الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
[2] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا} الآية:6 إلى قوله تعالى: {وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية:8
تاريخ النشر: ٢٦ / محرّم / ١٤٢٧
مرات الإستماع: 10387

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل، وهو من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن خالته عائشة، وفي طريق ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة: أن زينب بنت جحش هي التي سقته العسل، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه، فالله أعلم.

وقد يقال: إنهما واقعتان، ولا بُعد في ذلك إلا أن كونهما سبباً لنزول هذه الآية فيه نظر، والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا شك أن القول بأن ذلك مما تعدد في أسباب النزول: في غاية البعد، أعني مثل هذه الروايات في شرب العسل خاصة، وذلك أنه لا يمكن أن تنزل الآيات في هذه القضية تنهى النبي ﷺ عن تحريم ما أحل الله له، ثم بعد ذلك يقع فيه مرة ثانية، من هذه الحيثية.

وأيضاً يبعد أن يكون ذلك أيضاً قد تكرر -وإن لم يكن سبباً للنزول- يعني في كل مرة، والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، وهذه الأسماء المشتركة أن التواطؤ كان على زينب، ومرة كان التواطؤ على حفصة يبعد أن يكون بهذه الصورة؛ لأن القضية ستكون مدركة، فسواء كانت حفصة -رضي الله عنها- في إحدى المرات متواطئة، وفي مرة أخرى متواطأ عليها، فهي ستعرف القضية.

وعلى كل حال وبنفس السياق، وبنفس الطريقة، وبنفس الكلام في شرب العسل: إني أجد منك ريح مغافير، فالأمر غير طبيعي، ففيه بُعد، لكن ربما يكون ذلك من باب اختلاف الرواة في تسمية من وقع منهن ذلك، وسيأتي حينما سأل ابن عباس عمر بن الخطاب عن اللتين تظاهرتا على رسول الله ﷺ فقال: هما حفصة وعائشة، وأما ما يتعلق بسبب النزول فيمكن أن يقال كما سبق: إن سبب النزول هو شربه للعسل، وما حصل من بعض أزواجه في ذلك، إضافة إلى سبب آخر وهو تحريم الجارية، فيكون ذلك جميعاً هو سبب نزول الآية، وعرفنا أن الأسباب قد تتعدد، ويكون النازل واحداً.

ومما يدل على أن عائشة وحفصة -رضي الله تعالى عنهما- هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي ﷺ اللتين قال الله تعالى: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [سورة التحريم:4] حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرّز، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي ﷺ اللتان قال الله تعالى: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا؟

فقال عمر: واعجباً لك يا ابن عباس، قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: هي عائشة وحفصة.

قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي، قال: فغضبت يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله ﷺ ليراجعنه، ولتهجره إحداهن اليوم إلى الليل...

معنى: تراجعه أنها ترد عليه، وتناقش، وتبدي وجهة نظرها ورأيها، ولا تسكت وتنقاد وتنصاع لما يأمرها به، كما كان الشأن بالنسبة للقرشيات، لشدة طاعتها وإذعانها لزوجها لا ترد عليه كلامه، بخلاف نساء المدينة في ذلك الوقت.

فوالله إن أزواج رسول الله ﷺ ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، قال: فانطلقت فدخلت على حفصة، فقلتُ: أتراجعين رسول الله ﷺ؟ قالتْ: نعم، قلتُ: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم.

قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت، لا تراجعي رسول الله ﷺ، ولا تسأليه شيئاً، واسأليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم -أي أجمل- وأحب إلى رسول الله ﷺ منكِ -يريد عائشة.

قال: وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله ﷺ، ينزل يوماً، وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، قال: وكنا نتحدث أن غسان تُنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوماً ثم أتى عشاءً...

معنى: تُنعل الخيل يعني ماذا؟

طالب: تُهيئها.

وتضع لها النعل، حديدة في أسفل الحافر.

ثم أتى عشاءً فضرب بابي، ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: وما ذاك؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك...

غسان مما يلي الروم من العرب، وكان المنافقون -كما هو معلوم- قد ذهب بعضهم إلى أبي عامر الراهب من المشركين من أهل المدينة، ذهب إلى الروم يستنجد بهم، ويدعوهم إلى غزو المدينة، غزو النبي ﷺ وأصحابه لتخليصهم منه، والمنافقون متواطئون على هذا، وبنوا مسجد الضرار في شمال المدينة، يعني المكان الذي هو مدخل المدينة، مما يلي بلاد الشام، من الشمال، ينتظرون قدوم الروم من أجل أن ينخرطوا في جيشهم، ويدلوهم على المداخل والأماكن، ويدلوهم على النبي ﷺ وعلى أبي بكر وعمر، كما هو الشأن في حال المنافقين في كل زمان ومكان، فكانوا ينتظرون مجيء الروم، فإذا سمعوا شيئاً، أو حدث شيء، قالوا: جاءت الروم، جاءت غسان.

بل أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله ﷺ نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائناً، حتى إذا صليت الصبح شددت عليّ ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله ﷺ؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلاماً له أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إليّ فقال: ذكرتك له فصمت.

فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عندهم قليلاً، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج فقال: قد ذكرتك له فصمت، فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فوليت مدبراً، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، قد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله ﷺ، فإذا هو متكئ على رمال حصير، وقد أثر في جنبه.

فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: لا فقلت: الله أكبر، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبتُ علي امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي ﷺ ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله، فإذا هي قد هلكت، فتبسم رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله قد دخلتُ على حفصة فقلتُ: لا يغرنَّك إن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله ﷺ منك، فتبسم أخرى، فقلت: أستأنسُ يا رسول الله...

أستأنس يا رسول الله، يقول: أكملُ أتحدث معك وأجلس؟ كره أن يثقل على النبي ﷺ، يعني: هل أسترسل بالحديث؟

قال: نعم فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت في البيت شيئاً يرد البصر إلا أُهُباً ثلاثةً...

أُهُباً ثلاثة: جمع إهاب، والإهاب ما هو؟ الجلد، وبعضهم يقول: الجلد الذي لم يدبغ؛ لأن النبي ﷺ قال: أيما إهاب دبغ فقد طهر[1] فقبل الدباغ يقال له: إهاب، وبعضهم يقول: الجلد مطلقاً سواء كان مدبوغاً أو غير مدبوغ، يعني هذا البيت ليس فيه شيء، جاء في هذه الرواية قال: "في مشربة" غرفة فوق، في الأعلى، وجاء في بعض الروايات: أن الدرج جذع نخل قد نُقر.

فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالساً، وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولائك قوم عُجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت: استغفر لي يا رسول الله، وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة مَوجِدته عليهن حتى عاتبه الله -عز وجل[2].

وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، وأخرجه الشيخان عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، قال: فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه، فقلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي ﷺ؟ هذا لفظ البخاري[3].

ولمسلم: من المرأتان اللتان قال الله تعالى: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ قال: عائشة وحفصة، ثم ساق الحديث بطوله، ومنهم من اختصره[4].

وروى مسلم أيضاً عن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله ﷺ نساءه دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله ﷺ نساءه، وذلك قبل أن يُؤمر بالحجاب، فقلت: لأعلمنّ ذلك اليوم.. فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعْظِه إياهما إلى أن قال: فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله ﷺ على أسكُفَّة المشربة...

يعني: على العتبة، على المدخل.

على أسكُفَّة المشربة، فناديت، فقلت: يا رباح استأذن لي على رسول الله ﷺ، فذكر نحو ما تقدم... إلى أن قال: يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت -وأحمد الله- بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي، فنزلت هذه الآية -آية التخيير: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [سورة التحريم:5] فقلت: أطلقتهن؟ قال: لا فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [سورة النساء:83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر[5].

وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومقاتل بن حيان والضحاك وغيرهم: وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما، زاد الحسن البصري: وعثمان -رضي الله تعالى عنه. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال: علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه.

على كل حال هذا يصدق على كل من اتصف بهذه الصفة، ومِن أولى مَن يدخل بذلك هؤلاء الخلفاء الأربعة -رضي الله تعالى عنهم، ولا يختص بواحد منهم، وقد يذكر هذا على سبيل المثال، وقد يذكره بعضهم على سبيل المقابلة، بمعنى أن بعض من يتشيع قد يقول: وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أي: عليٌّ، ويأتي من يقابله فيقول: وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أي: أبو بكر وعمر وعثمان، وكل هؤلاء لا شك أنهم ممن ينطبق عليهم هذا الوصف.

وروى البخاري عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي ﷺ في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية[6].

ذكر السيوطي في كتاب الإتقان -حينما تحدث عن أبواب تتعلق بالنزول- باباً خاصاً فيما نزل على لسان بعض الصحابة، أو ما وافق بعض الصحابة مثل هذا، ومثل: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] لما قال عمر -رضي الله عنه- ذلك.

وقد تقدم أنه وافق القرآن في أماكن، منها في نزول الحجاب، ومنها في أسارى بدر، ومنها قوله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125].

وروى ابن أبي حاتم عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال عمر بن الخطاب: بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين، وبين النبي ﷺ فاستقريتُهن أقول: لتكفنّ عن رسول الله ﷺ...

استقريتهن يعني: دخل عليهن واحدة بعد الأخرى.

أو ليبدلنّه الله أزواجاً خيراً منكن، حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين، فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن؟ فأمسكتُ، فأنزل الله : عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [سورة التحريم:5].

وهذه المرأة التي ردته عما كان فيه من وعظ النساء هي أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- كما ثبت ذلك في صحيح البخاري[7].

ومعنى قوله: مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ ظاهر، وقوله تعالى: سَائِحَاتٍ أي: صائمات، قاله أبو هريرة وعائشة وابن عباس -رضي الله تعالى عنهم، وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب القرظي وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو مالك وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وغيرهم.

هذا الذي عليه عامة السلف ، السائحات يعني الصائمات، وبعضهم يقول غير هذا، ولكنه قول فيه بُعد، وقوله هنا: مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ عرفنا أن القنوت دوام الطاعة وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [سورة الأحزاب:31] كما في سورة الأحزاب، فالحاصل أن القنوت هو دوام الطاعة.

وقوله تعالى: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا أي: منهن ثيبات، ومنهن أبكاراً؛ ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فإن التنوع يبسط النفس؛ ولهذا قال: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا.

قد يكون هذا المراد، وقد يكون ذكر ذلك على سبيل -أو في مقام- التوسعة، يعني أن الله لم يضيق على نبيه ﷺ، فإذا طلقكن فإن الله سيعوضه تعويضاً واسعاً من صنوف النساء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ6-8 [سورة التحريم.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا يقول: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار.

وقال مجاهد: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا قال: اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله.

وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتَهم عنها، وزجرتَهم عنها.

وهكذا قال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه.

وجه الارتباط بين هذه الآية وبين ما قبلها أشرت إليه فيما سبق، وهو أن أزواج النبي ﷺ اجتمعن عليه يطالبن بالتوسعة في النفقة، فغضب النبي ﷺ، وخيرهن بين إرادة الحياة الدنيا وبين أن يخترن الله ورسوله فاخترن الله ورسوله، بعد أن آلى منهن شهراً -عليه الصلاة والسلام، آلى: أي حلف أن لا يقربهن شهراً، أن لا يطأهن شهراً.

فالحاصل أن ذلك ناسب أن يوجه بعده هذا الخطاب بالقيام على الأهل، ورعايتهم رعاية تكون سبباً لتجنيبهم مساخط الله ، والانغماس في الحياة الدنيا ولذاتها، وشهواتها وما أشبه هذا، وهذه الأقاويل التي ذكرها هنا في معنى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا هذا الذي يسمونه باختلاف التنوع، يعني لا يحتاج إلى ترجيح، كل هذا يرجع إلى معنى واحد قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا أي: بطاعة الله -عز وجل، واجتناب معصيته، فكل الأقوال تدور حول هذا المعنى، ولا يحتاج أن يقال: القول الأول، والقول الثاني، والثالث، والرابع.

وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن الربيع بن سبرة عن أبيه -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها[8] هذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

وقوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ وقودها أي: حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم، والحجارة، قيل: المراد بذلك الأصنام التي كانت تعبد؛ لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء:98].

وقال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- ومجاهد وأبو جعفر الباقر والسدي: هي حجارة من كبريت.

زاد مجاهد: أنتن من الجيفة.

على كل حال الله لم يحدد شيئاً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ودل القرآن على أن الأصنام تلقى فيها: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ كذلك أيضاً ما جاء في بعض الآثار من أنها حجارة الكبريت، ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي، وحجارة الكبريت لها في ذلك مزيتان، المزية الأولى: شدة الحرارة والإحراق، فهي شديدة الحرارة، والأمر الثاني: الرائحة النتنة.

وقوله تعالى: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ أي: طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله، شداد: أي تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج.

وقوله: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ أي: مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه، لا يتأخرون عنه طرفة عين، وهم قادرون على فعله، ليس بهم عجز عنه، وهؤلاء هم الزبانية -عياذاً بالله منهم.

وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ أي: يقال للكفرة يوم القيامة: لَا تَعْتَذِرُوا فإنه لا يقبل منكم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وإنما تجزون اليوم بأعمالكم.

ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا أي: توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب، وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.

على كل حال التوبة النصوح: هي التوبة الصحيحة الصادقة التي تستوفي الشروط المطلوبة في التوبة، التوبة النصوح أن يقلع عن الذنب، وأن يعزم على أن لا يرجع إليه، وأن يندم على ذلك، وأن يرد المظالم إلى أصحابها، وأن لا يستروح للذنب، أو يحدث نفسه به تلذذاً وتشهياً، أو يكون متردداً في فعله ثانيةً، أو نحو ذلك مما قيل في معنى التوبة النصوح.

فهو يترك ذلك تركاً صحيحاً جازماً لا تردد فيه، من الناس من يحدث نفسه بالتوبة، ومن الناس من يقول: إنه تاب، ولكنه يحدث نفسه بالذنب وإن لم يفعله، فليست هذه هي التوبة النصوح، ومنهم من يتوب ويعزم أن لا يرجع لكنه لا يندم على فعله.

وقوله تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وعسى من الله موجِبة.

وسبق الكلام على معنى كون عسى من الله موجبة، وأن ذلك جاء من كلام ابن عباس -رضي الله تعالى عنه، وجاء عن غيره من السلف، معنى موجبة أي: أن ذلك متحقق الوقوع؛ لأن أصل عسى في كلام العرب تدل على الترجي، والترجي إنما يكون ممن لا يعلم عواقب الأمور، فهو يرجو أن يحصل هذا الأمر، أما الله فعلمه محيط، فإذا قال: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا فهو سيبدله، وإذا قال: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ فإن هذا وعد منه ، وليس ذلك كما لو قاله الإنسان، تقول: عسى أن ينزل المطر، بمعنى أنك ترجو، عسى زيد أن يقدم من السفر، فهذا من باب الترجي، يقولون: هذا جاء على طريقة العرب في الكلام والخطاب، فإن العظيم من الناس كالملوك ونحوهم إذا أراد أن يعد بشيء فإنه يخرجه بهذه الطريقة، يقول للواحد من رعيته من أصحاب الحاجات: عسى أن يتحقق لك ما أردتَ، وهو يقصد وعده بهذا.

يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي: ولا يخزيهم معه يعني يوم القيامة نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ كما تقدم في سورة الحديد يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم: هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طُفئ.

وروى الإمام أحمد عن رجل من بني كنانة قال: صليت خلف رسول الله ﷺ عام الفتح فسمعته يقول: اللهم لا تخزني يوم القيامة[9].

  1. أخرجه الترمذي في أبواب اللباس باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت (4/ 221- 1728)، وابن ماجه في كتاب اللباس، باب لبس جلود الميتة إذا دبغت (2/ 1193- 3609)، والنسائي في كتاب الفَرَع والعتيرة، باب جلود الميتة (7/ 173- 4241)،  وأحمد (3/ 382- 1895). وهو في صحيح مسلم في كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ (1/ 277- 105) (366) بلفظ: إذا دبغ الإهاب فقد طهر.
  2. أخرجه أحمد (1/ 346- 222).
  3. أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب الغرفة والعُلِّية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها (3/ 133- 2468).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، وقوله تعالى: وإن تظاهرا عليه (2/ 1111- 34) (1479).
  5. أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، وقوله تعالى: وإن تظاهرا عليه (2/ 1105- 30) (1479).
  6. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً (6/ 158 – 4916).
  7. أخرجه في كتاب تفسير القرآن، باب: تبتغي مرضاة أزواجك (6/ 156- 4913). 
  8. أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (1/ 133- 494)، والترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة (2/ 259- 407)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (508).
  9. أخرجه أحمد (29/ 596- 18056)، والطبراني في الكبير (2524).

مواد ذات صلة