الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
تتمة قوله تعالى " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ" – إلى قوله "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا" الآيات: [2-4]
تاريخ النشر: ١٣ / ربيع الأوّل / ١٤٢٥
التحميل: 957
مرات الإستماع: 1286

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۝ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۝ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ۝ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ۝ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ [النــور:2-10].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

في مثل هذه الليلة من الأسبوع المنصرم وقفنا مع صدر هذه السورة خمس وقفات، وفي هذه الليلة نشرع بتكملة هذه الوقفات المتعلقة بهذا المقطع، وأول ذلك:

الوقفة السادسة: وذلك مع قوله تبارك وتعالى: وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النــور:2]، فالرأفة هي الرقة والرحمة الرقيقة يقال لها: رأفة، والله نهانا في هذه الآية عن أن تأخذنا رأفة مع أن سائلاً قد يقول: كيف نهى الله عن ذلك ومعلوم أن الرأفة تقع في قلب الإنسان من غير تطلب لها، ومن غير اختيار؟

فالإنسان يقع في قلبه من المحبة والخوف والإشفاق والرأفة والشفقة، يقع أشياء وأشياء دون أن يتقصد الإنسان إيقاع ذلك في قلبه، فالرجل يتجر، ثم يخسر في تجارته، ثم بعد ذلك يمتلئ قلبه من الندم، فهو يعمل جاهدًا على دفع هذا الندم، ويأتيه من يواسيه؛ ولكنه لا يستطيع دفعه،كما أن الإنسان لربما يقع في معصية، لربما يقارف شيء لا يليق مع امرأة يحبها، وهو يعلم أن ذلك معصية لله ثم نحن نطالبه كما هو في شروط التوبة وأركانها نطالبه بالندم، فنقول: لا بد من الندم على هذا الذنب، وهو كلما تذكر هذا الذنب الذي قارفه مع هذه المرأة التي يعشقها فرح بذلك، وسر به، ولربما تمنى أن تحصل له فرصة ثانية، فكيف نطالبه بالندم مع أن الله لا يكلفنا إلا بما يطاق لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]؟

فالجواب عن ذلك أن يقال: إن الخطاب إذا توجه إلى المكلفين في مثل هذا، أي فيما لا يدخل تحت طوقهم، فإنه يتوجه إلى سببه أو إلى أثره؛ لأن الله لا يكلف بما لا يطاق، يتوجه إلى سببه كما في الندم عند ذكر شروط التوبة، فالإنسان الذي يفعل المعصية ونطالبه بالندم نقول: عليك أن تنظر في الأمور الجالبة للندم، لو أن الإنسان قارف ما لا يليق مع امرأة يعشقها ويحبها ويستهويه جمالها وحسنها، ثم قيل له: أن هذه المرأة مصابة بمرض من الأمراض الوبائية الخطيرة كالإيدز مثلاً، كيف تتحول لذته ومسرته وأنسه؟ تتحول إلى تنغيص تام، لو أنه يأكل طعامًا يشتهيه ويستهويه ويحبه، ثم قيل له وهو يتلذذ بأكل هذا الطعام: أن هذا الطعام لم يوضع لك، إنما وضع لغيرك، فهو محشو بالسم، فإنه يتحول هذا الطعام تتحول لذته إلى تنغيص وتكدير، وإلى ألم وغُصص لا يستطيع أن يتجرع معها هذا الطعام، وهكذا حينما نطالب الإنسان العاصي بالندم فإننا نطالبه بأن ينظر فيما قارف، وأنه قد عصى الملك المعبود العظيم الأعظم، وأن العذاب ينتظره، وأن الله رآه، وكتب ذلك عليه، والملائكة قد كتبوا ذلك، وأن الحساب والعذاب ينتظره فيبقى مضطربًا خائفًا مرتجفًا، يخاف عذاب الله ونقمته فيتوب، هكذا إذا تحرك الإيمان في قلب العبد، فهو يحتاج إلى هذا التحريك.

وفي مثالنا هذا وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] يقال: أن هذا الخطاب يتوجه إلى أثر ذلك، وأثره هو أن يترك الحد، فيقال: فلان ما يستحق، فلان مسكين، فلان لأول مرة فلان رجل جيد، أو فلانة امرأة طيبة فيلغى عنه الحد؟ أو يقال: نقيم عليه الحد لكن من غير رؤية الناس لئلا يفتضح لمرتبته الاجتماعية لأسرته، ولنسبه وشرفه، وما إلى ذلك؟ أو يقال: يخفف عنه الحد، إما بالصفة، وإما بالعدد كأن يضرب ضربًا كما يقال: هو تحلة قسم، يضرب ضربًا خفيفًا، أو أنه يقلل عليه العدد، فبدلاً من أن يجلد مائة جلدة يجلد خمسين جلدة أو عشرين جلدة ويقال: يكفيه ما أصابه يكفيه ما آلمه، يكفيه ما وقع له أمام الناس، يكفيه أنه افتضح، وما أشبه ذلك.

وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، هذا هو الجواب عن هذا الإشكال الذي لربما يعرض للأذهان.

ثم أيضًا يقال في هذه الآية: إن هذه الرأفة التي تقع في قلب الإنسان إزاء هذا الإنسان الذي قارف ما لا يليق هل هي رأفة في محلها؟ هذه الرأفة بهؤلاء الجناة من الزناة والزواني هي قسوة على المجتمع، وذلك أن هذا الإنسان الذي يقارف هذه الأمور التي لا تليق إن تُرك فلم يقم عليه الحد؛ فإن ذلك يؤذن بتفشي الفاحشة في أوساط المجتمع، يؤذن بهتك الأعراض، وذهاب الشرف والفضيلة، وهكذا إذا تُرك ذلك القاذف الذي يقذف أعراض الآخرين فلم يقم عليه الحد رأفة وشفقة به؛ فإن ذلك يؤذن بخراب وفساد في المجتمعات الإنسانية، إنه قضاء على الآداب والأخلاق في المجتمع الإسلامي، هذه رأفة زائفة مصطنعة في غير محلها.

فالله هو الأعلم بخلقه، وهو الأعلم بما يصلحهم، والله يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا [الأحزاب:36]، فالله قد اختار واختياره هنا أن يقام الحد من قارف هذه الأمور أو بعض هذه الأمور غير اللائقة، فينبغي أن نكون في المحبة والبغض والعمل والاتباع أن نكون تبعًا لحكم الله وتبعًا لهدايته في كتابه الكريم، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن، والله أرحم بخلقه، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة هذه العقوبة، ويزعم أن ذلك من قبيل اللطف والشفقة والرحمة، فالله أرحم بخلقه، فهو أرحم بنا من الوالدة الشفوق الرؤوم بولدها، والله حينما يشرع هذه الأمور فإنما يشرعها لمصلحة عظيمة غالبة.

ثم أيضًا إن الله حينما ينهى عن ذلك ينهى عنه وهو العليم بدخائل النفوس، ودقائقها ومسالك الشيطان فيها، وذلك أن الكثيرين لربما تميل قلوبهم مع أولئك الذين يقارفون الفواحش، ومع أولئك النسوة اللاتي يفعلن ذلك، وذلك إما لقرابة فهو يشفق على هذا، ويعذره بسبب غلبه العشق، أو يعذره بسبب صغر سنه ومراهقته، أو يعذره بسبب غلبة شهوته، أو يعذره بسبب كثرة الفتن والمغريات والشهوات، فهو يطالب بإلغاء الحد، أو بتخفيفه أو بتقليل صفته، فهذا الانعطاف يقع في النفوس المريضة التي لم تتربَ على موائد القرآن، يقع ذلك لربما عند العشاق الذين يعشقون أقوامًا، فإذا رأوا الحد يقع على هؤلاء الذين عشقوهم أخذتهم الرأفة عليهم، لربما تأخذه الرأفة؛ لأنه يهوى صورته وجماله وحسنه، فيشفق عليه من هذا الحد الذي أقيم عليه، لربما يكون ذلك بسبب أبوته له، فيكون بذلك البعيد يكون ديوثًا يرضى الخُبث في أهله، كما قال ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله تعالى-[1]، فيرقّ ويحلل ذلك ويزعم أنه من باب الشفقة على الولد والرحمة بالضعفة في المجتمع من النساء والشبان، وما إلى ذلك من العشاق والعاشقات، هكذا يصور هذه القضية، وأن ذلك من مكارم الأخلاق، وما علم أن ذلك من الدياثة، وأنه من مساوئ الأخلاق، وأنه من قلة الغيرة، وأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وأن الله يغضب على من فعل ذلك، ويمقته ويبغض أهله، فهؤلاء الذين تصبوا نفوسهم إلى أولئك من أصحاب الشهوات متوعدون بعقوبة الله ، وهم مشاركون لهؤلاء ممن أجرموا وقارفوا ما لا يليق، مشاركون لهم في هذا الصنيع، أرأيتم قول الله عن أولئك النسوة اللاتي شاهدن يوسف وتسامعن بما وقع لامرأة العزيز، قال يوسف : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33]، وذلك بعد قولهن: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ [يوسف:30]، في البداية كانت الواحدة منهن تعيب على امرأة العزيز، كيف راودت فتاها عن نفسه؟ فلما رأينه قطعن أيديهن واستهواهن حسنه، ثم بعد ذلك شاركنها وأقررنها على هذه المراودة، ولهذا قال يوسف : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ فذكر ذلك على صيغة الجمع، فصار أولئك النساء مشاركات لامرأة العزيز على هذا الفعل القبيح.

ولا شك أن محبة الفواحش، وأن محبة أولئك الذين يفعلون الفواحش، أن ذلك من مرض القلب، والله  قال عن قوم لوط: إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72].

والنبي ﷺ أخبرنا عن زنا الجوارح، قال ﷺ: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه[2].

فمن الناس من يهوى بعض ذلك، ومنهم من يرتقي إلى ما فوقه ويهوى أمورًا تقدح في شرفه وعرضه، وفي شرف غيره وأعراضهم، من الناس من تكون لذته في النظر ويقف عن هذا، ومنهم من تكون لذته بسماع الصوت ويقف عند هذا، ولا يجرؤ على غيره، ومن الناس من يتدرج على هذه الأمور ويتمنى فوقها، كل ذلك شيء حرمه الله فهؤلاء قد تهفو نفوسهم إلى أولئك الذين يلتذون بالنظر إليهم أو بسماع كلامهم، أو بمقارفة ما لا يليق معهم من الشهوات؛ فيرقون نحوهم، ولربما استكثروا الحدود عليهم، ولبّسوا ذلك بصورة وأمور ليست حقيقة، وإنما هي انطباع لمرض في نفوسهم قد أخل بأمزجتهم، رأوا أن الحدود لون من القسوة والفظاظة وعدم الشفقة والرحمة، وهذا كالذي يكون عنده مريض له دواء مر، فهو لفرط شفقته عليه يمنع من أعطائه هذا الدواء، وهي شفقة في غير محلها؛ لأن الشفقة الحقيقية هي في أن يتناول هذا الإنسان هذا الدواء، ولربما ذهب الوالد مع ولده إلى المستشفى ليبتر عضو من أعضائه؛ لأن مصلحته ودواءه وعلاج علته تقتضي ذلك، وليس العلاج أيها الإخوان في أن يترك هذا الإنسان مع دائه ومرضه وأهله يتفرجون عليه، إنما العلاج هو إلزامه بهذا الدواء، وهكذا في هذه الحدود ليس العلاج بأن يترك هؤلاء يعافسون ما لا يليق شفقة ورحمة بهم، إنما الشفقة الحقيقة هي أن يفطم هؤلاء عن الشهوات، وأن تقام عليهم هذه الحدود، كما أمر الله ليكون ذلك تطهيرًا لنفوسهم ولقلوبهم، وليكون ذلك تطهيرًا لهم من الأوزار والذنوب والسيئات، فهؤلاء يجب أن يعانوا على تناول هذا الدواء؛ لأن برأهم بإذن الله فيه، يجب أن يعان هؤلاء على الحمية، وإن كانت الأطعمة اللذيذة المستطابة تستهويهم، ولكن ليس الرأفة بهذا المريض في السكر مثلاً أن نجعل أطباق التمر الجميلة من كل لون وصنف أن نجعلها بين يديه والحلوى، وما إلى ذلك؛ لأنه يحبها ويهواها، ثم يقع طريحًا بجانبها بعد ذلك، ليس هذا من الشفقة أيها الإخوان، وليس هذا من الرحمة، ليس دواء الإنسان أن يترك يفعل ما يهواه من المعاصي والذنوب، فهو وإن فعل ذلك فإن ذلك يطرحه، ويورثه آلامًا ومصائب، ويورثه أمورًا جِسامًا تقضي على قلبه وحيوية إيمانه، وتقضي على ما في نفسه من خوف الله ومحبته والإقبال عليه، فيكون هذا الإنسان متمرغًا بأوحال الجريمة والذنوب والمعاصي، لا يرعوي، ويزداد داء على دائه، وإنما الواجب فطامه عن ذلك كله، وبهذا نعرف أن هذه العقوبات أنها أدوية ناجعة، وإن كان فيها شيء من الإيلام إلا أن الدواء كامن فيها، وهي داخلة في عموم قول الله : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فمن ترك هذه الرحمة العامة للخلق زعمًا منه أن الشفقة في غيرها فهو ضال منحرف عن جادة الصواب، وهؤلاء ليس لهم تدبير نافع، هؤلاء إنما يحملهم على ذلك أيها الإخوة إما لمشاركتهم لهذا الفعل القبيح، فهو كالإنسان الذي اشترك مع غيره في شرب دواء مُر، فلما ذاقه نهى الآخرين عن شربه لمرارته، فهذا الإنسان قد يكون قد جرب العشق، وفعل هذه الشهوات وغلبت ذلك على النفوس المريضة، فيقول: ينبغي أن يترك الحد فلا يقام على هؤلاء الناس، لربما يكون الحامل لهذا الإنسان الدافع له في هذه الشفقة هو أنه مشارك لهم في هذه العلة، وفي ذوقها وتجرع هذه الأمراض القلبية التي توقعه في هذه الملذات.

ومنهم من يكون ذلك لأنه يحب أحد هؤلاء المقارفين لما لا يليق، أما لجماله، لمحبة صورته، أو لقرابته، أو لمودته، أو لإحسانه إليه، أو لما ينتظره من عائدته، أو غير ذلك من الأمور، أو لما في هذا الحد من الإيلام والعذاب، ويتأول قول النبي ﷺ: وإنما يرحم الله من عباده الرحماء[3]، ويقول: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء[4]، وينسى قول النبي ﷺ: لا يدخل الجنة ديوث[5].

فمن لم يكن مبغضًا للفواحش لم يكن مبغضًا لأهلها، ويكون مبغضًا للحدود الشرعية، والله يقول: وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النــور:2]، أي: في حكمه وشرعه وطاعته وطاعة رسول الله ﷺ؛ وذلك كله مبني على محبة الله، ومحبة دينه وحدوده وشرائعه وكتابه ومحبة رسوله ﷺ، أن يكون الرسول ﷺ أحب إليه مما سواه، فهذه الرحمة التي وصفت تكون مضيعة لذلك كله، فالله أرحم بخلقه من هذا صاحب الرحمة الزائفة، وإنما الرحمة التي تكون في محلها التي قال الرسول فيها: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء هذه الرحمة حسنة مأمور بها يحبها الله ويحبها رسوله ﷺ تارة تكون واجبة، وتارة تكون مستحبة، هذه محبة الله ومحبة رسوله ﷺ ومحبة عباده المؤمنين، الرحمة بالمؤمنين من كل ما يضرهم، ومن كل ما يلحقهم العنت، والرحمة بهم من أن يقعوا في شيء من حدود الله ، هذه هي الرحمة المحبوبة لله ولرسوله ﷺ.

الوقفة السابعة: مع قوله تبارك وتعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النــور:2]، الطائفة بعض أهل العلم يقولون: تقع من الواحد فما فوق، وبعضهم يقول: تكون باثنين؛ لأنها أقل الشهادة، وبعضهم يقول: تكون بثلاثة؛ لأنه أقل الجمع، وبعضهم يقول: هنا في هذا الموضوع بأربعة؛ لأن ذلك أقل ما يقبل في حد الزنا من الشهادة، وعلى كل حال لسنا بمعنيين بذكر الخلاف في هذا المجلس كما أننا لسنا بمعنيين بتفسير الألفاظ؛ لأن هذه وقفات ولا نفسر كل شيء.

فالمقصود أيها الإخوان أن الوقفة هنا هي مع أمر الله بأن يشهد طائفة من المؤمنين هذا الحد، هذا الحد لا يقام سرًا لا بد أن يشهده طائفة من المؤمنين لماذا؟ يقال: ليرتدع المشاهد فإن الناس إذا رأوا هذا الإنسان يقام عليه الحد فإن ذلك يردعهم ويزجرهم من مواقعة ما لا يليق من هذه الفواحش، ثم أيضًا يكون ذلك ردعًا لهذا الإنسان الذي قارف هذه الفاحشة؛ لأن ذلك فيه من الإيلام ما هو أعظم من وقع السياط على ظهره، أرأيتم إنسانًا يجلد أمام الناس، أمام العارف والمنكر، أمام الشامت، وأمام المحب والمشفق، أمام القريب والبعيد، أمام زملائه في العمل أو في المدرسة، أو غير ذلك لا شك أن هذا يؤلمه جدًا، فهذا فيه من الإيلام النفسي الشيء الكثير، ومعلوم أن الإنسان قد يؤثر ويحب أن يجلد أضعاف الحد، ولكن يكون هذا الحد في خفية من غير مرأى من الناس، يتمنى أن يجلد مائة سوط على أن يجلد سوطًا واحدًا أمام الآخرين، فالله يردعه بهذا العمل ومن الناس من يكون مستهترًا بالجلد يظهر فيه تجلدًا وشجاعة، ولكنه إن كان ذلك أمام الناس فأي تجلد وأي شجاعة وأي بأس وأي قوة تلك القوة التي يظهرها أمام أنظار الناس الذين قد أحدقوا به وهو يجلد على ظهره.

أقول أيها الإخوان: إذا وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] لا بد أن يكون ذلك على الملأ، لا تقام الحدود في داخل السجن، ولا تقام في معزل من الناس، إنما تقام في مكان عام، يحضره من شاء، أمام الآخرين، في وقت انتشارهم، فيكون ذلك ردعًا له، وردعًا لكل من تسول له نفسه أن يقارف شيئًا من هذه الأمور القبيحة الشنيعة.

الوقفة الثامنة: مع قوله تعالى: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، هذه الآية فيها إشكال معروف، وهي من الآيات المشكلة من جهة التفسير في كتاب الله ، وذلك أن الله قال عن الزاني بأنه لا ينكح إلا زانية أو مشركة، هل يجوز للزاني وهو مسلم لم يخرجه الزنا ما لم يستحل ذلك لم يخرجه من الإسلام، ومع ذلك قال: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا يجوز لها أن تتزوج كافرًا؛ لأنها مسلمة، فيكف قال الله والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك؟

من أهل العلم من أراح نفسه، وقال :المراد بالنكاح هنا الزنا، لا ينكح إلا زانية أو مشركة، أي لا يوافقه على هذه المواقعة إلا امرأة تستحل الزنا فهي مشركة، تعتقد أن هذا حرية شخصية ليس للآخرين دخل وشأن بها، فهي وشأنها أو تكون هذه المرأة تقر بأن الزنا حرام، ولكنها تقارفه وتواقعه فهي زانية، فالطيور على أشكالها تقع، قالوا: إذًا المراد بالنكاح هنا هو الوطء، فهو لا يقع إلا على امرأة تستحل ذلك فهي مشركة أو على امرأة تقر بالحكم ولكنها لا تلتزمه من الناحية العملية فهي زانية، وعلى هذا التفسير فلا إشكال في الآية.

وأما إذا قلنا: إن النكاح هو الزواج وهو أحد إطلاقاته في كتاب الله لأن النكاح يطلق على ثلاثة أشياء: يطلق على الوطء، ويطلق على العقد عقد النكاح، ويطلق على أتم الأمرين وهو ما اجتمع فيه العقد والوطء، كما قال الله : فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، بمعنى أنه يعقد عليها عقدًا صحيحًا -المطلقة ثلاثة- يعقد عليها عقدًا صحيحًا، وأيضًا يحصل معه الوطء، وإلا فأنها لا تحل لزوجها الأول.

فالمقصود بالنكاح هنا: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ إذا فسرناه بمجرد الوطء تبين وجهه.

إذا قلنا: إن المراد بالنكاح هو الزواج، فهنا يقع الإشكال كيف قال الله : لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً هل يجوز للزاني أن يتزوج المشركة غير الكتابية؟ هل يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج مشركًا سواء كان كتابيًا أو غير كتابي؟ هذا هو وجه الإشكال، ولهذا قال بعض أهل العلم: هذا في المشركين، هذا في قضية خاصة وهي في قصة مرثد حينما استأذن النبي ﷺ في القصة المشهورة أن يتزوج عَناقًا، وكانت من البغايا، فنزلت هذه الآية[6].

فيقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهكذا قول طائفة من أهل العلم: إن المراد بذلك أنه لا يتزوج إلا زانية أو مشركة وقد نسخ ذلك، كان في أول الأمر ثم نسخ، فيقال: هذا لا يكفي؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، إذًا ما وجه الآية؟ وما المراد بها؟

يمكن أن يجاب عن ذلك بـأن يقال: بأن الله قد أمر بالعفاف، كما قال ابن القيم -رحمه الله-، الله أمر بالعفاف، وبنكاح العفائف، فمن أنكر ذلك وجحده فهو مشرك، ومن أقر به ولم يلتزم هذا الحكم فهو زانٍ؛ لأنه لا يجوز له أن يعقد على امرأة زانية لم تتب، والمرأة لا يجوز لها أن تتزوج رجلاً زانيًا لم يتب، فكل من وافق على شيء من ذلك مع إقراره بالحكم فهو زانٍ، هذا كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[7].

ولشيخ الإسلام كلام أوضح من هذا وأشد وأقوى وذلك ما خلاصته: أن الله أمر بعقوبة الزانيين، وحرم المناكحة بين العفائف وبين الزواني هجرًا لهؤلاء وأبعادًا لهم وبغضًا لسيئاتهم وذنوبهم، والله يقول: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]، فمن جالس أهل الرجز ومن جالس أهل الفجور، ومن جالس أهل الفساد والبغي فهو مشارك لهم: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [النساء:140]، وهو زوجًا لهم: أي مشاكل لهم، كما قال الله : احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22]، أي: ونظراءهم من المشاكلين لهم المجانسين لهم وهم عشراؤهم وقرناؤهم[8].

وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- جيء له بقوم قد شربوا الخمر وسكروا فأمر بإقامة الحد على هؤلاء جميعًا، فاعتذر إليه واحد من هؤلاء، وقال: إنه لم يشرب الخمر، وكان صائمًا فأمر عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أن يجلد معهم، وقرأ قول الله : فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [النساء:140]، فعد قعوده معهم وهم يشربون الخمر عدّ ذلك مشاركة لهم[9].

فهذا في المشاركة العارضة أيها الإخوة في المجلس، فكيف بالعشرة الدائمة؟ والنبي ﷺ قد سمى الزوج العشير، كما قال في الحديث المشهور: وتكفرن العشير[10]، وهو الزوج، فإذا كان الشارع ينهى عن مجالسة أهل المنكر في حال مواقعتهم للمنكر في لحظته، فكيف بمعاشرة دائمة مع هذا الإنسان، في عقد راسخ ثابت وهو عقد الزواج؟

فهذا أمر لا شك أنه منهي عنه، فالله قد حرم هذه المعاشرة على المؤمنين، إذا قلنا: غن اسم الإشارة يعود إلى الزنا وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] أي حرم الزنا على المؤمنين، وإذا قلنا: الزواج فإن ذلك يعني تحريم العقد، وهذا يعني بطلانه وهو قول طائفة من أهل العلم، وهو أحد الوجهين عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-[11].

فالمشاركة في هذا المرأة التي ترضى أن تتزوج هذا الإنسان هي مشاركة له، والرجل الذي يتزوج هذه المرأة التي يعلم أنها زانية هو عشير لها، ومشارك لها، ومقر لها بهذا الفعل، ومخالف لنهي الله عن ذلك.

الرجل الذي يتزوج المرأة التي بهذه المثابة يكون قد رضي بإفساد فراشه، وتقذير نسبه، ويكون راضي بتلويث شرفه، وهذا لا شك أنه أشد في تزوج المرأة الفاجرة، والمرأة التي ترضى أن تتزوج رجلاً من هذا القبيل يكون هذا الإنسان بلا شك أو تكون هذه المرأة راضية فعله؛ لأنه هو السيد المالك الحاكم على هذه المرأة، فتبقى هذه المرأة الشريفة العفيفة في أسر هذا الرجل الذي لا يغار عليها، ولا يحفظ ماءه في غيرها، وهكذا حينما يرضى الرجل أن يزوج كريمته لرجل فاجر، كما جاء عن الشعبي -رحمه الله-: "أن من زوج امرأته من فاسق فقد قطع رحمها"[12].

ويمكن أن ألخص الوجوه التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في توصيف من يقارف ذلك: أن يتزوج امرأة فاجرة، أو المرأة التي تتزوج رجلاً فاجرًا فيكون ذلك زانيًا بأمور متعددة:

 الأول: أن ذلك مناف للكفاءة؛ لأن الكفاءة في الدين قد اتفق الفقهاء عليها بين الزوجين، لا بد منها، فالفاجر ليس بكفء للعفيفة، والعفيف ليست الفاجرة بمكافئة له في العفاف والديانة، فهذا زواج مختل يبطله طائفة من الفقهاء.

والأمر الثاني: أن من تزوج زانية ويعلم أنها تزني فهو راضٍ بأن يشترك هو وغيره فيها، ورضي لنفسه بأن يكون البعيد ديوثًا والمرأة التي تتزوج زانيًا وهو يزني بغيرها فهو لا يصون ماءه حتى يضعه فيها بل يرميه فيها وفي غيرها من البغايا، فهي بمنزلة الزانية المتخذة خدنا كما قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- لأن مقصود النكاح هو حفظ الماء في المرأة، وهذا الرجل لا يحفظ ماءه والله شرط في الرجال أن يكونوا محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان، وهذا الرجل لا يحفظ ماءه في هذه الزوجة، وهذا الرجل الذي يكون بهذه المثابة لا يجوز تزويجه حتى يتوب، والمرأة التي تفعل ذلك لا يجوز تزويجها حتى تتوب.

وكذلك أيضًا وهو أمر ثالث: الرجل إذا كان زانيًا فإنه عادة لا يعف امرأته، وإذا لم يعف امرأته فأنها تبحث عن غيره لتقضي نهمتها غالبًا[13].

ثم أيضًا إن كثيرًا من النساء اللاتي يبتلين بمثل هؤلاء الرجال لربما تفعل ما لا يليق مراغمة له ونكاية به، وكذلك أيضًا الجزاء من جنس العلم؛ فإن الرجل إذا رضي أن يقارف ذلك مع نساء الناس وبناتهم فإنه غالبًا يقع ذلك لأهل بيته، وكذلك في الغالب أنه لا يغار ويرضى أن يقع ذلك لأهله؛ لأن الله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فهو يشفق عليها، ولذلك يشتكي بعض النساء لربما جاءها بصوره في مغامراته وأعماله غير اللائقة ليريها ذلك من أجل أن تستمتع كما يستمتع، وكم سمعنا من شكاوى بعض النساء من أزواجهن حينما يستعرض الزوج هذه المغامرات أمام امرأته، ولربما عرض عليها تصويرًا فيلمًا يعرض عليها فيها أفعاله ومقارفاته، والرجل الذي يتزوج امرأة بهذه المثابة يكون قد رضي عملها ومن رضي الزنا كان بمنزلة فاعله؛ لأن أصل الفعل هو الإرادة.

وأمر سادس: وهو أن الله قد جعل في النفوس من الغيرة ما يستعظم معه الرجل أن يطأ أحد امرأته، إذا كان الرجل لا يكره أن تكون زوجته بغيًا لأنه تزوجها فهو البعيد فهو ديوث يرضى الخبث ويقره بأهله فيكون بذلك زانيًا في الغالب؛ لأنه حينما لا يغار على أهله كيف يغار على نفسه من مواقعة هذا الفعل الشنيع؟

لأن من أقر ذلك في غيره مع أنه لا شهوة له في ذلك فإن إقراره ذلك في نفسه أدعى لوجود شهوته وتوافرها في نفسه، فإذا استحل ذلك بأن يقع من امرأته فاستحلاله بأن يقع ذلك منه أشد وأعظم، ومن أعان على ذلك فهو كفاعله، وبهذا قال الله : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النــور:3].

ومن هنا قال الله : الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النــور:26]، فلا تكون المرأة الطيبة لأحد من هؤلاء، ولا يكون الرجل الطيب لواحدة من هؤلاء النساء السيئات اللاتي وصفهن الله بالخبث، فالزانية لا تنكح إلا من يشاكلها، والزاني لا ينكح إلا من يشاكله، والمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع أهل الفضل والطاعة والمعروف، لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي[14]، المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل[15].

 وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر[16]، يعني: ولو بحبل، إذا كان هذا في أمة مسترقة أمر النبي ﷺ ببيعها وعدم إبقائها فكيف بامرأة الرجل التي تعاشره وتخالطه وهي أهله الذين يغار عليهم؟

ثم أن الله لعن من أحدث حدثًا أو أوى محدثًا، وهذا الذي يأوي هذه المرأة لا شك إنه قد أوى محدثًا، وإنما يجوز هذا النكاح إذا وجدت معه التوبة الصادقة، وكيف تعرف هذه التوبة؟

تعرف بملاحظة حال الإنسان، باختباره، بأمور أخرى لا تخفى على الناس، وفي هذه الآية قال الله : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النــور:3]، فقدَّم الزاني، وهناك في ذلك الآية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ [النــور:2]، قلنا هناك قدم الزانية لماذا؟ للعلة التي ذكرناها؛ لأن المرأة هي التي تكون متسببة في البداية هي التي تعطي الضوء الأخضر، هي التي تستهوي الرجل هي التي تجذبه أو غير ذلك مما ذكر،

وهنا قال: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً هنا مسألة زواج فمن الذي يبتدئه؟ من الذي يقوم بالخطبة؟ من هو السيد؟ هو الرجل، فهنا قُدِّم الزاني على الزانية، ثم أيضًا أعاد الله ذلك في حق المرأة: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النــور:3]، لماذا أعيدت؟ لماذا لم يُكتف بقول الله تبارك وتعالى: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النــور:3]؟ فتحرم عليه العفيفة فنفهم أن العفائف يحرم عليهم نكاح هؤلاء الفجرة: يقال: إن المرأة أعيدت لئلا يفهم أن ذلك مما يختص بالرجل، وإنما هو حكم يتعلق بالرجل ويتعلق بالمرأة على حد سواء.

الوقفة التاسعة: مع قوله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النــور:4]، هذه الآيات هي في حكم القذف لما ذكر الله حكم الزنا ذكر حكم الرمي به صيانة للأعراض من الأذى، والأنفس من الإزهاق؛ لأنه إن قذف محصنًا قتل بهذه القتلة الشنيعة، بالرجم، وكما أن الله قد عظم الفاحشة عظم ذكرها بالباطل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النــور:4]، لماذا أيها الإخوان إن ترك الألسن تُلقي التّهم على المحصنات وهن العفيفات الحرائر سواء كن من الثيبات أو من الأبكار من دون دليل قاطع؛ لأنه يترك المجال فسيحًا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئًا بتلك التهمة الشنيعة، ثم يمضي آمنًا من غير حسيب ولا رقيب.

فتصبح الأمة والمجتمع وتمسي الأمة والمجتمع وإذا أعراضها مجروحة، وسمعتها ملوثة، وكل فرد فيها متهم، أو مهدد بالاتهام، وإذا بكل زوج يشك في زوجته، وكل زوجة تشك في زوجها لانتشار قالة السوء في المجتمع؛ إذ إن ذلك المجتمع المريض الملوث حديث الناس فيه عن هذه القضايا التي تتعلق بأدق الأشياء، وأكثر الأشياء حساسية عند الناس، يطلقون ألسنتهم كيفما اتفق، يتحدثون حديثًا خفيفًا على الألسن من غير مراعاة لشرف الناس وأعراضهم، ومن غير اكتراث بما يحدث عن هذا الحديث من تبعات كبيرة تفكك أواصر المجتمع، وتهدم الأسرة وتلقي العداوة والبغضاء والشكوك بين الزوج وزوجته والقريب وقريبه والوالد وولده، فلا يثق الوالد أن هذا من أولاده، ولا يثق الولد أن هذا هو أبوه حقيقة؛ فهكذا يكون المجتمع مهددًا بالانهيار هي حالة تكسو المجتمع من الريبة والشك والقلق، لا يمكن أن تطاق معها الحياة، إذا ذهبت أعراض الناس، وذهب شرفهم فما الفائدة من الحياة؟ ما قيمة الحياة أيها الإخوان مع هذه الأمور؟

فالناس إذا اعتادوا سماع هذه الأشياء، والحديث عنها من غير مؤاخذة، ومن غير تبعة تلحقهم من هذا الحديث؛ فإن ذلك أيضًا يوحي إلى السامعين أن هذه القضايا منتشرة في المجتمع، فبدلاً من أن يكون الواحد يتحرج من مواقعة هذه الأشياء، يشعر أنها قضية ليست بغريبة على المجتمع، وأن الناس يكثرون من مواقعتها، وأن جاره وقريبة وأن أخاه وأن فلانًا وفلانًا ممن يعرفهم، وممن يحسن الظن بهم يواقعونها إذًا ما الداعي لهذا التحرج، فيكون ذلك مسهلاً لوقوع الناس في مثل هذه الفواحش، فيكون الإنسان المتردد المتحرج الذي يشعر أن هذه قضايا غريبة في المجتمع منبوذة، يشعر أنها قضايا عادية منتشرة، وأن الشاذ هو الذي يتحرج منها، وأنه يعيش في وهم كبير، وفي طهر زائف، والناس إذا تتابعوا على شيء فإن التحرج منه لاشك أنه يضعف في النفوس، فيجترؤن على فعله، ويهون وقعه على أسماعهم، وعلى نفوسهم ولا يعود للقلب، يحكم عليه بالفسق إلا أن يتوب، إذا تاب يقام عليه الحد، ولكن تقبل شهادته، ويرتفع عنه الحكم بالفسق، ولكن من شرط ذلك على قول عمر وطائفة أن يكذب نفسه يقول: كذبت؛ وذلك إعادة للاعتبار لهذا الإنسان الذي جرح عرضه جرحًا غائرًا، لا يمكن أن يندمل، الناس يتذكرون هذا الكلام الذي قيل، وقد يقول بعضهم: كيف وقد قيل؟

لكن لا بد أن يعلن هذا الإنسان أمام الناس أنه كذاب، كذب عليه وافترى عليه؛ ردًا لاعتبار هذا المسلم الذي وقع بعرضه، كل ذلك حفظًا لأعراض المجتمع، ولذلك تجدون أن حد الزنا أنه نادر لماذا يندر؟ لأنه لا يمكن أن يثبت إلا بأحد أمرين بالاعتراف: وهذا لا يحصل إلا للنادر من الناس ممن قوي إيمانهم، أو بالشهادة الدقيقة التي وصفت، فهؤلاء من يستطيع أن يقيم هذه الشهادة؟ إذًا يجب أن تقطع الألسن، والإنسان ليس مطالبًا أن يتكلم في أعراض الناس، فيسعه السكوت، والمجتمع لا يخسر شيئًا إذا سكت عن تهمة غير محققة، كما يخسرون إذا أطلقت الألسن بالأعراض بهذه التهم وترخص الناس فيها، ولم يتحرجوا من إذاعتها.

إذا المقصود أيها الإخوة من إقامة حد القذف هو حفظ أعراض الناس؛ لئلا تلاك، وأيضًا حفظ الأسماع والقلوب من أجل أن تبقى تلك الحساسية في النفوس فلا يستسهلون هذه الجريمة البشعة وهذا المنكر، وقد ذكرت لكم في المرة الماضية قول بعض أهل العلم في وجه نسخ لفظ الآية التي تتحدث عن حكم الرجم: والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم[17]، بعض أهل العلم يقولون: لعل الحكمة في النسخ لفظها مع بقاء الحكم هو أن الأسماع تستبشع فعل ذلك، تستبشع سماعه، فالمقصود أن ذلك إذا كان يلوكه الناس في المجتمع، فإن ذلك يكن سهلاً عليهم، فالمجتمع النظيف لا يدور فيه هذا الحديث.

ولذلك أقول قد يتحدث بعض الطيبين من باب الغيرة وهي غيرة يخطئ فيها الإنسان أحيانًا فيقذف غيره من غير تحقيق ولا برهان، فينبغي أن يمسك لسانه يمكن للإنسان أن يتكلم بكلام عام كأن يقال: فلان يقارف ما لا يليق، فلان له تصرفات مريبة لمن يرجو منه أن يؤدبه، أن يوقفه عند حده، أما أن يقول: فلان يزني، فلانه كذا، فهذا أمر في غاية الصعوبة، فينبغي للإنسان أن يتنبه لهذا.

وأمر آخر ينبغي بأن نتنبه منه في مجالسنا؛ وهو أننا في كثير من الأحيان من باب الغيرة، ومن باب محبة الخير للمجتمع وكراهية المنكرات لربما يجتمع بعض الناس في مجلس، وهذا يتحدث عن قصة، وهذا يورد حادثة، وهذا يورد شناعة من هذه الشناعات وحكايات هذه وقعت في المكان الفلاني بقصص مفصلة، ولربما يوجد في بعض النفوس لذة لسماعها والتحدث فيها أشياء مفصلة عن هذه الفواحش، وعن وقائع حصلت، ما الحاجة إلى مثل هذا؟ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] لماذا نطلق ألسنتنا في مثل هذه القضايا؟

ينبغي أن تكون المجالس عامرة بما ينفع بالإيمان، وبالعلم الصالح، أن كان هناك منكر فهذا المنكر يذكر على أساس أنه يُغير أنتم أيها الحضور ما دوركم تجاه هذا المنكر، أنت تذهب إلى المسئول الفلاني لتناصحه، وأنت تذهب إلى صاحب المنكر لتناصحه، وأنت تذهب إلى صاحب المتجر الفلاني لتناصحه وهكذا، هذا العمل الذي يجدي، أما أن يبقى الناس فقط يتحدثون، وكل إنسان يورد قصة ممرضة للقلوب، فيخرج من بهذا المجلس، وقد نكسوا رؤوسهم وطأطئوها وهم في غاية الحزن أي شيء يطلبه الشيطان أكثر من هذا أيها الإخوان، أن يخرج الناس وقد عصر قلوبهم الحزن، لو قدر للشيطان أن ينظر إلى هؤلاء الناس فهو سيرقص طربًا؛ لأن هؤلاء من أهل الغيرة اجتمعوا في هذا المجلس وهم كأنهم في مأتم، كل واحد يقول: أنا عندي أكثر من هذه الأمور المزعجة المؤلمة لماذا توردها؟ ما الفائدة من إيرادها؟ هل الذين أمامك لا يدركون وجود مثل هذه الأشياء حتى تنبه الغافل؟ هل هم ينكرونها؟ إذا ما الفائدة لإيرادها؟ إذا كان هؤلاء يعلمون وكل واحد منهم يورد قصة مشابهة، أو أخطر من التي أوردتها، ينبغي للإنسان أن يفكر لماذا يتحدث؟ ما هو الهدف النهائي من هذا الحديث؟ ما هو الهدف؟

نحن ينبغي إذا اجتمعنا في مجلس أيها الإخوان أن نخرج من هذا المجلس بقلوب قوية وبإيمان عامر، وبخطوات عملية لنشر الخير وتقليل الشر في المجتمع، أما أن نجتمع كل واحد يورد أمورًا تدمي القلب، ونخرج ونحن في غاية الحزن كل واحد منا طأطأ رأسه فلا خير في هذا الاجتماع، ولا خير في هذا الجلوس، لا يليق بالعاقل أن يفعل هذا، ولكننا أيها الإخوان في كثير من الأحيان لا نفكر، فلا يجوز للإنسان أن يطلق لسانه أو يرخي سمعه أو يسمع لأحد أن يورد عليه مثل هذه الأشياء بلا طائل، ماذا تريد مني؟ أنا أشارك أنا أعرف أنه يوجد هذه الأشياء موجودة هنا وهناك، لكن ما هي الأشياء العملية التي تريدها هل هو مجرد ذكر القصص؟ هذا أمر لا نسمح لك بذكره، وأرجو أن يكون المقصود مفهومًا اللهم إلا إذا كان هذا الإنسان يكابر السامع، يقول: أبدًا هذا الكلام لا يوجد إطلاقًا أنتم تتكلمون عن أناس في المريخ، أقول: لا تعالى: نحن نبين لك أن هذا موجود وبالوثائق التي يضبطها أعضاء الهيئة بإقرار أصحابها ليفيق من غفلته، طبعًا إذا كان فيه حاجة لأن يفيق من غفلته أحيانًا لا يفيق؛ لأنه لا جدوى فيه، لكن قد يكون الإنسان هذا ممن يحتاج إلى مثله في الإنكار والتغيير وما أشبه ذلك.

ثم أيضًا قضية أخرى تتعلق بهذه الآية -حد القذف- إذا قرأنا في كتب الفقه في التعزيرات نجد أن العلماء لا يقفون عند هذه الأمور فقط، بل حتى الكلمات التي نسميها النابية؛ واسمحوا لي لا أستطيع أن أورد شيئًا منها لو أن إنسان قال لإنسان: يا كذا كلمة نابية، إذا أشهد عليه اثنين ورفع عليه دعوى بالمحكمة يعزر بما يراه القاضي يصلح ويردع مثله، يضرب عشر جلدات أقل أو أكثر بما يردعه، معلم قال للطالب: يا كذا كلمة نابية ما عليه إلا أن يشهد اثنين ويؤتى بهذا المعلم ويجلد، أنا أقول هذا الكلام لأني أسمع أن بعض المعلمين للأسف لسانه غير نظيف، يتكلم ببعض الطلاب بكلمات لا تليق، أبوه يربيه، ولم يسمع قط هذه الكلمة في بيته، ثم تُفاجأ أن الولد جاءك في المساء أو في الظهر ويخبرك أنه سمع من الأستاذ هذه الكلمات.

فأقول: يشهد عليه إذا شهد اثنان فإنه يعزر، كل ذلك أيها الإخوان حفظًا لعرض المسلم، ليست القضية سهلة أن تنسب هذا الإنسان إلى بهيمة، أو أن تصفه بأنه كذا، المسلم له كرامته له منزلته له احترامه له تقديره، له حشمته اللائقة.

وهكذا الذي يطلق لسانه، فلان زنديق، فلان ضال، فلان هالك، فلان مبتدع، وليسوا كذلك، إذا اختلف معهم في بعض الأمور الاجتهادية هذا يشهد عليه اثنان، ثم بعد ذلك ترفع عليه قضية في المحكمة ويعزر بما يليق بمثله، وهكذا.

فأقول: ينبغي أن نحفظ الألسن، لا نتكلم بما لا يليق، إذا تكلم الإنسان؛ فإنه ينبغي أن يتكلم بما يحسن أن يتكلم به.

ثم أيضًا لا زلنا مع هذه الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النــور:4]، المحصنات مؤنث فهل الذي يرمي المحصنين يكن بمنأى عن هذا الحد؟ لماذا عبر بالمحصنات؟ بعض أهل العلم أجاب عن هذا بأجوبة بعيدة جدًا، ولا حاجة لذكرها، بعضهم يقول: النفوس المحصنات والأصل عدم التقدير فماذا يقال؟ يقال: عبر بالمحصنات؛ لأن قذفهن أشنع وأشد، وأثره أعظم، والذي يرمي المحصنين هو كذلك أيضًا يقام عليه الحد، ولكن أيهما أعظم أن يرمي امرأة أو يرمي رجلاً؟ أن يرمي امرأة، فعبر به؛ لأنه أشد نكاية وفتكًا وإيلامًا وأعظم ضراوة وأثرًا هذا جواب جيد عن هذا السؤال.

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الرمي تعرفونه هو القذف، ولهذا سماه الله قذفًا، وسماه النبي ﷺ قذفًا، قذف المحصنات، فهذا القذف هو رميًا كالذي يرمي الناس بالحجارة يرميهم بهذه الفرية بهذا البهت الكبير هذا متى يكون قذفًا يقام على الإنسان فيه الحد؟ هناك شروط في القاذف، وهناك شروط في المقذوف به، الكلام الذي قيل، وهناك شروط في المقذوف.

أما القاذف: فيكون عاقلاً بالغًا؛ المجنون لا يؤاخذ، الطفل يؤدب ويعلم، لكنه لا يؤاخذ.

أما المقذوف به: فهو إما أن يرميه بالزنا مباشرة أو بتبرأته من نسبه؛ كأن يقول: فلان ليس بولد لفلان، فلان ليس أبوه فلان، فهذا قذف، فهذا هو الكلام الذي يقذف به.

وأما الشخص المقذوف: فبعض الفقهاء يذكرون فيه تسعة شروط لكن بعضها لا يخلو من إشكال يقولون مثلاً: المقذوف لا بد أن يكن عاقلاً، لو قذف مجنونًا أو مجنونة؛ فإنه لا يقام عليه الحد مع أنه يحرم عليه هذا.

أن يكون بالغًا، مع أن هذه القضية ليست محل اتفاق فالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه يرون أنه إذا قذف فتاة يوطأ مثلها، وإن لم تبلغ فإنه يقام عليه الحد.

وكذلك أن يكون مسلمًا، والعلماء يختلفون فيما لو قذف كتابية قد تزوجها مسلم أو لها أولاد مسلمين؛ لأن ذلك يلحقهم المعرة فيه.

أن يكون حرًا؛ لأن من قذف مملوكًا لا يقام عليه الحد في الدنيا للحديث المشهور: من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال[18].

والعفة من الفاحشة التي رمي فيها، بمعنى أنه إذا كان سبق قذف إنسان وسبق أقيم عليه الحد، معناها أن له سوابق أو قذف رقاصة أو نحو ذلك فاجرة من الفاجرات لا يقام عليه الحد، ولكن ليس معنى ذلك أنه يجوز له إطلاق لسانه في أعراض الناس، لا يجوز يحرم عليه يجب أن يمسك لسانه، لكن الكلام متى يقام عليه الحد.

وأما التعريض فهو بحسب قصده لو لم يتكلم بكلام مباشر عرض، فإنه يسأل ماذا تقصد؟ فإن قصد القذف أقيم الحد.

وهذا القذف هل هو حق الله أو حق للمخلوق أو مشترك؟

إذا قلنا: أنه حق الله ما يحتاج المطالبة من صاحب الحق حتى ولو لم يعلم، ما يمكن أن يسقط ولو تنازل؛ إذا قلنا إنه حق لله.

وكذلك إذا قلنا إنه حق مشترك فيه شائبة من حق الله وحق المخلوق.

أما إذا قلنا إنه حق للمخلوق فهذا لا يقام فيه الحد إلا بالمطالبة، أن يطالب صاحب الحق، فإذا أسقطه تنازل فإنه يسقط.

 الوقفة العاشرة: ذكرتها في ضمن الكلام وهي الاستثناء في قوله: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النــور:5]، يرجع إلى ماذا؟ هل يرتفع عنهم الحكم إذا تاب بالفسق وتقبل شهادته أما الحد فقط؟ فالراجح: أنه يرجع إلى الحكم بالفسق وقبول الشهادة: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النــور:4]، أما الحد فيجب أن يقام عليه هذا الوقفة العاشرة: وكنت ذكرت ذلك ضمنًا هذه عشر وقفات.

  1. انظر: مجموع الفتاوى (15/291).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج، رقم: (6243).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109]، رقم: (6655)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، رقم: (923).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة رقم: (4941)، والترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في رحمة المسلمين، رقم: (1924)
  5. مسند أبي داود الطيالسي (2/33)، رقم: (677).
  6. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح باب في قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية، رقم: (2051)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ومن سورة النور، رقم: (3177).
  7. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (5/104).
  8. مجموع الفتاوى (15/315).
  9. مجموع الفتاوى (28/221).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، رقم: (1462)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق، رقم: (79).
  11. الشرح الكبير على متن المقنع (7/503).
  12. مجموع الفتاوى (15/316).
  13. مجموع الفتاوى (15/318-319).
  14. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، رقم: (4832)، والترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في صحبة المؤمن، رقم: (2395).
  15. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، رقم: (4833)، والترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: (2378).
  16. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع العبد الزاني، رقم: (2152)، ومسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، رقم: (1703).
  17. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الرجم، نسخ الجلد عن الثيب، (6/408)، رقم: (7112)، وأحمد، رقم: (21207).
  18. أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب قذف العبيد، رقم: (6858)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب التغليظ على من قذف مملوكه بالزنا، رقم: (1660).

مواد ذات صلة