الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(010-ب) من قوله تعالى "فاذكروني أذكركم" الآية 151 – إلى قوله تعالى "ولا هم ينظرون" الآية 162
تاريخ النشر: ٠٦ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 1532
مرات الإستماع: 1977

"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ قال: سعيد بن المسيب: معناه: اذكروني بالطاعة، أذكركم بالثواب".

القائل: "اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة" هو سعيد بن جبير، وليس سعيد بن المسيب، وهذا المعنى الذي ذكره سعيد بن جبير[1]، هو الذي اختاره ابن جرير[2].

"وقيل: اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحو ذلك".

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ هذا عام، يبين ذلك قول النبي ﷺ في الحديث القدسي: فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم[3] فهذا من ذكر الله -تبارك وتعالى- لعبده، والمقصود بالذكر في هذا الحديث هو ذكر اللسان، مع مواطأة القلب، وإلا فالذكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح، والجوارح بالطاعة.

والذكر هنا يشمل أنواع الذكر الثلاثة: الذكر باللسان، ويدخل فيه الحديث فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي[4]، ويدخل فيه الذكر بالقلب، وهذا لا بد منه، فذكر اللسان يكون مع مواطأة القلب، وكذلك الذكر بالجوارح بالعمل بطاعته، فهذا أعم على قول سعيد بن جبير، واختيار ابن جرير -رحم الله الجميع-.

والحسن البصري -رحمه الله- يقول: اذكروني فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت على نفسي[5].

والذي أوجبه على نفسه: هو الثواب والمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها، وأنه لا يضيع عمل عامل، ونحو ذلك.

"وقد أكثر المفسرون، ولا سيما المتصوفة في تفسير هذا الموضع، بألفاظ لها معاني مخصوصة، ولا دليل على التخصيص، وبالجملة فهذه الآية بيان لشرف الذكر، وبيّنها قول رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم[6]، والذكر ثلاثة أنواع: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وبهما معًا".

ذكر بالقلب، وذكر باللسان يعني مجردًا، وبهما معًا، فجعل هذا هو النوع الثالث، فالذكر قد يكون باللسان من غير مواطأة القلب، وهذا أضعف، وقد يكون بالقلب، فلو أردنا أن نقسم على طريقته، فتكون الأقسام أكثر من ثلاثة:

الأول: ذكر باللسان من غير مواطأة القلب، وهذا أضعفها.

الثاني: ذكر بالقلب باستحضار عظمته وشكره بالقلب، ونحو ذلك من مراقبته، الحياء منه، والخوف، والرجاء، ونحو ذلك من الأعمال القلبية، فهذا ذكر بالقلب.

الثالث: ذكر بالقلب مع اللسان، وهذا هو الأكمل.

الرابع: ذكر بالجوارح.

فصارت الأقسام بهذا الاعتبار: لسان فقط، قلب فقط، لسان وقلب: هذه ثلاثة، والرابع: الجوارح.

وإذا أردنا أن نقسم أكثر نقول: والخامس: الذكر بالقلب واللسان والجوارح، يعني تجعل الجوارح قسمًا مستقلًا، أو تجعل هذه الثلاثة معًا، وهذا هو المشهور أن الذكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح.

"واعلم أن الذكر أفضل الأعمال على الجملة، وإن ورد في بعض الأحاديث تفضيل غيره من الأعمال: كالصلاة، وغيرها، فإن ذلك لما فيها من معنى الذكر، والحضور مع الله تعالى، والدليل على فضيلة الذكر من ثلاثة أوجه:

الأول: النصوص الواردة بتفضيله على سائر الأعمال، قال رسول الله ﷺ: ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله[7].

وسُئل رسول الله ﷺ: أي الأعمال أفضل؟ قال: ذكر الله[8] قيل: الذكر أفضل أم الجهاد في سبيل الله؟ فقال: لو ضرب المجاهد بسيفه في الكفار حتى ينقطع سيفه، ويختضب دمًا، لكان الذاكر لله أفضل منه[9].

هذا الحديث فيه ضعف، وهذا كله خارج عن التفسير، يعني الكلام على فضل الذكر، وأنواع الذكر، ونحو ذلك، وهذا يقع للمؤلف للكلام على بعض الفضائل والأخلاق والآداب والأعمال القلبية، يتحدث عنها بحديث يخرج عن التفسير.

"الوجه الثاني: أن الله تعالى حيث ما أمر بالذكر، أو أثنى على الذاكرين اشترط فيه الكثرة، فقال: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:41] وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:35] ولم يشترط ذلك في سائر الأعمال".

يعني هذا يدل على فضل الذكر، لم يرد مقيدًا بالكثرة بشيء من الأعمال إلا في الذكر.

"الوجه الثالث: إن في الذكر مزية هي له خاصة، وليست لغيره، وهي الحضور في الحضرة العلية، والوصول إلى القرب الذي عبّر عنه ما ورد في الحديث من المجالسة والمعية، فإن الله تعالى يقول: أنا جليس من ذكرني[10] ويقول: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين ذكرني[11]".

مثل هذه العبارات هي من عبارات الصوفية: الحضور، وفي الحضرة العلية.

ويقول: "عبّر عنه ما ورد في الحديث من المجالسة" بناء على أنا جليس من ذكرني وهذا لا يصح عن النبي ﷺ، ومثل هذه العبارات، عبارات هؤلاء الصوفية: في الحضرة العلية، والمجالسة، ونحو هذا، لا حاجة إليها.

"وللناس في المقصد بالذكر مقامان: فمقصد العامة اكتساب الأجور، ومقصد الخاصة القرب والحضور، وما بين المقامين بون بعيد، فكم بين من يأخذ أجره وهو من وراء حجاب، وبين من يقرب حتى يكون من خواص الأحباب".

وهذا أيضًا الكلام فيه إشكال، فالعبادات بأنواعها كما أخبر الله -تبارك وتعالى- عن عباده المقربين: بأنهم يدعونه خوفًا طعمًا، خوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه، فلا يقال: بأن مثل هذا من المراتب المنسفلة، وأن ذلك للمحجوبين، وأن مراتب أهل المقامات العالية، وهم عندهم خاصة الخاصة، الذين يذكرونه -تبارك وتعالى- من أجل القرب والحضور، فهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة، وهدي النبي ﷺ وما ذكر الله -تبارك وتعالى- عن وصف أوليائه من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباع الرسل، فلا حاجة لمثل هذا الكلام، وما يروى عن رابعة العدوية أنها تقول: "ما عبدتك خوفًا من عقابك، ولا رجاء لثوابك"[12]، وما أشبه ذلك من العبارات التي تُنقل عن بعضهم، كل هذا خلاف ما دل عليه القرآن، وكذلك السنة، وحال الصحابة والسلف الصالح على اختلاف هذا، والله أمر بدعائه خوفًا وطعمًا، فيجمع بين هذا وهذا، ويكون العبد بحال بين الخوف والرجاء، هذا هو الأكمل في حالات العبد.

فذَكَرَ هذين الحالين، ويبدو أنه ما اطّلع على حال تروج اليوم، وهي: أن يُذكر من أجل تحصل مطالب دنيوية، كالرسائل التي تُنشر اليوم وتُتداول، كمن يقول: "قوموا الليل من أجل أولادكم" فهذا من المطالب الدنيوية، يعني من أجل صلاح الأولاد، أو تصدقوا من أجل صلاح الأولاد، فهذا مطلب دنيوي، لا يصح أن يكون بالقصد الأول، وأن يعمل الإنسان الأعمال الصالحة من أجل تحصيل مطالب دنيوية، فهذا لا يصح، لكن لو كان هذا على سبيل التبع، فيقول الإنسان الأذكار تقربًا إلى الله ورجاء ما عنده من الثواب؛ وليتحقق المقصود من ذلك على سبيل التبع من الحفظ، ونحو هذا، ويخرج الإنسان زكاة المال تقربًا إلى الله؛ ولينمو المال على سبيل التبع، لكن بالقصد الأول يزكي لينمو ماله فقط، وهكذا يتقرب إلى الله من أجل تحصيل أمور دنيوية؛ ليبارك له في ماله، أو ولده، أو نحو هذا، فهذا لا يصح مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16،15] الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46] إذا كان الإنسان يعمل الأعمال الصالحة من أجل الأولاد، فهذا ليس عمله لله.

"واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة: فمنها التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد، والحوقلة، والحسبلة، وذكر كل اسم من أسماء الله تعالى، والصلاة على النبي ﷺ والاستغفار، وغير ذلك".

الحوقلة: قول لا حول ولا قوة إلا بالله، والحسبلة قول: حسبنا الله ونعم الوكيل.

قال: "وذكر كل اسم من أسماء الله تعالى" يعني الاسم المفرد: الله، الله، الله، هذا كلام الصوفية، ولا يصح ذكره بالاسم المفرد، بل هذا من البدع المحدثة، وإنما كما جاء يقول: الله أكبر، سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ونحو ذلك، أما الذكر بالاسم المفرد فلم يرد، لا في الكتاب، ولا في السنة، ولم يُرشد إليه النبي ﷺ ولم يُنقل عن أحد من أصحابه، وإنما كان ذلك من محدثات الصوفية، وهو لا يدل على كمال تنزيه، أو ما يُقصد بالذكر، فمثل هذا لا يُشرع، ولو جاء أحد إلى عظيم من أهل الدنيا، وجعل يردد اسمه فقط؛ لعد ذلك مستهجنًا، ومن السخرية به، لكن لو أنه قال: فلان ملك، فلان عظيم، فلان كبير في الناس، فلان له أوصاف جميلة، ونحو هذا، فهذا هو الثناء والمدح والحمد، أما ترديد الاسم فقط فهذا لا يُشرع، يُذكر عن الشريف في مكة أنه كان بحضرته بعض الشيوخ ممن عندهم شيء من التصوف، فجاء ذكر (الذكر بالاسم المفرد) وكان في المجلس الشيخ ابن عيسى -رحمه الله- شارح نونية ابن القيم، كان مقيمًا في مكة، وكان تاجرًا، وعلى عقيدة السلف، فنظر إليه الشريف، وقال: ما تقول في هذا؟ ويعرف أنه يخالفهم، وأنه صاحب سنة، فقال: لو أن جاءك أحد وجلس يردد اسمك -اسمه الشريف عون- يقول: عون، عون، عون، عون، ماذا تفعل به؟ فقال: كلام الشيخ صحيح، أجاب بجواب واضح.

"ولكل ذكر خاصيته وثمرته.

وأما التهليل: فثمرته التوحيد: أعني التوحيد الخاص، فإن التوحيد العام حاصل لكل مؤمن، وأما التكبير: فثمرته التعظيم والإجلال لذي الجلال، وأما الحمد والأسماء التي معناها الإحسان والرحمة: كالرحمن والرحيم والكريم والغفار، وشبه ذلك؛ فثمرتها ثلاث مقامات: وهي الشكر، وقوة الرجاء، والمحبة، فإن المحسن محبوب لا محالة.

وأما الحوقلة والحسبلة: فثمرتها التوكل على الله، والتفويض إلى الله، والثقة بالله، وأما الأسماء التي معناها الاطلاع والإدراك: كالعليم والسميع والبصير والرقيب، وشبه ذلك؛ فثمرتها المراقبة.

وأما الصلاة على النبي ﷺ: فثمرتها شدّة المحبة فيه، والمحافظة على اتباع سنته".

وكذلك أيضًا ما يترتب على ذلك من صلاة الله على العبد، لكن هو يتحدث عن الأثر الذي يكون في نفس المتعبد، ما يرجع إليه هو، لا يتحدث عن الثواب، وإلا فثمرة التوحيد هي دخول الجنة، لكنه ما ذكر هذا باعتبار ما هو الأثر على الموحد.

"وأما الاستغفار: فثمرته الاستقامة على التقوى، والمحافظة على شروط التوبة مع انكسار القلب بسبب الذنوب المتقدمة".

الاستغفار ثمرته مغفرة الذنوب، لكنه لا يتحدث عن النتيجة المرتبة عليه عند الله  وإنما يتحدث عن الأثر الذي ينعكس في نفس المستغفر.

"ثم إن ثمرات الذكر التي تجمع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد، وهو قولنا: الله، الله، فهذا هو الغاية، وإليه المنتهى".

يقول: "ثمرة الذكر التي تجمع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد، وهو قولنا: الله، الله من أين هذا؟! وبأي أثارة من علم، فهذا لا يصح بحال.

"اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أي: بمعونته.

وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ قيل: إنها نزلت في الشهداء المقتولين في غزوة بدر، وكانوا أربعة عشر رجلًا؛ لما قُتلوا حزن عليهم أقاربهم، فنزلت الآية مبينة لمنزلة الشهداء عند الله، ومسلية لأقاربهم، ولا يخصصها نزولها فيهم، بل حكمها على العموم في الشهداء".

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ هذا السبب الذي أشار إليه: أنها نزلت في الشهداء المقتولين في بدر، وكانوا أربعة عشر رجلًا؛ لما قُتلوا حزن عليهم أقاربهم، فنزلت الآية، هو الأثر الوارد في هذا عن ابن عباس -ا- من طريق السُّدي الصغير، عن الكلبي عن أبي صالح[13]، وهذا الإسناد معروف أنه تالف.

يقول: "هم قتلى بدر وأُحد، وقُتل من المسلمين يومئذٍ أربعة عشر رجلًا؛ وذلك أنهم يقولون لقتلى بدر مات فلان، فنزلت وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ هذا الأثر الوارد باعتبار أنه سبب النزول، لا لأنهم وقع لهم الحزن؛ لأن الآية صريحة في هذا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ معنى ذلك أنه قد يكون صدر عنه هذا القول، فالرواية في سبب النزول عن ابن عباس -رضي الله عن عنهما- فيها: أنهم كانوا يقولون: مات فلان، لقتلى بدر فنزلت، لكن الرواية هذه لا تصح.

وعلى كل حال قوله -تبارك وتعالى-: بَلْ أَحْيَاءٌ كما جاء في صحيح مسلم: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل[14].

وعند أحمد عن كعب بن مالك يقول النبي ﷺ: نسمة المؤمن إذا مات طائر تعلق بشجر الجنة، حتى يرجعه الله -تبارك وتعالى- إلى جسده يوم يبعثه الله[15]، هذا صحيح ثابت عند أحمد، فهذا ثابت في الشهداء، وثابت في أهل الإيمان أيضًا.

"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: نختبركم، وحيث ما جاء الاختبار في حق الله، فمعناه: أن يظهر في الوجود ما في علمه لتقوم الحجة على العبد، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضًا؛ لأن الله يعلم ما كان وما يكون، والخطاب بهذا الابتلاء للمسلمين، وقيل: لكفار قريش، والأول أظهر؛ لقوله بعد هذا: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.

بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ من الأعداء.

وَالْجُوعِ بالجدب.

وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بالخسارة.

وَالْأَنْفُسِ بالقتل.

وَالثَّمَراتِ بالجوانح، وقيل: ذلك كله بسبب الجهاد".

يعني أنه يحصل الخوف، ويحصل الجوع، سواء في أسفارهم في الجهاد، أو حصار العدو، وتضييق العدو، ونقص الأموال والأنفس كذلك، والآية عامة، فالله -تبارك وتعالى- يُقلب عباده بألوان من الابتلاء المتنوع، مما يحصل للنفوس والأبدان، الخوف يقع على النفوس بأنواع المخاوف، سواء كان من الأعداء، أو بغيره من أنواع الخوف، ما يخوف الله به عباده، والجوع بالجدب، أو غير الجدب، قد يكون بسبب حصار العدو، ونحو ذلك وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ بقلة الموارد، أو خسارة في التجارات، وهذا يكون لعموم الأمة، ويكون للأفراد، وَالْأَنْفُسِ بالقتل وغيره يعني الموت، موت الأولاد، والأحباب، والقرابات، والأصحاب، ونحو ذلك، يعني أخبرهم عن الابتلاء، وأنه سيبتليهم فقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ فاللام هذه تدل على القسم؛ لتتهيأ نفوسهم، وهذا من لطفه بهم أنه قبل الابتلاء أخبرهم عن وقوعه؛ ليكون ذلك أخف في وطأته في نفوسهم؛ ولهذا في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22] ولعل من أحسن ما قيل فيها، هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ هو الابتلاء وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب[16]، فلما رأوه قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا فكان ذلك سبب لثباتهم، وزيادة في إيمانهم، بخلاف المنافقين الذين كانوا يقولون: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12].

"إِنَّا لِلَّهِ اللام للملك، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء.

راجِعُونَ تذكروا الآخرة؛ لتهون عليهم مصائب الدنيا، وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله ﷺ قال: من أصابته مصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي هذه، وأخلف لي خيرًا منها، أخلف الله له خيرًا مما أصابه[17]، قالت أم سلمة: فلما مات زوجي أبو سلمة قلت ذلك، فأبدلني الله به رسول الله ﷺ".

لاحظ هذه الآية وما تضمنته من التخفيف والإعانة والتيسير، بهذا المقام الذي هو مقام الابتلاء، وهو شديد الوطأة على النفوس، فأخبرهم عن وقوعه قبل حصوله؛ ليخف، ثم أيضًا بَشّر أهل الصبر وَبَشِّرِ يقول: ابتليتكم لأختبركم، وأختبر صبركم وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ فهذا مما يُخفف على الإنسان أن يقول: نحن لله، فنحن عبيده نواصينا بيده يتصرف فينا كما شاء، تصرف المالك للسيد بمماليكه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ نحن نصير إلى الله -تبارك وتعالى- فهو الأول والآخر، وإليه المنتهى ومن هنا يخف عليه ذلك، ويعلم أن الله -تبارك وتعالى- قد ساق له هذا الابتلاء امتحانًا واختبارًا ليرى قوله وعمله وصبره، ونحو ذلك، العلم الذي يظهر ويترتب عليه الجزاء، وإلا فالله يعلم ما كان وما يكون، ويعلم خفايا النفوس والغيوب بأنواعها.

"فائدة: ورد ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعًا؛ وذلك لعظمة موقعه في الدين، قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر محصور من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره، لقوله تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر:10]".

لاحظ الآن هو يتحدث عن الصبر، وهو عمل قلبي، فيخرج عن التفسير، كما ذكرت في مثل هذه المناسبات، وهذا خروج عن التفسير تمامًا.

"وذَكَر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامة:

أولها: المحبة، قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].

والثاني: النصر، قال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]".

لو قال المعية هنا لكان أعم من النصر، فالمعية تكون بالنصر والتأييد والتثبيت والرعاية والحفظ والكلاءة، فهي أعم من النصر، والمصرح به هنا المعية.

"والثالث: غرفات الجنة، قال: يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الفرقان:75]".

والغرفة هي الجنة.

"والرابع: الأجر الجزيل، قال: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الفرقان:4] والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، ففيها البشارة، قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [الزمر:10] والصلاة والرحمة والهداية، قال: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.

والصبر على أربعة أوجه؛ صبر على البلاء، وهو منع النفس من التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم وهو تقييدها بالشكر، وعدم الطغيان، وعدم التكبر بها، وصبر على الطاعة، بالمحافظة والدوام عليها، وصبر عن المعاصي، بكف النفس عنها، وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهرًا، وترك الكراهة باطنًا، وفوق التسليم: الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب محبوب".

المراتب المشهورة التي تُذكر هي: الصبر، وهو واجب، وفوقه: الرضا، والراجح أنه مستحب على قول الجمهور، وفوق الرضا: الشكر على المصيبة، فهذه مرتبة عالية، لا يصل إليها إلا الخُلص أصحاب المراتب العالية، ذلك لكونه يستشعر أن الله ساق إليه هذه البلية ليرفعه وليطهره، فيشكر الله على ذلك.

"إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ جبلان صغيران بمكة".

مضى الكلام في الغريب أن الصفا يقال: للحجر الأملس، والمروة بعضهم يقول: إن أصلها الأحجار الصغيرة اللينة، وبعضهم يقول عكس هذا: أنها موصوفة بالصلابة، وبعضهم يقول: تقال لهذا وهذا، وبعضهم يقول: بيض براقة، وبعضهم يقول: سود، هذا في المروة، لكن الصفا والمروة، هما جبلان صغيران معروفان.

"مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي: معالم دينه واحدها شعيرة أو شِعَارة".

شِعَارة أي العلامة، يعني من أعلام دينه، أو أعلام مناسكه، يعني مواضع العبادة، التي أشعرها الله -تبارك وتعالى- إعلامًا لعباده من السعي بين الصفا والمروة، وكذلك أيضًا مكان النحر (المنحر)، وكذلك أيضًا مثل عرفة، كل هذا من شعائر الله، فهي من أعلام المناسك، وأعلام الدين.

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وشعائر الله منها ما يتعلق بالمناسك، ومنها ما يتعلق بغير ذلك، فالأذان من الشعائر، وإعفاء اللحية من شعائر الدين أيضًا، يعني هي من الأمور الظاهرة، وصلاة الجماعة هي من الشعائر، وهكذا وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [الحج:32] أي: أعلام الدين الظاهرة.

"فَلا جُناحَ عَلَيْهِ إباحة للسعي بين الصفا والمروة، والسعي بينهما واجب عند مالك والشافعي، وإنما جاء بلفظ يقتضي الإباحة؛ لأن بعض الصحابة امتنعوا من السعي بينهما؛ لأنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال له: نائلة، فخافوا أن يكون السعي بينهما تعظيمًا للصنمين، فرفع الله ما وقع في نفوسهم من ذلك".

هذا جاء في أثر عن الشعبي، وهو مرسل، يعني لا يصح، لكن صح من حديث عائشة -ا- في سؤال عروة المشهور، حينما سألها عن ذلك، حيث توهم أن السعي بين الصفا والمروة غير واجب[18]؛ لأن الله قال: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فغاية ما هنالك هو رفع الحرج، إذن ذلك لا يُطلب فيه ما هو فوقه من الندب أو الوجوب؛ لأن المندوب هو ما طلبه الشارع طلبًا غير جازم، والواجب: ما يكون الطلب فيه جازمًا، ففهم عروة هذا، فردت عليه عائشة -ا- من جهة اللفظ، أنه لو قُصد هذا لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما.

لكنه قال: أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ثم ذكرت موضع الشاهد، وهو التعليل الآخر له وهو سبب النزول، وسبب النزول يرتفع به الإشكال في مثل هذا الموضع، أسباب النزول أحيانًا قد لا تُفهم الآية إلا بها، وقد يرتفع الإشكال، وقد يتضح المعنى اتضاحًا يكون أجلى، وقد يكون ذلك لدفع تهمة، أو لبيان منقبة، وقد يكون سبب النزول غير مؤثر في شيء من ذلك، فأسباب النزول تتفاوت من جهة التعلق بالمعنى من جهة كشفه ومدى توقف المعنى عليه، فعائشة -ا- كان مما ذكرت له، لما بينت له اللفظ والخطأ في فهمه قالت: ولكنها إنما أُنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ يعني معناها: أنها نزلت بسبب تحرج هؤلاء الأنصار من ذلك في جاهليتهم، فسألوا النبي ﷺ: هل هذا التحرج باقي بعد الإسلام، أو غير باقي؟ وهذا في الصحيحين[19].

وفي رواية عن الزهري قال عروة: سألت عائشة -ا- فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] فو الله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا، سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] الآية[20].

لاحظ يقول أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء، وفي هؤلاء[21].

وهذا شاهد نادر في حمل الآية على السببين من أسباب النزول، يعني أن تكون نزلت لأكثر من سبب، فيقول: يحتمل نزلت بسبب منع اعتقد أن هذا من أعمال الجاهلية، فتحرج أن يفعله بعد الإسلام، أو أن ذلك باعتبار أنه لم يُذكر، وإنما الذي ذُكر هو الطواف بالبيت، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فهنا معرفة سبب النزول يكشف هذه الإشكال، فلا يكون كما فهم عروة.

وعائشة -ا- صرحت في هذا الحديث بأنه ليس لأحد أن يترك السعي بين الصفا والمروة؛ لأن هذا واجب، لكن العلماء اختلفوا هل هو ركن أو واجب؟ يعني من قالوا: إنه لازم، اختلفوا هل هو ركن لا يصح الحج إلا به، ولا يجبر بدم، أو أنه واجب؟

"ثم إن السعي بينهما واجب بالسنة، قالت عائشة -ا-: سن رسول الله ﷺ السعي بين الصفا والمروة، وليس لأحد تركه، وقيل: إن الوجوب يؤخذ من قوله: شَعَائِرِ اللَّهِ وهذا ضعيف؛ لأن شعائر الله: منها واجبة، ومنها مندوبة، وقد قيل: إن السعي مندوب".

وأيضًا يؤخذ من السنة أن النبي ﷺ سعى بين الصفا والمروة، هو يقول: خذوا عني مناسككم[22]، قوله: "وقد قيل: إن السعي مندوب" فهذا نُقل عن بعض السلف، ولكن هذا بعيد كل البُعد، فلا داعي لتبني قول كهذا، والإغراب على الناس، أو نشر هذا في رسالة، أو في كتاب، فإن ذلك لا يحسن من طالب العلم، يكفينا قول عائشة -ا-: فسن رسول الله ﷺ السعي بين الصفا والمروة، وليس لأحد تركه، وقوله ﷺ: خذوا عني مناسككم[23].

ولا يوجد إجماع، من السلف من قال: بأنه مندوب، وقول عروة من الناحية اللغوية لو قال قائل: له وجه، لكان هذا قريب فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فهنا رفع الحرج، فقال: لا جناح عليه في السعي، أو لا جناح عليه ألا يسعى، وهذا القدر لا يفيد الوجوب، لكن لو قال: فلا جناح عليه ألا يطوف، فهذا دليل يكون صريحًا على عدم الوجوب، فعروة هل كان فهمه وهو عربي قح، وفي زمن الاحتجاج عجمة، يعني فهم الكلام بغير ما يفهمه العربي، هو قصد من ذلك أنه نفى الجناح عن الذي يسعى، وهذا قدر دون الوجوب بلا شك، ففهم أن هذا ليس بواجب، فلا جناح عليه، فما أمر به وما طلبه الشارع، وإنما رفع الحرج عمن سعى، فعائشة -ا- قالت له: لو كان كما تقول لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف؛ لأنه لو قال: ألا يطوف بهما لكان صريحاً في عدم الوجوب، لكن هو لم يقصد هذا، وإنما قصد أن ذلك القدر ليس بواجب؛ لأنه لم يطلبه الشارع، لكن سبب النزول يبين ورود هذا السياق، ومنشأه، والأدلة الأخرى من السنة تدل على أن ذلك واجب.

"يَطَّوَّفَ أصله يتطوف، ثم أدغمت التاء في الطاء، وهذا الطواف يراد به السعي سبعة أشواط".

وَمَنْ تَطَوَّعَ عام في أفعال البر، أو خاص بالسعي بين الصفا والمروة، فيقتضي أن السعي بينهما تطوع، ويؤخذ الوجوب من السنة أو معنى (تطوع) التطوّع بحج بعد حج الفريضة".

وَمَنْ تَطَوَّعَ قال: "عام في أفعال البر" وهذا منقول عن الحسن البصري -رحمه الله-[24]، يعني وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بأعمال من صدقات، ونوافل متنوعة، وذكر، ونحو ذلك، يتقرب بها إلى الله.

قال: "أو خاص بالسعي بين الصفا والمروة" باعتبار أن السياق والكلام في السعيإِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ فإذا ربطناه بموضوع السعي باعتبار أن السياق يرتبط به، "فيقتضي أن السعي بينهما تطوع" يعني أنه ليس من الشعائر اللازمة فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا على ما فهمه عروة وقاله بعض السلف: أن ذلك لا حرج عليه أن يطوف، فمن تطوع خيرًا فعله، وهو غير واجب عليه، فإنه الله شاكر عليم، لكن هذا بعيد.

وبعضهم قال: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بالزيادة على الأشواط السبعة، فسعى ثمانية، أو تسعة، أو نحو ذلك، وهذا أبعد، وإن قال به بعض من ينتسب إلى العلم، ويحتمل وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بأن يأتي به في حج تطوع، أو عمرة تطوع، غير الفريضة، الحج واجب في العمر مرة، والأرجح أن العمرة واجبة في العمر مرة، فمن تطوع خيرًا بحج أو عمرة، وسعى فيهما، فإن الله شاكر عليم.

وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[25].

فعلى القول الأول: "عام في أفعال البر" يعني المراد فعل خيرًا غير واجب عليه، فيدخل في هذا نفقات الإنسان، وصدقاته في الحج، وفي غير الحج، وفي العمرة، وأعماله، وقراءة القرآن، والذكر، والاشتغال بالطواف غير النسك الواجب عليه، فكل هذا داخل في التطوع.

"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اليهود كتموا أمر محمد ﷺ".

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ قال: اليهود، مع إن اللفظ عام، فهو يشمل اليهود، وغيرهم، وفِي الْكِتَابِ قال: التوراة، فحملها على أهل الكتاب جمعٌ من السلف كابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله-[26]: أنها في أهل الكتاب أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ومما كتموه أمر النبي ﷺ وأنه مرسل من عند الله، فهذا مما يدخل فيه، وكذلك ما يكتمونه من شرائع الدين، ويحرفونه، ويبدلونه، كما قال الله -تبارك وتعالى-: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام:91].

فقال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] لكن كانت النتيجة فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187] فهذا الاشتراء باعتبار أنهم يتعوضون به الرُشا، وما إلى ذلك مما ينالون به حظوة، أو دنيا، فيكتمون الحق، أو يبدلونه، وكل مبدل يكون قد كتم الحق وزيادة، فلا يختص بأمر النبي ﷺ فيدخل فيه ما يتعلق بالنبي، ويدخل فيه ما يكتمونه مثل: رجم الزاني، حيث كتموه، وذكروا أن المنزل عليهم إنما هو التسويد، وأن يطاف به، ويُشهر على حمار، ونحو ذلك، وكان هذا من التبديل، وكذلك أيضًا ما يتعلق بصفة النبي ﷺ فيجدونه ربعة... إلخ، فيقولون: طويلًا، بائن الطول، ويبدلون الأوصاف، فهذا أيضًا من التحريف والكتمان، وهكذا.

فالكتمان هنا يدخل في أهل الكتاب دخولًا أوليًا، ولكن من شابههم من هذه الأمة فهو متوعد بهذه العقوبة، وكما قيل: على قدر المقام يكون الملام، فإذا كان أولئك قد لحقهم بسبب هذا الكتمان هذا اللعن، فمن وقع فيمن وقعوا فيه من هذه الأمة التي هي أشرف، وكتابها أكمل، ونبيها ﷺ فإن ذلك يكون في حقه أقبح وأشد، فلا يقال: إن هذا اللعن يختص بأهل الكتاب، ومن كتم من هذه الأمة يكون بمنأى وبمنجا من ذلك، والله أعلم.

"فِي الْكِتَابِ التوراة هنا.

اللَّاعِنُونَ الملائكة والمؤمنون، وقيل: المخلوقات إلا الثقلين، وقيل: البهائم لما يصيبهم من الجدب لذنوب الكاتمين للحق".

اللَّاعِنُونَ الملائكة والمؤمنون، هذا قال به الربيع بن أنس، وأبو العالية، وقتادة، وهو اختيار ابن جرير، كأنهم أخذوا ذلك من قوله -تبارك وتعالى-: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فرأوا أن هذا من قبيل التفسير لهذا الموضع.

وقيل: "المخلوقات إلا الثقلين" إلا الثقلين باعتبار أن فيهم المؤمن والكافر، فالكافر لا يلعنهم، لكن الآيات والناس أجمعين، فمن لا يلعنهم في الدنيا يلعنهم في الآخرة، وقد أخبر الله عن أحوالهم في الآخرة وفي النار أنهم يلعن بعضهم بعضًا.

وقيل: "البهائم لما يصيبهم من الجدب لذنوب الكاتمين للحق" وجاء عن مجاهد -رحمه الله-: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم[27]، وهذا معنى: يلعنهم اللاعنون.

فيدخل في الآية: الملائكة والناس؛ لقوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وما وراء ذلك، مثل: البهائم، ونحو ذلك فهذا يحتمل، والنبي ﷺ أخبر مُعلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر[28]، ووجه بعضهم هذا باعتبار أنه يعلم الناس حدود الله -تبارك وتعالى- فينضبطون معها، فتخرج الأرض بركتها، وينزل الغيث، وتسلم أيضًا الدواب من العدوان والأذى، فلا يحصل لها الهلاك بسبب الجدب، الذي يكون نتيجة للعصيان، ولا يقع عليها أيضًا العدوان بسبب هؤلاء الناس الذين ينضبطون مع حدود الله -تبارك وتعالى- فقالوا: هذا الذي يعلم الناس الخير يحصل بسبب ذلك العافية والسلامة لهذه الدواب، وتنعم، ونحو ذلك، فتستغفر لهم، وهذا الذي يكتم يلعنه كل شيء عكس ذاك، وكذلك الدواب على هذا القول باعتبار أن ذلك يكون سببًا لكثير من الشر، والفساد، وضياع الحق، واختلاط الحق بالباطل، ونحو هذا، والله أعلم.

"وَبَيَّنُوا إنما شرط في توبتهم أن يبينوا لأنهم كتموا".

هذا من شروط التوبة الزائدة على الشروط المعروفة فيما يقتضي ذلك، وكذلك الإصلاح لما أفسده، إذا كان بث بدعة في كتاب، أو نحو ذلك، فإنه يحتاج أن يُبين، فإن نشره في مواقع الشبكة، يحتاج أن يُبين، نشر باطلًا، نشر مجونًا، شبهة لبَّس بها على الناس، فهذا يحتاج إلى البيان والإصلاح لما أفسده، أوقع وحشة بين الناس بسبب النميمة، فتفرقوا وتقاطعوا بسببه، ثم تاب، وبقي هؤلاء في قطيعة، فيحتاج أن يصلح ما أفسده، قذف إنسانًا في عرضه، وشوه سمعته، ولطخ عرضه زورًا وكذبًا، ثم قال: تبت إلى الله، وهذا بقي يكابد ويعاني مما قيل فيه، فيحتاج هذا إلى الإصلاح لما أفسده وبيان، فلا يكفي مجرد الندم والعزم ألا يعود في المستقبل والإقلاع ونحو هذا، بل لا بد من الإصلاح والبيان، وهكذا الذي يقع منه التحريف والكذب على الله ونحو هذا، وأصحاب المذاهب المنحرفة الذين عرفوا بها، ودعوا إليها، ونشروها، لربما كتبوا فيها الكتب والمؤلفات، ثم يقال: تاب في آخر حياته، ولا يُعرف عنه نقض لهذه الأشياء، وقد يكون هذا الرجل قد عُرف أنه رئيس لحزب اشتراكي أو بعثي أو غير ذلك، ويقال: تاب في آخر حياته، ولا يُعرف أنه تكلم وأصلح وبيّن أن ما كان عليه باطل وضلال، وأنه لا يجوز لأحد أن يتبعه، وهو كان من أكبر الداعين إلى هذا، ويحمل الناس عليه بكل ما استطاع من قوة، ثم يقال: تاب بعد هذا، التوبة ليست مجرد ندم في مثل هذه الحالات، بل لا بد من بيان، ولا بد من إصلاح، فيُظهر للناس أن هذا باطل، فالإنسان الذي كان على انحرافات وضلالات وعلى مذاهب منحرفة: كالليبرالية، ونحوها، ثم بعد ذلك يقال: تاب، فيحتاج أن يُبين إن ما كان عليه ضلال وباطل؛ لأنه كان يدعو إليه، ويكتب فيه، عمرًا مديدًا، فلا تصح توبته؛ لأن هذا شرط من شروط التوبة.

"وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ هم المؤمنون، فهو عموم يراد به الخصوص؛ لأن المؤمنين هم الذين يُعتد بلعنهم للكافرين، وقيل: يلعنهم جميع الناس في الآخرة".

لأن الآية نص صريح وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فـ(ال) هذه تدل على العموم، ثم أكد هذا العموم بقوله: أَجْمَعِينَ فهذا نص في العموم، فكيف يقال: المقصود بهم أهل الإيمان؟!

"خالِدِينَ فِيها أي: في اللعنة، وقيل: في النار".

يمكن أن يُجمع بين القولين، فيقال: في اللعنة؛ لأن الذي ذُكر في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا اللعنة، والأصل أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وإلى مذكور في السياق، هذا الأصل، فهنا المذكور هو اللعنة، قال: خَالِدِينَ فِيهَا لكن كيف يكون الخلود في اللعنة؟

فهذا الذي حمل بعض أهل العلم على القول: بأن المقصود النار، التي فهموها من اللعن؛ لأنها توجب الدخول في النار، فقالوا: المقصود النار، لكن يمكن أن يقال: خَالِدِينَ فِيهَا أي: اللعنة المستتبعة لعذاب النار، والخلود فيها.

وممن قال: بأن المراد باللعنة هنا لازم اللعنة، وآثارها، وجزاءها الذي هو النار، ابن جرير[29]، والقرطبي[30]، وجماعة من أهل العلم، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: بأنهما متلازمان، يعني اللعن والنار[31].

وقال أبو العالية: خالدين في جهنم في اللعنة[32]، وهذا أيضًا جمع بين القولين، القول: أنها في النار، هذا الذي اختاره ابن عاشور[33] -رحمه الله-، مع أنه جوز أيضًا القول الآخر أنها اللعنة.

"وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ من أُنظر إذا أُخر، أي: لا يُؤخرون عن العذاب، ولا يُمهلون، من نُظِر لقوله: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] إلا أن يتعدّى بـ(إلى)".

الأول: من الإنظار، وهو الإمهال، أي: لا يُؤخرون، ولا يمهلون وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ والمعنى الثاني: من (نَظَر) أي لا ينظر الله -تبارك وتعالى- إليهم، فهم أهل غضب، لقوله: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] إلا أن يتعدى بـ(إلى)، يعني إذا تعدى بـ(إلى) فعل نظر إذا عُدي بنفسه يقولون: هو بمعنى الانتظار والإمهال، وإذا عُدي بـ(إلى) فهو من نظر الأبصار، وإذا عُدي بـ(في) نظرت في أمري، فهو التفكر والاعتبار.

 

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/211).
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/211).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿ويحذركم الله نفسه﴿ [آل عمران:28] برقم: (7405) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى برقم: (2675).
  4. سبق تخريجه.
  5. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/465).
  6. سبق تخريجه.
  7. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم: (3377) وصححه الألباني، ولفظه: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم»؟ قالوا: بلى. قال: ((ذكر الله تعالى)).
  8. شرح السنة للبغوي (5/16-1245) بلفظ: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: أي الناس خير؟ فقال: ((طوبى لمن طال عمره وحسن عمله)) قال: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)).
  9. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/166-352) بلفظ: قال رسول الله ﷺ: ((ما عمل آدمي عملًا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)) قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا، إلا أن تضرب بسيفك حتى ينقطع)) ثلاث مرات.
  10. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/171-670).
  11. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿ويحذركم الله نفسه﴾ [آل عمران:28] برقم: (7405) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب الحث على ذكر الله تعالى برقم (2675) ولفظه: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني)).
  12. حاشيه الشهاب على تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (7/332).
  13. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/375).
  14. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون برقم: (1887).
  15. أخرجه أحمد ط الرسالة (25/57-15777) وقال محققو المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه".
  16. تفسير ابن كثير ت سلامة (6/392).
  17. أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة برقم: (918).
  18. أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة، وجعل من شعائر الله برقم: (1643) ومسلم في كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به برقم: (1277).
  19. سبق تخريجه.
  20. أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة، وجعل من شعائر الله برقم: (1643) ومسلم في كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به برقم: (1277).
  21. أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة، وجعل من شعائر الله برقم: (1643) ومسلم في كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به برقم: (1277).
  22. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/204-9524) وصححه الألباني في إرواء الغليل (4/316-1119).
  23. سبق تخريجه.
  24. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/472).
  25. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (2/728).
  26. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/250-251).
  27. بنحوه في تفسير الطبري = جامع البيان (2/735).
  28. المعجم الأوسط (6/214-6219) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/1023-5883).
  29. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (6/577).
  30. تفسير القرطبي (2/190).
  31. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:970).
  32. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/264).
  33. التحرير والتنوير (2/73).

مواد ذات صلة