الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[5] من قول الله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} الآية 18 إلى قوله تعالى: {وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} الآية 22.
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الآخر / ١٤٢٦
التحميل: 6863
مرات الإستماع: 2696

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۝ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [سورة آل عمران:18-20]. 

شهد تعالى وكفى به شهيداً وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم وأصدق القائلين: أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ: أي المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق وأن الجميع عبيده وخلقه والفقراء إليه، وهو الغني عن ما سواه، كما قال تعالى: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ الآية [سورة النساء:166]، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، فقال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ [سورة آل عمران:18]، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- هاهنا: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، هذه الشهادة عبارات السلف في تفسير معناها تدور على الإعلام والبيان والإخبار والحكم والقضاء، هذه مجمل الألفاظ الواردة عنهم في تفسيرها

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- أطال في الكلام على هذه الجملة، وذكر أن هذه المعاني التي ذكرها السلف لا تخرج عن معناها، وأنها من جملة مراتبها؛ وذلك أن الشهادة لا بد فيها من العلم بالمشهود به؛ فإن الشاهد لا بد أن يكون عالماً بمضمون شهادته، وإلا فإن الشهادة بجهل فيما يشهد به لا تصح، فهذا أمر لا بد منه. 

ثم أيضاً التكلم بذلك، فإذا تكلم به وإن لم ينطق بلفظ الشهادة فقد شهد، والله قال عن أولئك الذين جعلوا الملائكة إناثاً: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [سورة الزخرف:19] فعدها شهادة مع أنهم لم ينطقوا بلفظ الشهادة، وهذا كثير في القرآن، فمن تكلم بشيء فقد شهد به، وكذلك أيضاً إذا أخبر به غيره، أعلم به غيره فقد شهد، والله أخبر عن توحيده، عن اتصافه بصفات الكمال إلى غير ذلك مما أخبر الله عنه مما يتصل بهذا المعنى، فهذه شهادة حيث أخبرهم بقوله وأخبرهم بفعله، فإن أفعال الله تدل على كماله ووحدانيته وعدله. 

كما أن الله -تبارك وتعالى- نصب في هذا الكون الذي نشاهده من دلائل التوحيد ما لا يخفى، ثم إن إخباره -تبارك وتعالى- أيضاً بأنه لا إله إلا هو، في هذا المقام يقتضي الحكم بذلك، بل هو حكم بذلك، كما أنه يقتضي الإلزام، أي إلزام المكلفين بهذه الكلمة وبمقتضياتها، فهو حكم منه -تبارك وتعالى- وإلزام.

فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يرى أن هذه الأمور جميعاً تدخل فيها، فهي من مراتبها العلم والتكلم والإخبار والبيان والحكم والإلزام، وأطال في الكلام على هذا المعنى جداً، لكن هذا محصلته وخلاصته.

في قوله تعالى: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ [سورة آل عمران:18] يقول المفسر: "ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، فقال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام": وذلك أن الله اعتبر شهادتهم وذكرها، هذا من وجه، وذكرها أيضاً مع شهادته وشهادة ملائكة، وأيضاً من جهة أن الله عبر عن ذلك عن شهادته وشهادة ملائكة وشهادة أهل العلم بفعل واحد فهو قال: شَهِدَ اللّهُ ثم ذكر هذه الشهادات بعده، ولم بقل: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ثم وشهد الملائكة وشهد أولو العلم مثلاً، وإنما عبر بفعل واحد فأدخل فيه هذه الشهادات الثلاث.

ومن أوجه كونها خصوصية عظيمة للعلماء أيضاً عِظم هذه الشهادة التي استشهدهم عليها فدل ذلك على مكانتهم ومنزلتهم، ثم أيضاً الاختصاص، فقد اختصهم الله من بين الخلق، وبالتالي لا يشكل على ذلك أن الله لم يذكر الرسل والأنبياء هنا، وإنما ذكر أهل العلم، فإن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم من أولى من يوصف بذلك.

ثم إن ذكر أهل العلم فيه إشارة إلى المعنى الذي من أجله حصل هذا الاعتبار لهم وهو وصف العلم، ولا شك أن هذا من أعظم المطالب في الشهادة.

وعلى كل حال فإن الوجوه التي يمكن أن تستخرج مما يدخل تحت هذا المعنى في قوله: "وهذه خصوصية عظيمة لأهل العلم": يدخل فيه ما ذكرت ويدخل فيه غيره مما يمكن أن يستخرج من هذا المعنى.

قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ أي: هو في جميع الأحوال كذلك.

قوله: قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ هذه منصوبة على الحال، لكن ما هو موضعها الذي تتعلق به من هذه الآية: شَهِدَ اللّهُ؟

من أهل العلم من يقول: إنها تتصل بلفظ الجلالة، فيكون المعنى: شهد الله حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو، فهو -تبارك وتعالى- مقسط عادل في حكمه بهذه الشهادة التي هي أعظم شهادة على أجل مشهود به، وقد جعل الله لها أحكاماً، وتؤثر أموراً انقسم الخليقة بها إلى قسمين، ومن أجلها وجدت الجنة والنار، ومن أجلها قرَّب أقواماً وأبعد آخرين، وأعزَّ أقواماً وأذلَّ آخرين، ومن أجلها أثاب، ومن أجلها عذب، إلى غير ذلك من أحكامه العادلة التي تتفرع عن هذه الشهادة وتتصل بها، فالله شهد حال قيامه بالعدل وبالقسط أنه لا إله إلا هو.

والمعنى الثاني: أن ذلك يتصل بما بعد إلا من قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18]، فتكون متصلة بالضمير المنفصل، فيكون المعنى: لا إله إلا هو حال كونه قائماً بالقسط.

 وهذا المعنى الثاني هو الذي اختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- وبه قال جمع كثير من أهل العلم، فتكون شهادة الملائكة وشهادة أهل العلم بهذا الاعتبار متضمنة لهذين الأمرين، أي تكون الشهادة واقعة على وحدانية وعلى قيامه بالقسط، أما على المعنى الأول، فإن هذه الشهادة لأهل العلم وأنه لا إله إلا هو تكون واقعة على الوحدانية فقط؛ لأن المعنى الأول: شهد الله حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو، وأما المعنى الثاني: شهد الله وشهد الملائكة وشهد أولو العلم بأنه لا إله إلا هو والحال أنه قائم بالقسط، فهم يشهدون على هذا وعلى هذا.

وشهادة أهل العلم تكون بعلمهم ومعرفتهم، وتكون أيضاً باعتقادهم وإقرارهم وتكون أيضاً ببيانهم ودعائهم إلى هذه الشهادة وعملهم بها، فكل هذا يدخل في هذه الشهادة؛ لأن من أهل العلم من يقول: إن شهادة أهل العلم بمعرفتهم أي أنهم عرفوا ذلك، ومنهم من يقول: هو إخبارهم به وإعلامهم بذلك، والصحيح أن هذا كله داخل فيه، فإن حكمهم بهذا واعتقادهم به مبني على العلم والمعرفة، مع إخبارهم أيضاً وإعلامهم غيرهم بذلك، فهم يعلمون الناس ويخبرونهم ويدعونهم إلى هذا، ويعملون بمقتضاها، فكل هذا من شهادتهم، والناس يتفاوتون في تحقيق هذا المعنى على قدر ما حققوا من هذه الأمور، والله تعالى أعلم.

ومعنى قوله: قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ [سورة آل عمران:18] أي قائماً بالعدل في أقواله وأفعاله وأحكامه.

لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ تأكيد لما سبق.

يقول: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ تأكيد لما سبق": والقاعدة: أن التأسيس مقدم على التوكيد، فالله يقول: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18]، ثم قال بعده: لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فهو ذكرها مرتين، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: إن هذا من قبيل التوكيد، أي أعاده للتأكيد.

ومن السلف من يقول غير ذلك، فمنهم من يقول: إن الأولى وهو قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يقول: هذا وصف له -تبارك وتعالى- بالتوحيد، والثانية: لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يقول: هذا تعليم من الله لخلقه أن يقولوا ذلك، أي أنه وصف نفسه بالوحدانية ثم علم خلقه كيف يقولون، فلا يكون ذلك من قبيل التوكيد.

ومن المسائل التي تشبه هذه المسألة كلام أهل العلم في قوله -تبارك وتعالى في سورة البقرة –مثلاً: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] مع قوله في الآية الأخرى في سورة إبراهيم: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] فالفرق بين الموضعين كما يقول بعض أهل العلم أنه في الموضع الأول قال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا لأنه كان في مقام يدعو فيه ربه أن يوجد هذا البلد قبل وجوده أي أن هذا الدعاء كان قبل بناء البيت، أي فهو دعا الله أن يوجد بلداً آمناً، فلما بنيت الكعبة وصارت موجودة دعا ربه أن يجعل هذا البيت الموجود آمناً فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35].

ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله -تبارك وتعالى: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [سورة الفتح:2] مع قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، فمن أهل العلم من يقول: إنه أخبره أنه سيهديه صراطاً مستقيماً، فلما عرف ذلك دعا ربه أن يهديه إلى هذا الصراط الذي أخبره الله عنه وعرفه فقال: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] والفرق بين المعنيين واضح.

فالحاصل أن قوله -تبارك وتعالى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18] يحتمل ما ذكره ابن كثير من أنه للتأكيد، ويحتمل أن يكون قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18]، إخبار عن شهادته بالتوحيد، وشهادة الملائكة وشهادة أهل العلم، وتكون لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الثانية إخبار عن توحيده والفرق بين المعنيين أيضاً واضح، وعلى هذا المعنى تكون الثانية مؤسسة لمعنىً جديد وليست مؤكدة، ولا شك أن هذا هو الأولى، والقولان لهما وجه قريب من النظر، والله تعالى أعلم.

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة آل عمران:18] العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

 وقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]، إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو إتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد ﷺ الذي سدَّ جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد ﷺ فمن لقي الله بعد بعثة محمد ﷺ بدين على غير شريعته فليس بمتقبل، كما قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ الآية [سورة آل عمران:85]، وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19].

هذا المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير وهو قوله: "إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام": هذا باعتبار هذه القراءة المشهورة التي هي قراءة الجمهور إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، فتكون هذه الجملة استئنافية مقررة لمعنىً جديد، حيث شهد الله بوحدانيته، ثم استأنف يتحدث عن قضية أخرى وهي أن الدين عند الله الإسلام، فتكون إخباراً منه تعالى بأنه لا دين عنده.. إلى آخر ما ذكر. 

معنى هذا أنها جملة استئنافية مقررة لمضمون ما قبلها؛ لأن الإسلام يتضمن شهادة ألا إله إلا الله فهي مقررة لما سبق لكنها تعتبر جملة جديدة، أخبر عن شهادته بوحدانيته وأنه واحد لا شريك له ثم قال: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، فهذا على قراءة الكسر في إن من قوله: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ فهي جملة استئنافية، كما في قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [سورة الطور:28]. 

وأما على قراءة الفتح، أي أنه قال: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الآية ثم قال: أَنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، فهنا يحتمل أن يكون المعنى: شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام وهذا فيه بعد؛ لأن قضية التوحيد صارت موطئة لما بعدها، أي كأنها ذكرت للشهادة على أن الدين عند الله الإسلام، مع أن كون الدين عند الله الإسلام يتضمن كما سبق شهادة ألا إله إلا الله. 

ويحتمل أن تكون الشهادة واقعة على الأمرين فيكون هنا كأنه حذف واو العطف، أي شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام، وهذا المعنى أقرب من الذي قبله، حيث يكون المعنى أنه شهد الله بالأمرين، أما الذي قبله كأنه فيه باء مقدرة ليكون المعنى شهد الله بأنه لا إله إلا الله، يعني بكونه: لا إله إلا الله، أو بكونه واحداً لا شريك له أن الدين عند الله الإسلام، فالمعنى الثاني أقرب من الأول. 

ولعل أقرب من هذا أن تكون "أنَّ" الثانية في قوله: أَنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ بدلاً من "أنَّ" الأولى التي في قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ بمعنى أن شهادة ألا إله إلا الله هي بمعنى الإسلام، فهي موازية للأولى، فهي بدل منها.

ومن أمثلة البدل قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] فهذا بدل بعض من كل، أما قوله هنا: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة آل عمران:18]، أَنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]، فهذا بدل كل من كل، بحيث تكون الثانية هي نفس الأولى، سواء عبرت عنها بلا إله إلا الله أو عبرت عنها بالإسلام، أو يكون بدل اشتمال وهذا على قراءة الفتح، أما على قراءة الكسر فالمعنى واضح أنها جملة جديدة وهو الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا.

يقول الحافظ –رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]: "لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو إتباع الرسل فيما بعثهم الله به": يلاحظ المتأمل في كلام الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يجد أنهم جميعاً كانوا يدعون إلى الإسلام، فموسى ﷺ قال لقومه: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ [سورة يونس:84] وكذلك إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ويعقوب -عليه الصلاة والسلام- وصَّوا أبناءهم بالإسلام، وكذلك عيسى ﷺ وقصته مع الحواريين. 

فالمقصود: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كلهم جاؤوا بالإسلام، فالله يقول: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19]، ويقول: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران:85] ولهذا قال الله مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:67]

وقال : أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ [سورة البقرة:140]، فما كانوا على اليهودية ولا على النصرانية وإنما كانوا على الإسلام، وهكذا كان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كلهم على الإسلام، فالدين الذي يقبله الله هو الإسلام.

ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم فقال: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [سورة آل عمران:19] أي: بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله أفعاله وإن كانت حقاً.

يعني أن الشر الذي يقع بين الناس لا يكون إلا من أحد أمرين: إما من الجهل وقصور العلم، حيث يتصور الأمر على غير وجهه فينكر بعض الحق، أو أن يكون علمه باطلاً أي لا يكون عنده علم عنده في هذه القضية فيتكلم بغير علم ويقع بسبب ذلك الخلاف بين الناس والشر.

والأمر الآخر هو البغي، وهذا الذي وقع بين أهل الكتاب، ووقع كثيراً في هذه الأمة، وفي كتاب الاقتضاء ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- شيئاً من هذا الأمر، فالناس إنما اختلفوا بعد بعث الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ليس لخفاء الحق وإنما وقع ذلك بغياً بينهم، أي من باب العدوان والظلم فيحمل كلَّ طائفة بغضها للأخرى على إنكار ما معهم، وترك ما هم عليه ولو كان هذا هو الحق الذي أخبر الله به، وهذا لشدة بغضهم والبغي والعدوان والظلم وتجاوز الحد، وهذا الذي نراه ونشاهده اليوم، فهذا يأخذ بطرف من الحق وهذا يأخذ بطرف من الحق، وهذا يرد ذلك الحق، الذي جاء به من يكرهه ويعاديه، فكل طائفة تريد أن تنتصر على من يعاديها، ولو كان برد الحق.

ثم قال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ أي من جحد بما أنزل الله في كتابه، فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي: فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه.

من معاني قوله تعالى: فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي سيجازيه ويحاسبه على تكذيبه، ومن معانيها أيضاً أن الله لا يشغله كثرة الخلق عن سرعة محاسبتهم، فهو يحاسبهم كنفس واحدة، فالمخلوق عند الكثرة يحتاج إلى طول مدة، وربما يحتاج إلى أعوان ويحتاج إلى عقد وحسب، بينما الله سريع الحساب، على كثرة الخلق، وكثرة أعمالهم وجناياتهم فإن حسابه سبحانه يكون لهم جميعاً كما يحاسب النفس الواحدة، كما أن قوله: فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ يشعر أيضاً أنه سريع الأخذ للظالمين والمجرمين، فهذه المعاني يمكن أن تفهم من هذه الآية، والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى: فَإنْ حَآجُّوكَ أي: جادلوك في التوحيد فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ أي: فقل أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ولا ند له ولا ولد له ولا صاحبة له، وَمَنِ اتَّبَعَنِ: أي على ديني يقول كمقالتي، كما قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي الآية [سورة يوسف:108].

عبر هنا بالمحاجة والأصل أنه يكون بالإدلاء بالحجة، وهؤلاء كما أخبر الله : حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ [سورة الشورى:16]، وهي ليست حجة في الواقع أصلاً لكن هم لما اعتبروها حجة واعتدوا بها في الجدال سميت كذلك، كما سمى الله آلهتهم آلهة مع أنها لا تملك من ذلك الوصف أو التسمية شيئاً، لا قليلاً ولا كثيراً، لكن هي باعتبار نظرهم وحكمهم، فجرى الخطاب بهذا الاعتبار، فهذا منه هنا: فَإنْ حَآجُّوكَ [سورة آل عمران:20]، سماها محاجة؛ باعتبار أن هذا يدلي بحجة وهذا يدلي بحجة وهذه حقيقة الجدال، والرد كما يلاحظ أنه اكتفى بقوله: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [سورة آل عمران:20].

ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله محمد ﷺ أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به الكتابيين من الملتين والأميين من المشركين، فقال تعالى: وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ [سورة آل عمران:20] أي: والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، ولهذا قال تعالى: وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أي: هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون؛ وما ذلك إلا لحكمته ورحمته.

وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثه -صلوات الله وسلامه عليه- إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث.

أخذ الحافظ بن كثير هذا الإطلاق للأميين من قوله تعالى: وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ [سورة آل عمران:20] باعتبار أن الناس إما أهل كتاب وإما أن يكونوا على الإشراك، يعني لا دين لهم يدينون به يرجع إلى كتاب منزل، فالناس إما هذا وإما هذا، فذكر الأميين وهم أهل الشرك، وهذا وإن كان يطلق -أعني الأميين- على الذين بعث فيهم النبي ﷺ من العرب، ولكن حقيقة ما هم عليه هو الإشراك بالله فيدخل في ذلك جميع أمم الشرك، فهذا يدل على بعثته ﷺ كانت موجهة لأهل الكتاب ولغيرهم من طوائف المشركين.

وهذا الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته -صلوات الله وسلامه عليه- إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث، فمن ذلك قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158]، وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [سورة الفرقان:1]

وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه ﷺ بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق، وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم؛ امتثالاً لأمر الله له بذلك.

وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار [رواه مسلم][1].

وقال ﷺ: بعثت إلى الأحمر والأسود[2] وقال: كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة[3].

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة آل عمران:21-22].

هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديماً وحديثاً التي بلغتهم إياها الرسل استكباراً عليهم وعناداً لهم وتعاظماً على الحق واستنكافاً عن اتباعه، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم إلا لكونهم دعوهم إلى الحق، وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ: وهذا هو غاية الكبر.

في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ هذا القيد بِغَيْرِ حَقٍّ لا مفهوم له هنا وإنما هي صفة كاشفة، فقد ينفى الشيء مقيداً ويراد نفي أصله كما في قوله تعالى: لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [سورة البقرة:273]، فهذه صفة كاشفة وليست مقيدة، بمعنى أنها لم تأت بمعنى جديد يخصص ما قبله؛ لأن الأوصاف عبارة عن قيود في الموصوف.

فحينما تقول: أريد كتاباً يختلف عن قولك: أريد كتاباً في التفسير، فأنت خصصت فأخرجت كتب الحديث والنحو.. الخ، وحينما تقول: أريد كتاباً في التفسير بالمأثور تكون أخرجت كتب التفسير الأخرى، وهكذا كلما زادت الأوصاف زادت القيود، فالصفات الكاشفة تبين عن حقيقة الشيء دون أن يقصد بها التقييد، وهذا مثل ما قال بعض أهل العلم في تفسير قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، فالصراط لا بد فيه من أمرين كما يقول الحافظ ابن القيم وهو الاستقامة والسعة للمارين، فمعنى ذلك أن هذا المستقيم صفة موضحة كاشفة فقط لحقيقة الصراط. 

ويمكن أن يحمل ذلك على أحد الوجوه في تفسير قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ [سورة النحل:26]، فالسقف إنما يكون من فوق أصلاً، ومثل ذلك قوله تعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38]، فالطائر إنما يطير بجناحيه. 

ومثل ذلك قوله: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] وقوله: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167] بمعنى أنه يمكن أن تخرج بعض هذه الآيات على معان أخر، مثل: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] قيل: بمعنى أن ذلك لم يكن من قبيل الإشارة على غيرهم ليكتبون عنهم، أو يفهم عنهم ذلك فيكتبه غيرهم، وإنما يكتبونه بأنفسهم، والمقصود أن هذا لا شك أنه يسجل عليهم الجرم العظيم الذي فعلوه وهو أنهم يكتبون الكتاب المحرف بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله.

وفي قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167]، معلوم أن الإنسان ما يقول إلا بفيه، لكن يمكن لقائل أن يقول: إن القلم أحد اللسانين، وعلى كل حال هذه أمور يقصد بها التأكيد، جرت عليها طريقة العرب لتقرير المعنى وتأكيده.

فقوله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:21]، لا يمكن أن يكون قتل الأنبياء بحق أصلاً، وبالتالي لو قلت: إن قوله: بِغَيْرِ حَقٍّ صفة مقيدة فمعناها أن قتل النبيين يكون بحق ويكون بغير حق، فهؤلاء يقتلونهم بغير حق، وهذا غير صحيح إذ لا يكون قتل النبيين بحق إطلاقاً. 

لكن كأن الله أراد أن يبرز شناعة فعلهم، وعظيم جرمهم، فذكر هذه الصفة بعده وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:21]، مع أنه لا يكون بحق أصلاً، بينما في الآية الثانية يقول سبحانه: وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [سورة آل عمران:21]، فلم يقل: بغير حق، وإنما قال: الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وهذا يُشعِر أن علة القتل هي أمرهم بالقسط، فهذا يفهم منه التعليل بطريق الإيماء والتنبيه.

وفي قول الله : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [سورة الأحزاب:57]، مع قوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [سورة الأحزاب:58] يلاحظ أنه في أذية الله ورسوله لم يقيدها؛ لأن أذية الله ورسوله لا تكون بحق أبداً، وأما أذية المؤمنين والمؤمنات قال: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا؛ لأن أذيتهم قد تكون بسبب جرمهم أو ما فعلوه، فلذلك يقال: لكل مقام مقال يناسبه، لذلك فإن الله تعالى يقول: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117]، فمن المعلوم أنه لا أحد يدعو مع الله إله آخر له فيه برهان، فتكون هذه الصفة هنا كاشفة وليست قيداً؛ إذ لو كانت مقيدة سيكون مفهوم المخالفة أن الذي له في دعاء غير الله برهان فإنه غير متوعد، وهذا غير ممكن.

وهذا هو غاية الكبر، كما قال النبي ﷺ: الكبر بطر الحق وغمط الناس[4]، ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق، قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة فقال تعالى: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة آل عمران:21] أي: موجع مهين، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة آل عمران:22].

الذي يعادي أتباع الرسل هو في الواقع معاد الرسل -عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه إنما عادى هؤلاء لما دعوه إليه وأمروه به.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134)
  2. أخرجه أحمد (14303) (ج 3 / ص 304) والدارمي (2467) (ج 2 / ص 295) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  3. أخرجه البخاري في أبواب المساجد - باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (427) (ج 1 / ص 168) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (521) (ج 1 / ص 370).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب تحريم الكبر وبيانه (91) (ج 1 / ص 93).

مواد ذات صلة