك وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ هكذا الله -تبارك وتعالى- جعل هذا القرآن مثانِيَ فيذكر الوعد والوعيد ويعقب هذا بهذا من أجل أن يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء، يذكر صفات أهل النار وصفات أهل الجنة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لما كان هؤلاء يعملون في الدنيا ويجهدون ويتعبون في طاعة الله جازاهم الله بمقابل ذلك بهذه النعم والنعيم الذي يظهر على وجوههم "وجوه يومئذ ناعمة" يُعرف النعيم فيها، قال: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ هذا السعي وهذا العمل الذي عملوه في الدنيا وتعبوا فيه وما إلى ذلك كل هذا جازاهم الله به بهذا النعيم، والنعيم يظهر أثره على وجه الإنسان، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ وعرفنا أن السعي يأتي بمعنى العمل، وقد يُشعر ذلك بالإسراع والمبادرة قال: قد رضيت عملها، وبعضهم يقول: رضيت ثواب العمل، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ.

وقوله تعالى: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ أي: رفيعة بهية في الغرفات آمنون لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً هذه فيها ثلاث قراءات، هذه التي نقرأ بها لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً أصحاب الوجوه الناعمة لا تسمع في الجنة لاغية، وفي القراءة الأخرى أيضًا وهي متواترة لابن كثير وأبي عمرو لَا يُسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة، وفي قراءة نافع لَا تُسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة بالتاء، واللغو هو الكلام الساقط الذي لا قيمة له ولا فائدة فيه.

وقوله: لَاغِيَةً يحتمل أن يكون ذلك مصدرًا لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً يعني لغواً، لا تسمع فيها لغوًا، أو صفة لموصوف محذوف، يعني لا تسمع فيها كلمةً لاغية، أو لا تسمع فيها نفسًا لاغية، فالجنة ليس فيها لغو، وهذا يدل على أن من الشقاء والعناء سماع اللغو وحضور مجالس اللغو، كيف بالذي يقصده ويطلبه ويبحث عنه هنا وهناك في حسابات في تويتر، أو في مواقع في الإنترنت أو في مقالات أو في تعليقات هو يبحث عن هذه الأشياء ويتطلبها، هؤلاء الذي يتكلمون بكلام لا فائدة منه كلام يضر ولا ينفع، هؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويتكلمون فيما لا يعنيهم فكلامهم مجلبة للهم، مفسدة للقلب، مشوش للفكر، ثم بعد ذلك يذهب ويبحث عن هذه الأشياء، ويطلبها ويقرأ ويتابع أو يحضر المجالس التي فيها اللغو، فمن النعيم أن ينزه الإنسان نفسه من سماع اللغو، ومن تتبعه وقراءته ومجالسة أهله، وبذلك يحصل له راحة القلب.

وقوله هنا: لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو يعني كلمة لاغية باعتبار أنه صفة لموصوف محذوف، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، قال الله تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا، لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا فهذا كله بمعنى لا تسمع فيها لاغية، لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ۝ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا.

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ أي: سارحة، وهذه نكرة في سياق الإثبات، وليس المراد بها عينًا واحدة وإنما هذا جنس يعني فيها عيون جاريات.

وروى ابن أبي حاتم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أنهار الجنة تفجر من تحت تلال -أو من تحت جبال- المسك.[1]

قوله هنا: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ أي: سارحة وهذه نكرة في سياق الإثبات، النكرة التي في سياق الإثبات لا تعم بل ذلك هو المطلق، لكن نحن نعلم أن الجنة فيها عيون وليست عينًا واحدة، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله، فهذا جنس أي عيون جاريات، وهذه في جريها لا تجري في أخاديد كما هو حال العيون التي في الدنيا، وإنما تجري سارحة على ظهر الأرض من غير أخاديد.

النكرة التي في سياق الإثبات لا تعم بل ذلك هو المطلق، لكن نحن نعلم أن الجنة فيها عيون وليست عينًا واحدة، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله، فهذا جنس أي عيون جاريات، وهذه في جريها لا تجري في أخاديد كما هو حال العيون التي في الدنيا، وإنما تجري سارحة على ظهر الأرض من غير أخاديد.

فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي: عالية ناعمة كثيرة الفرش مرتفعة السمك، عليها الحور العين، قالوا: فإذا أراد ولي الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له.

هنا السرر معروفة، وصفها بأنها مرفوعة، والارتفاع يحتمل أن يكون الارتفاع الحسي، وهذا هو ظاهر اللفظ، ويحتمل أن يكون الارتفاع المعنوي بمعنى أنها عالية القدر مرفوعة، وأنها منزهة عن كل المدنسات بجميع أنواعها، سواء كانت هذه المدنسات حسية أو كانت هذه المدنسات معنوية مما يقارف من الفواحش وما إلى ذلك، فهذه سرر مرفوعة تشمل الرفعة في المكان، وكذلك من جهة المعنى عالية القدر، نفيسة، نظيفة، شريفة، طيبة، يقول: عليها الحور العين باعتبار أنه ذكر السرر، ويمكن أن يكون ذلك إشارة أيضًا إلى الحور معها.

وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ يعني: أواني الشرب معدة مُرصَدة لمن أرادها من أربابها.

وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ يعني أواني الشرب، وعرفنا من قبل الفرق بين الأكواب والكئوس، فالقداح التي لا عُرى لها هي الأكواب، أكواب موضوعة بين أيديهم يشربون منها، ويحتمل أنه كما قال ابن جرير لما ذكر العين الجارية: إن هذه الأكواب على حافة العين يجدونها ملأى، فالجنة فيها أكواب سواء كان ذلك كما قال ابن جرير على حافة العين، أو في غيره، فأكواب الجنة أعم وأوسع من أن تقيد بهذا، لكن كأن ابن جرير -رحمه الله- هنا راعى ما قبله، ولكنه ذكر بعد العين السرر فلا حاجة -والله أعلم- لربط هذه الأكواب بما قبله من ذكر العين فهي موضوعة قريبة منهم معدة مرصدة كما يقول ابن كثير لمن أرادها.

وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ قال ابن عباس -رضي الله عنهما: النمارق الوسائد، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك والسدي والثوري وغيرهم.

النمارق هي الوسائد، وهذا الذي اختاره ابن جرير، وعزاه الواحدي للمفسرين، جميع المفسرين: أن النمارق هي الوسائد، هذه النمارق مصفوفة.

وقوله تعالى: وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ قال ابن عباس -رضي الله عنهما: الزرابي البُسُط، وكذا قال الضحاك وغير واحد.

البسط هذه هي الزرابي، هذا الذي قاله كثير من السلف، وبعضهم يقول كأبي عبيدة والفراء واختاره ابن جرير: إنها الطنافس التي لها خَمَل رقيق، وتكون جمعًا لزِرْبيّة، الزرابي جمع لزِرْبيّة، وهنا وصف هذه الزرابي بأنها مبثوثة.

 ومعنى مبثوثة أي: هاهنا وهاهنا لمن أراد الجلوس عليها.

يعني هذا يدل على كثرتها، يعني لكثرتها قيل: مبثوثة، هذه البسط، ولهذا قال بعضهم: مبثوثة يعني مبسوطة كما يقول قتادة، وبعضهم كعكرمة يقول: بعضها فوق بعض، وبعضهم يقول: مفرقة في المجالس كما يقول ابن قتيبة.

المقصود أنه كما قال ابن كثير -رحمه الله: أي: هاهنا وهاهنا لمن أراد الجلوس عليها، يعني هم في مكان من النعيم على سرر مرفوعة وعندهم الوسائد لمن أراد الجلوس والاتكاء، والبسط التي لا يمكن أن تقاس بما في الدنيا بأجمعها مبثوثة بكثرة هنا وهناك يجلسون حيث شاءوا، فهذا لا شك أنه مما يبعث البهجة في النفوس، ويكون محلا للاسترواح وللذة وللنعيم، إذا أتيت مكانًا متنزهًا ووجدت الوسائد والسرر ووجدت البسط مبثوثة في كل ناحية مما يمكن أن يتنقل إليه الإنسان مما يقلب فيه بصره وتبتهج به نفسه فلا شك أن هذا من صور النعيم التي يعرفها الناس.

أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۝ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ۝ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ۝ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ۝ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۝ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ۝ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ۝ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ۝ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۝ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [سورة الغاشية:17-26].

يقول تعالى آمرًا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ فإنها خلق عجيب وتركيبها غريب، فإنها في غاية القوة والشدة وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف وتُؤكل وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها، ونُبِّهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل، وكان شريح القاضي يقول: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت، أي: كيف رفعها الله  عن الأرض هذا الرفع العظيم، كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [سورة ق:6].

هنا قوله -تبارك وتعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ هؤلاء الذين يكذبون ولا يؤمنون بالآخرة كيف يعمون عن دلائل قدرة الله ؟

فهذه الإبل التي يعافسونها ويركبونها ويشاهدونها صباح مساء أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ يعني هذا النظر يكون من هذه الجهة، كيف خلقت هذا الخلق بهذه الصفة حيث جعل الله لها هذا الجرم الكبير مع امتداد العنق، وجعل الله قوائمها طويلة، وذلك أدعى لقطع المسافات، فهي بحركات يسيرة في هذه القوائم تقطع ما لا يقطعه ذو القوائم القصيرة كما هو معلوم، ولهذا إذا مشى الكبير مع الصغير الكبير يمشي على رسله والصغير يشتد ولا يدرك.

فهذه الإبل جعل الله لها هذه القوائم الطويلة لمّا كانت معدة للأسفار، ولما كانت في الأماكن التي تكثر فيها الرمال جعل لها هذه الخفاف العريضة، وجعلها مبطنة لينة، وكذلك أيضاً جعل لها هذه الأعناق الطويلة بحيث تستطيع الوصول إلى الأرض، فلم تكن أعناقها كأعناق البقر أو الخيل أو الغنم فلا تستطيع الوصول إلى النبات إلا بأن تكون باركة أو نحو ذلك، فجعل لها أعناقًا طويلة تستطيع أن تمد هذه الأعناق وتأكل من الشجر، وجعل لها هذه الخزائن فوق ظهورها -السنام- بحيث إنها تستطيع الصبر على السير الطويل فتبقى مدة لا تأكل ولا تشرب بحيث تكون معدة صالحة لأسفارهم، فلو كانت مثل الإنسان إذا مشى بضعة كيلو مترات فإنه لا يكاد يستطيع السير إلا بأن يشرب، أو لربما يأكل فلو كانت بهذه المثابة لم تكن صالحة لما أعدت له من الأسفار.

وهكذا في قوتها، وتحملها فيحمل عليها الأحمال الثقيلة وهي باركة ثم تقوم، ولهذا ذكر جمع من أهل العلم كأبي عمرو بن العلاء وابن جرير والزجاج ذكروا هذا الملحظ أنها الوحيدة من الدواب والبهائم التي تُحمل الأحمال عليها وهي باركة، أما البقية فإنها لو حمل عليها وهي رابضة فإنها لن تستطيع النهوض، لو حمل على الحمير أو البغال مع قوتها فإنها لا تستطيع النهوض، أما هذه فيحمل عليها وهي باركة عادة ثم بعد ذلك تقوم بهذه الأحمال الثقيلة، فهذه من آيات الله -تبارك وتعالى- إضافة إلى أشياء كثيرة في خلقها ذكرنا بعض ذلك في الكلام على الأسماء الحسنى.

ولم يذكر لهم الفيل مثلاً أو الزرافة أو نحو هذا؛ لأنها ليست ببلادهم، والقرآن خاطب العرب بما يعهدون سواء في دلائل القدرة أو في نعيم الجنة أو عذاب النار، ولذلك ذكر لهم الفواكه التي يعرفون، وذكر لهم الطلح المنضود على القول المشهور بأنه شجر الشوك، فيكون قد قُطع شوكه، وخُضد، طلح لا شوك فيه هذا أمنية عندهم، هذه أحلام أن يوجد شجر له ظل في بلادهم الحارة وليس له شوك؛ لأن العضاه من الشجر في بلاد العرب في بلاد الحجاز خاصة هذا كثير الشوك بحيث لا يستطيع الإنسان الجلوس والانتفاع تحته في هذا الظل إلا بعمل شاق، بإزالة هذه الأشواك العالقة تحته، وهي أشواك كبيرة جدًّا لربما تكون بقدر المُسبِّحة وقوية وجافة -يابسة.

أمّا طلح ليس فيه شوك فهذا شيء يتخيلونه ويتمنونه، فهذا يُلفت -تبارك وتعالى-أنظارهم فيه إلى قدرته ، ومن الأقوال الغريبة المستبعدة جدًّا ما قاله المبرد من أن المقصود بالإبل في أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ قال: قطع السحاب العظيمة، هذا في غاية الغرابة، وهو خلاف قول المفسرين وأهل اللغة مع إمامته في اللغة، لكن على كل حال ذكر لهم الإبل والعلماء يتكلمون في مثل هذا لماذا ابتدأ بالإبل، ثم بعد ذلك ثنى بالسماء، ثم ثلث بذكر الجبال، ثم ربع بعد ذلك بذكر الأرض؟

يتكلمون في هذا -والله تعالى أعلم بمراده، يقولون: أول ما يعافس، أول ما يخالط، أول ما يركب الإبل، والسماء فوقه يراها فإذا رفع رأسه فالسماء في كل ناحية، والجبال منتصبة أمام ناظره، والأرض تحته.

قال تعالى: وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ أي: جعلت منصوبة فإنها قائمة ثابتة راسية؛ لئلا تميد الأرض بأهلها، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن.

فهذه الجبال في خلقها تدل على عظمة الله ، ولكن الإلف هو الذي يقطع على الناظر ذلك إذا ألفها، ولذلك لو ذهب الإنسان إلى بيئة جديدة -أعني في بعض المحال والنواحي- ونظر إلى بعض الجبال الغريبة التي لا عهد له بها في ألوانها وأشكالها فإنه يقف مندهشًا أمام عظمة الله  وقدرته، الجبال التي يعهدها قد يألف ذلك، ولا يحرك فيه ساكنًا، لكن إذا ذهب إلى جبال أخرى لا عهد له بها بتشكيلها وألوانها والتفافها وما فيها من الآثار الغريبة العجيبة والتشكلات في صخورها ونحو ذلك يراها شاهقة بارزة فيقف أمامها متذكرًا عظمة الله .

قال الله تعالى: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي: كيف بسطت ومدت ومهدت، فنبه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه والسماء التي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه، والأرض التي تحته على قدرة خالق ذلك وصانعه وأنه الرب العظيم الخالق المالك المتصرف، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه.

هنا ابن كثير -رحمه الله- يشير إلى الترتيب وإن لم يصرح بوجه ذلك، لكن كلامه هذا هو الذي يذكرونه، لماذا ذكر هذا أولاً ثم ثانيًا ثم ثالثًا، فهو يقول: هذا الناظر أو البدوي بما يشاهده من بعيره الذي هو أقرب شيء إليه، والسماء التي فوقه، والجبل الذي يكون مقابلاً له، والأرض التي تحته، فمثل هذه الأشياء الإلف يحول دونها، يعني نحن لكثرة ما نشاهد من الإبل الأمر عادي لكن الناس الذين لا عهد لهم بالإبل، فإذا رأوا بعيرًا فهذا عندهم شيء هائل يقفون وينظرون ويتفرجون ويتأملون في ملامحه وتقاطيعه وخلقه وتفاصيله، رأيتم هذا، بل هم لربما في بلاد الغرب إذا عرفوا أنك من أهل هذه البلاد كما يقول لي أحد المشايخ الذين عندهم مواقع للفتيا ومواقع للإجابة على الأسئلة ويردهم من هناك أشياء كثيرة من الطرائف أن بعض الأطفال والصغار هناك يقول: أرسل لي صورة جمل، يريد أن يرى صورة الجمل، وهؤلاء إذا جاءوا إلى حديقة حيوان أو إلى مكان فيه جمل اجتمعوا عليه ينظرون ويتعجبون.

فهذا السبب هو الإلف نحن ألفنا هذه الأشياء فلا نعجب منها، لكن لما جيء بفيل إلى المدينة في فتوح العراق خرج النساء والصبيان -خرج أهل المدينة- ينظرون إلى الفيل، لكن في بلاد فارس، أو بلاد الهند الأفيال تمشي في الهند في الشوارع، وفي أماكن تجمّع الناس، ولا يتوقف أحد ولا ينظر أحد، شيء عادي بالنسبة إليهم، لكن هنا لو جيء بفيل يطوف في الشوارع لخرج أهل البلد يتفرجون عليه؛ لأنه غير معهود بالنسبة إليهم. 

ولهذا بعض أهل العلم يقول: لو أن أحدًا من الناس ولد في مكان لا يرى فيه شمسًا ولا قمرًا ولا أرضًا ولا بحرًا ولا سماء ولا ليلاً ولا نهارًا منذ أن ولد حتى شب ما رأى شيئًا، جالس في بيت لا يرى فيه نوافذ ثم بعد ذلك خرج وقت طلوع الشمس مثلاً، أو خرج في الليل فهو طول الوقت لا يمكن أن ينام، ينظر إلى هذه النجوم، وينظر إلى القمر ويتأمل ثم بعد ذلك طلوع الفجر، طلوع الشمس يرقبها حتى تغيب، فإذا قدر له أنه رأى البحر فهذا أمر بالنسبة إليه هائل يملأ قلبه من الإيمان، وتعظيم الله ، والخوف منه.

لذلك انظر إلى الناس الذين ما رأوا البحرَ البحرُ يشدهم، ويستهويهم ويقفون أمامه منبهرين، الناس الذين ما رأوا الأنهار قط إذا رأوا نهرًا فهذا بالنسبة إليهم أمر عظيم، أما الذين يعيشون على الأنهار فهذا لا يحرك فيهم ساكنًا، الإلف.

ولذلك لكسر هذا الإلف يمكن للإنسان أن يقلب النظر، وينظر إلى أشياء أخرى غير معهودة بالنسبة إليه، وهذا اليوم متاح جدًّا المقاطع التي توجد الآن في الإنترنت من عجائب خلق الله ما شئت من أشياء غير معهودة بالنسبة لك، صور جبال، أشياء تتعلق بالأنهار، بالأشجار أشجار غريبة عجيبة جدًّا.

انظر على سبيل المثال بلاد قريبة عندنا هنا اليمن فيها جزيرة اسمها سِقَطرى، هذه الجزيرة من أعجب الجزر في العالم، افتح في النت واكتب في جوجل سِقَطرى وطالع هذه المخلوقات العجيبة التي فيها، طالع أنواع الأشجار النادرة في العالم التي بعضها يشبه الحيوانات، يعني أحيانًا ما تدري هذه شجرة أو حيوان، أشياء عجيبة غريبة، فإذا جلست تنظر إليها تقف مندهشًا، لكن الذين يعيشون في تلك الجزيرة بالنسبة إليهم هذا عادي لا غرابة فيه، ولا يحرك ساكنًا. 

وقل مثل ذلك في أشياء تشاهدها أحيانًا: عيون في أماكن، عيون في الجبال، عين في وسط الجبل، العين تخرج من الجبل هكذا ما هو من الأرض، من الجبل، وعجائب وغرائب، فهذا يمكن أن يحرك قلب الإنسان من جهة دلائل القدرة لله ، هذا غير المخلوقات الدقيقة جدًّا، غير الصور التي لربما تكون عولجت بالتسريع الهائل فترى الليل وهو يعقب النهار وكيف يكور الليل على النهار والنهار على الليل، صورة حقيقية، كذلك الصور التي تبين لك الأرض من بعيد صورة حقيقية تقربها حتى تصل إلى بيتك، أما صور الكواكب الحقيقية والنجوم والأشياء فهذه أشياء هائلة موجودة في حركتها.  

وهكذا أقسم ضِمام في سؤاله على رسول الله ﷺ، كما رواه الإمام أحمد عن ثابت عن أنس ، قال: كنا نُهينا أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد، إنه أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك،...

كلمة زعم تأتي لعدة استعمالات، أحيانًا للقول الذي يُوهَّن للتكذيب، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [سورة التغابن:7]، وأحيانًا تأتي بمعنى قال وهذا منه.

...قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله قال: فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا، قال صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا، قال: صدق، قال: ثم ولى فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئًا ولا أنقص منهن شيئًا، فقال النبي ﷺ: إن صدق ليدخلن الجنة [2].

ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

وقوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۝ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي: فذكر يا محمد الناس بماأرسلت به إليهم فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، ولهذا قال: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: لست عليهم بجبار، أي: لست تخلق الإيمان في قلوبهم، وقال ابن زيد: لست بالذي تُكرههم على الإيمان.

روى الإمام أحمد: عن جابر ، قال: قال رسول الله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ، ثم قرأ: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۝ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [3]، وهكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان، والترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين.

قوله -تبارك وتعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ يعني مهمتك هي التذكير، وليس الإكراه والإجبار لهؤلاء على الإيمان فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ قال ابن عباس ومجاهد: بجبار، يعني لست تخلق الإيمان في قلوبهم، أو كما قال ابن زيد: لست بالذي تكرههم على الإيمان، يعني المصيطر هو المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعاهد أحواله، فالنبي ﷺ الله أخبر أنه ليس على الخلق بهذه المثابة، كما أنه ليس بوكيل ولا بحفيظ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [سورة النساء:80]، إنما مهمته -عليه الصلاة والسلام- البلاغ المبين.

قال: وقوله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم...، هنا لم يقل: أمرت أن أقتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وإنما قال: أمرت أن أقاتل الناس، وفرق بين القتل وبين القتال، فهو يقاتلهم حتى يذعنوا للإسلام وينقادوا له، أما أهل الكتاب فإنهم يخيرون بين الإسلام ودفع الجزية لكنه لا يوضع السيف على رأس الواحد من هؤلاء فيقال له: تُسلم أو تقتل، أما أهل الإشراك من غير أهل الكتاب -على خلاف في المجوس- فإن هؤلاء يمكن أن يقتل الواحد منهم إذا أسر، ويمكن أن يسترق أو أن يترك مجانًا تؤخذ منه الفدية، المقصود أنه بعينه لا يكره بالقتل فيقال: ادخل في الإسلام وإلا قتلناك، هذا لا يوجد.

وما جاء عن أبي هريرة في القوم الذين يدخلون الجنة بالسلاسل فُسر بهذا، أي الأسرى يؤخذون فيهدي الله قلوبهم فيدخلون في الإسلام، فهنا النبي ﷺ قال: أمرت أن أقاتل الناس، ما قال: أمرت أن أقتل الناس، ومن ثم قال الله : لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [سورة البقرة:256] فلا يُكرَه أحد على الدخول في الإسلام، ولكن يُقاتَل الناس على الإسلام فتكون بلادهم خاضعة لحكم الإسلام، لحكم الله ، أن تكون كلمة الله هي العليا، فيبقى هؤلاء إن كانوا من أهل الكتاب من أهل الذمة؛ فإن أهل الذمة هم أهل البلاد الأصليون إذا دفعوا الجزية وعاقدوا المسلمين على هذا فيبقون ولا يكرهون على الدخول في الإسلام، وقد بقي هؤلاء منذ ذلك الحين، النبي ﷺ فتح خيبر وأقر اليهود فيها، إلى غير ذلك من البلاد الكثيرة التي فتحها المسلمون وما كانوا يأخذون الواحد ويقولون له: تُسلم وإلا ضربنا رأسك بالسيف، إطلاقًا، فهنا قوله: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لا منافاة مع قوله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله.

وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ أي: تولى عن العمل بأركانه وكفر بالحق بجنانه ولسانه، وهذه كقوله تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ۝ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [سورة القيامة:31، 32]، ولهذا قال: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ.

لاحظ الاستثناء هنا فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۝ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ۝ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ الاستثناء هنا هل هو متصل يعني إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فأنت مسلط عليه تقتله مثلاً؟ لا، ليس كذلك، هذا الاستثناء منقطع أي فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر لكن من تولى وكفر فالله يعذبه العذاب الأكبر، هكذا يكون المعنى حتى من قالوا: إنه استثناء متصل قالوا: إنه يرجع إلى قوله: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۝ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ۝ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ يعني أنت مذكر لمن أقبل على الذكرى وانتفع بها لكن من تولى وكفر ممن ينقطع طمعك في إيمانه وهدايته فلا شأن لك به، أو ذكِّر من تطمع في إيمانه كما سبق في فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَى هكذا قال بعض أهل العلم، والأول أقرب: أن الاستثناء منقطع، أي لكن من تولى وكفر فالله يعذبه العذاب الأكبر ولست أنت.

وقوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ أي: مرجعهم ومنقلبهم، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ أي: نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها إن خيراً فخير وإن شرًّا فشر.

آخر تفسير سورة الغاشية، ولله الحمد والمنة.

  1. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، (10/ 3421)، برقم (19267).
  2. رواه النسائي، كتاب الصلاة، باب كم فرضت في اليوم والليلة، برقم (459)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2794).
  3. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ التوبة [سورة التوبة:5]، برقم (25)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، برقم (21)، واللفظ له.

مواد ذات صلة