الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(004) من قوله تعالى (وإلى عاد أخاهم هودًا) الآية 65– إلى قوله تعالى (وتبغونها عوجًا) الآية 86
تاريخ النشر: ٢١ / جمادى الآخرة / ١٤٣٩
التحميل: 491
مرات الإستماع: 524

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، ولجميع المسلمين.

"قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى:

أَخَاهُمْ [الأعراف: 65] أي: واحدًا من قبيلتهم، وهو معطوفًا على نوحًا، وهودًا بدلٌ منه، أو عطف بيان، وكذلك أخاهم صالحًا، وما بعده، وما هو مثله حيث وقع".

فقوله: "أَخَاهُمْ أي: واحدًا من قبيلتهم" وبيَّنا في بعض المناسبات أن الأخوة قد تكون باعتبار النسب، كالانتساب إلى أبٍ، أو قبيلةٍ، أو نحو ذلك، وقد تكون باعتبار الاجتماع في البلد الواحد، وهو أحد الأقوال في قوله - تبارك، وتعالى -: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب: 18] وكذلك أيضًا قد تكون باعتبار الدين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] وأيضًا هو أحد الأقوال في قوله تعالى: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب: 18] يعني: من المنافقين.

فقوله هنا: "وهو معطوفًا على نوح" لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [الأعراف: 59] وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف: 65] يعني: أرسلنا أخاهم هودًا.

يقول: "وهو بدلٌ منه" يعني بدل من عاد، يعني كأنه قال: أرسلنا هودًا، أو أرسلنا أخاه، فالبدل يقوم مقام المبدل منه، يقول: "أو عطف بيان" ونحن عرفنا أن الفرق بين عطف البيان، والبدل: أن الثاني إذا كان أوضح من الأول، وهو هو، فإنه يكون من قبيل عطف البيان، فهنا وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف: 65] فهود من حيث المراد أوضح من أخاهم، فهو عطف بيان بهذا الاعتبار، يقول: "كذلك أخاهم صالحًا" أي: معطوف على أرسلنا نوحًا "وهو مثله حيث وقع".

"قوله تعالى: الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأعراف: 66] قُيِّد هنا بالكفر؛ لأن في الملأ من قوم هودٍ من آمن، وهو مرثد بن سعدٍ، بخلاف قوم نوح، فإنهم لم يكن فيهم مؤمن، فأطلق لفظ الملأ".

هذا يحتمل، ويمكن أن يكون الملأ الذين كفروا من قبيل الصفة الكاشفة، يعني أن الملأ كفروا، ولا أقصد في هذا الموضع بعينه، ولكن من حيث أصل المعنى، وقوم نوح أخبر الله - تبارك، وتعالى - أنه ما آمن معه إلا قليل، قيل: هم أزواج بناته، وبعض أهله، فامرأة نوح، وولد نوح لم يكونا على دينه، فهؤلاء الذين حملهم في السفينة كانوا من ذريَّته، فأخذ منه بعض أهل العلم أن الذين آمنوا به هم أزواج بناته، وأولاد البنات من الذرية - والله أعلم -.

"قوله تعالى: أَمِينٌ [الأعراف: 68] يحتمل: أن يريد أمانته على الوحي، أو أنهم قد كانوا عرفوه بالأمانة، والصدق.

قوله تعالى: خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 69] أي: خلفتموهم في الأرض، أو جعلكم ملوكًا".

خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 69] يقول: "أي: خلفتموهم في الأرض، أو جعلكم ملوكًا" وقد عرفنا أن الخلفاء: جمع خليفة، وأن الخلافة هي النيابة عن الغير، يقال: خلفه أي: قام بالأمر عنه، إما بعده، أو معه، وأن أصل المادة: هي مجيء الشيء بعد شيء، يقوم مقامه إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] يعني: يخلف بعضهم بعضًا، فقوم عاد جاءوا بعض قوم نوح، فخلفوهم بهذا الاعتبار، وإن لم يكونوا في موضعهم الذي كانوا فيه؛ ولذلك قال: "خلفتموهم في الأرض".

"قوله تعالى: وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف: 69] كانوا عظام الأجسام، كان أقصرهم ستين ذراعًا، وأطولهم مائة ذراع".

البسطة هي السعة في أصلها، وهي تدل على امتداد الشيء وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والْجِسْمِ [البقرة: 247] فتكون في الأمور المعنوية، وتكون أيضًا في الخلق، والطول، وضخامة الأجسام.

أما قوله: "كان أقصرهم ستين ذراعًا، وأطولهم مائة ذراع" فالله تعالى أعلم بذلك، لكن آدم كان طوله ستين ذراعًا، فهل كانوا أطول من آدم كما يُفهم من قوله: وَزَادَهُ بَسْطَةً؟ الذي يظهر أنه زادهم بسطة على قوم نوح كما هو ظاهر الآية، فهل كانوا أطول من آدم، والخلق لا يزل يتقاصر؟ فهؤلاء أوتوا بسطة في الأجسام، لكن قوله: "إن أطوالهم كانت مائة ذراع" معناه أنهم أطول من آدم بأربعين ذراعًا، لكن هذا إنما، ورد من جهة أخبار بني إسرائيل، ولا يُعتمد على مثل هذا، وكذلك ما يذكره بعض المفسرين من أخبارهم، وطولهم، ونحو ذلك، فكل هذا مما تُلقي عن بني إسرائيل - فالله أعلم -.

"قوله تعالى: آلَاءَ اللَّهِ [الأعراف: 69] نِعمه حيث وقع".

حيث وقع يعني في القرآن، أن آلاء الله هي النعم، وهي جمع، واحدها: ألاً، وإلى، كما قال هود في ذكر هذه النعم، والآلاء: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ [الشعراء: 132] ثم ذكرها: أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وبَنِينَ ۝ ​​​​​ وجَنَّاتٍ وعُيُونٍ [الشعراء: 133 - 134].

"قوله تعالى: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ [الأعراف: 70] أي: استبعدوا توحيد الله مع اعترافهم بربوبيته؛ ولذلك قال لهم هود: قَالَ قَدْ وقَعَ عَلَيْكُم [الأعراف: 71] أي: حق عليكم، ووجب عذاب من ربكم، وغضب.

قوله تعالى: أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا [الأعراف: 71] يعني الأصنام، أي: تجادلونني في عبادة مسميات أسماءٍ، ففي الكلام حذف، وأراد بقوله: سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم [الأعراف: 71] جعلتكم لها أسماء، فدلَّ ذلك على أنها محدثة، فلا يصح أن تكون آلهة، أو سميتموها آلهة من غير دليل على أنها آلهة، فقولكم باطل، فالجدال على القول الأول في عبادتها، وعلى القول الثاني في تسميتها آلهة، والمراد بالأسماء على القول الأول المسمى، وعلى القول الثاني التسمية".

هو يريد - والله أعلم - أنه لا حقيقة لها، مما تزعمون، من جهة كونها آلهة، وإنما هي أسماء سميتموها من عند أنفسكم، ولكنها لا تُمثِّل حقيقةً واقعةً، وإنما هي أبطايل، وإن أُطلق عليها مثل هذه الأسماء، أنها آلهة، وأرباب، ونحو ذلك من الأسماء التي سمَّوها بها، كأسماء آلهة، ومعبودات، قوم نوح، كـ (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق) فهم يسمونها بهذه الأسماء، ولكنها لا تحمل - أعني هذه الأسماء - دلالات، ومعاني حقيقية، وإنما هي أسماء مجردة أطلقوها عليه، ولا حقيقة لها، ولا تمثل إلاهيةً، أو ربوبيةً، أو نحو ذلك، فهم اخترعوا هذه الآلهة، واخترعوا لها هذه الأسماء، بخلاف الإله الحق فهو حقٌ في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وتلك أباطيل.

وفيما يتعلق في تسميتها، قال: والمراد بالأسماء على القول الأول: المسمى، وعلى القول الثاني: التسمية، هذا واضح، يعني هو إما أن يتحدث عن المسمى، وإما أن يتحدث عن الاسم نفسه، والاسم دالٌ على المسمى، وتارةً يُطلق الاسم، ويُراد به اللفظ الدال على المسمى، وتارةً يُطلق، ويُراد به المسمى.

"قوله تعالى: دَابِرَ [الأعراف: 72] ذُكِر في الأنعام".

دَابِرَ قال: "ذُكِر في الأنعام" ومعناه: أهلكناهم عن آخرهم، وأصل المادة يدل على مؤخر الشيء.

"قوله تعالى: بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ [الأعراف: 73] أي: آيةٌ ظاهرة، وهي الناقة، وأُضيفت إلى الله تشريفًا لها؛ ولأنه خلقها من غير فحلٍ، وكانوا قد اقترحوا على صالح أن يُخرجها لهم من صخرة، وعاهدوه أن يؤمنوا إن فعل ذلك، فانشقت الصخرة، وخرجت منها الناقة، وهم ينظرون، ثم نُتِجت ولدًا، فآمن به قوم منهم، وكفر آخرون".

قوله: "بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ أي: آية ظاهرة" يعني حجة، وبرهان، وما ذكره هنا من أنهم اقترحوا على صالح أن يخرجها لهم من صخرة، وعاهدوه... إلى آخره، فانشقت الصخرة، وخرجت منها الناقة، وهم ينظرون، ثم نُتِجت ولدًا، فآمن به قوم منهم... إلى آخر ما يذكرون، لا أعلم عليه دليلًا ثابتًا من كتاب الله، أو سنة رسوله ﷺ فالله تعالى أعلم، قد تكون هذه الناقة جاءت بمواصفات غير موجودة، ولا معهودة، فكانت آية بهذا الاعتبار، أو أنها خرجت من صخرةٍ، أو غير ذلك، فهذا يحتمل، لكن لا أعلم عليه دليلًا ثابتًا، يمكن أن يُعوَّل عليه، فيذكره المؤرخون، ويذكره أيضًا كثيرٌ من المفسرين، ولكن مثل هذا إن لم يرد فيه شيء عن المعصوم، وإلا فإن أخبار بني إسرائيل - كما هو معلوم - لا يعتمد عليها، غاية ما هنالك أنه لا يُكذَّب الخبر، ولا يُصدق إن كان لا يُخالف ما عندنا، فهذه أحسن الأحوال، إلا ما جاء موافقًا لما جاء في الوحي عندنا، فالله تعالى أعلم.

"قوله تعالى: لَكُمْ آيَةً [الأعراف: 73] أي: معجزة تدل على صحة نبوة صالح، والمجرور في موضع الحال من آية؛ لأنه لو تأخر لكن صفة".

لَكُمْ آيَةً يعني حال كونها آية كائنة لكم، والآية هي الدليل، والبرهان، وعرفنا أن الآيات منها ما هو شرعي، كآيات القرآن، ومنها ما هو كوني، فمعجزات الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - غير القرآن، وهي من الآيات الكونية، وهو يقصد بالمجرور هنا الذي في موضع الحال هو قوله: (لكم).

"قوله تعالى: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ [الأعراف: 73] أي: لا تضرُّوها، ولا تطردوها".

وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ أيًا كان، بأي وجه، فهذا يدل على العموم، فلم يقل: لا تمسوها بسوءٍ بقتلٍ، أو ضربٍ، أو طردٍ، أو ذودٍ عن الماء مثلًا، وإنما حُذِف المتعلق؛ ليفيد العموم النسبي، فيدخل في ذلك العقر، وشتى أنواع الأذى.

"قوله تعالى: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 74] كانت أرضهم بين الحجاز، والشام، وقد دخلها رسول الله ﷺ وأصحابه، فقال لهم ﷺ : لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا، وأنتم باكون؛ مخافة أن يصيبكم مثل الذي أصابهم"[1]

وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني: أنزلكم، وجعل لكم مساكن، وأزواجًا، والمباءة سبق البيان للمراد بها، وأنها ما يرجع إليه الإنسان بعد تفرقه في حاجاته، والموضع الذي ينزله، ونحو ذلك.

يقول: "كانت أرضهم بين الحجاز، والشام، وقد دخلها رسول الله ﷺ " وقال ما قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين...[2]... إلى آخره، ونهى النبي ﷺ من الاستقاء من آبارهم، وما عُجن من تلك الآبار، وأمر بإطعامه الدواب، إلا ما كان من بئر الناقة[3] فدلَّ ذلك على أن الموضع معروف، وهو لا شك كذلك، وأن الآبار أيضًا كانت معلومة، وبئر الناقة كان معلومًا، والمشهور إلى اليوم أن هذه هي المعروفة بمدائن صالح في الحِجر بين الشام، والحجاز.

"قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا [الأعراف: 74] أي: تبنون قصورًا في الأرض البسيطة وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا [الأعراف: 74] أي: تنجرون بيوتًا في الجبال، وكانوا يسكنون القصور في الصيف، والجبال في الشتاء".

تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا السهل: هو المكان المنخفض المستوي الذي لا، وعر فيه، قال: وَتَنْحِتُونَ أي: تنقبون من الْجِبَالَ بُيُوتًا فأصل النحت يدل على نجر شيء، وتسويته بحديدة، ونحو ذلك، فقوله هنا: تنجرون استعمال صحيح في اللغة، نحت الجبال يُقال له نجر.

"وانتصب بيوتًا على الحال، وهو كقولك: خِطُّ هذا الثوب قميصًا، قوله تعالى: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدلًا من لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [الأعراف: 75]".

يعني كأنه قال: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: 75] لأن البدل يقوم مقام المبدل منه.

"إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف: 76] إنما لم يقولوا: بما أُرسل به كما قال الآخرون لئلا يكون اعترافًا برسالته".

يعني كما قال المؤمنون؛ لأن المؤمنين صرَّحوا بإيمانهم بما أُرسل به إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الأعراف: 75] فهؤلاء لم يؤمنوا برسالته، وأنه مرسل من الله - تبارك، وتعالى - ؛ ولذا قالوا: إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف: 76].

"قوله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف: 77] نسب العقر إلى جميعهم؛ لأنهم رضوا به، وإلا لم يفعله إلا واحد منهم، وهو الأحيمر".

أصل العقر يدل على جرحٍ، وما يشبهه، وبعضهم يقول: قطع عضو يُؤثر في تلف النفس، تقول: عقرت الفرس إذا ضربت قوائمه بالسيف، وبعضهم يقول: بأن أصله كسر عرقوب البعير، ثم صار يُعبر به عن النحر؛ لأن العقر سببٌ له غالبًا، والمقصود هنا أنهم عقروها بمعنى نحروها، والمؤرخون، وبعض المفسرين يذكرون تفاصيل في هذا، وكيف كمنوا لها، ويسمون هؤلاء، ويذكرون ابتداء ذلك بضرب عرقوبها فسقطت، ثم بعد ذلك تعادوا عليها فعقروها، والمراد بذلك على كل حال أنهم نحروها.

"قوله تعالى: الرَّجْفَةُ [الأعراف: 78] الصيحة حيث، وقعت؛ وذلك أن الله أمر جبريل فصاح صيحة بين السماء، والأرض، فماتوا منها".

أصل المادة يدل على اضطراب، فالرجفة حركة الأرض، وهنا فُسِّر بالصيحة، صاح بهم الملك، فاضطربت بهم الأرض، فجمع الله لهم هذا، وهذا.

"قوله تعالى: جَاثِمِينَ [الأعراف: 78] حيث وقع، أي: قاعدين، لا يتحركون".

قاعدين لا يتحركون أي: جامدين، وميتين، وواقعين بعضهم على بعض، أو باركين على الركب، وهذا استعمال معروف، يقال: جثم الطائر إذا قعد، وصار لاصقًا بالأرض، فأصل المادة يدل على تجمع الشيء، فالجثوم يقال للبروك على الركب، أو النزول على الركب، يعني كأنهم سقطوا على وجوههم باركين على ركبهم، أو، وقع بعضهم على بعض هلكى.

"قوله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ [الأعراف: 79] الآية، يحتمل أن يكون توليه عنهم، وقوله لهم، حين عقر الناقة، قبل نزول العذاب بهم؛ لأنه رُوِي أنه خرج حينئذٍ من بين أظهرهم، أو يكون ذلك بعد أن هلكوا، وهو ظاهر الآية، وعلى هذا خاطبهم بعد موتهم على وجه التَفجُّع عليهم، وقوله: لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 79] حكاية حال ماضية".

على القول الأول: أنه خرج من بين أظهرهم، وقال ذلك قبل أن ينزل بهم العذاب، ويحل بهم الدمار، والهلاك، هذا الذي اختاره ابن جرير[4] والقرطبي[5] بقرينة: وَلكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 79] أنه خاطبهم، والفعل المضارع يدل على الاستمرار.

أو أن يكون ذلك بعد هلاكهم، يقول: "وهو ظاهر الآية" فكان ذلك على سبيل التَفجُّع، وهذا الذي اختاره جماعة من المفسرين: كالواحدي[6] وابن كثير[7] ومن المعاصرين: الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي[8] الشيخ عبد الرحمن السعدي[9] وذلك لقوله: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ [الأعراف: 79] رتبه بالفاء على قوله: فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف: 78] فالفاء تقتضي التعقيب؛ وذلك كما خطب النبي ﷺ قتلى بدر، وهم في القليب بعد ثلاثة أيام، فلا إشكال بين أن يُخاطَب هؤلاء بعد هلاكهم، وأن يخاطبهم نبيهم على سبيل التبكيت، والتقريع لهم، وهذا هو الأقرب - والله أعلم -.

ويكون قوله: لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 79] الذي استدل به أصحاب القول الأول: حكاية حال ماضية، وباعتبار ما مضى، فهكذا كانت حالكم.

"قوله تعالى: إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ [الأعراف: 80] العامل في (إذ) أرسلنا المضمر، أو يكون بدلًا من لوطًا".

يعني: أرسلنا لوطًا.

"قوله تعالى: مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 69] أي: لم يفعلها أحد من العالمين قبلكم، و(مِن) الأولى زائدة، والثانية للتبعيض، أو للجنس".

مضى في بعض المناسبات أن (من) التي تسبق النكرة في سياق النفي، تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم؛ ولهذا يقولون: زائدة للتوكيد، وتقوية العموم "والثانية للتبعيض، أو للجنس" يعني: مِّنَ الْعَالَمِينَ.

فـمِنْ أَحَدٍ هذه الذي قال عنها زائدة، فهي للتنصيص في العموم، فلو قال: ما سبقكم بها أحد من العالمين، فهذا يدل على العموم فـ(أحد) نكرة في سياق النفي، لكن حينما دخلت عليها (مِن) فذلك لتقوية العموم، وتنصيصه، و(من العالمين) هذه يمكن أن تكون لبيان الجنس، أو للتبعيض: لم يفعله بعضٌ منه.

"قوله تعالى: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ [الأعراف: 82] الآية، أي: أنهم عدلوا عن جوابه على كلامه إلى الأمر بإخراجه، وإخراج أهله.

إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82] أي: يتنزهون عن الفاحشة. مِنَ الْغَابِرِينَ [الأعراف: 83] أي: من الهالكين، وقيل: من الذي غبروا في ديارهم، فهلكوا، أو من الباقين من أترابها، يقال: غبر بمعنى مضى، وبمعنى بقي."

فهي من الأضداد، فهي تجمع بين معنيين متضادين حقيقةً، أو متناقضين، مما يمكن الجمع بين الأقوال فيه، يعني يمكن أن يُقال بهذا الاعتبار: إنها كانت من الذاهبين، أي الهالكين، غبر بمعنى ذهب، أو تكون بمعنى من الباقين، يعني بقيت في العذاب، حيث بقيت بين أظهرهم، ولم تخرج معه فكل ذلك يدل على أنها هلكت، كل هذا صحيح، فهي ذهبت هالكةً، وبقيت في الهالكين، ولا يحتاج إلى الترجيح في هذا، هذا بخلاف قوله مثلًا: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] فالقرء من الأضداد، أو من المعاني المتناقضة، إذا اعتبرنا أن النفاس يرجع إلى الحيض، فيكون ذلك من قبيل النقيضين، ولا يمكن الجمع بين القولين في هذه الحال، فالقرء إما الحيض، وإما الطُهر، فهذا يحتاج إلى ترجيح، أما هنا كَانَت مِنَ الْغَابِرِينَ يمكن أن يكون ذلك جميعًا، بالاعتبار الذي ذكرت، فيُجمع بين هذه المعاني.

"وإنما قال: مِنَ الْغَابِرِينَ بجمع المذكر تغليبًا للرجال الغابرين.

قوله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا [الأعراف: 84] أُصيب بها من كان منهم خارجًا عن بلادهم، وقُلبت البلاد بمن كان فيها".

كما قال الله : فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [هود: 82] رُفِعت البلاد، وقُلِبت عليهم؛ ولهذا سُميت المؤتفكة وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم: 53] مؤتفكات باعتبار أنها كانت عدة قرى، ولم تكن قرية واحدة وإذا قيل: قرى، لا يعني أنها قرى صغيرة، كما نُعبِّر اليوم، لكن هذه كانت بلادًا قائمة، ومدنًا عامرة، فرفعها الله جميعًا، وقلبها عليهم، كما قال الله: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ۝ ​​​​​ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ومَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 82 - 83] لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ۝ ​​​​​ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [الذاريات: 33 - 34].

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا [الأعراف: 84] فالمطر هنا مبهم، وجاء مبيَّنًا بهذه الآيات، أنه حجارة من سجيل، ومن طين.

"قوله تعالى: بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ [الأعراف: 85] أي: آية ظاهرة، ولم تُعيَّن في القرآن آية شعيب".

النبي ﷺ أخبر أنه: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر[10].

"قوله تعالى: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ والْمِيزَانَ [الأعراف: 85] كانوا ينقصون في الكيل، والوزن، فبُعِث شعيب لينهاهم عن ذلك، والكيل هنا بمعنى المكيال، الذي يُكال به، مناسبةً للميزان، كما جاء في هود الْمِكْيَالَ والْمِيزَانَ [هود: 84] ويجوز أن يكون الكيل، والميزان مصدرين".

هو باعتبار الاتحاد، فإما أن يكون المراد بذلك الآلة، أو المعنى يعني المصدر، فالكيل مصدر، وعُطف عليه الميزان، وهو اسم آلة، فبعضهم يقول: أراد بالكيل المكيال؛ ليتفق مع الميزان، وبعضهم يقول: العكس، بأنه أراد بالميزان الوزن الذي هو المصدر، ليتفق مع الكيل، وهذا معنى قول المؤلف: "ويجوز أن يكون الكيل، والميزان مصدرين" بهذا الاعتبار، وإلا فالميزان اسم للآلة، وليس بمصدر، وإنما الوزن هو المصدر، يعني يراد به معنى المصدر، يعني أقيموا الكيل، والوزن، أو أقيموا المكيال، والميزان، فالمكيال هي الآلة التي يُكال بها.

"قوله تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف: 86] قيل: هو نهي عن السلب، وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم، وقيل: كانوا يقعدون على الطريق يردون الناس عن اتباع شعيبٍ، ويوعدونهم إن اتبعوه".

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف: 86] يعني: تتوعدون، وتُخوِّفون الناس، يعني بالتهديد، يقول: "نهي عن السلب، وقطع الطريق، وكان من فعلهم" قيل: يهددون الناس بالقتل، والأذى إن لم يعطوهم أموالهم، وبعضهم يقول: كانوا مكَّاسين.

وهذا المعنى، وهو أنهم يهددونهم بالأذى، والقتل إن لم يعطوهم أموالهم: هو الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[11].

يقول: "وقيل: كانوا يقعدون على الطريق يردون الناس عن اتباع شعيبٍ أو الوصول إليه" يتوعدونهم على ذلك، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، ومجاهد[12] واختاره أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[13].

وبعض أهل العلم حمل الآية على المعنيين: كالواحدي[14] باعتبار أن ذلك جميعًا كان من أفعالهم، فكانوا يصدون عن نبيهم وكانوا أيضًا يأخذون أموال الناس، ويتوعدونهم، ويتهددونهم، ويُخوِّفونهم إن لم يعطوهم هذه الأموال.

"قوله تعالى: وَتَصُدُّونَ [الأعراف: 86] أي: تمنعون الناس من سبيل الله، وهو الإيمان، والضمير في (به) للصراط، أو لله".

وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ [الأعراف: 86] الضمير في (به) يرجع إلى أقرب مذكور، ما هو أقرب مذكور؟ اسم الجلالة الله، لكن هنا عندنا مضاف، ومضاف إليه وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ والأصل أن يكون مرجع الضمير إلى المضاف، وليس إلى المضاف إليه؛ ولهذا قال بعضهم هنا بأن ذلك يرجع إلى الصراط، وهو السبيل وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ هذا هو الصراط، عن صراطه، وعن طريقه، هم يعلمون أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، لكن قالوا: بأن الأصل أن يرجع إلى المضاف، وليس إلى المضاف إليه؛ لأنه المحدَّث عنه، الذي هو المضاف، لكن بين المعنيين ملازمة، فإذا كانوا يصدون عن سبيل الله، وعن صراطه، فهم لا شك يصدون عن الله - تبارك، وتعالى - وإذا كانوا يصدون عن الله فهم صادُّون عن سبيله، فلا يُحتاج إلى الترجيح، لكن من ناحية الصناعة اللغوية، هي هذه القاعدة الذي ذكرتها: بأن الأصل الرجوع إلى المضاف، أو المحدَّث عنه - والله أعلم -.

"قوله تعالى: وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [الأعراف: 86] ذُكِر في آل عمران".

والمعنى: تودون أن تكون سبيل الله معوجة، وتلتمسون لها الزيغ، إما بإلقاء الشبهات، أو بالأوصاف التي تصفونها بها، مما ينفر الناس عنها، أو فيما تفعلونه من إمالتها، بحسب أهواكم؛ لتكون تابعةً لها، موافقةً لشهواتكم فيريدونها عوجاء على غير استقامة تبعًا لأهوائهم، أو بتشويهها بالأوصاف القبيحة، أو بإلقاء الشبهات التي تصد الناس عن لزومها - والله أعلم -. 

  1.  أخرجه بنحوه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف، والعذاب برقم: (433)، ومسلم في كتاب الزهد، والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين برقم: (2980).
  2.  سبق تخريجه.
  3.  أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [الأعراف: 73] برقم: (3378)، ومسلم في الزهد، والرقاق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم برقم: (2981)، ولفظه في البخاري: عن ابن عمر - ا - أن رسول الله ﷺ لما نزل الحجر في غزوة تبوك، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها، واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء، ويروى عن سبرة بن معبد، وأبي الشموس: أن النبي ﷺ أمر بإلقاء الطعام، وقال أبو ذر عن النبي ﷺ: من اعتجن بمائه.
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/546).
  5.  تفسير القرطبي (7/242).
  6.  التفسير الوسيط للواحدي (2/385).
  7.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/449).
  8.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (3/534).
  9.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 295).
  10.  أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل برقم: (4981)، ومسلم في الإيمان، باب، وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ برقم: (152).
  11.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/447).
  12.  تفسير مجاهد (ص: 339).
  13.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/558).
  14. الوجيز للواحدي (ص: 402).

مواد ذات صلة