الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
وقفات مع قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك) -1
تاريخ النشر: ١٥ / ذو القعدة / ١٤٣٠
التحميل: 11058
مرات الإستماع: 6825

الدعوة إلى الله واجبة

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول الله - تبارك، وتعالى - : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125] هذا الحديث ينطلق من القرآن، والحديث حينما ينطلق من القرآن يكون أعظم نفعاً، وأكثر بركة، فأسأل الله أن يجعلنا، وإياكم مباركين.

كما أنه نموذج عملي تطبيقي للتدبر، فنجمع بين هذا، وهذا - إن شاء الله - مع قدر من الشفافية التي لا يفرح معها شانئ.

قول الله - تبارك، وتعالى - : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ أمر من الله لنبيه ﷺ بالدعوة، وذلك يدل على مشروعيتها، هذه واحدة، فإن المشروع ما طلبه الشارع إما جزماً، وذلك الواجب، وإما من غير جزم، وذلك المندوب.

فقوله - تبارك، وتعالى - : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ يدل على أن الدعوة إلى الله من المطالب الشرعية، ثم إن الأصل في الأمر - كما هو معلوم - عند الجمهور أنه يدل على الوجوب، فدل ذلك على أن الدعوة إلى الله واجبة، ويبقى النظر فيما وراء ذلك، إنما الكلام على أصل الدعوة، وإلا فقد لا تتعين على زيد، وتتعين على عمرو، فهي من الفروض الكفائية، لكن لابد من وجودها، وتحققها، ثم إن هذا الخطاب موجه إلى المفرد، ما قال: ادعوا إلى سبيل ربكم، وإنما قال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ فظاهره أنه موجه إلى النبي ﷺ وهذا إذا تقرر، وعُلم معه أن النبي ﷺ كان يقوم بالدعوة، وكان يجد، ويجتهد فيها حينما نزلت عليه هذه الآية فإنه يؤخذ من ذلك مع قيامه ﷺ بها حينما نزلت عليه الآية، يؤخذ منه فائدة أخرى، وهي الاستمرار، والدوام على هذه الدعوة، داوِمْ عليها، وذلك أن الدعوة إلى الله هي مهمة الرسل إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48] فهي وظيفتهم قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] فأتباعه هم الدعاة إلى الله من بعده، وهم أهل البصائر أيضاً بحسب الوقف، والوصل في الآية، وكل ذلك صحيح، والقرآن يُعبَّر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

فهذه الآية إذن التي أُمر بها النبي ﷺ بالدعوة إلى الله تضمنت تثبيت الرسول ﷺ على دعوته، وأن لا ييأس حينما يواجه العقبات، والعراقيل، والتكذيب، والجهود التي يبذلها أعداء الإسلام لنشر باطلهم، وكفرهم في العالمين، وما يقولونه عن رسول الله ﷺ ولأتباعه من تلك الفِرى؛ حيث وجهوا إليهم أسوأ التهم، وأبشع الأوصاف حتى صارت أعراضهم كلأً مباحاً يفري بها كل منافق، وعدو أحرقت العداوة، والبغضاء قلبه فجرى ذلك على لسانه، ماذا قالوا عن رسول الله ﷺ ؟ قالوا: ساحر، وكذاب، وشاعر، ومجنون، إلى غير ذلك من الفرى، والبهتان الذي وُجه إليه - عليه الصلاة، والسلام - كما وجه إلى إخوانه من الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - قبله، كما يوجه أيضاً ما يشابهه، ويشاكله لكل تابع لطريق الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - إلى قيام الساعة، الله - تبارك، وتعالى - يثبته على الطريق، وعلى دعوته، فلا يفتر حينما يرى الصدود، حينما يرى أولئك الذين لا ينتفعون بدعوته، ولا يقبلون عنه قليلاً، ولا كثيراً؛ لأن ذلك ليس إليه، إنما عليه البلاغ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ هذه وظيفتك، فهل يعي الدعاة إلى الله - تبارك، وتعالى - هذا المعنى؟ وأن لا يُقعدهم عن دعوتهم ما يلقون في طريقها من تلك الصنوف من الإعراض، والأذى، والتكذيب؟.  

الدعوة لكل الناس

ثم انظروا، وتأملوا "ادع إلى سبيل ربك" ما قال: ادع العرب، وما قال: ادع قومك، وما قال: ادع قريشاً، وما قال: ادع أهل مكة، وما قال: أهل الحجاز، أو جزيرة العرب، فحذف المفعول، ادع من؟

الأصوليون يقولون: إن هذا الحذف الذي يسمونه بحذف المتعلق - حذف المعمول - يفيد العموم النسبي، يعني: في كل مقام بما يناسبه، فدل ذلك على العموم، ادع كل أحد من قريب، وبعيد، العربي، والأعجمي، الأحمر، والأسود، من كان معلناً بفجوره، ومن كان دون ذلك، قدم هذه الدعوة، ولا تبخل بها إلى جميع الخلق، لا تخص قوماً دون قوم، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله يقدمون الدعوة إلى الجميع، لا يصح أن يقتصر الداعية، وأن يختص فئة ينتقيها من بين سائر الناس، قد يكون هذا الداعية في جامعة، في مدرسة، في منبر من المنابر وجِّه الدعوة للجميع، ربما يسمع ذاك الذي لربما تظن أنه لا يقبل عنك يسمع كلمة تنفعه عند الله وترفعه، ولو بعد حين، وما يدريك؟.

فالدعوة ينبغي أن يُراعَى فيها هذا المعنى، فلا محل للانغلاق، والانزواء، وتضييق ما وسعه الله إنما الدعوة لكل الناس، هي دعوة عالمية إلى دين عالمي، لا يتوجه خطابه إلى لون من الناس بل إنه يعم الآدميين كما يعم الجن معهم، فهذا يحتاج منا إلى تأمل، ومراجعة لواقع كثير منا في دعوتنا، وكيف نقدمها للآخرين.

 
الداعية لا يدعو لنفسه

وقوله - تبارك، وتعالى - : إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ يدل على الإخلاص، معناها أن الداعية لا يدعو إلى نفسه، وفي كثير من الأحيان لاسيما في أجواء المنافسات في المشروعات الدعوية لربما ينسى الداعية نفسه، فيصدر منه من التصرفات ما لا يليق مما يدل على خلل في الإخلاص في الدعوة إلى سبيل الرب الذي أكرمنا بهذا الهدى، والنور، فهدايته من معاني ربوبيته؛ ولهذا قال: إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ فهو الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب لتربية النفوس، والأرواح؛ لتسمو عن شخوصها، وذواتها، وترتفع لتحلق عالياً فتكون الدعوة لله، وفي الله.

فلواحدٍ كن، واحداً في، واحدِ أعني سبيل الحق والإيمانِ

فلا يدور الداعية حول نفسه، ولا يقصد بذلك تكثير الأتباع، أو تسجيل الأرقام، ولربما تطاول به النسيان، والذهول فصار ذلك طلبة، وهدفاً، وغاية يجري وراءها، يريد أن يصدر في النهاية تقريراً يتكلم فيه عن إنجازاته، ليس هذا هو الطريق، لا تطلب شيئاً لنفسك، ولا تنتظر من الآخرين أن يذكروك، أو يشكروك، أن يقدموا لك درعاً، أو أن يُنوَّه بك في المحافل، أو أن تعتب على هذا، أو هؤلاء؛ لأنهم قد نسوا ما بذلته، وقدمته من إنجازات، فإنك تقدم ذلك طلباً لما عند الله .

فالدعوة لا يصح أن تكون لأشخاصنا، ولا لطائفة، أو غير ذلك، وإنما تكون الدعوة إلى سبيل المعبود، إلى سبيل الرب، فنحن نؤدي هذا الواجب، ونتشرف بالقيام به، وليس لنا إلا ذلك، رجاء ما عند الله وكلما كان الداعية صامتاً فإن ذلك يكون خيراً له، وأدعى إلى حفظ نيته، وإخلاصه، وإذا أردنا أن نجعل بعض المعايير التي تدل على صدقنا، وإخلاصنا في دعوتنا إلى الله - تبارك، وتعالى - وأنها إلى سبيل الرب لا إلى أنفسنا فإن ذلك يمكن أن ندركه حينما نصل إلى درجة، وحالة لا نبالي معها ظهر الحق على أيدينا، أو على يد غيرنا، المهم أن يصل إلى الناس، أن ينجح هذا المشروع الدعوي، أن يتحقق في الأمة هذا المطلب، أن تصل كلمة الحق إلى أقصى مدى، لا يشترط أن يكون ذلك على يدي، لا يشترط أن أكون المسئول الأول في هذا البرنامج، وإلا لربما أتحول إلى مثبط، ومنتقد، ومخذل، ومتتبع للأخطاء، والعيوب، والنقائص، فهذا ليس من الإخلاص، لربما نجد الإنسان يجد، ويجتهد، ومشمر، ويشرح هذا المشروع لكل قريب، وبعيد في كل مناسبة، لكن لو حصل أنه نُحي، أو أُبعد، أو هُمش من قِبل رفقائه فلربما تحول إلى شيء آخر، هذا خلاف الإخلاص.

الإنسان حينما يجد، ويجتهد، ويسهر، ويبذل من ماله، ووقته، ويُشغَل عن كثير مما يلهو به الناس، بل يُشغل عن أولاده، وأهله في كثير من الأحيان، ثم بعد ذلك تكون دعوته لنفسه فهذا من الغبن الكبير الفاحش، خسارة يخسرها؛ لأنه لا يُحصِّل عند الله إلا الأوزار، وقد لا يشعر بذلك.

المقصود أن المخلص همه النفع، جرى ذلك على يده، أو على يد غيره، فهو لا يحزن حينما يوجد مشروع آخر ينافس هذا المشروع، ويتقدم عليه، هو لا يحزن إن كان خطيباً فجاء من هو أفصح لساناً، وأبلغ بياناً، فاتجه الناس إليه، وتحلقوا حول منبره، المخلص يفرح؛ لأن هؤلاء أقبلوا على هدى، وحق، وعلم، أليس مقصوده أن يُبلغ دين الله ؟ الناس لم يذهبوا إلى مرقص، ولم يذهبوا إلى مكان منكر، وفاحشة، إنما ذهبوا إلى منبر ينتفعون به هو خير من هذا المنبر الذي تُقدم ما تقدم فيه، فلماذا يحزن الإنسان، ويضيق؟! ولربما يفرح إذا سمع أحداً ينتقد ذلك الخطيب، أو طالب العلم الذي نافسه، أو ذلك المشروع الذي استقطب الجماهير كما يقال، فيبدأ يفكر كيف يتصرف من أجل أن يستعيد ما فقد، هذا خلاف الإخلاص.

الواجب على أتباع الرسل أن يبذلوا العلم مجاناً

نحن نكثِّر الخير، ونُقلل الشر ما استطعنا، وكل من سار في هذا الاتجاه فهو يؤدي العمل الذي نؤديه، هو شريك لنا في مشروعنا نفرح به، ونُسر، وندعو له، ولا يكون هناك وحشة، وجفوة بيننا، وبينه.

الداعية إلى الله المخلص لا ينتظر من الآخرين مردوداً، شعاره إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان: 9] إنما ندعوكم لوجه الله لا ننتظر منكم الشكر، ولهذا كان بعض السلف يتحرج إذا قدم لأحد صدقة، أو معروفاً فقال له: جزاك الله خيراً، يقول: بل أنت جزاك الله خيراً، من أجل أن لا يكافئه على هذا الصنيع، والإحسان، لا يريد حتى كلمة الشكر.

وإذا كانت الدعوة إلى سبيل الرب - تبارك، وتعالى - لا لذواتنا فإنها ينبغي أن تُبذل مجاناً، الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - علمهم ربهم - تبارك، وتعالى - أن يقولوا: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام: 90] وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 109] الآيات في هذا متعددة، هكذا كان يقول الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - لأقوامهم، وإذا كان الأمر كذلك فإن الداعية لا يصح أن يستغل دعوته حينما يُعرف، ويُذكر، ويشتهر، أن يتحول إلى حال من لا خلاق لهم من المغنيين، واللاعبين، ومن العابثين، وكما يقال: نجوم السينما، ونجوم الفن، وما أشبه ذلك، ثم يقيس نفسه بهم، ويعتذر لبعض التصرفات، والمزاولات التي يزاولها حيث يطلب من الآخرين على دعوته مالاً، هذا غير صحيح، ولا ينبغي لأحد أن يتأول لنفسه؛ لأن النفوس مجبولة على حب المال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14] الشيطان بالرَّصَد، فقد تكون البداية: آخذ هذه الأموال، وأعطيها للمكاتب التعاونية، والجمعيات الخيرية، نقول: لا تأخذ على دعوتك مالاً، ولا تتصدق، صدقتك في دعوتك، أعطاك الله قدرة على التعليم، أعطاك قدرة على التأثير فينبغي أن تبذل ذلك، وهذا من شكر النعمة مجاناً لوجه الله ويكون شعارك هو ما علمه الله أنبياءه - عليهم الصلاة، والسلام - لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام: 90].  

"فالواجب على أتباع الرسل من العلماء، وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً من غير أخذ عوض على ذلك" هذه عبارة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - [1] وثقوا أن من استزله الشيطان، ودخل في هذا الطريق، وبدأت نفسه تطلب حظًّا من الدنيا على دعوته - يأخذ مالاً، أو نحو ذلك - أن الكلمة تنطفئ قبل أن تخرج من فمه، وتُنزع البركة من كلامه، فتخرج كلماته، ومواعظه ميتة، فبعد أن كان الناس ينتفعون بها، ويتأثرون بها، وإذا هو يتحول إلى ميْتٍ، أو ميِّتٍ، وإن كان في عداد الأحياء، تجاوزه الناس، ونسوه، وكان السبب في ذلك هو هذا الباب الذي فتحه على نفسه، الدعوة لله، كلما فُتح طريق يمكن أن يلج فيه الداعية من الطرق المشروعة، أو المباحة فإنه يفرح بذلك، ويُقبل، ولا يتردد، وجد ذلك في منبر في مسجد، عبر محاضرة، عبر خُطب، وجد ذلك عن طريق حملات الحج، يُبادر، ويقول: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الأنعام: 90] لا يأخذ قليلاً، ولا كثيراً، مجاناً لوجه الله هذا الذي ينفع الله بدعوته، فإن مالت نفسه، وضعفت، وزلت قدم بعد ثبوتها خسر، وسقط، ولم يعد له أدنى قبول، فهذا أمر يجب أن يُعتبر، وأن نقف عنده، الداعية لا يرفع شخصه على حساب دعوته، بل إن القرطبي - رحمه الله - قال في قوله - تبارك، وتعالى - : وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [المائدة: 44[ يقول: "وهذه الآية، وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير حق، أو إبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرًا فقد دخل في مقتضى الآية"[2] يشترط على الناس، لا ألقي محاضرة إلا بكذا، وكذا، وكذا، شروط، قد تكون نقدية، وقد لا تكون، فهناك ما هو أعظم من الشروط النقدية، مواصفات معينة في الفنادق التي يسكنها، السيارة التي يتنقل بها، هذا لا يليق، يشترط على الحملات في الحج لن أذهب معهم إلا بكذا، وكذا، ثم توضع صور الدعاة، وأسماء الدعاة دعاية لتلك الحملات، هذا لا يليق، والدعوة مجاناً يُبتغى بها ما عند الله - تبارك، وتعالى - وليس لأحد أن يحتج بأن المغنيين يأخذون أكثر، وأن الممثلين يأخذون أكثر، وأن الفنانين يأخذون أكثر، نحن نختلف، كم من الفرق بين بضاعتك، وما معهم من بضاعة، وما تريد، وما يريدون!.

وانظروا إلى أحوال السلف فيها عبر، هذا شعيب بن الحبحاب يقول: "حابيت أبا العالية في ثوب، يعني: أبا العالية الرياحي، حابيته في ثوب يعني وضع له من السعر، عرفه، هو عالم إمام، فأبى أن يشتري مني الثوب"[3] بعضهم عند الخباز لما حاباه أبى أن يشتري، وقال: "نشتري بدراهمنا، ولا نشتري بديننا"[4] وبعضهم غضب على آخر حينما نبه البائع على أن هذا فلان؛ من أجل أن يُحابيه، وأن يراعيه، غضب، وقال: "إنما نشتري بدراهمنا، ولا نشتري بديننا"[5].

وهذا أبو مرحوم من تلاميذ الأوزاعي قدم من مكة إلى الأوزاعي، فأهدى له طرائف، هدايا ليست موجودة في لبنان - بلاد الأوزاعي - ليست موجودة في الشام جاء بها من الحجاز، فماذا قال الأوزاعي؟ قال: "إن شئتَ قبلتُ منك، ولم تسمع مني حرفاً، وإن شئتَ فضم هديتك، واسمع"[6].

وهذا حماد بن سلمة أيضاً إمام كبير من أئمة السنة كان رجل يسمع عنده العلم، والحديث، فهذا التلميذ ذهب إلى الصين فلما رجع أهدى إلى حماد بن سلمة - رحمه الله - هدية، فقال له حماد: "إن قبلتها لم أحدثك بحديث، وإن لم أقبلها منك حدثتك، قال: لا تقبلها، وحدثني"[7].

وهكذا أيضاً ابن عُقدة كان يؤدب ابن هشام الخزاز، يعلمه العربية، فلما صار الصبي حاذقاً، وتعلم، وجّه أبوه بدنانير، فردها ابن عُقدة، فظن أنه إنما ردها لأنه تقالّها، أنها قليلة ما تُجزئ، فأعطاه ضعفها، فقال ابن عُقدة: ما رددتها استقلالاً، ولكن سألني الصبي أن أعلمه القرآن، فاختلط تعليم النحو بتعليم القرآن، ولا أستحل أن آخذ منه شيئاً، ولو دفع إليّ الدنيا[8] اختلط تعليم النحو بتعليم القرآن، من غير طلب، ولا اشتراط، رأيتم كيف كانوا يحلقون، ويرتفعون لهذا صاروا أئمة هدى، وإذا تضاءلت النفس، وتصاغرت نزلت فتهبط، لماذا يرتفع أقوام، ويسفُل، ويهبط، وينحط آخرون؟.

وهذا عبد الله بن إدريس كان عنده واحد من تلامذته يقال له ابن الربيع البوراني، قال له: سل لي عن سعر الأشنان، الأشنان مثل الصابون يُستعمل للتنظيف، سل لي، اسأل فقط عن سعر الأشنان، يقول: "فلما مشيت، ردني فقال: لا تسأل فإنك تكتب عني الحديث، وأنا أكره أن أسأل من يسمع مني الحديث أكره أن أسأله حاجة"[9] فقط اسأل عن السعر، رأيتم إلى أي حد!.

وهذا خلف بن تميم يقول: مات أبي، وعليه دين فذهب إلى الإمام الكبير المُقرئ الإمام حمزة الزيات، يقول: فسألته أن يكلم صاحب الدين أن يضع عن أبي من دينه شيئاً، شفاعة في إنسان ميت، فماذا قال حمزة؟ قال: ويحك، إنه يقرأ عليّ القرآن، وأنا أكره أن أشرب من بيت من يقرأ عليّ القرآن"[10] أكره أن أشرب الماء في بيته، فكيف أطلب منه أن يضع من دين أبيك؟. 

والأمثلة على هذا كثيرة، تصور لو كان هؤلاء، لو كان الصحابة، وحاشاهم، لو كان الرسل - وحاشاهم - يأخذون من الناس شيئاً هذا لا يليق إطلاقاً، وهم أنزه، وأشرف، وأكبر، وأعظم، وأجل من ذلك، فكيف يليق بمن يسير على دربهم، ويسلك مسالكهم أن يتوصل بدعوته إلى جيوب الناس؟! لا يليق، الداعية يرتفع يُحلق، وسائل دعوية بالجوال مجاناً، أو على الأقل بسعر التكلفة، مزود الخدمة كم يأخذ؟ نعطيكم فوائد، نوصلها لكم، نفرح أن وُجدت، وسائل حديثة تصل فيها هذه المنافع إلى أقصى مدى، أما أن نُتاجر بهذا فلا، وإن كان هذا يتفاوت، فحينما ينهض به شخص فإن ذلك أشد من كون ذلك يصدر عن مؤسسة دعوية لا يعود الربح فيها إلى شخص بعينه، وإلا فالأصل أن ذلك يُبذل لله، تحت هذا الشعار الكبير.

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 179).
  2.  تفسير القرطبي (1/ 334 - 335).
  3.  سير أعلام النبلاء (4/ 209).
  4.  لم أقف عليه.
  5.  أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، برقم (35483).
  6.  سير أعلام النبلاء (7/ 132).
  7.  المصدر السابق (7/ 449).
  8.  المصدر السابق (15/ 344).
  9.  أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي، وآداب السامع (1/ 368)، برقم (846)، والآجري في أخلاق أهل القرآن (ص: 124)، برقم (52).
  10.  انظر: معرفة القراء الكبار على الطبقات، والأعصار، للإمام الذهبي (ص: 70).
المتابعة واجبة في الدعوة

ثم تأمل مرة أخرى في قوله: إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل: 125] فكما دل على الإخلاص فهو يدل على المتابعة، وكيف تحصل المتابعة إلا بمعرفة الطريق بتفاصيلها، ومن هنا فإن الداعية إلى الله لابد أن يعرف ما يدعو إليه، فالدعوة لا يمكن أن تكون بجهل، فالجهال لا يتصدرون في الدعوة، فضلاً عن أن يسافروا من أجلها، فإنهم سيلقون من الشبهات، والنوازل، والمسائل العظام ما لا يدرون معه جواباً، إنما الأمور التي يعلمها، ويتحققها، رأى إنسانًا لا يصلي يقول له: بارك الله فيك صلِّ، مثل هذه الأشياء، لكن التصدر، والدعوة إلى الله هذا يحتاج إلى علم، فعلى قدر ما عنده من العلم على قدر ما يكون عنده من المساحة التي يستطيع أن يتحرك بها، فإذا قل العلم فليس معنى ذلك أن يجلس، إطلاقاً، الجميع مطالب بالدعوة، لكن هناك أشياء لا تخفى على أحد، كم نجد في طريقنا إلى المسجد من أناس لا يصلون، هذا أمر لا يخفى، فهذه دعوة إلى الله تأمرهم، وتنهاهم، إنسان يعمل منكرًا من المنكرات الواضحة، هذه امرأة متبرجة، هذا رجل يقذف آخر، وهذا يدخن عند باب الحرم، فيجب أن يُنصَح هؤلاء، لكن هنا أمور تحتاج إلى فقه، تحتاج إلى علم، فكلما ازداد العلم كلما كان الداعية أكثر تمكناً في دعوته، وسبيل الله هو الطريق التي رسمها، وخطها لعباده من أجل أن يسلكوها، هذه السبيل التي ندعو إليها ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل: 125] تعني اتباع السنة من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1] فالأمور التي ندعو إليها، والوسائل الدعوية يجب أن تكون صحيحة.

لا يصح أن تكون الأمور التي ندعو إليها من قبيل البدع، والضلالات، كما أنه لا يصح أن تكون الوسائل الدعوية بدعية، أو محرمة كالذي يدعو الناس عن طريق مثلاً الغناء المحرم، أو الرقص كما فعل الصوفية، أو بعض الصوفية، أو عن طريق بدعة كبدع المآتم، ونحو ذلك، يقول: هذا فرصتنا، بل إن بعضهم كان مع علمه إلا أنه كان يعمل في سدانة قبر في أحد البلاد، ولما أنكر عليه بعض أهل العلم هذا، قال: نحن هنا الناس لا يأتون إلى المساجد فنحن نجذبهم، يجذبهم بماذا؟!.

بالشرك، وعبادة القبور، هذا لا يجوز، الوسائل الدعوية فيها مساحة، يمكن أن نتوصل إلى كثير من الأنشطة الدعوية عبر، وسائل مباحة، وفي هذا تكون من قبيل القربة، هناك، وسائل توقيفية مثل خطبة الجمعة، لا يجوز لأحد أن يجعلها خطبة واحدة يقول: كمحاضرة أفضل، أو يقول: الظهر ما هو مناسب نجعلها بين المغرب، والعشاء، أو نجعلها بعد الصلاة، هذا لا يجوز، هذه بدعة، أو يقول: الخطيب يجلس على طاولة، ويتكلم بدلاً من أن يقف، والأوراق في يده، لا، هذه وسائل توقيفية.

وهناك وسائل دل الشرع على أصلها مثل كون النبي ﷺ يحدث الناس في مجامعهم، أو نحو ذلك، وهناك أمور يمكن أن يتوصل بها عن طريق بعض الأشياء المباحة، فهذا فيه تفصيل معروف عند أهل العلم، المقصود أنه لا تكون في قالب محرم، هذا القدر هو المطلوب هنا.

فسبيل الرب هو طريقه، وذلك كل عمل من شأنه أن يبلغ عامله إلى رضا المعبود - تبارك، وتعالى - ثم انظروا أيضاً، وتأملوا في إضافة السبيل إلى الرب إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ أضافها إليه وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام: 153] أضاف الصراط إليه؛ لأنه هو الذي خطه، وشرعه، وبينه، وأمر الناس بسلوكه، فيُنسب إليه بهذا الاعتبار، كما أنه يُنسب إلى النبي ﷺ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف: 108] باعتبار أنه الداعي إلى ذلك، كما أن الصراط المستقيم يُنسب إلى أهل الإيمان صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] باعتبار أنهم أهل سلوكه فنُسب إليهم ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل: 125] بماذا؟

بالحكمة، الحكمة: العلماء - رحمهم الله - تكلموا على معناها كثيراً، ولكن يمكن أن يُختصر هذا بأن يقال: إن الحكمة هي الإصابة في القول، والعمل، ولهذا يقولون: وضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، فهذا هو نتيجة الإصابة في القول، والعمل، فتقع الأشياء على وجهها في الوقت المناسب في المكان المناسب، وهذه الحكمة تحتاج إلى أمرين، من أجل أن يكون الداعية حكيماً يوصف بهذا لابد من أمرين اثنين حتى يوقع الأشياء في مواقعها، تقع على وجه صحيح في توقيت صحيح في مكان لائق مناسب، تحتاج إلى عقل راجح، وإلى علم صحيح، علم، وعقل، فقد يكون الإنسان واسع المدارك، بعيد النظر، واسع الأفق، عنده عقل رجيح، ولكنه لا بصر له بالشرع، ليس عنده علم، فهل يمكن أن يكون هذا مصيباً في أقواله، وأفعاله؟.

لا، العقل مثل نور العين، والنقل مثل ضوء الشمس، نور العين إذا كان الإنسان في مكان مظلم تماماً فإنه لا ينتفع به، لابد من ضوء الشمس.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (1718).

مواد ذات صلة