الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(02) هل سمعت بقصة حاطب رضي الله عنه ؟
تاريخ النشر: ٢٣ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 12801
مرات الإستماع: 5116

(2) هل سمعت بقصة حاطب ؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نواصل الحديث فيما يتصل بهذا الموضوع ذي الشأن الخطير كما أسلفنا، وذلك بإيراد بعض الأسئلة التي أرجو أن نخلُص في آخر هذا الحديث بنتيجة وهي أن هذا الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها بعض من غامر.

أورد هذا الحديث أولاً المشهور المخرج في الصحيحين حديث حاطب بن أبي بلتعة ، فقد جاء من حديث علي وفيه: "بعثنا رسولُ الله ﷺ أنا والزبير والمقداد، فقال: ائتوا روضة خاخٍ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تَعادَى بنا خيلُنا فإذا نحن بالمرأة فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتُخرجنّ الكتاب أو لتُلقينّ الثياب، فأخرجتْه من عِقاصها -يعني من ضفائر شعرها، بالغت في إخفائه- فأتينا به رسول الله ﷺ فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين -يعني سماهم إلى فلان وفلان وفلان وفلان- من أهل مكة يُخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ".

بعض أهل العلم قال: هذا في السنة السادسة في عمرة النبي ﷺ التي صُد عنها الحُديبية عام الحُديبية، وبعضهم يقول: كان ذلك في السنة الثامنة في فتح مكة، حيث عمّ النبي ﷺ الخبر، وأطلع نفراً من أصحابه، فحاطب كتب إلى هؤلاء المشركين يُخبرهم بسر رسول الله ﷺ، وهو سر عسكري حربي يتعلق بجيش النبي ﷺ وأصحابه.

بعض أهل العلم قال: هذا في السنة السادسة في عمرة النبي ﷺ التي صُد عنها الحُديبية عام الحُديبية، وبعضهم يقول: كان ذلك في السنة الثامنة في فتح مكة، حيث عمّ النبي ﷺ الخبر، وأطلع نفراً من أصحابه، فحاطب كتب إلى هؤلاء المشركين يُخبرهم بسر رسول الله ﷺ، وهو سر عسكري حربي يتعلق بجيش النبي ﷺ وأصحابه.

فقال النبي ﷺ: يا حاطب ما هذا؟، هذا في المقاييس والمعايير الدولية إلى يومنا هذا يُعد من الخيانة العُظمى، يسمونه الخيانة العُظمى، يعني: إفشاء الخُطط العسكرية، للعدو، فقال النبي ﷺ: يا حاطب ما هذا؟، قال: "لا تعجل عليّ يا رسول الله، إني كنت امرأً مُلصقاً في قُريش"، يعني: كان حليفاً لهم ولم يكن من نفس قريش، كان من أهل اليمن، "وكان ممن معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم -في قريش- أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفراً، ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي : صدق، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدراً، وما يُدريك لعل الله اطلععلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم[1]، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، لاحظ الآن هذا الحديث المشهور حديث حاطب ، الفعل الذي صدر من حاطب  ما توصيفه في الشرع؟ هو موالاة للمشركين وموادة لهم، وهو بالاتفاق سبب نزول هذه الآية من سورة الممتحنة التي تدور حول موضوع واحد، وهو موضوع الولاء والبراء، وصدرها هو هذا الذي نزل بسبب قصة حاطب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الممتحنة:1]، لاحظ صُدرت بخطاب المؤمنين، وحاطب  منهم، وفعله هذا نزلت الآية بعده، ففعله لم يُخرجه من الإيمان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الممتحنة:1]، والقاعدة أن سبب النزول قطعي الدخول في العام، ولا يجوز إخراجه من العموم بالاجتهاد، صورة السبب قطعية الدخول في العام، ولا يجوز إخراجها منه بالاجتهاد، يعني: الأفراد الداخلة تحت العموم يمكن أن يُخرج بعضها بنوع اجتهاد، لكن هذا قطعي الدخول في العموم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الممتحنة:1]، وحاطب هو سبب النزول، إذاً هو داخل في هذا، هذا بالإضافة أنه هو سبب النزول، قال: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، نزلت بسبب هذا الخطاب، إذاً: هذا الفعل من الموالاة، فجاء هذا الإنكار، أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، فهذا الذي حصل هو موادة لأعداء الله ، هذا القدر ينبغي أن يكون واضحاً لا يُجادل فيه أحد، هذا الفعل موالاة بنص الآية وسبب النزول، وهو موادة للمشركين، والآية ناطقة بهذا، فلفظ الآية لم يُخرجهم من مسمى الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الممتحنة:1]، وهو سبب النزول، ثم أيضاً النبي ﷺ لم يحكم بكفره، فلما اعتذر إليه بهذا العذر قال: "صدق"، ثم قال النبي ﷺ لعمر لما استأذنه بقتله وحكم عليه بالنفاق قال بأن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ما المانع الذي منع من كفره بهذا الفعل الذي هو الموالاة؟، هل هو شهود حاطب  بدراً؟     

الجواب: لا، لأن شهوده لغزوة بدر عمل صالح من أجل الأعمال، ولو وقع الإنسان في الكفر والشرك لحبط عمله، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، والحبوط هو البطلان، فلو أنه وقع في الكفر لحبط عمله جميعاً ومن ذلك شهود غزوة بدر، إذاً بقي له عمله فهذا يدل على أنه لم يكفر، ولم يكن المانع من الكفر هو شهود هذه الغزوة، يؤخذ من هذا وهو القدر الذي أُريد أن أصل إليه أن موالاة المشركين لا يُقال: إنها مخرجة من الملة بإطلاق، ما كل موالاة للمشركين تكون كفراً مُخرجاً من الملة، هذا الحديث وهذه الآية يدلان على هذا، فهذا حاطب   وقعت منه موالاة وموادة ولم يكن ذلك مخرجاً له من الدين.

إذًا ما كل موالاة تخرج من الدين، وهذا النوع من الموالاة من النوع الصغير أو من النوع الكبير؟ من النوع الكبير، يكتب للمشركين في شأن رسول الله ﷺ ويُفشي لهم سره العسكري، هذا ليس بالشيء السهل، ومع ذلك لم يكفر، فموالاة المشركين أنواع، منها ما يكون معصية، ولذلك يذكر العلماء -رحمهم الله- في الكلام في الموالاة يذكرون أشياء دقيقة من بري القلم للمشرك، وتعبئة القلم بالحبر -الدواة- وأشياء يسيرة من هذا القبيل، هذه دقيقة، هذه لا تقاس بما صدر عن حاطب ، فالموالاة منها ما يكون معصية، ومنها ما يكون كبيرة، ومنها ما يكون كفراً، لكن هذا النوع الذي يكون كفراً أيضاً لابد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، فالنبي ﷺ استفصل من حاطب ، نعم جاء في بعض الروايات ما يدل على أن حاطباً  لم يكن يشك في أن الله ناصر رسوله ﷺ على المشركين، وأن هذا الخطاب لن يُغير موازين المعركة، لكن مهما يكن من أمر، الكفار ينتفعون به أو لا ينتفعون؟ ينتفعون، هذا التصرف موالاة أو ليس بموالاة؟

موالاة بنص الآية، والنبي ﷺ وجه إليه هذا السؤال، سأله عما حمله على هذا، فإذا تبين هذا القدر نخرج بنتيجة أن الموالاة أنواع، وأن ما يكون منها أيضاً من قبيل الكفر لا يعني ذلك بالضرورة أن يكفر من صدر عنه، إما لفقد شرط أو قيام مانع، هذا القدر إذا توصلنا إليه، من الذي يستطيع أن يُميز هذه الأشياء أنها كبيرة أو كفر؟!

ومن الذي يستطيع أن يُميز تحقق الشرط وانتفاء المانع مِن زيد أو عمرو؟

هذا الذي يحكم على من شاء بالكفر، أو يحكم على من خالفه بالردة، ثم لا يكتفي بهذا بل يُقدم على تنفيذ حكم المرتد به، على أي أساس؟ كيف عرفت أن هذا ردة عن الإسلام، وأن هذا تحققت فيه الشروط وانتفت الموانع، وقامت عليه الحجة؟، كيف عرفت؟ ثم إذا كنت بهذه المرتبة والمثابة من الرسوخ، واستطعت أن تُميز هذه الأمور، وأن تقيم عليه الحجة من الذي خولك بالتنفيذ بقتل من حكمت عليه في الردة؟، فقد يأتي من يفكر بنفس الطريقة، ويختلف معك في أمر يدعي أنه أيضاً يُخرج من الإسلام، باعتبار أنك ما كفرت زيداً أو عمرًا ممن يَعتقد كفره، ثم يقول بكل جراءة محتجًّا عليك بأن من لم يُكفر الكافر أو شك في كفره فهو كافر.

والبعض يُمهل من ناقشه في مثل هذه القضية خمس عشرة دقيقة، والخمس عشرة دقيقة من أجل أن ينظر يتراجع أو لا يتراجع، فيفكر في الحجة التي أقامها عليه، فإن لم يتراجع حكم بردته، إلى هذا الحد يتناقش مع صاحبه ويختلفون في أمر فلان، فهذا الذي يعامله إذا عاملك بالمثل في أي قضية يختلف معك فيها يُكفر أحداً من الناس لم تُكفره أنت، ثم بعد ذلك خول لنفسه الحكم والتنفيذ، وصار كل واحد يحمل بيده سلاحاً أو سيفاً أو حزاماً، أو سيارة مليئة بهذه المتفجرات، ثم يضعها عند بيت من خالفه، أو في مسجد أو غير ذلك، هو يصلي معه ثم يُفجر نفسه معه، هل هذا يُعقل؟!.  

كل من اختلف مع غيره وحكم عليه بما لاح له ثم بعد ذلك يقوم بالتنفيذ فيحمل سلاحه، ويُبادر بإراقة الدماء، يقوم بهذا على أي أساس؟ هذا ليس لآحاد الناس، وهو من الإفساد في الأرض، ولو عاملك الآخرون بمثل هذه المعاملة لرأيت الناس لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قُتل، فأصبحت حياة الناس فوضى، كل من اختلف مع غيره حكم عليه بالردة ثم نفذ فيه بزعمه حكم الله، فهذا ليس من دين الله في شيء، ولذلك تجدون عبر العصور والقرون المتطاولة لم يوجد مثل هذا في الأمة، تلاميذ الأئمة، تلاميذ الصحابة، الصحابة فمن بعدهم، وهكذا الفقهاء والأئمة والمحدثون عبر العصور عبر القرون لا يوجد أحد منهم، ولا من تلامذتهم، ولا من عامة المسلمين من يختلف مع غيره ثم يُكفر من اختلف معهم ثم يقوم بالتنفيذ، فكلٌّ يحمل سلاحاً، ويقتل من حكم عليه بالردة، لا يوجد هذا، لم يُعرف بوجود فئة تحمل سلاحاً وتحكم على الناس بالكفر ثم تُنفذ إلا الخوارج عبر التاريخ، وهاتوا عبر التاريخ فئة واحدة طائفة من الفقهاء أو من المحدثين أو من العلماء المعتبرين، أو من تلامذتهم أو من عامة المسلمين أهل السنة والجماعة يحكمون على من خالفهم بالكفر ثم يقومون أيضاً بالتنفيذ بقتل من خالفهم، هذا لا يوجد عبر القرون، أرأيتم هذا في الصحابة  وهم أفقه الأمة وأعلم الأمة؟، هل رأيتم هذا في التابعين؟ هل رأيتم هذا في أتباع التابعين؟ هل رأيتم هذا في قرن من القرون إلى عصرنا هذا؟ لا يوجد.

فأقول لهذا الشاب: رفقاً بنفسك، هي نفس واحدة كما قال بعض السلف، لا تُغرر بها، رفقاً بنفسك، ليس هذا هو الطريق، هذا الطريق لا يوصل إلى الله، بل هذا من السبُل التي على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، فإذا رأى في العبد نزوعاً إلى الشجاعة والإقدام والغيرة الدينية دخل عليه من هذا الطريق فأغواه فأوقعه في الردى، وإذا رأى فيه نزوعاً إلى الفواحش والشهوات ونحو ذلك دخل عليه من هذا الطريق فأرداه، لكن الطريق الأول أخطر، وأشد، وأعظم جُرماً.

الإمام الشافعي -رحمه الله- له تعليق يرتبط بهذا الموضوع يقول: "ليست الدلالة على عورة مسلم، ولا تأييد كافر بأن يُحذَّر -يعني هذا الكافر- أن المسلمين يريدون منه غِرة -يعني: كما فعل حاطب  ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين"، يعني: يستعد بجيشه وينطلق، يقول الشافعي: "ليست الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يُحذَّر أن المسلمين يريدون منه غِرة؛ ليحذرها، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بين"[2]، يقول: ليس بكفر بين، هذا الإمام الشافعي، هل الشافعي ينقصه فقه وعلم؟ هل الشافعي يخفى عليه ما يكون من قبيل الموالاة المكفرة، وما لا يكون من قبيل الموالاة المكفرة؟ يقول: هذا ليس بكفر بين، يعني: ليس بكفر واضح يمكن للإنسان أن يحكم على من وقع فيه بالردة، وشيخ الإسلام -رحمه الله- له كلام معروف في هذا، يقول: "وقد تحصل للرجل مودتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً كما حصل لحاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي ﷺ"[3]، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

فأقول: يا أيها الشاب، هل أنت أفقه من هؤلاء الجبال؟ هل أنت أفقه من رسول الله ﷺ حيث لم يحكم بردته وخروجه من الدين؟ هل أنت أدق فهماً وأعظم غيرة على دين الله  حتى تحكم بمثل هذا الحكم؟! مالك ولهذه المضائق، مالك ولهذه الورطات، هذه الأحكام الدقيقة ليست من مهامك ولا من عملك، ولا من شأنك، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا، تعلّم العلم تُريد به ما عند الله وتعرّف الطريق الموصل إليه، وليكن لك فيه قصد حسن، وتتدرج في طلب العلم، واعلم أن هذه المسائل هي من آخر وليست من أول، هي من آخر ما يُتحقق به من مسائل العلم، هؤلاء أئمة الدعوة هذا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- يتحدث عن حديث حاطب  وأنه "دخل في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه الله به يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الممتحنة:1]، وتناوله النهي بعمومه لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، وله خصوص السبب الدال على إرادته مع أن في الآية الكريمة ما يُشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1]، يقول: "لكن قول النبي ﷺ: صدقكم خلوا سبيله[4]، ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ولو كفر لما قال: خلوا سبيله، ولا يقال: إن قوله ﷺ: ما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم، هو المانع من تكفيره، لأننا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لاحق الكفر وأحكامه، فإن الكفر يهدم ما قبله؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، وقوله: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، والكفر مُحبط للحسنات والإيمان بالإجماع، فلا يُظن هذا"[5]، يعني: لا يُظن أنه قد كفر ولكن الذي منع من حبوط الأعمال هو أنه شهد بدراً، أو الذي منع من كفره هو أنه شهد بدراً، ليس الأمر كذلك.

فهذه المسائل لا تؤخذ هكذا، ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "فإن التكفير لا يكون بأمر مُحتمل"[6]، فأين هذا من المُسارعة في تكفير من اختلف هذا الإنسان معه، والقتل والظنون والتوقعات وما إلى ذلك؟!، بأي حق؟، قد يكون هذا الذي تقتله من الجنود، أو من غيرهم أعظم إيماناً منك وتقوى لله وخوفاً منه، وهذا يوجد في طوائف الأمة على اختلاف أعمالهم ومهنهم، فتجد في عامة الناس وتجد في الجنود من هو مُخبت خاشع تقي لله -تبارك وتعالى، وهذا شيء مُشاهد، ولو كان فاسقاً فهل يجوز قتله والحكم عليه بالردة؟!.

ولهذا أقول: حديث حاطب هذا يستدعي التوقف والتريث والتفكير ألف مرة قبل أن يُقدم الإنسان على أمر يذهب بدنياه وقد يذهب بآخرته، ويموت هذه الميتة ميتة السوء، ويُختم له بخاتمة السوء، ويرجع بالفضيحة والعار على نفسه، ويكون أعظم العقوق على أهله وقومه وعشيرته وأسرته، هذا من أعظم الشرور والآثام، أين العقول إن لم يوجد العلم الشرعي؟!  

إذا لم يعرف العبد، ولم يكن له بصر بدين الله ، وما جاء به الرسول ﷺ، أين العقل؟ أما يرى هذه المفاسد بأنواعها التي لا أعلم مصلحة واحدة فيها، اللهم إلا من انكشاف باطل هؤلاء الذين يقومون بهذه الأعمال والإجرام، وما ينضاف إلى ذلك من انكشاف المنافقين الذين يستغلون مثل هذه الأحداث للطعن في دين الله  ، والطعن في علماء الأمة قديماً وحديثاً، والطعن في مقوماتها ومناهجها التعليمية وما إلى ذلك، وهم أول من يعلم كذب ذلك، أنه ليس بصحيح، وأن هؤلاء ما تخرجوا على هذه المناهج التعليمية، ولا تخرجوا على يد هؤلاء العلماء، وإنما تلقوا ذلك عبر وسائل معروفة لدى الجميع يصلون بها إلى مرادهم ويتلقون عن مجاهيل، بكُنى وأسماء لربما وهمية -الله أعلم- تحتها شياطين، يتلقون عنهم مثل هذه الجهالات.

ولذلك أقول: الكتابات في مثل هذه القضايا كثير منها ليس على الجادة، حتى من لم يكن من هؤلاء فإن كثيراً من الكتابات ليست على جادة صحيحة، تجد في بعض هذه الكتابات نزوعاً ظاهرًا إلى الإرجاء، ويأتي بكلام أهل العلم الذي يوافقه، ويترك ما عداه، وتجد الطرف المقابل الطرف الآخر يورد من كلام أهل العلم والنصوص ما يوافقه، وهذا كله من اتباع الهوى، وإن أحسنا الظن فغاية ما هنالك أن هذا من القصور في العلم، وجمع أطراف المسائل، وأقوال أهل العلم، فهذا الذي يحتج بقول هذا العالم الذي إذا رآه هذا الشاب الغِر الذي لا بصر له بكلام العلماء قال: ليس بعد هذا شيء، هذا كلام صريح وواضح، والواقع أن لهذا العالم من الكلام ما يجب أن يُضاف إلى الكلام الأول، هذا من جهة، فيعتدل النظر.

وهناك قضية في غاية الأهمية وهي أن كثيراً مما يحتج به هؤلاء من عبارات أهل العلم المدونة في بعض الكتب والفتاوى هي فتاوى في قضايا معينة، يعني: هي واقعة عين، فلا يصح تعميمها، وفرقٌ بين كلام العالم في مقام التنظير والتقرير، وكلام العالم في مقام الفُتيا في واقعة بعينها، فهذه لها مُلابسات قبل أن يوجد هذا الشاب لربما بمئات السنين، لا يعرف المُلابسات التي كانت موجودة، فمن الخطأ أن يأخذ من هذه العبارة أو هذه الفُتيا حُكماً عامًّا في جميع الأحوال، ولو كان ذلك لا يتنزل على المُلابسات التي كانت موجودة آنذاك.

إذا كان قول النبي ﷺ في بعض القضايا يحكم بعض أهل العلم بأنها واقعة عين لا عموم لها، كما هو معروف في كلامهم، بصرف النظر عن تصويب هذا في هذا المقام أو ذاك، لكن هي عبارة معروفة: واقعة عين لا عموم لها، فكيف بكلام غيره من فتاوى العلماء؟، فهؤلاء العلماء لو ضُم كلام الواحد منهم بعضه إلى بعض لاستبان وجه المسألة، وعُرف قوله فيها وفي نظائرها، ولكن هذا يأخذ بعبارة، وذاك يأخذ بعبارة من الطرف الآخر، فيقع بسبب ذلك تفرق واختلاف وتباعد بين هذه الأقوال والأفهام، وكلاهما يرجع إلى عبارة عالم معين، هذا موجود، لكن نحن سننظر في هذه النصوص، فاليوم هذا الحديث، وغداً -إن شاء الله تعالى- أورد سؤالاً آخر على حديث آخر بهذه الطريقة، فسؤال بعد سؤال يتبين في النهاية -إن شاء الله- أن الأمر ليس كما يظنه هؤلاء الشباب.  

هذا، وأسأل الله  أن يهدي الجميع للحق، وأن يفتح بصائرنا جميعاً، وأن يدلنا على مرضاته، وأن يعيذنا جميعاً من مُضلات الفتن، وأن يلهمنا رُشدنا، ويقينا شرف أنفسنا، وأن يكبت الأشرار، ويرد كيد الفُجار، والله المستعان.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، برقم (4274)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر  وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم (2494).
  2. الأم للشافعي (4/ 264).
  3. مجموع الفتاوى (7/ 522- 523).
  4. لم أجده بهذا اللفظ.
  5. الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 473-474).
  6. الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص:517).

مواد ذات صلة