الأربعاء 15 / شوّال / 1445 - 24 / أبريل 2024
(229) قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ..} الآية:268
تاريخ النشر: ١٥ / شعبان / ١٤٣٧
التحميل: 904
مرات الإستماع: 1424

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة سورة البقرة هذه الأمثال المضروبة بالنفقات لمن يبتغي بذلك وجه الله -تبارك وتعالى، وكذلك لأولئك الذين يعرِّضون هذه النفقات للمُبطلات من المقاصد الفاسدة وكذلك المنّ والأذى ذكر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة البقرة:267].

لما بين لهم المرغبات في الإنفاق وأنها مخلوفة وضرب فيها الأمثال أرشدهم بعد ذلك إلى ثمرة هذا الترغيب وهو الإنفاق من الطيبات، وأن لا يتقصدوا الرديء والخبيث منه، سواء كان ذلك في مكاسبه، أو كان ذلك في نوعه وجنسه ومرتبته، لكن الشيطان يوسوس لابن آدم ويخوفه من الإنفاق، ومن إخراج الجيد، ومن هنا قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:268]، فالذي يحول بينهم وبين إنفاق طيبات المكاسب هو الشيطان.

فقوله -تبارك وتعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [سورة البقرة:268]، يعني: أن الشيطان يعدكم الفقر يعني يخوفكم الفقر في المستقبل، فيجعل ذلك ماثلاً أمام أعينكم، الصغير منكم والكبير، الرجل والمرأة، يعدكم الفقر، فإذا أراد الإنسان، هَمَّ أن يُنفق أو يصل الرحم جاءه الشيطان وخوفه من عواقب ذلك من الحاجة والفقر، وأنه قد يفتقر بسبب هذا الإنفاق فيُغريه بأن يكون حارسًا على المال شحيحًا.

وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، والجمهور فسروا الفحشاء في هذا الموضع بالبخل وإلا فإن أصل هذه المادة الفُحش والفاحش ونحو ذلك يقال: للشيء الكثير يقال ماء فاحش، ويقال: الذنب الفاحش هو الذنب العظيم والذنب الكبير، ففواحش الإثم هي الكبائر؛ الذنوب العِظام، ويقال أيضًا: لبعض أنواع كبائر الذنوب بطريق العُرف الاستعمالي الغالب لنوع من أنواع الكبائر وهو الزنا وما في معناه الفاحشة، لكن السياق في كل مقام يُبين المراد، ولهذا قالوا في قوله -تبارك وتعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [سورة الأحزاب:30]، فُسرت هنا بعقوق الزوج.

وفسرها بعضهم بغير ذلك يعني الفاحشة المعروفة وحاشاهن من ذلك، ولكن المعلق على شرط كما هي القاعدة لا يقتضي وقوعه، قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81].

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- في المعتدات من المطلقات وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [سورة الطلاق:1]، فسرها جمع من السلف فمن بعدهم بأن الفاحشة هنا المقصود بها هي التطاول على الزوج والأحماء والأذية لهم، آذتهم هذه المطلقة في العدة فله أن يذهب بها إلى بيت أهلها ليتخلص من آذاها، هذا ذكره بعض أهل العلم وليس محل اتفاق.

فالمقصود أن الفاحشة والفحشاء هي بحسب السياق فهنا: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، يُغري بالفحشاء يأمر بها، يُزينها، فهذا يدخل فيه ما ذكره الجمهور من البُخل، والبُخل لا شك أنه فاحش كما قال الشاعر:

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد[1].

يقول: الموت لا يُبقي يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش، يعني: البخيل المتشدد الشحيح المتمسك بالمال، الموت لا يُبقي لا على هذا ولا على هذا، فسماه فاحشًا، فالعرب تسمي البخيل فاحشًا.

فهنا: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، يدخل فيه البخل دخولاً أوليًا ولكن أيضًا فإن الشيطان يأمر بالفحشاء بالذنوب العظام ويأمر بالقبائح، ويأمر أيضًا بالفواحش من الكبائر كالزنا ونحوه مما يُدنس الأعراض ويُقذر الفُرش، ويحصل به اختلاط الأنساب، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، وكل ذلك يدخل فيه -والله تعالى أعلم، فالقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً، يعدكم على الإنفاق مغفرة منه وفضلاً منه -تبارك وتعالى- من الرزق الواسع، وألوان الجزاء في الدنيا والآخرة، مغفرة، والمغفرة الغفر عرفنا أنه يعني الستر والوقاية، الله يعد عباده مغفرة منه وفضلاً، فالمغفرة من باب التخلية تُحط عنهم الذنوب ويسلمون من تبعاتها، والفضل الفضل من الله بالإنعام والرزق والعطاء والغنى والخيرات في الدنيا والآخرة، ومن ذلك دخول الجنات وألوان النعيم التي تحصل لأهل الإيمان.

وَاللَّهُ وَاسِعٌ، واسع العطاء واسع الغنى واسع الفضل، عَلِيمٌ عليم بالمنفقين وعليم بالنيات والمقاصد والنفقات والأعمال.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، ما يحصل من عمل الشيطان، وهذا التعاقب كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "بأن الملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار"[2]، فمن الناس من يكون ليله أطول، ومن الناس من يكون نهاره أطول، ومنهم من يكون زمنه نهارًا، ومن الناس من يكون زمنه ليلاً؛ يعني مستديمًا، فهذا كله بسبب ما حصل له من طاعة الشيطان أو طاعة الملك.

فهذا الذي يُطيع الشيطان وما يوسوس به وما يزينه يطول ليله، يطول ليله بمعنى أنه يكون في حال غير مرضية من الإعراض عن طاعة الله والوقوع في معصيته فذلك ظلمات كما ذكرنا في قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ، ظلمات الجهل، ظلمات الشرك، ظلمات الشك، ظلمات النفاق، ظلمات المعصية، كل هذه ظلمات، إِلَى النُّورِ، نور الإيمان، ونور العلم، ونور الطاعة، فهذه أنوار، فهنا هذا التعاقب يحصل لهذه القلوب.

كذلك هذه العِدة الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، فهذا وعد الله -تبارك وتعالى: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً، وذاك وعد الشيطان الفقر والفحشاء، فلينظر البخيل والمنفق كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله[3]: أي الوعدين هو أوثق عنده، وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه، يطمئن لوعد الشيطان أو تطمئن إلى وعد الله -تبارك وتعالى، هذا يأمرك بالفحشاء والفقر ويعدك الفقر والله يعدكم مغفرة منه وفضلا.

كذلك أيضًا في هذا التقابل ينبغي للإنسان أن يلتفت إلى قلبه عند النفقة وينظر هل هو مُصغٍ لوعد الشيطان عند النفقة أو هو مُصغٍ لوعد الله فهذا يكون بحسب ثبات القلب واليقين إذا كان فيه راسخًا كما قلنا في قوله -تبارك وتعالى- في آية مضت: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة:265]، يعني: حينما يخرجون هذه النفقات فإن ذلك قد يحصل للإنسان معه شيء من الاضطراب والتردد ويأتيه الشيطان ويُقلقه ويُزعجه ويخوفه، فهنا يحتاج العبد إلى تثبيت كالمقاتل في أرض المعركة، قد يحصل له انزعاج واضطراب وخوف فيجبُن فكذلك عند النفقة قد يجبُن ويتراجع، وقد يُقللها، وقد يحتاج إلى حسابات وتفكير، ونحو ذلك، فهذا كله من عمل الشيطان.

فينظر العبد إن وجد في قلبه ميلاً لوعد الشيطان وإعراضًا عن وعد الله مع أن الله واسع غني واسع الغنى وواسع الجود وواسع العطاء ومع ذلك يُصدق وعد الشيطان فمثل هذا يدل على ضعف اليقين عند العبد، وضعف الإيمان؛ لأن تسلط الشيطان يكون على الإنسان بحسب إيمانه وتحقيقه للعبودية إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [سورة الحجر:42]، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، يعني: إن عبادي أهل العبودية الخاصة، ليس لك عليهم سلطان، فبقدر ما يتحقق من العبودية ينتفي تسلط الشيطان فلا يكون له سبيل على العبد فإذا ضعُفت عبودية القلب، عبودية العبد فإنه يكون بعد ذلك عُرضة للشيطان يتلاعب به في كل سبيل.

الشيطان لا يترك أحدًا، وانظر إلى هذه الحال التي ذكرها الله : الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، قلق تجد عند هؤلاء الناس الصغير والكبير هذا الذي يدرس يُفكر أنا أين سأجد عمل؟ من أين سأجد دخلاً؟ أين سأتوظف؟ أين سأكون؟ كيف سأتزوج؟ كيف سأبني دارًا؟ كيف سأكون أسرة، من أين سأنُفق عليهم، من أين سأشتري لهم سيارات، من أين سأزوج هؤلاء الأولاد؟ فالفقر بين عينيه، دائمًا يفكر فيه.

والغنيُّ هو كذلك هو في خوف دائم من اختلاف الأسواق، واضطراب أيضًا الاقتصاد ويخوفه الشيطان دائمًا من مثل هذه العوارض والأمور التي تقع للناس، فيكون هذا الإنسان دائم الخوف وهو غني لا ينام الليل، وكثير من هؤلاء قد يُراجعون مصحات نفسية وهم أثرياء لا ينام الليل وهو غني؛ لأنه يشعر بالقلق الدائم، وهذا القلق يجعل هذا الإنسان الغني في كثير من الأحيان لا يعطي أقرب الناس إليه حتى أولاده، أولاده أقرب الناس إليه بحاجة إلى سيارات، بحاجة إلى بيوت، بحاجة إلى زواج، بلغوا سن الزواج قد لا يعطيهم إلا من رحم الله ، من فتح عليه وهدى قلبه وخلصه من الشُح وإلا فكثير من الأغنياء قد لا يعطي أقرب الناس إليه أولاده؛ لأنه يتخوف الفقر.

ولهذا كثير من الناس لا يجود بالنفقة إلا إذا مات صارت الدنيا وراء ظهره وجدوا في وصيته الثلث أو الرُبع أو غير ذلك، وقد يكون قبل ذلك يمنع الزكاة، الزكاة يمنعها فضلاً عن غيرها؛ لأنه يعيش مع هذا الوعد الشيطاني، وهذا العدو الشيطان يعدكم الفقر، هذا القلق الذي يوجد عند أكثر الناس وفي المجتمعات هو من الشيطان، الخوف من المستقبل: يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، يأمركم بالبخل، أن يبخل الإنسان، أن يحرز ماله.

وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً، هذا ضمان من الله -تبارك وتعالى، فإذا وجد العبد أن يده تنقبض عند النفقة فمعنى ذلك أنه مُصدق لوعد الشيطان.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذا الموضع: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، أنه ليس هناك طريق إلا طريق الله أو طريق الشيطان، ليس هناك سوى وعد الله، أو وعد الشيطان فليختر العبد إما أن يكون موقنًا بوعد الله، وإما أن يكون مصدقًا بوعد الشيطان، فحينما نبخل حينما نمتنع عن النفقة، حينما نبحث عن الريال من بين الفئات النقدية لنعطي هذا المحتاج والفقير هذا كله من الشيطان، ولربما أخطأ الإنسان وأخرج عملة أخرى وأكبر وأعطاها لهذا السائل أو الفقير فإذا اكتشف هذا ندم وشعر أن هذا وقع بالخطأ ولربما تردد وراجع نفسه أن يرجع مرة أخرى إلى هذا الفقير، ويقول له: هذه بالخطأ هات كنت أريد أن أعطيك أقل من هذا -والله المستعان.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذا الموضع: عداوة الشيطان لابن آدم، يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، هو يأمرك بما يضرك، يما يُقعد العبد عن طاعة مولاه بما يُصيره إلى حال من الإفلاس في عمل الآخرة، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس، فهذا حال الشيطان هذا العدو، وإذا كان الإنسان متصفًا بهذه الصفة يأمر بالفحشاء يأمر بالبخل ويعد الناس الذين ينفقون بالفقر، لا تضيعون أموالكم تحتاجونها غدًا، وإذا أراد أحد أن ينفق ضاق صدره فمثل هذا يكون قد أشبه الشيطان بفعله هذا، ومثل هذه الأمور تجعل الإنسان يتبصر ويعلم أن هذه المخاوف التي تقع في قلبه أنها لا شيء، وإنما هي من كيد عدوه، وكيد الشيطان ضعيف.

هذه المخاوف سواء كانت في هذا الباب العِدة بالفقر، أو كانت في أمور أخرى مما يتخوفه الناس، كل هذا من الشيطان، والإغواء والإغراء بالمعصية والتزيين كل ذلك من الشيطان، فالشيطان يزين، ويسول للعبد، ويغويه، ويُغريه بالمنكر، فينبغي على العبد أن يعصيه، كذلك يأتيه بالوساوس، الوساوس المقلقة في ذات الله فتجد هذا الإنسان لا ينام الليل، وفي حال من الحسرات والحزن والبؤس وليس به بأس، قد قطع عليه النبي ﷺ الشيطان: ذاك صريح الإيمان[4]، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[5]، انتهى، لا تضره في إيمانه وهكذا يزعجه ويقلقه في عبادته في صلاته في طهارته، فيوسوس له فيبقى في قلق دائم وفي عذاب يتمنى الموت معه، هذا من الشيطان.

وهكذا قد يتلاعب به الشيطان فلربما أشعره بعلل وأوصاب وأمراض أنها قد حلت به فينبغي قطع الطريق: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا [سورة التوبة:51]، الذي كتبه لنا مولانا، أكثر من هذا، هو مولانا إلا ما كتبه الله لنا، ما كتبه علينا لنا، عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له[6]، فلماذا الإنسان يطيع الشيطان ويستجيب ولربما ليس به بأس؟!

يعني: بعض الناس لربما لو رأى أدنى الأشياء ذهب يقرأ في محركات البحث، ويضع هذا الشيء الذي تلامسه في جسده ثم يأتيه أشياء لربما تقرب الموت إليه من ساعته، وأنه قد حل به الداء الدفين، والموت الذي لا يُمهله، ويبقى هذا الإنسان في حال من التعب والشعور بالمرض والمعاناة ولربما بدأ يشعر بأعراض تلك الأمراض التي قرأها في تلك المواقع التي -الله أعلم- عن صحة هذه المعلومات فيها فيُمرض نفسه، وهكذا هو في قلق دائم، أو عند مُعبري الرؤى، فالشيطان إذا ما استطاع أن يغويه وأن يغريه باليقظة جاءه في المنام وأراه الرؤى السيئة فيبقى حزينًا، مع أن النبي ﷺ أخبر أنها لا تضره، يعني: الرؤيا السيئة من الشيطان وأنها لا تضره، فيُقطع الطريق على هذا الشيطان، وهذا أيضًا يدعوا النفوس إلى التفاؤل.

وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً، فهذه المغفرة منكرة، والتنكير هنا يدل على التعظيم، يعني هي مغفرة عظيمة وهذه المغفرة أيضًا منه، فإذا أُضيف ذلك إلى العظيم الأعظم فلا تسأل عن هذه المغفرة وعن عِظمها وعن سعتها؛ لأنها من الله مغفرة منه، فما قيمة ما يزينه الشيطان العدو الذي أخرج أبانا من الجنة وتوعد الذرية لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً [سورة الإسراء:62]، لأحتنكن يعني لآخذنهم من الحنك، عدو يتوعد ويتهدد ثم بعد ذلك يُطاع ويُستجاب له ويُصدق وعده ويُشك في وعد الله -تبارك وتعالى، فينبغي على العبد أن يُحسن الظن بربه -تبارك وتعالى، ويبذل، ويُنفق، وينطلق ويعمل في طاعة الله ولا يلتف إلى خواطر الشيطان ووساوس الشيطان، والقلق الذي يجعله ويوقعه في نفسه فتذهب سحابة العمر في قلق بعد قلق بعد قلق وهو في عافية الله -تبارك وتعالى، هذا القلق والحزن هو نقص في حياة الإنسان، هو نقص في كمال الحياة، هذه الحياة القلقة حياة ملؤها الكدر.

كذلك أيضًا هذه الآية: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، تدل على عمل الشيطان، وتأثير الشيطان على سلوك الإنسان، ما الذي يجعل هذا الإنسان يُقدم، وما الذي يجعل هذا الإنسان يُحجم؟ ما الذي يجعل هذا الإنسان يبخل؟ ما الذي يجعل هذا الإنسان يجود؟ كذلك الوقوع في المعصية.

وقوله: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً، الشيطان يعدكم الفقر معناه يتوعد فالوعد يأتي لهذا للخير والشر، وهذه الآية تدل على هذا، ولكنه في بعض الاستعمال العرفي قد يُقال: الوعد للخير، والوعيد للشر.

وإني وإن وعدته لمُنجز إيعادي ومخلف موعدي[7].

هذا اصطلاح وإلا فالوعد يأتي للخير ويأتي أيضًا للشر.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ لم يقل: الذي يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء هو الشيطان، لا لا، ابتدئ به هذا الاسم الكريه وهذا العدو رقم واحد العدو ذو العداوة القديمة المتجذرة التي لا ينفع معها المصانعة، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، مباشرة ليكون ما يُضاف إليه من النسبة: يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ من أجل أن تعرف قيمة هذه الأشياء بمجرد إضافتها إلى الشيطان، المصدر هو الشيطان فدع عنك هذه الوساوس، ودع عنك هذه المخاوف، ودع عنك هذا القلق، والله -تبارك وتعالى- يعدك المغفرة والفضل، والفضل واسع، وألطافه واسعة وهي في الدنيا وفي الآخرة، فيُصدق العبد بوعد الله ولا يُصدق بوعد الشيطان.

كذلك أيضًا: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ واسع الجود، وواسع العطاء، وواسع الغنى، وواسع الفضل فذلك يبعث على الطمأنينة، ويكون الإنسان يُنفق وهو طيب النفس مطمئن الضمير لا يكون حال أولئك الأعراب من المنافقين الذين لربما أنفق الواحد منهم: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [سورة التوبة:98]، هو يشعر أنها مقطوعة من قلبه غير مخلوفة، فهو يُخرجها كارهًا يدفع تهمة، ونحو ذلك.

وكذلك أيضًا: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:268]، واسع عليم، يعني مع سعة صفاته وسعة عطاءه وسعة جوده وسعة إفضاله وإنعامه عليم، عليم بالمعطين، عليم بالعباد، عليم بمن يستحق، عليم بالمنفقين، عليم بالمتثبتين في النفقة، عليم بالنيات والمقاصد التي تنطوي عليها النفوس.

فهذا يدفع العبد إلى تصحيح النية والقصد من جهة، وأن لا ينتظر عائدة من الناس على نفقته؛ لأن الله عليم به لا ينتظر من الناس أن يشكروه أن يذكروه، أن يطروه، أن يذكروا هذه النفقة أو هو يُعلن عنها؛ لأن الله عليم بهذه النفقات، فإذا جحده الناس فإن ذلك لا يضره، فأبو بكر  كان يُنفق على مسطح وهو ابن خالته، ومسطح قذف عرض النبي ﷺ، وقذف عرض عائشة، وعرض أبي بكر، أفضل ثلاثة، أحب الرجال إلى النبي ﷺ وأحب النساء إليه، فقذفه وأبو بكر كان هو الذي يُنفق عليه فقير وقريب، فحلف أبو بكر أن لا يُنفق عليه فأنزل الله: وَلا يَأْتَلِ[8]، يعني: من الألية وهي الحلف: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ، يعني: أصحاب المقامات العالية الفضل، والسعة يعني الغنى، أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة النور:22].

إذًا القضية ليست مكافأة أو مقابلة أو انتظار عائدة على هذا البذل والإنفاق حتى لو أساء حتى لو تنكر حتى، اتقِ شر من أحسنت إليه، كيف اتقِ شر من أحسنت إليه؟!

نحن نحسن لوجه الله لا ننتظر أصلاً منهم إحسانًا، فهؤلاء يمنعون الناس من البذل، ويمنعونهم من الإنفاق ويخوفونهم، ويقول لك: افعل خيرا تلق شرًا، كيف افعل خيرا وتلق شرًا؟! الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً، وأنت تقول: افعل خيرا وتلق شرا! يخوف الناس من فعل الخير ويثبطهم عنه، فهذا فعل الشياطين -والله المستعان.

هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. من معلقة طرفة بن العبد، انظر: شرح المعلقات السبع للزوزني (ص:110).
  2. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 108).
  3. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:375).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم (132).
  5. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، برقم (5112)، وأحمد في المسند، برقم (2097)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  6. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم (2999).
  7. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (67/ 112).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).

مواد ذات صلة