الأربعاء 15 / شوّال / 1445 - 24 / أبريل 2024
[159] قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ..} الآية:198
تاريخ النشر: ١٩ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 2705
مرات الإستماع: 1467

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نواصل الحديث فيما يُستخرج من الهدايات من هذه الآيات من سورة البقرة، التي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها أحكام الحج؛ وذلك في قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [سورة البقرة:198].

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أي: ليس عليكم حرج أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وذلك بالتجارة في الحج، فَإِذَا أَفَضْتُمْ أي: دفعتم من عرفات بعد غروب شمس اليوم التاسع إلى مزدلفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ بأنواع الذكر من التسبيح والتلبية والدعاء والتكبير والتهليل عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وهو المزدلفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ على الوجه الصحيح المشروع الذي هداكم إليه، واذكروه أيضًا لكونه قد هداكم هداية الإرشاد، فبيّن لكم الذكر المشروع، والعبادة المشروعة، ومناسك الحج على ملة إبراهيم بعد أن غير المشركون فيها وبدلوا، وهداكم أيضًا إلى الدين الصحيح، ووفقكم لاتباعه، فهذا كله فضل من الله -تبارك وتعالى- يتطلب ذكرًا وشكرًا، يذكرهم بهذا وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أي: قبل هذا الهدى من الله -تبارك وتعالى- لَمِنَ الضَّالِّينَ في ضلال، لا تعرفون الحق، ولا تميزونه.

هكذا -أيها الأحبة- لما نهى الله -تبارك وتعالى- عن الجدال في الآية التي قبلها وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:197] كان ذلك مظنة للنهي عن التجارة؛ لأن التجارة يصير فيها من حضور النفوس، ومن حظوظها ما يتطلب المماكسة والمجادلة والمطالبة، ونحو ذلك، فهي تفضي في الغالب إلى النزاع في القيمة، أو السلعة، أو نحو ذلك، فبيّن أن هذه التجارة ليست بمنهي عنها في موسم الحج، ولكن الجدال هو الذي ينهى عنه.

وأيضًا لما أمرهم في الآية التي قبلها بتقواه قد يظن ظان أن ذلك يمنع من طلب الرزق في الحج والتجارة في موسمه، فجاءت هذه الآية مبينة أن الأمر بالتقوى الذي قد سبق ليس بمنافٍ للتكسب والتطلب لفضل الله -تبارك وتعالى- في موسم الحج، فهذا لا إشكال فيه، ما لم يشغل عن المقصود والمطلوب بالأساس، الذي هو عبادة الله -تبارك وتعالى، وأداء النسك.

فيكون مقصود العبد: طلب الرزق متوكلاً على الله، راجيًا فضله، دون أن يركن إلى نفسه، أو يثق بحذقه ومعرفته بألوان المكاسب، وما إلى ذلك، وإنما يطلب فضل الله.

فبيّن الله -تبارك وتعالى- في آيات الحج أحكام الحج، ثم أمر بعد ذلك بالذكر فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ثم بيّن أنّ الاشتغال بذكره هو المتعيّن، وهو المطلوب، دون أن يُشتغل بذكر غيره، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ فهو الذي هدى، وهو الذي يستحق الذكر.

وفي قوله بعد ذلك: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [سورة البقرة:200] فقد كانوا إذا رجعوا من عرفات، ووصلوا إلى المشعر منى، يتذاكرون الأحساب والأنساب والآباء والأجداد، ونحو ذلك، ويتفاخرون فيهم، ويذكرون مآثرهم، فأمرهم -تبارك وتعالى- أن يشتغلوا بذكره، فهو المتفضل المنعم الهادي، وهو صاحب الآلاء المتعددة، التي لا يحصيها العاد، ولا يمكن أن يستحضرها أحد من الخلق بوجوهها المتنوعة، الظاهرة والباطنة، فلو بقي العباد يذكرونه بالليل والنهار، فإنهم لا يوفون بحقه -جل جلاله وتقدست أسماؤه، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [سورة إبراهيم:34].

ثم ذكر بعد ذلك حال بعض الناس، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [سورة البقرة:200] فعلمهم الدعاء أن يقولوا: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] وذكر حظ أولئك من الدعاء، حيث اقتصروا على المطالب الدنيوية، ونسوا المطلوب الأعظم في الآخرة، من النجاة من النار، ودخول الجنة، فجاءت بهذا الترتيب، فكان المقدم هو ما يتعلق بالعبادة والنسك، وذلك الذي يحصل به عمارة النفوس، وترويضها على طاعة مليكها ومولاها ، ثم بعد ذلك يكون الاشتغال بالذكر، فيجمع بين الذكرين: ذكر الجوارح، وذكر اللسان، وما يرجع إليه كل واحد منهما، من ذكر القلب، الذي هو الأساس، ثم بعد ذلك يكون الذكر الثالث، وهو السؤال والدعاء، فمن حقق العبادة ظاهرًا وباطنًا فأشغل جوارحه بطاعة ربه ومليكه ، واشتغل لسانه بذكره، مع عمارة القلب بهذا الذكر، فمثل هذا إذا رفع يديه وقال: يا رب، فإن دعاءه لا يكاد يرُد، فيكون العبد جامعًا بين هذه الأمور الثلاثة جميعًا، ولا غنى للعبد عن واحد منها، فإن من عرف الله -تبارك وتعالى- في السراء عرفه الله في الضراء، والذي يعبد الله -تبارك وتعالى- في سني العمر، وفي أيام العافية، فإن الله -تبارك وتعالى- يعرفه في حال ضره، فيجيب دعاءه، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء، يعرفك في الشدة،[1] فهذا كله -أيها الأحبة- تربية لهذه النفوس بهذه العبادات المتنوعة، فيكون العبد متنقلاً بينها، فهو من عبادة إلى عبادة، ومن عبادة إلى ذكر، إلى سؤال ودعاء، وبهذا يحصل كمال العبودية.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:198] أن يكون الإنسان في بيعه وشرائه مترقبًا لفضل الله -تبارك وتعالى، راجيًا له، فإن هذا الرزق هو فضل من الله، فإذا أيقن العبد بذلك، واستشعره، فإن ذلك يحمله على التحقق بأسبابه من الاستغفار والتوبة، ونحو ذلك: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا [سورة الأعراف:96] فهذا الإيمان والتقوى يكون سببًا لأفضال الله -تبارك وتعالى، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [سورة الأعراف:96] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [سورة المائدة:66] وما يحصل للناس من الأرزاق، فإن ذلك من الله وحده، وإنما ينال ذلك بالتقرب إليه، وطاعته، والكف، والانزجار عن معصيته، ولا يكون ذلك بمحادته ومعصيته، وبالبطر بهذه النعم، والطغيان، والتضييع، والتفريط والغفلة عن طاعة المنعم المتفضل -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

هكذا من يريد أن يكون في حال من الرخاء والدعة والرزق الدارّ، فإن هذا -أيها الأحبة- له من المتطلبات ما لا بد من تحقيقه، وما يحصل للناس من نقص في أرزاقهم إنما ذلك بسبب ذنوبهم، وتقصيرهم في حق الله -تبارك وتعالى، فمثل هذا إنما يرفع بالتوبة، والإقبال على الله ، وليس بشيء آخر.

وانظروا إلى أحوال أمم كانت منعمة في القديم والحديث، والأنهار كانت تجري في تلك البلاد، ومع ذلك تحولت إلى بلاد يعمها الفقر والفوضى والخوف، والله -تبارك وتعالى- لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

وارجعوا إلى ما قبل نحو سبعين سنة في هذه البلاد، أو أقل أو أكثر، وانظروا إلى حال الناس كيف كانوا يبحثون عن شيء يأكلونه، ويسافرون هنا وهناك يطلبون الرزق، وما كان أحد يتوقع أن الناس يجدون في مثل هذه البلاد شيئًا يسد جوعتهم، ثم بعد ذلك تتحول بمدة وجيزة إلى بلد يقصدها القاصي والداني لكثرة ما فيها من الأرزاق والخيرات، وما يجدونه فيها من العلم والدين والإيمان والتوحيد، ونحو ذلك، فهذا يحتاج إلى وقفة واعتبار ونظر في الأسباب التي أوصلت إلى ذلك، وهي أشياء إذا تأملها الإنسان لا تخطر في باله، كان الناس ينتظرون الحجاج من بعض البلاد من أجل أن يأخذوا منهم الصدقات، وهذا شيء تعرفونه، ولا أحد يتوقع أن هذه البلاد القاحلة أنها تتحول إلى هذه الحال التي يتقلب الناس فيها بنعم الله -تبارك وتعالى- المتنوعة، حتى صار ذلك سببًا لدى بعض من لم يعرف نعم الله عليه أن يبطر بهذه النعم، كما ترون في بعض الصور التي لا تعمم، ولا يقال: إنها سمة للناس، وإنما ذلك لون شاذ، ولا بد من إنكاره ومعالجته.

فأقول -أيها الأحبة- فضل الله -تبارك وتعالى- إنما يطلب بالطرق الصحيحة التي توصل إليه، والرزق هذا ليس بمهارة العبد ولا بحذقة ولا قدراته ولا إمكاناته إطلاقًا، وإنما له متعلقات وأسباب لا تخفى، وما يعانيه الناس من شدة في المعايش، أو في الاقتصاد، أو نحو ذلك، في أي بلد كان، فالطريق في الخروج من ذلك هو تجديد الصلة بالله ، والإقبال عليه، والتوبة، والاستغفار، ولزوم طاعته.

وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة: 198] يدل على أن التشريك في النية في العبادة بأمر مباح على سبيل التبع: لا يؤثر فيها، بمعنى أن ذلك لا يكون ممنوعًا، وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أنواع التشريك في النية، وقلتُ: منه ما هو محرم يبطلها، قل أو أكثر، ومنها ما لا يكون كذلك، والناس في هذا على مراتب، فالمرتبة العليا؛ وذلك الإنسان الذي يفعل العبادة، ولا يلتفت إلى شيء بعد ذلك، فهو يصوم ويصلي ويحج ويجاهد ويطلب العلم لوجه الله، ليس له مطلوب ولو كان مباحًا ولو حصل على سبيل التبع، مثل الذي يحج وله تجارة يتكسب منها، وكالذي يجاهد ويريد أيضًا الغنيمة، ونحو ذلك، فهذا أعلى المراتب.

والمرتبة الثانية: هو الذي يعمل العمل يريد به وجه الله، ولكنه يلتفت إلى مطلوب مباح على سبيل التبع، فيحج يريد وجه الله ويريد التجارة، ويجاهد يريد وجه الله، ويريد المغنم، فهذا لا إشكال فيه.

المرتبة الثالثة: هو الذي يفعل هذه الأفعال ويريد الدنيا، وهذا الذي يروج هذه الأيام للأسف، قم الليل من أجل صلاح الأولاد، وصم من أجل أن يصح البدن، وصل من أجل تتحرك وتتمرن مفاصل معينة، ونحو ذلك، وتخرج لصلاة الفجر من أجل وجود غاز الأوزون، وهكذا في سائر العبادات، يعني يتعبد الناس من أجل هذه الأجساد والأجسام، والمطالب الدنيوية، فيخرج الزكاة من أجل أن ينمو المال، ويصل الرحم لينسأ له في أثره، فهو لا يريد إلا هذا، وهذا كما قال الله : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود: 15، 16] والنبي ﷺ يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[2].

والنوع الرابع: هو الذي يعمل لله، ولكنه يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه، وهو الرياء، أو السمعة، فهذا يبطل العمل ويفسده إذا دخل في أول العبادة، وإن دخل في أثنائها فإن دفعه كان عارضًا خاطرًا، فإن دفعه صحت على الأرجح، وإن استرسل معه بطلت العبادة، هذا في العبادات التي تركب بعضها على بعض، كالطواف في أشواطه، والصلاة في ركعاتها، بخلاف: قراءة القرآن، فلو قرأ وجهًا يريد وجه الله، فدخل داخل فتحولت نيته، فله ما قرأ أولاً، وعليه ما قرأ بعد ذلك.

وحديث: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار[3]، وهم قارئ ومجاهد ومنفق، فهؤلاء الثلاثة، ثم تأتي بعد ذلك مرتبة خامسة، وهي أسوأ مما قبلها، وهو أن يعمل لا يريد إلا الرياء والسمعة، ويقرأ فقط؛ ليقال: قارئ، ويتعلم العلم ليقال: عالم، وينفق ليقال: جواد، فهذا قد تمحض عمله للرياء، وهذه خمس مراتب فيما يتعلق بالتشريك بالنية.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة: 198] توسعة الله -تبارك وتعالى- على عباده، فيظهر من هذه الآية رحمته بهم، حيث أباح لهم التكسب في الحج، فالله -تبارك وتعالى- جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس، وهذا القيام الأقرب أنه يشمل قيام الدين، وقيام دنياهم، فيحصل لهم بهذه الكعبة والبيت الحرام من قيام الدين وظهوره، طالما أن هذه الكعبة قائمة، وهذا البيت يقصده الناس، وأيضا تقوم به معايشهم ومصالحهم من وجوه مختلفة، بما يحصل لهم من الاجتماع والتشاور، ويلقى بعضهم بعضًا، ويتعارفون، وينقلون أنواع التجارات، فينتفع الوافد على هذا البيت، وينتفع أهله؛ وذلك باب واسع، ويمكن أن يوسع أيضًا، ويكون لهم من الاقتصاد والتجارة ما لا يقادر قدره، مما لا يمكن أن يحصل لأحد من أهل الدنيا.

فهذا البيت الحرام يتمنى الناس القرب منه، ويمكن أن تأتي بأدق التخصصات في العالم والخبرات في جميع المجالات، وقد لا يطلبون كثيرًا من المال كل ذلك من أجل هذا البيت، وتستطيع أن تأتي بأبناء المعمورة بالأذكياء النجباء بالنابغين، فتعلمهم، ثم يذهبون، وينشرون العلم بتخصصاته المختلفة، وهم مغتبطون بذلك، مما لا يستطيعه أحد إطلاقًا، وإذا كان ذلك ممن يحمل عقيدة فاسدة يزايد عليها أهل الحق، ويشغب عليهم في حجهم ومناسكهم، ونحو ذلك، فإنه لا يمكن أن يقف أمام هذه القوة، سواء كانت في مجال الدين والاعتقاد، أو في مجال الدنيا والاقتصاد، والعلم، ونحو ذلك، ولعله يأتي مناسبة -إن شاء الله- أتكلم على هذا بشيء من التفصيل، لكن هذا يدل على سعة رحمة الله وفضله، فهذا الموسم لم يفوت عليهم، وإنما له أن يأتي بما يتكسب به، وأهل البيت ينتفعون، فيفد عليهم هؤلاء، وتقوم تجاراتهم ومصالحهم وينتفعون، ويحصل لهم من المكاسب ما لا يخفى.

وفيها أيضًا ربط الأسباب بالمسببات: فالله -تبارك وتعالى- لو شاء لأنزل الرزق على عباده من غير كد ولا تعب، ولكنه جعل لذلك أسبابًا بالتجارة، ونحوها، فأباح لهم ذلك، وهم في حال العبادة أيضًا، مما يدل على أن هذا الدين لا يجعل من أهله قاعدين، لا يعملون، ولا يجدون، ولا يأخذون بأسباب القوة، وإنما هم أهل عبادة، وأهل جد وعمل بالأسباب.

وفي قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة: 198] يدل على أن المشعر الحرام -وهو مزدلفة- موضع للذكر والحج، وإنما أقيم الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، ونحو ذلك لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى، كما دل على ذلك حديث رسول الله ﷺ، فينبغي أن يكثر العبد من ذكر الله في الحج، ومن مواطن الذكر: عند المشعر الحرام في مزدلفة، وذلك بعد صلاة الصبح حيث صلاها النبي ﷺ بغلس يعني في أول الصبح في الظلام، قبل أن يسفر، ثم رفع يديه، وجعل يذكر ويدعو حتى أسفر جدًا، ثم انصرف إلى منى قبل طلوع الشمس، فهذا من مواطن الذكر التي ينبغي الحرص عليها، ولا يشغله عن ذلك تسارع الناس للخروج، ونحو هذا، فإن مثل هذه المقامات ينبغي أن يحرص العبد عليها، إلا إذا كان معه ضعفة يخشى عليهم. ويُؤخذ من هذه الآية: أن الذكر المشروع هو الذكر الذي شرعه الله -تبارك وتعالى، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يحتمل معنيين:

المعنى الأول: اذكروه كما هداكم، يعني على الصفة التي شرعها وبينها لكم، فإن الله لا يعبد إلا بما شرع، فهذا يكون في أنواع العبادات التي منها الذكر باللسان، فليس لأحد أن يخترع من عنده أورادًا وأذكارًا، ويشتغل بها ويوقت لذلك أوقاتًا، أو مواضع، أو أحوال، فهذا غير صحيح، وإنما يذكره كما شرع.

ويشمل أيضًا المعنى الآخر: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يعني في مقابل هدايته لكم، فكان اللائق أن تذكروه، فيكون هذا الذكر من قبيل الشكر، وكذلك هدانا لدين الإسلام، كأنه يقول: إنما أمرتكم بهذا الذكر لتكونوا شاكرين لتلك النعمة، وهداكم للعبادة ونوعها وصفتها من الذكر وغيره، وهداكم أيضًا إلى الإسلام.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [سورة البقرة: 198] أن عرفة هي مقام للذكر والدعاء، وقد وقف النبي ﷺ بعد ما صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا جمع تقديم، عند الصخرات، مستقبلاً القبلة، ورفع يديه حتى غابت الشمس، وهو على راحته ﷺ، فهذا موقف للابتهال والدعاء والذكر، ومع ذلك إذا انصرفوا من عرفات انصرفوا من ذكر وطاعة وعبادة عظيمة جدًا، يؤمرون بالذكر، فهذه المواسم مع ما فيها من الذكر والعبادة إلا أن ذلك لا يعني أن يتوقف العبد عن ذكر الله فيها، فهو يذكره في الطريق ملبيًا ومكبرًا ومهللاً، وكذلك يذكره في هذه المواضع التي يشرع فيها الذكر، فكيف إذا كان في مجلس غفلة، أو في حال نزهة، أو في حال سوق وتجارة وبيع وشراء، إذا كان بهذه العبادات العظيمة يؤمر بالذكر المتتابع، فهذا يدعونا إلى أن تكون الألسن مشتغلة دائمًا بذكر الله .

وأيضًا في هذه الآية: تذكير الإنسان بحاله السابقة، وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [سورة البقرة: 198] فلا تقل: أنا مستقيم ومتدين وملتزم، وأنا حججت عشرات المرات، وأنا لا يفوتني الموسم ونحو ذلك، لا بد أن يستحضر الإنسان نعمة الله عليه، بأن هداه ووفقه وألهمه رشده، ويسأل ربه القبول والثبات، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وكان النبي ﷺ يكثر أن يقول في سجوده: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[4]، فلا يزال العبد مخبتًا يخاف على نفسه من أن يقلب قلبه، ويصرف عن الحق، فلا يكون في قلبه أدنى التفات إلى نفسه وعمله، فيكون معجبًا بذلك، فيحبط هذا العمل.

هذا وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا...

  1. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (2803) وقال محققو المسند: "حديث صحيح".
  2. أخرجه البخاري في كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟ برقم: (1) ومسلم في كتاب الإمارة بقوله قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية برقم: (1907).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار برقم (1905).
  4. أخرجه الترمذي في أبواب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم: (2140) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة