الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[44] قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ..}
تاريخ النشر: ١٧ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 700
مرات الإستماع: 1179

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

ما زلنا -أيها الأحبة- نتحدث عما يستخرج من الفوائد والهدايات من قوله -تبارك وتعالى- في جملة ما خاطب به بني إسرائيل: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61].

فقوله -تبارك وتعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ قلنا: بأن المقصود بذلك أي: ادخلوا بلدًا من البلدان، أو قرية من القرى، تجدون فيها بغيتكم وطلبتكم، من هذا الفوم والعدس والبصل والقثاء، وليس المراد البلاد المعروفة، وإن كانت البلاد المعروفة -بلاد مصر- ذُكرت في كتاب الله -تبارك وتعالى؛ وذلك في قول فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [سورة الزخرف:51] وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- عن قوله يوسف لأبيه وإخوته: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [سورة يوسف:99].

فهنا قال: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مطالب الدنيا قد تعطى لمن يحبه الله، ومن لا يحبه، وقد تعطى لمن يكون ربه -تبارك وتعالى- غاضبًا عليه، ولعنته تلاحقه، حيثما حل، فذلك ليس هو المعيار في رضا الله -تبارك وتعالى- ومحبته للعبد، فالله يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ۝ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ۝ كُلاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ۝ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [سورة الإسراء:18- 21] إلى غير ذلك من الآيات التي يذكر فيها تفاضل الناس، ويذكر فيها العطاء، ويذكر فيها الطالبين، فهذا كله يصير لهؤلاء وهؤلاء، ويحصل التفاضل بين الناس.

فقد يكون العطاء أيضًا لأعداء الله أكثر مما يُعطى من هذا الحطام لبعض أوليائه، والله يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود:15، 16] فهذه كلها تدل على هذا المعنى، فالعطاء الدنيوي لا يعني رضا الله -تبارك وتعالى- فهنا يقول لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتم لكن وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ كل هذا مع غضبه -تبارك وتعالى- ثم جاء هذا التعبير بالضرب وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فهو وصف لا يفارقهم، ولا ينفك عنهم بحال من الأحوال، وهذا كما ذكرنا من قبل يكون فيما يُوجد في قلوبهم من الفقر، وكذلك ما يلوح ويظهر عليهم من أثر الذل والمسكنة، سواء كان الواحد منهم فقيرًا، أو كان غنيًا.

ويُؤخذ من ذلك أيضًا أن هؤلاء لما كانوا بهذه المثابة من الذل الذي ضرب عليهم، بحيث صار ذلك وصفًا لهم يلازمهم ملازمة تامة، فليسوا مؤهلين لقتال أهل الإيمان إذا قاتلوهم بإيمانهم وعقيدتهم وتوكلهم على الله -تبارك وتعالى- فهم أذلاء، ضربت عليهم المسكنة، وليسوا بأهل للحرب، ولا بأهل للنصر، وإنما هم أهل للخزي والهزيمة؛ ولذلك لما ذكر الله المنافقين واليهود قال: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14].

وهذا كما ذكرنا في بعض المناسبات إن السياق في المنافقين، والقول الآخر أن ذلك في المنافقين مع اليهود، حيث تحالفوا، ووعدهم عبد الله بن أبي بالنصر، وأن يدعو حلفاءه وهم أربعة آلاف ليقفوا معهم في ذلك الحصار الذي حاصرهم به النبي ﷺ أعني بني النضير، فهذا على هذا القول يصدق على اليهود والمنافقين لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ لأنهم ضعفاء جبناء، فالمنافقون ما أوقعهم في النفاق إلا الضعف، ومبنى حال المنافقين على الكذب في أحوالهم وأوصافهم كلها إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف[1].

ولما قيل للإمام أحمد: بم يعرف الكذابون؟ قال: بخلف المواعيد[2] فهذا كذب في الميعاد وإذا اؤتمن خان[3] وهذا لون من الكذب في الأمانة، فحال المنافق تلتئم على وصف واحد، وهو الكذب، فإن مخالفة الظاهر للباطن، هي أصل الكذب وأساسه، فمثل هذا الذي يكون بهذه الحال، والكذب -كما هو معلوم- لا يكون إلا من جبان ضعيف، يضعف عن الثبات، وقول الحق، والصدق، ولزوم ذلك، فيلجأ إلى التلون والكذب، وإخفاء ما في نفسه، أو إخفاء الحقيقة؛ ولذلك البيئات التي يكثر فيها المهانة والضعف، والتربية على المهانة والذل يكثر فيها التلون، هذا في البيئات والمجتمعات، وتجد ذلك أيضًا في الأفراد، فالذي يربي أولاده تربية على العسف والقهر والشدة والغلظة، وابتغاء الريبة بهم دائمًا، فالغالب أن هؤلاء الأولاد يصيرون في حال من التلون والكذب، ومخالفة الظاهر للباطن، وألوان النفاق لضعفهم وجبنهم.

وكذلك يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [سورة البقرة:61] أي: رجعوا بغضب من الله، والمباءة هي المكان الذي يرجع إليه الإنسان إذا تقلب في حاجاته، وكذلك الموضع الذي يتخذه الإنسان للإقامة، ونحو ذلك فليتبوأ مقعده من النار[4] وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ [سورة الحشر:9] يعني: سكنوا واستوطنوا المدينة النبوية، واستقر الإيمان في قلوبهم، واعتقدوا الإيمان.

وفي هذا أيضًا إثبات صفة الغضب لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته.

وتأمَّل كذلك قوله -تبارك وتعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] هذه يسمونها صفة كاشفة، تأتي في كل مقام بحسبه، فهنا في مثل هذا المقام لبيان شناعة هذا الفعل، بمعنى: أن هذه الصفة غير مقيدة، يعني: لو أنه قيل: بأن فلان قد قتل فلانًا، قد يتساءل الناس هل قتله بحق أو بغير حق؟ لكن حينما يقتل نبي، فهذا لا يمكن أن يكون بحق، إذًا حينما يقال عن أحد من الناس بأنه قتل بحق، فهذه صفة مقيدة، أو بغير حق فهذه صفة مقيدة؛ لأنه قد يقتل بحق، وقد يقتل بغير حق، لكن الأنبياء لا يمكن أن يكون قتلهم بحق، فصارت هذه الصفة صفة كاشفة، تبين عن حقيقة ثابتة، ولا تقيد الموصوف.

كما يقول الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] هل يمكن أن يدعو أحد مع الله إلهًا آخر له فيه برهان؟ لا يمكن، فهذه يقال لها: صفة كاشفة، تكشف الحقيقة، ويشبه هذا قوله -تبارك وتعالى: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] فهذه صفة كاشفة؛ لتثبيت الجرم يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ [سورة آل عمران:167] والإنسان لا يقول إلا بفيه، لكن هذا ورد لإثبات هذا الجرم عليهم.

وأحيانًا يكون لبيان ملحظ آخر وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [سورة النور:15] فهنا يمكن أن يكون لتسجيل هذا الجرم عليهم، ويمكن أن يكون أيضًا لملحظ آخر، وهو أن هذا القول لا يجاوز الأفواه، فهذا الإفك الذي قالوه عن أم المؤمنين -رضي الله عنها- ليس له حقيقة أو نصيب من الحقيقة في الخارج، وإنما هو شيء لا يجاوز الأفواه، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [سورة الأنعام:38] والطائر يطير بجناحيه ولا يطير برجليه، فمثل هذا يكون من قبيل الصفة الكاشفة لتحقيق الموصوف، أو لتحقيق الأمر، أو لتحقيق الخبر، أو المخبر عنه، أو نحو ذلك.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] فالله -تبارك وتعالى- أخبر عنهم بأنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله؛ لماذا ذلك؟ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [سورة البقرة:61] هذا السبب الأول، والثاني: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] ثم قال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فهذا يسمونه اللف والنشر، اللف: بأن يدمج قضيتين، أو أكثر، ويطوي الكلام طيًا، ثم بعد ذلك يذكر أحكامًا تليق بكل واحد من المذكورات، فإن كانت الأحكام المذكورة، أو القضايا المذكورة المتعلقة به مرتبة بحسب ترتيب الأول، فهذا هو اللف والنشر المرتب، وإن كان ذلك ليس بترتيب الأول، فهذا الذي يسمونه باللف والنشر المشوش.

فهنا قال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ وقبلها قال: يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [سورة البقرة:61] فهذا الأول وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] فيكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، ثم قال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فالعصيان يناسب المذكور أولاً وهو الكفر، وكانوا يعتدون يناسب قتل النبيين بغير الحق، فهذا لف ونشر، أجمل قضيتين، ثم ذكر أحكامًا تتصل بهما، وجاءت هذه الأحكام مرتبة بحسب ترتيب الأول، أليس كذلك؟ فهذا يسمى لف ونشر مرتب فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيد [سورة هود: 105] ذكر الشقي أولاً، ثم السعيد، ثم قال: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود: 106 - 108] فهذا لف ونشر مرتب.

وهنا لما قال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ لم يعطف الاعتداء على العصيان، يعني لم يقل: ذلك بما عصوا واعتدوا، وإنما قال: وكانوا يعتدون، فهذا فيه مراعاة للفواصل وأواخر الآيات، وأيضًا فيه أمر آخر، وهو ليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائمًا، فعُبّر عنه بالمضارع، وجيء بالكون الماضي معه، كانوا يعتدون، فالعدوان يتجدد ومستمر، ولا يتوقف، في ذلك الوقت وبعده، يعني حتى بعد ما ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، هم مستمرون على ما كانوا عليه، فمن طبعهم العدوان والعصيان.

كذلك هنا في قوله -تبارك وتعالى- وهي قضية تتعلق بالتعبير وملاحظات العبارات في العقيدة فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا [سورة البقرة:61] أضاف الإنبات إلى الأرض، ومن الذي ينبت على الحقيقة؟ الله، فأضاف ذلك إلى موضعه، وهذا لا إشكال فيه، وبعض الناس يتحرج من هذا، تقول مثلاً: أنبت المطر الزرع، فلا إشكال، لأنك أضفته إلى المطر، باعتبار الإضافة إلى السبب، والله -تبارك وتعالى- هو الذي أنبت النبات على الحقيقة، فيصح أن يضاف الشيء إلى سببه، أو إلى موضعه، وهذا دل عليه القرآن، لكن أن يضاف إلى شيء لا صلة له به مطرنا بنوء كذا فهذا من الألفاظ الشركية، كما في الحديث: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب[5].

كذلك ما قد يقال أحيانًا: بأن مطرنا مثلاً برياح شرقية، أو شمالية، أو برياح غربية جنوبية، فمثل هذا لا يضاف إلى الرياح، ثم أيضًا مثل هذه الأمور التي رتب الله عليها ضرب الذل والمسكنة، ونزول الغضب على هؤلاء، كذلك أيضًا من شابههم بمثل هذه الأفعال، فإنه يناله من هذه العقوبات والأوصاف بقدر ما فيه من مشابهتهم، وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في جملة من كتبه، من ذلك اقتضاء الصراط المستقيم في أوله، ثم بعد ذلك في ثناياه ذكر صورًا كثيرة، في البداية ذكر نحو ثمانية عشر لونًا مما شابهت به هذه الأمة أهل الكتاب: الحسد والبغضاء والتفرق، وهو حري بالمراجعة، كلام جيد ومفيد.

فلاحظوا آثار هذه العقوبات: ضربت عليهم الذلة والمسكنة، فالذي يعصي الله -تبارك وتعالى- لا يكون عزيزًا، فالذل لا شك أنه واقع به بقدر معصيته، فطاعة الله -تبارك وتعالى- هي العز، والرفعة الحقيقية، وأما المعصية فهي تدسي وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [سورة الشمس:10] يعني أفسدها وأتبعها هواها، فيكون ذلك خفضًا للنفس، فقد تجد الرجل عنده المال الكثير، أو عنده ربما الرتبة الاجتماعية، أو عنده منصب ووظيفة مرموقة، ولكنه غير مطيع لله فترى الذل يلوح على وجهه، فالله -تبارك وتعالى- لا يجعل العز لأهل معصيته مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ [سورة فاطر:10] من قال: فإنها لقريش، أو للأوس أو للخزرج مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون:8] فهذه العزة لأهل الإيمان.

لاحظ الوصف هنا وللمؤمنين، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر ما عنده من الإيمان يكون عنده من العز، وكما قال الله -تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون:8] فأيضًا لاحظ هؤلاء اليهود في عتوهم وتمردهم، وقلة صبرهم، حيث طلبوا هذه الأطعمة التي هي أدنى بدلاً من تلك المطعومات، التي هي أعلى بدلاً من المن والسلوى، يريدون البصل والفوم، وما أشبه ذلك، فهؤلاء أمعنوا في التمرد على الله واحتقار أوامره وشرائعه، فكان الجزاء من جنس العمل، فصاروا بهذه المثابة، ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وهذا كثير في القرآن، وفي سنة رسوله ﷺ والجزاء من جنس العمل، وإبراهيم لما اعتزل قومه، وترك الأهل والوطن والعشيرة لله، وفي الله، عوضه الله من الذرية الصالحة، ما تقر بهم عينه، وكذلك أيضًا في قول النبي ﷺ في أهل الكبر: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان[6] ترفعوا وتعالوا وتعاظموا، فصاروا بهذه المثابة.

وأيضًا: إن هؤلاء اليهود مع ما هم فيه، ولو كان بأيديهم المال الكثير، إلا أنهم أذلاء، ضربت عليهم المسكنة، فهم صاروا في فقر مستمر، يطلبون الكثرة والزيادة بصورة دائمة، فلا يشبع نهمتهم شيء، إنما هم دائمًا في حاجة وطلب لا يتوقف للمال والدنيا وحطامها، فهم أحرص ما يكونون عليها، وهذا الذي يقع في أيديهم سئموه، وصاروا كالعدم، ويبحثون دائمًا عما وراءه، فصار هذا الحرص سجية لهم، وعادة، وبقي ذلك في أعقابهم، كما يقول الطاهر بن عاشور -رحمه الله[7].

وتأمل كذلك قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] هذه المعاصي أين وصلت بهؤلاء الناس؟ وصلت بهم إلى محادة ربهم -تبارك وتعالى- وقتل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فالمعصية تجر أختها، ففي البداية غفلة ينشأ عنها صغيرة، ثم تأتي بعد ذلك الكبيرة، ثم بعد ذلك تأتي الأهواء والضلالات والبدع والكفر، يجر بعضها بعضًا.

فهؤلاء كيف كانت البدايات عندهم؟ ثم كيف كانت النهايات؟ الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وهم أولاد يعقوب والأنبياء يسوسونهم، فإدمان المعاصي -أيها الأحبة- يفضي إلى تشرب ذلك في النفوس، حتى يصير ذلك إلى حال يكفر صاحبها بربه -تبارك وتعالى- ويقتل رسله، ويجترئ على أمور عظيمة؛ ولذلك الإنسان لا يتساهل، فقد يتساهل بنظرة، أو بكلمة، ويتساهل بمعصية، ثم بعد ذلك لا يملك قلبه؛ لأن القلب يألف ذلك، فتذهب عنه تلك الشفافية والوحشة التي تحصل للقلوب الحية، ثم بعد ذلك يقع في الكبائر وهو يضحك، ويترك الصلاة وهو يضحك، ولربما كان من أهل الاستقامة، وممن يحفظ كتاب الله وكما قيل:

  ما لجرح بميت إيلام[8]

وقبل ذلك كان لو تأخر عن الصلاة فزع وتأثر، حتى مات القلب، وما صار ذلك يؤثر فيه، وترك الصلاة بالكلية.

ثم أيضًا في قوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْر [سورة البقرة:61] هذا فساد الذوق ينبئ عن فساد في العقل والفطرة، يعني إذا تحولت الفطرة فسدت العقول، وضعفت البصائر، فصار الإنسان يختار ما يضره، ويختار الأمور القبيحة، ويترك ما يكون فيه صلاحه ونفعه، سواء كان ذلك في المطعوم، أو الملبوس، أو كان ذلك في النكاح، واختيار الزوجة، أو كان ذلك في أموره وشؤونه الأخرى من الرفقاء، وغير ذلك، فتنتكس الفطر، حتى يصير ذلك إلى حال يعجب العقلاء منها، كيف يختار الإنسان لنفسه مثل هذا؟ والله المستعان.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم: (33) ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم: (59). 
  2.  الفروع وتصحيح الفروع (11/ 92). 
  3.  سبق تخريجه. 
  4.  أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي ﷺ برقم: (108) ومسلم في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله ﷺ برقم: (2). 
  5.  أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم برقم: (846) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء برقم: (71). 
  6.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم: (2492) وحسنه الألباني. 
  7.  التحرير والتنوير (1/ 618).
  8.  البيت للمتنبي وبدايته:
    من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرحٍ بميتٍ إيلام.
    انظر: اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي (ص: 1216). 

مواد ذات صلة