الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
(002) من قوله تعالى (..عند كل مسجد وادعوه مخلصين) الآية 29– إلى قوله تعالى (لم يدخلوها وهم يطمعون..) الآية 46
تاريخ النشر: ٠٧ / جمادى الآخرة / ١٤٣٩
التحميل: 695
مرات الإستماع: 613

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

"قوله تعالى: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 29] أي: في كل مكان سجود، أو في وقت كل سجود، والأول أظهر، والمعنى إباحة الصلاة في كل موضع كقوله ﷺ: جعلت لي الأرض مسجدًا[1]."

قوله تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ احتجاج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى.

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله - تبارك، وتعالى -: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 29]؛ أقيموا وجوهكم: مضى أن المقصود بذلك الإخلاص لله - تبارك، وتعالى - مع توحيده - تبارك، وتعالى - في أي مسجد كنتم على وفق ما شرع الله لكم، والمسجد مكان السجود، يعني المواضع التي تكون لذلك قل أو في وقت كل السجود، والأول أظهر؛ لأنه ظاهر اللفظ.

 قال: والمعنى إباحة الصلاة في كل موضع، هذا يستنبط من الآية، ولكن من جهة المعنى وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعني الإخلاص لله - تبارك، وتعالى - عند كل موضع للسجود، يعني الإخلاص لله - تبارك، وتعالى - في صلاتكم، وعبادتكم.

وبينه، وبين المعنى الآخر - والله تعالى أعلم - وهو وقت كل سجود ملازمة؛ لأن ذلك لا يقع إلا في زمان.

وقوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ احتجاج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى؛ وهكذا كثير في القرآن كما هو معلوم: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104]؛ فيحتج بالبدأة الأولى النشأة الأولى على النشأة الثانية اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] وهذا نوع من دلائل البعث في القرآن، وكما هو معلوم أدلة البعث في القرآن كثيرة منها هذا النوع: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ ۝ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78 - 79].

وفي عادة المخاطبين أن النشأة الثانية أسهل من النشأة الأولى، وذلك عند الله - تبارك، وتعالى - سواء لا فرق: وَلَقَدْ جِئْتِمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] فهذا هو المعنى المشهور الذي عليه الجمهور، وبه قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد[2] وهو اختيار أبي جعفر ابن جرير - رحمه الله -[3] واختاره كذلك الحافظ ابن القيم[4].

وهناك معنى آخر صح عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة[5] وهو أن الله - تعالى - بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا، وكافرًا، كما قال الله : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ ومِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمنًا، وكافرًا، وتكون الإعادة كما ابتدأوا كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ ومِنْكُمْ مُؤْمِنٌ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2] فيها للمفسرين قولان مشهوران قد مضى ذلك في التعليق على "المصباح المنير".

فَمِنْكُمْ كَافِرٌ من نظر إلى أن الفاء تفيد التعقيب المباشر قال هذا باعتبار ما سبق في القدر كما جاء في الحديث: قبض قبضة فقال: هذه للجنة، ولا أبالي، وقبض قبضة، وقال: هذه للنار، ولا أبالي[6] فالشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه[7].

فهذه الآية في هذا الاعتبار تدل على هذا المعنى، وهذا المعنى يرده المعتزلة؛ لأنهم ينفون القدر، ويقولون: بأن الإنسان يخلق فعله، وأن الله لم يقدر عليه الكفر، أو الإيمان.

والمعنى الآخر: هو أن الله - تبارك، وتعالى - خلقهم، وبيَّن لهم سبيل الهدى، وسبيل الردى، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فتكون الفاء على هذا الاعتبار تدل على تعقيب مباشر، لكن سيقول هؤلاء: بأن تعقيب كل شيء بحسبه؛ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد: 17] ولا يكون هذا إلا بعد مدة من نزول المطر فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون: 14] وبينهم أربعون فمثل هذا تحتمل الآية، وقائل ذلك إذا كان يثبت القدر إثباتًا صحيحًا، ومن ذلك المراتب الأربعة منها: العلم السابق، والخلق، والكتابة، والمشيئة، وهذا قول آخر لا إشكال فيه.

فهذا معنى ذكره ابن عباس - ا -[8] وذكر الحافظ ابن كثير[9] أنه يتقوى بحديث: فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخل الجنة[10].

وبعض أهل العلم حملها على المعنين في وجود ما يدل على كل واحدة منهما، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - وهذا يذكره كثيرًا في تفسيره بأن الآية إذا احتملت معنيين، ودل على كل معنى دليل، ولم يوجد ما يمنع من حملها على المعنيين؛ فإنها تحمل عليهما؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة[11].

فهنا: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ المتبادر على طريقة القرآن في الاحتجاج على البعث أنه احتجاج بالنشأة الأولى على الثانية، وهذه السورة من السور المكية، ومن مقاصد السور المكية إثبات البعث، والرد على المنكرين له.

والمعنى الآخر تحتمله الآية: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال به حبر الأمة[12] وتدل عليه النصوص من القرآن، والسنة كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ يعني بتقديره الأزلي ترجعون بعد ذلك إليه على فريقين: مؤمن، وكافر - والله تعالى أعلم - .

"قوله تعالى: فَرِيقًا الأول: منصوب بـ هدى، والثاني: منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده."

فَرِيقًا هَدَى وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ فريقًا الأول يقول: منصوب بـ هدى فريقًا هدى يعني: هدى فريقًا، يكون مفعولاً به.

والثاني: منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده؛ يعني فريقًا يعني، وحق على فريق الضلالة، وحقت الضلالة يعني يفهم من الفعل الذي بعده، وفريقًا حقت عليه الضلالة بهذا الاعتبار، - والله أعلم - .

"قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ قيل: المراد به الثياب الساترة، واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة، وقيل: المراد به الزينة زيادة على الستر كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب، وبالسواك، والطيب."

خُذُوا زِينَتَكُمْ يقول: المراد به الثياب الساترة؛ يعني باعتبار أنها نازلة في طوافهم بالبيت عراة خُذُوا زِينَتَكُمْ وهذا قال به كثير من السلف كمجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخاعي، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، والضحاك، ومحمد بن شهاب الزهري[13] وغير هؤلاء، ولهذا ذكر ابن كثير - رحمه الله -[14] أنه لهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل، ولاسيما يوم الجمعة، ويوم العيد، والطيب؛ لأنه من تمام الزينة، وكذلك السواك؛ لأنه من تمام الزينة.

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ويقول: واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة؛ وهذا صحيح، قد جاء في صحيح مسلم حديث ابن عباس - ا -: "كانت المرأة تطوف بالبيت، وهي عريانة فتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله[15].

تعني فرجها ما كان ذلك من أعمالهم في الجاهلية، وفيه فنزلت هذه الآية: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وهذا نقل عليه ابن رجب الإجماع[16] فهذا سبب النزول الطواف بالبيت، وهم عراة.

وعلى هذا فإن ذلك يكون في ستر العورات؛ هذه صورة سبب النزول ستر العورة في الصلاة، فيدخل في المعنى دخولاً أوليًا ستر العورة في الصلاة، يعني ما يستر العورة.

ويؤخذ من ظاهر اللفظ، وعمومه من جهة الإضافة خُذُوا زِينَتَكُمْ الزينة هنا مضاف إلى المعرفة كاف الخطاب، وهذه الإضافة تكسبه العموم فيصدق على كل ما يقال عنه زينة تجمل، فيدخل فيما زاد على ستر العورة، ومن ذلك ستر المنكبين بالنسبة للرجل لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء[17].

ويدخل فيه التجمل بما، وراء ذلك يعني هذه ثلاث مراتب في اللباس:

ستر العورة الواجب، وهناك ما هو فوق ذلك كستر العاتقين، وهناك زينة مستحبة فتلقى الناس هكذا، يعني لما خرج بغير عمامة فتلقى الناس هكذا "فالله أحق أن يتجمل له" قاله ابن عمر لمولاه لما خرج حاسرًا في الصلاة[18].

فيكون التجمل كما قال ابن كثير[19] بأخذ الزينة، واللباس الحسن، والطيب، والسواك، وما إلى ذلك، ولذلك بعض أهل العلم كتميم الداري "أنه كان إذا قام يصلي من الليل في بيته لبس حلة، وتجمل"[20].

وكذلك جاء في ترجمة الصفي الهندي هذا عالم أصولي عاصر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - من الأشاعرة، وهو مذكور في المناظرة الوسطية، فكان إذا أراد أن يقوم الليل تجمل، ولبس أحسن الثياب، وحمل العصا؛ والعصا في بعض البيئات، والأعراف للزينة، ولا زالت في بعض البيئات في السودان تحمل العصا لكمال الزينة، والتجمل، فكان يحمل العصا لاستكمال الزينة، وهو في بيته يصلي قيام الليل[21].

هذا يفهم للعموم في قوله: خُذُوا زِينَتَكُمْ فيدخل في ذلك هذه جميعًا.

يقول: وقيل: المراد به الزينة زيادة على الستر كالتجمل للجمعة... إلى آخره كل هذا يدخل فيه، أو كله داخل في المعنى، ولا حاجة للترجيح بين القولين، والزينة في الأصل تطلق إطلاقات كما هو معلوم.

الزينة أحيانًا تكون بنفس الخلقة وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: 31]؛ فيدخل فيه الوجه، والكفان، وسائر الجسد فيجب عليها ستره هذه زينة الخلقة.

وهناك زينة فوقها، فمنها ما يرجع إلى الثياب.

ومنها ما يرجع إلى الأصباغ كالكحل، والحناء، والحمرة للشفاه، ونحو ذلك.

وهناك زينة هي من قبيل الحلي هذا بالنسبة لإطلاقات الزينة فهي تصدق على هذه الأنواع.

فقوله هنا خُذُوا زِينَتَكُمْ ليس المقصود به ما يتعلق بزينة الجسد نفسه، وإنما المقصود زينة الثياب بستر العورات، وما زاد على ذلك من التجمل، والطيب، والسواك؛ لأنه يناجي ربه فيتجمل، وهذ من تعظيم قدر الصلاة.

"قوله تعالى: وَكُلُوا واشْرَبُوا الأمر فيهما للإباحة؛ لأن بعض العرب كانوا يحرمون أشياء من المآكل."

الأمر للإباحة لكن كما قال الشاطبي - رحمه الله - بأن ذلك بالنظر الكلي يكون للوجوب[22] يعني لابد من الأكل، والشرب بحيث ما يقيم صلب الإنسان، ويُبقي حياته، لكن هنا في هذا السياق يكون الأمر به للإباحة.

ولهذا يقول الشاطبي - رحمه الله - في "الموافقات"[23] بأنه لم يرد الأمر بالأكل، والشرب إلا على سبيل الامتنان، ونحو ذلك؛ لأن ذلك مما تقتضيه الغرائز فلا يحتاج أن يؤمر المكلف به ليس بحاجة إلى أن يؤمر، ويقال له كل، هو يأكل، وأودع الله فيه هذه الغريزة، لكن يحتاج أن يقال له اقتصد في هذا الأكل لا تسرف.

 يقولون كذلك ما تدعو إليه الغرائز مثل الجماع لا يأتي الأمر به، وقوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187] هذا في سياق معين لنسخ ما كان قبل ذلك، ومع ذلك قرنه فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ [البقرة: 187] ليلة القدر، أو قيام ليالي الشهر، أو طلب الولد، المقصود أن معها ما تسمو إليه همم أصحاب النفوس الشريفة ليس مجرد الوقاع لكن الأمر بمثل الصلاة، والصبر، والزكاة، والإنفاق، والأشياء الشاقة على النفوس هذه يكثر الأمر بها بصور مختلفة.

وقوله: لأن بعض العرب كانوا يحرمون أشياء من المآكل؛ كما سبق وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: 138] كانوا يحرمون أشياء كذلك في لباسهم، ومناسكهم، فكان من عادة العرب في مسألة الطواف بالبيت عراة يقولون: كان النساء يطوفون بالبيت ليلاً عاريات لربما، وضعت على فرجها شيئًا كالذي يوضع على وجه الحمار؛ مثل الخيوط مثل الحزام، ويكون عليه مثل الخيوط يطرد الذباب عن وجه الحمار، فتضع مثل هذا على فرجها، ولا يستر.

ولربما نشرت شعرها الطويل فتحاول أن تستر سوءتها، وتقول:

اليوم يبدو بعضه، أو كله فما بدا منه فلا أحله.

وذلك من تشريع الشيطان؛ حيث كانوا الحمس، وهم قريش، وما ولدت لا يطوف أحد إلا بثوب يعني من غير الحمس لا يطوف أحد ممن يرد على البيت إلا بثوب جديد لم يعصِ الله فيه بزعمهم، أو أن يعطيه أحد الحمس ثوبًا فيلبسه، والنتيجة واحدة؛ لأنه إذا طاف بذلك الثوب يلقيه في المطاف يعني لابد من التعري يلقيه في المطاف، ويسمونه اللقى تجدونه في أشعار العرب يمثلون الشيء المطروح الذي يطأه الناس، أو القتيل في المعركة تطأه الخيل بحوافرها يمثلون باللقى؛ اللقى هو الثوب الملقى في الطواف يطأه الناس، لقى فيلقيه في الطواف.

كان الحمس أيضًا يطعمون الناس في الحج، ويسقونهم، ويتنافسون في مثل هذا بالعسل، واللبن، وغير ذلك، ولهذا كان الحمس في الموسم لا يسلئون، ولا يأتقطون، ولا يزبدون[24] لا يسلئون يعني: لا يستخرجون من الألبان شيئًا من الأجبان، والأزباد، أو الأقط، ونحو ذلك، يجعلون ذلك جميعًا للبن بما فيه يجعلونه لقاصدي البيت الحرام.

وكان من تشريع الشيطان لهم أن غير الحبش إذا جاء لا يدخلوا بشيء إلى أرض الحرام من طعامهم أبدًا لا يكون معه طعام، وإنما يعطيهم أهل الحرام، يعطون الحجيج، ويعطون الطعام، ويكفلون لهم ذلك، فكان من تشريعاتهم أنهم لا يحملون طعامًا داخل الحرام، مما كانوا يحملونه معهم، فالله - تبارك، وتعالى - أمرهم بأخذ الزينة، وبالأكل، والشرب.

"قوله تعالى: وَلَا تُسْرِفُوا أي: لا تكثروا من الأكل فوق الحاجة، وقال الأطباء: إن الطب كله مجموع في هذه الآية، وقيل: لا تسرفوا بأكل الحرام."

وَلَا تُسْرِفُوا لا تكثروا من الأكل فوق الحاجة كما قال البخاري - رحمه الله - قال ابن عباس: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف، أو مخيلة"[25] ولا تسرفوا الإسراف هو ما كان خارجًا عن قدر الحاجة التوسع في الأكل، والشرب.

وقول الأطباء: إن الطب كله مجموع في هذه الآية: وَكُلُوا واشْرَبُوا ولَا تُسْرِفُوا فهذا الشق الأول فإنه لا يتأتى للإنسان البقاء، ولا يصح جسده، ولا تستقيم حاله إلا بأكل، وشرب لكن من غير توسع، ولهذا قالوا: بأن المعدة بيت الداء، فأكثر ما يطال للإنسان، ويصيبه من الأدواء هو من جهة طعامه، وشرابه.

وقيل: لا تسرفوا بأكل الحرام؛ لا شك أن أكل الحرام إذا كان التوسع في المباح مذموم فالأخذ من الحرام ممنوع، ولهذا كان قوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27] ذكر بعض أهل العلم، وهو معنى صحيح أن ذلك باعتبار بذل المال في الحرام، ولو قال هذا لا شك فيه، فيكون الإسراف بتجاوز الحلال إلى الحرام، ويكون بالتوسع في الحلال.

وذكر الشاطبي - رحمه الله - في الكلام على المباح أن التوسع في المباحات يفضي إلى الوقوع في المشتبهات، والوقوع في المشتبهات يفضي المكلف إلى الوقوع في الحرام[26] وذكر أشياء تدل على ذم التوسع في المباح، وذكر آثارًا عن بعض الصحابة كعمر حتى إن عمر كان يتأول قوله تعالى: أَذَهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف: 20] أن ذلك باعتبار التوسع في المباحات أنه يدخل فيه، وكان يرى أن إزهاد التوسع يكون على حساب نعيم الآخرة[27] يعني إذا توسع في نعيم في الدنيا، ولذاتها المباحة كان ذلك نقصًا في نعيمه في الآخرة، هذا مذهب لعمر وبعض السلف.

والذي عليه الجمهور أنه إذا أخذ ذلك بحله، وأدى حق الله بأن ذلك لا يكون نقصًا في نعيمه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف: 32].

"قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ إنكار لتحريمها هو ما شرعه الله لعباده من الملابس، والمآكل، وكان بعض العرب إذا حجوا يحرمون الثياب، ويطوفون عراة - وفي بعض النسخ: يجرّدون الثياب، ويطوفون عراة - ويحرّمون الشحم، واللبن، فنزل ذلك ردّا عليهم."

وقد جاء عن ابن عباس - ا -: "كانت قريش يطوفون بالبيت، وهم عراة يصفرون، ويصفقون، فأنزل الله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ فأمروا بالثياب"[28] هذا عند الطبراني، وابن أبي حاتم بسند ضعيف، فلا يصح في سبب النزول.

وجاء في رواية: "كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية، وهي عريانة، وعلى فرجها خرقة، وهي تقول: اليوم يبدو بعضه ... إلى آخره، فنزلت هذه الآية: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ"[29] وفي رواية: "نزلت: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وقُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ"[30] والذي عند مسلم أن النازل هو خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الآية السابقة في طوافهم بالبيت عراة لكن هذا يتبع ما قبله فهو رد عليهم قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ فهناك أمرهم بأخذ الزينة، والأكل، والشرب من غير إسراف، وهنا جاء في مقام وصيغ الرد على هؤلاء الذين حرموا الزينة، والطيبات من الرزق.

قوله تعالى: خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: الزينة، والطيب في الدنيا للذين آمنوا، ولغيرهم، وفي الآخرة خالصة لهم دون غيرهم، وقرئ خالصة بالنصب على الحال، والرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر ابتداء مضمر.

قراءة الجمهور بالنصب كما نقرأ على الحال، تقدير: قل هي مستقرة للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة، في حال خلوصها خالصة.

وقراءة الرفع هي قراءة نافع، وهي التي بُني عليها الكلام كما سبق على أنه خبر بعد خبر، يعني الخبر الأول هي للذين، الخبر الثاني: خالصة، أو خبر ابتداء مضمر تقديره هي؛ هي خالصة للذين آمنوا في الآخرة، هي خالصة يوم القيامة.

"قوله تعالى: وَالْإِثْمَ عام في كل ذنب." 

وَالْإِثْمَ عام في كل ذنب؛ ذكر الفواحش، وذكر الإثم، وذكر العدوان، فحينما يذكر الإثم مع العدوان الإثم مع البغي يمكن أن يكون البغي باعتبار أنه عطف العام على الخاص، فكل ذلك من الآثام لكن لضرره، وتعديه، ونحو ذلك أضافه عليه، وهذا يدل على الاهتمام كما هو معلوم مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ ومَلَائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 98] من باب عطف الخاص على العام، وأنه من جملة الرسل - صلوات الله عليهم - .

من هنا قال ابن جزي بأن الإثم عام في كل ذنب، لكن ذكر ذلك مع العدوان، أو البغي يكون يعنى عند بعض أهل العلم بمعنى الذنوب القاصرة هذا الإثم، والبغي: الذنوب المتعدية باعتبار أن التأسيس مؤكد على التوكيد، يعني كون اللفظ الآخر يؤسس معنى آخر أولى، وبهذا قال السدي من السلف[31] واختاره الحافظ ابن كثير[32] - رحمه الله - فهذا باعتبار الاجتماع؛ اجتماع اللفظين الإثم، والبغي، فيكون الإثم: الذنوب القاصرة، والبغي: الذنوب المتعدية، عدوان على الناس في أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم.

"قوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ [الأعراف: 33] أي: تفتروا عليه في التحريم، وغيره.

قوله تعالى: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ [الأعراف: 35] هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد، ولزمتها النون الشديدة المؤكدة وجواب الشرط: فَمَنِ اتَّقَى الآية."

إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ يعني إن أتاكم رسلي الذين أرسلهم إليكم، إن أتاكم فإن شرطية، وبنحو هذا قال ابن جرير - رحمه الله -[33].

"قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ [الأعراف: 37] ذكر في الأنعام".

هذا الاستفهام مضمن معنى النفي، يعني لا أحد أظلم، فتارة يقولون: فَمَنْ أَظْلَمُ يعني لا أحد أظلم ممن افترى على الله مثلاً كذبا، أو وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة: 114] فيذكر أمورًا متنوعة.

 قلنا ذلك باعتبار أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، وإنما تمنع أن يزيد أحدهما على الآخر، يعني لا أحد أظلم؛ فأظلم صيغة تفضيل، يعني كل هؤلاء قد بلغوا الغاية في الظلم، فأفعل التفضيل لا تمنع التساوي، ولكن تمنع أن يزيد أحدهما على الآخر، فكل ذلك بلغ الغاية في الظلم لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله.

وبعضهم يخص كل واحد ببابه؛ يقول في باب المانعين: لا أحد أظلم ممن منع مساجد، وفي المفترين: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وفي باب المعرضين لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه، ثم أعرض عنها، وهكذا يعني كل واحدة مختصة ببابها.

"قوله تعالى: يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ [الأعراف: 37] أي: يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق، وغيرها."

يعني يصل إليهم ما كتب لهم في اللوح المحفوظ بقدر الله وسابق علمه يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق، والآجال كما قال الله - تبارك، وتعالى -: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا [يونس: 69 - 70] يعني يقع لهم ما كتب لهم في الدنيا من متاع ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 70] وهكذا في قوله: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كَفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23 - 24] في هذا المعنى، أو بنحوه قال محمد بن كعب القرظي، والربيع بن زيد[34] فهذا معنى أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ.

وبعضهم يحمل ذلك على معنى آخر أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ يعني ينالهم العذاب بقدر كفرهم، وبعضهم يقول: بأن الكتاب هنا المراد به القرآن أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ باعتبار أن عذاب الكفار مذكور في القرآن.

وبعضهم يقول: بأن الكتاب المراد به هنا: اللوح المحفوظ، وهذا الذي اختاره أبو جعفر ابن جرير[35] والحافظ ابن القيم[36].

وأن المراد ينالهم ما كتب لهم من خير، وشر في الدنيا كما سبق الرزق، والآجال، والعمل، وما يقع لهم من الأمور المكروهة من النكبات، وغير ذلك أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وهذا هو الأقرب، - والله تعالى أعلم - .

"قوله تعالى: ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا.

ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ [الأعراف: 37] أي: ادخلوا النار في جملة أمم أي مع أمم."

 

ضَلُّوا عَنَّا يعني غابوا عنا، يعني لا نرجو خيرهم، ولا نفعهم.

"قوله تعالى: ادَّارَكُوا أي: تلاحقوا، واجتمعوا، قوله تعالى: قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ المراد بأولاهم الرؤساء، والقادة، وأخراهم الأتباع، والسفلة، والمعنى: أن أخراهم طالبوا من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم لأنهم أضلوهم، وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم، إنما هو كقولك قال فلان لفلان كذا: أي قاله عنه، وإن لم يخاطبه به."

قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ هم الرؤساء، والقادة هؤلاء المراد بقوله أولاهم، وأخراهم الأتباع، والسفلة، وهذا قال به جمع من أهل العلم كمقاتل[37] والقرطبي[38] ورجحه أيضًا الشوكاني[39] ومن المعاصرين: الشنقيطي[40] والطاهر بن عاشور[41].

وبعضهم يقول: أولاهم، وأخراهم يعني آخر أهل كل ملة بمن سبق لهم في الدنيا، وشرع لهم الكفر، والضلال شرع لهم ذلك الدين؛ وهذا قال به السدي[42] واختاره ابن جرير[43] وابن عطية[44].

لاحظ المعنى الأول في الدخول في النار: قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ يعني أول ما يدخل الرؤساء، والكبراء، ثم بعد ذلك الأتباع ليقولون هذا، وعلى المعنى الأخر: أن المقصود به أولاهم يعني من تقدمهم، وشرع لهم هذا الضلال، والدين الباطل، والذين جاءوا بعدهم فعملوا به، وقالوا: وجدنا آباءنا على أمة، ونحو ذلك هؤلاء هم أخراهم، وهذا كما سبق اختيار ابن جرير - رحمه الله - وكذلك ابن عطية.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - جمع بين المعنين بعبارة دقيقة جدًا قد لا يتفطن لها القارئ، وهي في غاية الاختصار: يعني أخراهم دخولاً، وهم الأتباع؛ أخراهم دخولاً الآن إذًا هذا في دخول النار، وهم الأتباع؛ الأتباع معنى ذلك أنهم الذين جاءوا بعد الذين شرعوا لهم هذه الضلالات، والكفر بالله تعالى، فكان بين المعنين - والله تعالى أعلم - نوع ملازمة، تقدموهم في الدنيا بتأسيس الضلالة، وهؤلاء تبعوهم عليها فدخل أولئك النار أولاً، ثم تبعوهم في دخولها - والله أعلم - وهذا كقوله - تبارك، وتعالى -: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ۝ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ والْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 67 - 68] هذا في معنى هذه الآية، وهكذا في قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۝ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ۝ وقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ ونَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ [سبأ: 31 - 33] وظاهر هذه الآيات أنهم يخاطبونهم مباشرة، - والله المستعان - .

"قوله تعالى: وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [الأعراف: 39] أي: لم يكن لكم علينا فضل في الإيمان، والتقوى يوجب أن يكون عذابنا أشدّ من عذابكم بل نحن، وأنتم متساوون."

يعني أنتم على الكفر، والضلالة، والغي، والفساد، والشر لا فرق بيننا، وبينكم.

"قوله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ من قول أولاهم لأخراهم، أو من قول الله - تعالى - لجميعهم."

وهذا الثاني هو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[45] أو من قول الله؛ فيكون من قبيل الموصول لفظًا المفصول معنى، وعرفنا المراد بهذا يكون الكلام في ظاهره لمتكلم واحد تصرف اللفظ، وهو لاثنين.

"قوله تعالى: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف: 40] فيه ثلاثة أقوال:

أحدهما: لا يصعد عملهم إلى السماء.

والثاني: لا يدخلون الجنة، فإن الجنة في السماء.

والثالث: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا كما تفتح لأرواح المؤمنين."

 

المعنى الأول: لا يصعد عملهم إلى السماء.

والثاني: أنهم لا يدخلون الجنة باعتبار أنها في السماء.

والثالث: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم؛ كما في حديث البراء الطويل، وفيه: حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، ويستفتح له فلا يفتح له، وقرأ رسول الله ﷺ : لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ[46] فهذا يكون من التفسير النبوي إذا ذكر فيه النبي ﷺ الآية فهو تفسير لها قطعًا لا يصح أن يتعدى إذا صح الحديث، ولكن قد يفسر النبي ﷺ الآية بمعنى، ويكون أحد الأنواع الداخلة تحتها فلا ينفي ذلك عن غيره لكن أن يرجح عليه غيره فهذا لا يصح بحال من الأحوال؛ لأن النبي ﷺ لا ينطق عن الهوى، وهو أعلم الأمة بمعاني كتاب الله - تبارك، وتعالى -.

فهنا هذا المعنى: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم؛ دل عليه حديث البراء فهذا الحديث المراد قطعًا، وبه قال ابن عباس - ا -[47] وهو مروي أيضًا عن السدي، وعن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة[48] وهذه الطريق جيدة إن شاء الله.

وكذلك جاء عن مجاهد، وسعيد بن جبير: لا يرفع لهم منها عمل صالح، ولا دعاء[49] هذا معنى آخر.

وجاء عن ابن جريج: "لا تفتح لأرواحهم، ولا لأعمالهم"[50] جمع بين المعنين، وهذا الذي اختاره ابن جرير[51] والحافظ ابن القيم[52] - رحمهم الله - جمعوا بين المعنين؛ لا تفتح لأرواحهم، ولا لأعمالهم لا يصعد لهم عمل، وكذلك أيضًا لا يجاب دعاؤهم، ولا تنزل عليهم بركات، ورحمات فكل هذه المعاني صحيحة، لا يرفع لهم دعاء، ولا يحتاج معه إلى ترجيح، - والله أعلم - .

"قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف: 40] أي: حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة، والمعنى لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدًا، فلا يدخلونها أبدًا." 

هذه كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ومَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72] وهكذا في قوله تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف: 50].

فقوله تبارك، وتعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الولوج الدخول في مضيق يعني يقول: حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة، وهذا مروي عن ابن مسعود [53].

وعن ابن عباس أنه كان يقرأها حتى يلج الجُمَّل[54] وهو حبل السفينة، ولهذا قال بعضهم أن المقصود بالجمل: حبل السفينة لكن يمكن أن يكون على هذه القراءة غير المتواترة (حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ).

فعلى كل حال قوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الجمل، ولد الناقة المعروف، ويكون ذلك من باب إحالة دخوله يعني العرب تعبر بمثل هذا، وتذكره لبيان الامتناع كما يقولون: حتى تشيب مفارق الغربان، حتى يعود اللبن في الضرع، وهذا لا يكون فهو للإحالة، فهذا من المحال لا يكون أبدًا.

فِي سَمِّ الْخِياطِ السَّم، والسِّم السُّم بالحركات الثلاث على السين كل ثقب ضيق، وأصله يدل على مدخل الشيء، والخياط ما يخاط به خيط حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ.

الذين قالوا: حبل السفينة هم كأنهم نظروا إلى ذكر الخياط يعني المخيط الإبرة، والذي يدخل فيها هو الخيط، فحبل السفينة غليظ فلا يدخل في ثقب الإبرة، لكن تحمل ألفاظ القرآن على المتبادر الظاهر، والمتبادر إذا ذكر الجمل فهو ولد الناقة كما قال ابن مسعود [55].

ومن الطرائف في هذا أن أحد العلماء في علم اللغة جاءه متمحل يسأل عن هذه الآية: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ قال: ما الجمل؟ فقال له: البعير، قال: وما البعير؟ قال: ولد الناقة، قال: وما، ولد الناقة؟ هذا غضب فصار يمشي على أربع هذا العالم، وأسمعه رغاءً ليبين له ما هو الجمل؟ يعني بعض الناس يسأل عن الواضحات الجمل، البعير، ما هو البعير؟ هو ولد الناقة، ما ولد الناقة؟ قال هكذا الذي يمشي هكذا.

قوله تعالى: مِهَادٌ فراش. 

أصل المهاد المكان الممهد الموطأ، ولهذا يقال مهاد لفراش الصبي.

"غَواشٍ أغطية."

أغطية؛ ما يغشاهم من النار يغطيهم من أنواع العذاب، وصنوفه، فأصل المادة غشي يدل على تغطية شيء بشيء لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ومِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] - نسأل الله العافية - .

"قوله تعالى: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأعراف: 42] جملة اعتراض بين المبتدأ، والخبر ليبين أن ما يطلب من الأعمال الصالحة ما في الوسع، والطاقة."

يعني باعتبار أنها جملة اعتراضية وَالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 42] فذكر لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لإفادة هذا المعنى، وهذا كقوله - تبارك، وتعالى - في آخر البقرة: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286] وكقوله أيضًا: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7] وكقوله أيضًا: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] فلا يكلف الناس بما لا يطاق.

، وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[56] أنه جعل الاعتراض بين المبتدأ، والخبر لرفع توهم أن المكلفين عملوا جميع الصالحات المقدورة، والمعجوز عنها، لاحظ هذا غير الملحظ الذي ذكره ابن جزي.

ابن جزي يقول: جملة اعتراض بين المبتدأ، والخبر ليبين أن ما يطلب من الأعمال الصالحة ما في الوسع، والطاقة.

وابن القيم يقول: لا، هنا لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ قبلها وَالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فجاء بهذه الجملة الاعتراضية ليبين أنهم حينما قال: آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ما عملوا كل الأعمال الصالحة مما يقدرون عليها، ويعجزون عنها، وإنما عملوا ما بوسعهم، وهذا له تعلق بما ذكره ابن جزي أنه كلفهم بما يقع تحت طاقتهم، وقدرتهم، وإمكانهم غير المعجوز عنه، كذلك ما يقدر عليه الإنسان في حال السعة، والسهولة: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا في حال الضيق، والشدة، ونقص الطاقة فهذا لم يطالب الشارع به في قوله - تبارك، وتعالى -: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة: 184] في القراءة الأخرى التشديد بأي اعتبار فسر بأنهم يتكلفونه كالشيخ الكبير المسن الهرم الذي لا يستطيع الصوم إلا بمشقة، وكُلفة زائدة.

فمثل هذا النوع من المشقة التي لم يكلف الشارع بها، ولم يطالبهم يعني فيما يتعلق بالمريض، ورخصة الفطر، وكذلك أيضًا بما يتعلق بسائر التكاليف الشاقة.

مثلاً: هذا الذي لا يستطيع أن يحج؛ لأنه لا يثبت على الراحلة مثلاً، أو نحو هذا ما ضابط المشقة؟ فبعض الناس يسأل عن هذا متى يسقط عنه فرض الحج إلى بدل ليكون إلى بدل يعني بالعجز الحقيقي، أو العجز الحكمي.

"قوله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي من كان في صدره غل لأخيه في الدنيا ننزعه منه في الجنة، وصاروا إخوانا أحبابا، وإنما قال: نزعنا بلفظ الماضي."

لاحظ هذا المعنى الذي ذكره ابن جزي هو الذي عليه عامة المفسرين يعني من غل ما في أنفسهم، وقلوبهم من العداوة، والحقد، والشحناء، فالغل هو الضغن بأن غل في الصدر كذلك الحسد، وأصله يدل على تخلل شيء، وثبات شيء، فهذا مما يكون بينهم في الدنيا فيطهرون قبل دخول الجنة؛ لأن الجنة لا يوجد فيها شيء من ذلك كما قال الله : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] في الصحيح: يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة، والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا، ونقوا أذن لهم في دخول الجنة[57] هذا صريح ببيان المراد، أن التنقية تكون قبل دخول الجنة لمظالم كانت بينهم في الدنيا.

ابن جرير - رحمه الله - حمل الآية على نفي الغل، والحقد بسبب تفاضلهم في الجنة[58] هم مراتب في الجنة، فهذا في الدنيا يكون سببًا للحسد، والغل فسلب الله ذلك عنهم في الجنة من أجل ألا يتحاسدوا على ما يرون من التفاضل، وهذا الحديث السابق يرده هذا صريح في بيان المراد أنه من القوم ما كان بينهم في الدنيا من مظالم، ونحو ذلك.

 لكن قوله - تبارك، وتعالى -: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أنهم يكونوا في حال من التطهير لا يصل إلى نفوسهم شيء من ذلك إذا نزع، ولفظ النزع، ويدل على شدة في الأخذ، وقلع الشيء، فإذا دخلوا الجنة فنفوسهم لا تحمل الغل؛ لأنه قد نزع وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.

ولهذا في قوله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]؛ هذا لا يتحقق بهذه الصفة إلا إذا كانوا قد نزع الغل من نفوسهم، الغل، وهو ما يكون في نفس الإنسان من جهة الحسد، أو من جهة العداوة الحقد، ونحو ذلك الغِل يكون في القلب، والغُل يكون في العنق، فهذا الغل أغلال جمع غل؛ والغل هو الحسد، والحقد.

"وإنما قال: وَنَزَعْنَا بلفظ الماضي، وهو مستقبل لتحقق، وقوعه في المستقبل، حتى عبر عنه بما يعبر عن الواقع."

وهذا كثير في القرآن يمثلون له كثيرًا في قوله: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل: 1].

"وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية في اللفظ، وهي تقع في الآخرة كقوله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ [الأعراف: 44] وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ [الأعراف: 48] وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ [الأعراف: 50] وغير ذلك.

قوله تعالى: هَدَانَا لِهَذَا إشارة إلى الجنة، أو إلى ما أوجب من الإيمان، والتقوى."

يعني في الدنيا هَدَانَا لِهَذَا لهذا، وبين المعنين ملازمة، يعني هداهم لهذا النعيم، وكذلك أسباب هذا النعيم؛ من الإيمان، والعمل الصالح، ولهذا جمع بينهم الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[59].

"قوله تعالى: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ[الأعراف: 43] وأَنْ قَدْ وجَدْنَا وأَنْ لَعْنَةُ [الأعراف: 44] وأَنْ سَلَامٌ [الأعراف: 46]: يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة، فيكون فيها ضميرا، أو حرف عبارة، وتفسير لمعنى القول."

أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وأَنْ قَدْ وجَدْنَا وأَنْ لَعْنَةُ وأَنْ سَلَامٌ يقول: يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة، فيكون فيها ضميرا، والتقدير: ونودوا أنه تلكم الجنة، واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خففت أن، يقول: أو حرف عبارة المقصود به أن في المواضع الأربعة المتقدمة.

يقول: أو حرف عبارة، وتفسير لمعنى القول، معنى القول، والندى بمعنى أي كأنه قيل لهم: أي تلكم الجنة أورثتموها وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ نادوا النداء فيه معنى القول، وليس بصريح بحروفه، وكذلك فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ [الأعراف: 44] فالأذان هو بمعنى القول لكنه ليس بصريح بحروف القول "قال" وهكذا: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وجَدْنَا [الأعراف: 44] فالنداء فيه معنى القول وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الأعراف: 43] فقوله هنا: أو حرف عبارة، وتفسير، بمعنى أن حرف عبارة، وتفسير لمعنى القول بمعنى "أي" أي تلكم الجنة أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي تلكم الجنة، فأن يكون بمعنى أي يكون تفسيرا لمعنى القول لأنه لم يرد القول صريحًا.

قوله تعالى: مَا وعَدَنا رَبُّنَا حذف مفعول وعد استغناء عنه بمفعول وعدنا، أو لإطلاق الوعد فيتناول الثواب، والعقاب.

"قوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي: أعلم معلم، وهو ملك."

أي: نادى منادي، وأعلم بصوت عالٍ باعتبار أن النداء يكون بصوت رفيع.

"قوله تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ أي: بين الجنة، والنار، أو بين أصحابهما، وهو الأرجح لقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ."

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ يعني بين الجنة، والنار هذا قال به مجاهد، والمقصود به السور، والحجاب كل ما يستر المطلوب، ويمنع من الوصول إليه، فأصل الحجاب يدل على المنع وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ.

قال: أو بين أصحابهما، وهو الأرجح لقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسره بالحاجز المانع وصول أهل النار إلى الجنة[60] وفسره ابن جرير[61] بالسور الذي قال الله فيه: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [الحديد: 13] بنحو هذا قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[62] - رحمه الله - .

المقصود أن بين أهل الجنة لأن الحديث عنهم وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ بينهم سور يمنع من وصول أهل النار إلى الجنة - والله أعلم - .

"قوله: الْأَعْرَافِ قال ابن عباس: هو تل بين الجنة، والنار[63] - وفي نسخة: جبل بين الجنة، والنار - ومجاهد: حجاب بين الجنة، والنار[64] وقيل: سور الجنة."

الأعراف هنا قال عن ابن عباس: هو تل بين الجنة، والنار؛ يعني "حُبس عليه ناس من أهل الذنوب" هذا قول ابن عباس - ا - تمام كلامه حُبس عليه ناس من أهل الذنوب، وذكر السُّدي أنه سمي بذلك "لأن أصحابه يعرفون الناس"[65] بهذا الاعتبار.

يقول: ومجاهد: حجاب بين الجنة، والنار؛ والحاجز بينهما حجاب، وعلى الأعراف يعني نفس السور، أو الحجاب، وقيل: سور الجنة؛ سور الجنة قيل له: الأعراف عمومًا؛ لارتفاعه كل مرتفع عند العرب يقال له عُرف كما قال ابن جرير - رحمه الله -: "كل مرتفع، يقال له عرف"[66].

فهذا فسره كثير من أهل العلم بالسور الذي يكون بين الجنة، والنار عليه رجال كما سيأتي بهذه الصفات، استوت حسناتهم، وسيئاتهم فلم تسعف الحسنات لدخول الجنة، ولم تكن السيئات غالبة فيؤمر بهم إلى النار.

"قوله تعالى: رِجَالٌ هم أصحاب الأعراف، ورد في الحديث: أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم، وسيئاتهم، فلم يدخلوا الجنة، ولا النار[67]."

هذا الحديث أخرجه ابن جرير لكن لا يصح من جهة الإسناد، ولو صح لكان تفسيرًا لهذه الآية: قوم استوت حسناتهم، وسيئاتهم.

وقد أشار الحافظ ابن كثير - رحمه الله - إلى أن الاختلاف عبارات المفسرين فيهم هذا الاختلاف لكنها مع ذلك قريبة ترجع إلى معنى واحد، وهو المذكور هنا: "أنهم قوم استوت حسناتهم، وسيئاتهم" وهذا مروي عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم كحذيفة، وابن عباس، وابن مسعود[68] وغير هؤلاء.

وهو الذي اختاره الحافظ ابن القيم[69] والحافظ ابن كثير[70] أن أصحاب الأعراف هم قوم استوت حسناتهم، وسيئاتهم؛ يعني من ثقلت موازين الحسنات دخل الجنة، ومن ثقلت موازين السيئات دخل النار، هؤلاء استوت حسناتهم، وسيئاتهم فحبسوا عن الجنة، ولم يدخلوا النار.

"وقيل: هم قوم خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم، فاستشهدوا، فمنعوا من الجنة لعصيان آبائهم، ونجوا من النار للشهادة."

يعني هذا يرجع إلى المعنى الآخر؛ وهو استواء الحسنات، والسيئات يعني وجود المقتضي، وقيام المانع، يعني لا يبعد - والله أعلم - أن القائل بهذا أراد المثال تفسير المثال، كأنه كذلك - والله تعالى أعلم - يعني أراد أن يفسر بالمثال.

وبعضهم يقول: بأن أصحاب الأعراف هؤلاء هم الشهداء.

وبعضهم يقول: فضلاء المؤمنين خيار المؤمنين لما تفرغوا من شغل أنفسهم تفرغوا لمطالعة أحوال الناس.

وبعضهم قال: أنبياء.

وبعضهم يقول: هؤلاء عدول القيامة الذين يشهدون على الناس من كل أمة لاحظ هذه المعاني مختلفة تمامًا يعني على القول أنهم استوت حسناتهم، وسيئاتهم، ليسوا هم العدول الأخيار من كل أمة.

وكون هؤلاء استوت حسناتهم، وسيئاتهم هذا هو الأقرب، وعليه الأكثر - والله أعلم - .

"قوله تعالى: يَعْرِفُونَ كُلاً بِسِيمَاهُمْ [الأعراف: 46] أي: يعرفون أهل الجنة بعلامتهم من بياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بعلامتهم من سواد وجوههم، أو غير ذلك من العلامات."

السمة: هي العلامة التي يتميز به الشيء عن غيره، أصل الوسم يقال: للأثر، والمعلم يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] هذه علامات لأهل الجنة، وأهل النار وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ۝ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ۝ ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ۝ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس: 38 - 41] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزِيَادَةٌ ولَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ولاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ والَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [يونس: 26 - 27] هذه علامات لأهل الجنة، وأهل النار.

قوله تعالى: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [الأعراف: 46] أي: سلام أصحاب الأعراف على أهل الجنة.

"قوله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف: 46] أي: أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة، وهم يطمعون في دخولها من بعد."

جاء عن الحسن قال: "والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم"[71] يعني وجود هذا الطمع في دخول الجنة معناها أن الرجاء قريب، وأن دخولها قريب فهم يرجون ذلك.

جاء عن قتادة: قد أنبئكم الله بمكانهم من الطمع يعني إشارة إلى أنهم سيدخلون الجنة، وأن مصيرهم هنا لم يذكر مصيرهم صراحة، لكن مثل هذه الإشارة تدل على أن مصيرهم إلى الجنة.

وبعضهم يقول: بأن قوله: لَمْ يَدْخُلُوهَا وهُمْ يَطْمَعُونَ يعني يعلمون، يطمعون أن يدخلوا الجنة لَمْ يَدْخُلُوهَا وهُمْ يَطْمَعُونَ.

وبعضهم يقول: بأن المراد بذلك أصلاً أهل الجنة، وليس أصحاب الأعراف، أن أصحاب الأعراف قالوا لأهل الجنة: سلام عليكم حال كون أهل الجنة لم يدخلوها، وهم يطمعون، وحمل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - الضمير في المعنين على أصحاب الأعراف[72] كأن هذا - والله أعلم - هو الأقرب، أنه لم يدخلوها يعني أصحاب الأعراف وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي: أصحاب الأعراف يطمعون في دخلوها.

  1.  أخرجه البخاري، في أوائل كتاب التيمم، برقم (335)، ومسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب جعلت لي الأرض مسجدا، وطهورا، برقم (521).
  2.  انظر: تفسير الطبري، ت شاكر (12/385).
  3.  تفسير الطبري (9/413 - 414).
  4.  انظر: جلاء الأفهام (ص: 286).
  5.  تفسير ابن كثير (3/404).
  6.  أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (84)، وقال: "هذا حديث صحيح قد اتفقا على الاحتجاج برواته، عن آخرهم إلى الصحابة، وعبد الرحمن بن قتادة من بني سلمة من الصحابة، وقد احتجا جميعا بزهير بن عمرو، عن رسول الله ﷺ وليس له راو غير أبي عثمان النهدي، وكذلك احتج البخاري بحديث أبي سعيد بن المعلى، وليس له راو غير حفص بن عاصم" وأبو يعلى الموصلي في مسنده، برقم (3422)، وضعف إسناده محققه (حسين سليم أسد).
  7.  أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (2631)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، والجماعة (4/658)، برقم (1056)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3685).
  8.  تفسير ابن كثير (3/404).
  9.  انظر: تفسير ابن كثير (3/404).
  10.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3208)، وبرقم (3332)، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته، برقم (2643).
  11.  انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/13).
  12.  انظر: تفسير الطبري (10/142)، وتفسير ابن كثير (3/404).
  13. - تفسير ابن كثير (3/405).
  14.  تفسير ابن كثير (3/406).
  15.  أخرجه مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] برقم (3028).
  16.  فتح الباري لابن رجب (2/334)، وانظر: تفسير ابن رجب الحنبلي (1/477).
  17.  أخرجه النسائي، كتاب القبلة، صلاة الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، برقم (769)، وأحمد في المسند، برقم (9980)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7726).
  18.  أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/378)، برقم (2221)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (3273).
  19.  تفسير ابن كثير (3/406).
  20.  فتح الباري لابن رجب (2/423).
  21.  الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (5/262).
  22.  انظر: الموافقات (2/544).
  23.  انظر: الموافقات (3/506).
  24.  انظر: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (2/51).
  25.  صحيح البخاري (7/140).
  26.  انظر: الموافقات (1/175)، وما بعدها.
  27. انظر: الموافقات (1/177).
  28.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (12324).
  29. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (3246)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".  
  30.  تفسير ابن كثير (3/408).
  31.  أخرجه مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] برقم (3028).
  32.  تفسير ابن كثير (3/409).
  33.  تفسير الطبري (10/166)، وانظر: تفسير القرطبي (7/202).
  34.  - تفسير الطبري (10/175 - 176)، وتفسير ابن كثير (3/410).
  35.  تفسير الطبري (10/167).
  36.  شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (ص: 42).
  37.  تفسير البغوي (3/228).
  38.  تفسير القرطبي (7/205).
  39.  فتح القدير للشوكاني (2/232).
  40. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/14).
  41. التحرير، والتنوير (23/291).
  42. تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/398).
  43.  تفسير الطبري (10/178).
  44.  تفسير ابن عطية (2/399).
  45.  تفسير الطبري (10/180).
  46.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1676).
  47.  انظر: تفسير الطبري (10/182).
  48.  انظر: تفسير ابن كثير (3/412).
  49.  تفسير ابن كثير (3/411).
  50.  تفسير ابن كثير (3/414).
  51.  تفسير الطبري (10/182).
  52.  انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 61)، وطريق الهجرتين، وباب السعادتين (ص: 274).
  53.  لم أقف عليه من قول ابن مسعود  وإنما هو من قول الحسن كما في تفسير الطبري (10/195).
  54.  تفسير ابن كثير (3/415).
  55.  المصدر السابق(3/414).
  56.  التبيان في أقسام القرآن (ص: 221 - 222).
  57.  أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب القصاص يوم القيامة، برقم (6535).
  58.  انظر: تفسير الطبري (10/198).
  59.  انظر: بدائع الفوائد (2/37).
  60.  تفسير ابن كثير (3/417).
  61.  تفسير الطبري (22/402).
  62. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/15).
  63.  تفسير الطبري (10/210)، وتفسير ابن كثير (3/418).
  64.  انظر: تفسير الطبري (10/208)، وتفسير ابن كثير (3/418).
  65.  تفسير ابن كثير (3/418).
  66.  تفسير الطبري (10/209)، وتفسير ابن كثير (3/418).
  67.  الزهد، والرقائق لابن المبارك، والزهد لنعيم بن حماد (1/483)، برقم (1372).
  68.  تفسير ابن كثير (3/418).
  69. طريق الهجرتين، وباب السعادتين (ص: 382).
  70. - تفسير ابن كثير (3/418).
  71.  تفسير الطبري (10/226)، وتفسير ابن كثير (3/422).
  72.  طريق الهجرتين، وباب السعادتين (ص: 383).

مواد ذات صلة