الثلاثاء 14 / شوّال / 1445 - 23 / أبريل 2024
(204) تتمة قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ..} الآية:253
تاريخ النشر: ٠٢ / رجب / ١٤٣٧
التحميل: 757
مرات الإستماع: 1255

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنواصل الحديث فيما كنا في من استخراج الهدايات من هذه الآية الكريم في سورة البقرة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [سورةالبقرة:253].

من جملة الهدايات التي تُستخرج من هذه الآية الكريمة وذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، في البداية قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فهذا يدل على أن بعضهم أكمل مرتبة وأعلى درجة من بعض، فقوله -تبارك وتعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ فهذا تفصيل للإجمال في التفضيل المذكور في أول الآية.

فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، ما نوع هذا التفضيل، التفضيل أحيانًا يكون بالشريعة المعطاة للرسل، وقد يكون ذلك بما هو عليه من العلم، وقد يكون ذلك بما هو عليه من العبادة والعمل والدعوة، وقد يكون ذلك بكثرة المستجيبين له من أتباعه من أمته كما هو الحال في نبينا ﷺ فهو أكثرهم تابعًا، فقد كان أتباع موسى خلق كثير، فهذا كله من وجوه التفضيل.

وقد يكون ذلك بما أعطيه الرسول من الآيات والبراهين والدلائل الدالة على صدقة.

وقد يكون ذلك بحسب الكتاب الذي أُنزل عليه، فالنبي ﷺ أعطي القرآن وهو أعظم الكتب، وأجلها، وأشرفها.

فقوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، هذا يدل على التفضيل بإطلاق.

وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، يدل على أن هذا التفضيل هو من قبيل رفع بعض الرسل على بعض في الدرجة، فهم متفاوتون متفاضلون في درجاتهم، ومن ذلك ما شاهده النبي ﷺ ليلة المعراج مما لقيه النبي ﷺ في السماوات فقد لقي جماعة من الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ هذا مُطلق فيشمل ذلك الدرجات العلمية، وكذلك يشمل الدرجات الحسية في منازلهم في السماوات ومنازلهم في الجنات، فالنبي ﷺ ذكر في ما أمر به أمته أن يسألوا له الوسيلة والفضيلة، وأخبر أنها منزلة لا تنبغي إلا لواحد وكان ﷺ يرجو أن يكون ذلك الواحد، فبلغه الله أعلى المراتب، وفي ليلة المعراج بلغه أيضًا سدرة المنتهى.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- بعده: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- آتاهم الله البينات وأيدهم بجبريل ولكن وصِف عيسى على سبيل الخصوص بهذين الوصفين ربما والله أعلم ردًا على اليهود الذين أنكروا نبوته ورسالته والآيات التي أعطاها الله له، وهذا الإنكار حصل مع جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ولكن لما كانت تلك الأمة أعني اليهود حاضرة في وقت التنزيل وهم ألد الأعداء لهذا الدين ولرسوله الكريم -عليه الصلاة والسلام- فلا جرم جاءت هذه الردود عليهم صراحة وكذلك أيضًا من غير تصريح.

وهكذا أيضًا حينما يُذكر مُضافًا إلى أمه كما أشرت سابقًا، فهذا كما قلنا هو النبي الوحيد الذي يُذكر مُضافًا إلى أمه بل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لم يُذكر أحد منهم في القرآن مُضافًا إلى أبيه، وإنما يُذكر باسمه المفرد، فهنا في ذلك رد على اليهود الذين اتهموه بأسوأ التُهم واتهموا أمه فجاء ذكرها في أشرف كتاب على أشرف أمة، وكذلك أيضًا جاء ذلك -والله أعلم- تذكيرًا بالمعجزة: ولد من غير أب، عيسى بن مريم، وفيه رد أيضًا على النصارى الذين غلوا فيه وزعموا أنه إله، أو أنه ثالث ثلاثة، فالله -تبارك وتعالى- يذكر أنه أيده بروح القُدس، أيده بمخلوق وهو جبريل ، والإله لا يحتاج إلى تأييد وتقوية بملك أو غير ملك، فدل على أنه عبد لله -تبارك وتعالى- مربوب مخلوق وليس بإله، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والخلق عمومًا مهما كانت قوتهم هم بحاجة إلى تأييد الله -تبارك وتعالى- لهم، أما الله فهو غني عن خلقه أجمعين: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني[1]، فالخلق أدنى من ذلك وأقل.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، فكرر ذلك وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا، فهم لا يفعلون ذلك بعيدًا عن إرادة الله ومشيئته، فالملك ملكه، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، وهذا فيه رد على نفاة القدر الذين يقولون بأن الإنسان يخلق فعله بعيدًا عن إرادة الله وتقديره ومشيئته، فالله -تبارك وتعالى- شاء، وعلم قبل ذلك، وكتب، وخلق كل هذا كما هو معلوم، وأراد.

فالمقصود أن كل ما يقع في الكون ولو كانت أمورة مكروهة فإن ذلك بإرادة الله ، وذلك وفق علمه وحكمته، فله في ذلك الحكمة البالغة، فإذا تقاصرت العقول دون إدراكها فينبغي على العبد أن يرجع إلى هذا الأصل الكبير وهو أن الله عليم حكيم.

قد لا يُدرك الإنسان الحكمة من وقوع بعض الأشياء، الحروب والنزاعات والقتال ونحو ذلك، لكن الله شاء ذلك وأراده لحكمة يعلمها، وبذلك تظهر معاني أسماءه -تبارك وتعالى- فيظهر من قوته ونصره لأهل الإيمان، ويظهر من جبروته وانتقامه، ويظهر أيضًا من حلمه فهو لا يُعاجل بالعقوبة ويظهر من ألطافه ورحمته لأوليائه، إلى غير ذلك مما يحصل به الميز بين الناس، ويحصل فيه الابتلاء بين الخلائق، وما إلى ذلك من المعاني.

لكنه ذكر هنا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا [سورةالبقرة:253]، فقوله: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، هذا يدل على أن هذا الشقاق والنزاع والشر الواقع بين هذه الخليقة أن ذلك إنما كان بعد مجيء البينات، يعني: لم يكن ذلك على وجه كانوا فيه جاهلين بأمر الله -تبارك وتعالى- ومحابه ومساخطه وشرائعه إنما وقع هذا الاختلاف من بعد ما جاءتهم البينات.

وقد ذكر الله -تبارك وتعالى- في مواضع أخرى أن ذلك من أجل البغي، والبغي هو العدوان، وهذا البغي هو سجية لكثير من النفوس إذا حصل لها قوة أو غلبة أو ظهور أو نحو ذلك فإن الكثيرين لا ينفك عن هذا البغي إلا من عمر الله قلبه بالتقوى ومراقبته، والخوف منه، وإلا فإن هذا البغي قد يكون باللسان وقد يكون بالبنان بالكتابة، وقد يكون ذلك بالبطش إذا تمكن واستطاع.

فهذا كله من الأفعال والصفات القبيحة المذمومة، وهذا الاختلاف الذي يقع بين طوائف الخلق والبشر، وكذلك بين طوائف هذه الأمة الاختلاف المذموم الذي يورث التدابر والتقاطع والبغي والاقتتال وما أشبه ذلك هذا لا شك أنه كان بعد مجيء البينات، وكان ذلك هو السبب في شرور وآفات ومصائب وقعت عبر التاريخ ولا زالت تقع، ولو أن الناس رجعوا إلى الله بتجرد ورجعوا إلى كتابه وسنة رسوله ﷺ رجوعًا صحيحًا، واتقوا الله -تبارك وتعالى- فيما يأتون وما يذرون، ومن لا يُحسن النظر فإنه يُمسك لسانه ويده، وكذلك أيضًا من يجهل يرجع إلى العلماء الراسخين فإن ذلك يمكن أن يُفضي بأصحابه إلى خير، وإلى رحمة، وألطاف من الله وتقدست أسماءه، وهذا يدل على كل حال إلى سوء مغبة الاختلاف، الاختلاف المذموم: وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا، هذا الاختلاف هو الذي أدى إلى الاقتتال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا.

فالاختلاف يورث القتال فضلاً عن العداوات والشرور والبغي بين الناس والتدابر والتقاطع، وقد نهى النبي ﷺ عن كل ما يؤدي إلى هذا، نهى عن التدابر والتقاطع، ونهى عن التهاجر، وأمر أن يكون الناس وكونوا عباد الله إخوانا[2]، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسلمه[3]، وهذا هو اللائق بين أهل الإيمان.

وعلمنا ﷺ أن كف الأذى صدقة، يعني: الذي لا يُحسن يُقدم النفع والخير للناس فكف الأذى هذا باب من أبواب الصدقة.

وكذلك أيضًا هنا في هذا الموضع: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، يعني: حتى مع وقوع الاختلاف لو شاء الله ما اقتتلوا، فهذا أمر قدره الله ، والسعيد من كان في ركاب الحق وسلم المسلمون من لسانه ويده، فذلك هو المسلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده[4].

ويؤخذ من هذه الآية: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، أن إرادة الله نافذة في هذا الخلق، فلابد أن يتحقق مقتضاها، ولا يوجد في هذه الدنيا كما ذكر ذلك أهل العلم شر محض، ولا يوجد خير محض، وإنما ذلك باعتبار ما غلب، فما غلب فيه النفع والخير كان ذلك مشروعًا، وما غلب فيه الشر والفساد والضُر كان ذلك مذمومًا.

هذا، -والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، برقم (6064)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر، برقم (2558).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، برقم (2442)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2580).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، برقم (10)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، برقم (2558).

مواد ذات صلة