الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
(093) قوله تعالى: {أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ...} الآية - إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ...} 87-89
تاريخ النشر: ٠٣ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 436
مرات الإستماع: 951

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما عجب الله -تبارك وتعالى- من حال من ذكر من أهل الكتاب كيف يبغون ويطلبون دينًا غير دين الإسلام، وأنه لا يقبل دينًا سواه، وأنه لا يهدي قومًا كفروا بعد إيمانهم، وبعدما عرفوا الحق، وعرفوا البينات والحُجج الدالة على صدق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، ثم قال بعد ذلك في حق هؤلاء المتنكبين الحق بعدما استبان وظهرت دلائله: أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين [آل عمران:87]، هؤلاء الموصوفون بهذه الصفة أبعد الناس عن الهداية؛ لأنهم لا يطلبونها أصلاً، وإضافة إلى ذلك فإن جزاءهم الطرد والإبعاد عن رحمة الله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- يلعنهم، والملائكة تلعنهم، والناس أيضًا يلعنونهم، يلعنهم أهل الإيمان وهم أيضًا في الآخرة يتبرأ منهم أتباعهم ومن اغتر بهم ومن ضل على أيديهم فهناك يلعنونهم، فتكون عليهم لعنة الناس أجمعين المؤمن والكافر.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن هؤلاء بُعداء كل البُعد عن الخير وعن الهدى وعن الرحمة، وأشار إليهم بهذه الإشارة إشارة إلى البعيد ليدل على بعدهم عن الهدى وعن الإيمان وعن الرحمة: أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين، ومن وقعت عليه لعنة الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يُفلح لا في الدنيا ولا في الآخرة، كيف وقد اجتمعت عليهم مع ذلك لعنة الملائكة والناس أجمعين، بخلاف أهل الإيمان: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43]، فالملائكة تستغفر لأهل الإيمان، والله -تبارك وتعالى- يُصلي عليهم فينزل عليهم من ألطافه وجوده وبره وهداه فينقلهم من هداية إلى هداية، ومن هنا يتبين خطورة الإعراض عن الهدى واستحباب الضلال والغي على الحق والإيمان.

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُون [آل عمران:88]، خالدين فيها، أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين ۝ خَالِدِينَ فِيهَا، أصل الضمير يرجع إلى ما ذُكر قبله أقرب مذكور، والمذكور قبله هو اللعنة، ولهذا ذهب جمع من أهل العلم إلى أن قوله: خَالِدِينَ فِيهَا، أي: في لعنة الله، ولكن فهم جمع من المفسرين من السياق ومن نظائره من القرآن في ذكر الخلود أن المقصود بذلك: الخلود في النار خَالِدِينَ فِيهَا، والواقع أنه لا منافاة بين القولين، وذلك أن لعنة الله موجبة لدخول النار، فهي من لوازمها، فكان بين القولين مُلازمة: خَالِدِينَ فِيهَا، أي: في النار، التي هي من موجبات غضبه ولعنته وطرده من رحمته، خَالِدِينَ فِيهَا في اللعنة وفي النار، ولا إشكال في ذلك إن شاء الله.

لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُون [آل عمران:88]، "لا يُخفف" لا تنقص آلامهم وشدة العذاب النازل فيهم، النار في الدنيا قد تخبوا، وقد يتعايش كما يُقال الإنسان مع الألم والمصيبة والمرض أو نحو ذلك ويتكيف جسده عليه فيكون ألمه الأكبر والأعظم عند الصدمة الأولى، يعني في أوائله ثم بعد ذلك يتعايش مع هذا المرض أو العلة أو الألم أو نحو ذلك فلا يكون وقعه عليه كوقعه في أوائله وبدايته يعتاد، والإنسان عنده قدرة على التكيف، قد يبقى في مكان حار أو شديد البرودة أو في الشمس ضاحيًا فيتأثر في البداية وينزعج ويتألم ثم بعد مدة يعتاد على ذلك، وهكذا، أما في النار فلا تخفيف ولا قدرة على التعايش، ولا يمكن للإنسان أن يتسلى بكثرة من يدخل النار، أيضًا؛ لأن الناس في الدنيا تهون مصائبهم إذا كثُر نظائرهم، يعني في العلة التي وقعت أو الموت أو القتل أو نحو ذلك، ولذلك في الحروب يكثُر القتل فتخف المصيبة ليس ذلك كقتل رجل واحد في مجتمع في سِلم فيتحدث المجتمع بأكمله عن هذه الجريمة، ولذلك قال الله -تبارك وتعالى-: وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُون [الزخرف:39]، الخنساء كانت تقول في رثاء أخيها صخر:

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي[1]

فهي تتسلى بغيرها ممن أُصيب بمثل مصيبتها فيهون عليها وقعها، أما في النار فكل مشغول بنفسه لا يشعر بغيره، إذا كان أخف أهل النار عذابًا كما قال النبي ﷺ: رجل عليه شراكان من نار يغلي منهما دماغه[2]، وقال في راوية أخرى: في ضحضاح من نار[3]، يعني: عليه نعلان من نار، أو في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، طبعًا لا تسأل عن ما تحت الدماغ كيف يغلي الجسد والجوف -نسأل الله العافية- وهو أخف أهل النار عذابًا ويظن أنه أشد أهل النار عذابًا، يعني: هو لا يُسليه أنه يرى آخرين في غمرات النار، والعذاب وإنما يشعر أنه أشد الناس ألمًا وعناء وعذابًا فالنار لا سلوة فيها ولا تخفيف ولا إنظار: وَلاَ هُمْ يُنظَرُون، بحيث يعتذرون ويقدمون المعاذير يلتمسون حُججًا أو أعذارًا أو غير ذلك، مُباشرة يُكبكبون في النار، مقرنين بالأصفاد، ولذلك في هذه المُدد التي لا تتناهى في وقت محدود، يعني: ليست هذه محدودة بمليارات السنين، الإنسان يعيش في الدنيا إلى كم، إذا عاش إلى الثمانيين أو التسعين قيل مُعمر، ولكن في النار ليست المائة أو الثمانيين في شيء، هم يعيشون مدة لا تُقاس بمليارات السنين ولا بغيرها، إلى الأبد، بلا انقطاع خلود، فحال كهذه ألا تستحق أن الإنسان يقف ويُفكر وينظر ما تحت قدميه وإلى أين يسير وإلى أين يتجه وينظر في أعماله ونياته ومقاصده قبل أن يتورط وعند ذلك لا إمهال ولا رجعة، ولا معاذير فيفوت الفوت، ثم بعد ذلك يندم الإنسان ولات ساعة مندم.

خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُون، هذه الخسارة الحقيقية لعنة من الله ، ومن كانت تُلاحقه لعنة الله لا يهنأ بطعام ولا شراب ولا نوم ولا مسكن ولا نُزهة ولا غير ذلك -أعوذ بالله- ولهذا ينبغي للإنسان أن ينظر في مظان ذلك وأسبابه ما الذي يوقع ويوجب مثل هذا؟! فيبتعد عنه غاية الابتعاد، ويُصحح عمله ونيته وقصده وظاهره وباطنه وأحواله كلها.

قال الله : إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم [آل عمران:89]، فعقب بهذين الاسمين الكريمين إشارة إلى معنى وحكم وهو أن الله يقبل توبتهم ويعود عليهم بالمغفرة والرحمة، والمغفرة ستر ووقاية، والرحمة دخول الجنة وتنزل الألطاف وما إلى ذلك، فيدخلون الجنة برحمته، ويقيهم النار بغفر ذنوبهم وستر عيوبهم.

فقوله -تبارك وتعالى-: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم هذا يدل على أن التوبة تجُب ما قبلها ولو كان كفرًا ولو كان ردة عن الإسلام، وهذا من رحمة الله أن الإنسان يجني الجنايات فإذا تاب تاب الله عليه، وانظر إلى عظمته -تبارك وتعالى- ولطفه وبره ورحمته بعبادته، أولئك الذين نسبوا له الصاحبة والولد -أعني النصارى ومن شابههم- قال الله : أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم [المائدة:74]، بهذه العبارة بأسلوب العرض تلطف بهم أَفَلاَ يَتُوبُونَ، ولهذا قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله، معنى أرجى آية يعني أنها أكثر الآيات ترجية برحمة الله ما بعد هذا شيء، نسبوا له الزوجة والولد ويتلطف بهم ويقول أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، يعني: البشر إذا شتمه أحد أو أساء إليه أحد لربما صار هو قاطعه وشتمه ولعنه ولم يقبل منه عذرًا ولم يقبل منه صرفًا ولا عدلاً، أما الله فرحمته وسعت كل شيء، والذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُود [البروج:4]، قُتل هنا بمعنى لُعن، أصحاب الأخدود يعني الذين أحرقوا الذين قاموا بالإحراق، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُود ۝ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود [البروج:5-6]، يعني: الناس يلقونهم في النار، القعود على النار، هؤلاء الكفار.

إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود ۝ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود [البروج:6-7]، الضمير يرجع إلى فئة واحدة وهم من باشروا الإحراق، يعني الذين أحرقوا المؤمنين، يعني ليس إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود، يعني: أن المُحرقين المؤمنين قعود على النار، هذا وإن قال به بعضهم، لكن الأقرب لا أن هؤلاء العُتاة جلسوا على شفير هذه النار يلقون فيها من لم يرجع عن دينه، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود ۝ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود [البروج:6-7]، لأن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، فيرجع الضمير إلى فئة واحدة أولى من أن يُقال هذا يرجع إلى المُحرِقين وهذا يرجع إلى المُحرَقين، هذه من طُرق الترجيح.

فالشاهد أن الله لما ذكر هذا العمل الشنيع: أحرقوا أهل بلد، خدوا الأخاديد في أفواه السِكك، كما قال النبي ﷺ، وصاروا يُلقون كل من لم يرجع عن دينه، النساء والكبار والصغار، وتأتي المرأة في حديث: الغلام الذي تكلم وهو في المهد فجاءت أمه تحمله، فلما وقفت على النار وعلى الأخدود تلكأت، فنطق الغلام وهو في سن المهد فقال: يا أمه اصبري؛ فإنك على الحق[4]، تكلم هذا الغلام، فتشجعت، هي ما كانت تستطيع تُلقي بنفسها مع ولدها، فألقت بنفسها، أحرقوا كل أحد، ما أبقوا أحد إلا من رجع عن دينه، فقال الله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق [البروج:10]، الجزاء من جنس العمل، أحرقوهم بالنار فلهم عذاب الحريق، لكن هنا ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ، هذا لو وكل إلى البشر قيل هؤلاء تابوا أو لم يتوبوا لابد أن يذوقوا ما أذاقوا لهؤلاء، فالله أرحم من خلقه، فإذا أصابك الضُر أصابك لأواء تذكر أن الله أرحم بك من أمك ومن كل الناس القريب والبعيد، الله أرحم بنا من أنفسنا، ولو وكلت الآخرة إلى البشر لرأيت، لكن الله لطيف بعباده.

إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ، هذا قيد مهم، فهذا الإصلاح يعود إلى شيئين:

فيما يتعلق بالفساد والشر والضرر المُتعدي إلى الغير هذا لا بد من إصلاحه لا يكفي أن يتوب الإنسان، والعلماء من الأصوليين والفقهاء تكلموا فيمن وقع منه شيء يسري فساده وضرره، كيف تكون توبته، بل ذكروا أدق من هذا يقولون لو أنه رمى بسهم وتاب قبل أن يُصيب الرمية كيف تكون توبته، يعني: تاب قبل أن يُصيب الرمي الرمية الهدف، هذا في السابق يعني لربما يكون بعيدًا أما اليوم يمكن عبر وسائل هذه التواصل وغيرها يُرسل رسالة ويندم لحظة الإرسال لكن ما ينفع ذهبت، وهكذا إذا ألف كتبًا في الضلال ونشر البدعة ونشر الأهواء أو التشكيك في الدين ثم قال: تُبت، أو تبنى مذاهب منحرفة ضالة ثم قال: تُبت ما يكفي، لا بد أن ينقضها، أن ينقض ما كتب وأن يُبطله، طيب لو أنه نشر فسق ومعاصي كذلك، له ألبومات أغاني، له أشياء من هذا القبيل الناس يسمعونها هنا إذا كان لا يستطيع وليس ذلك مما يُنقض يُرد يعني كالشبهات والضلال لكنها فسق ومعاصي من قبيل الغناء ونحو ذلك والألحان المُطربة فهذا يحتاج أن يُنبه الناس يقول لهم: لا أُحل لأحد أن يسمعها، ولا أن يبيعها ولا أن يتعاطاها ولا أن ينسخها، إلى آخره، أنشأ مواقع سيئة مواقع إباحية -أعزكم الله- فهذا تاب، نقول: الغي هذه المواقع هذه الصفحات هذه الحسابات تُلغيها، ما يكفي أن تتوب هكذا، وهكذا أيضًا في ألوان الشرور المتعددة، هذا الإصلاح لابد منه، ما يكفي أن يقول تُبت، ينشر انحرافات وضلالات ثم يقول أنا تبت، طيب، وهؤلاء الذين ضلوا بسببها.

النوع الثاني: من الإصلاح وهو إصلاح النفس تَابُوا وَأَصْلَحُوا [البقرة:160]، فابن القيم -رحمه الله-[5] يتحدث عن التوبة حديث العلماء يذكرونه عادة أن شروط التوبة: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم أن لا يعود، وإن كان فيه مظالم يرد هذه المظالم هذا في المتعدي بالنسبة للمظالم، هذا يحتاج أن يرد، هذا من الإصلاح، أفسد بين اثنين يُصلح بينهما، كذب على إنسان ورماه بالبهتان يقول له: أنا كذبت عليك، ولذلك كان عمر في القذف بالفاحشة كيف تكون توبة القاذف؟ الجمهور أنه يكفي أن يتوب بينه وبين الله يندم ويعزم أن لا يعود ويُقلع عن الذنب يكفي، عمر كان يرى غير هذا، عمر بن الخطاب كان يرى أنه لا بد أن يُكذب نفسه[6]، يقول: أنا كذبت فيما نسبت إليه، حتى لو كان رآه؛ لأن شهادته باطلة، كذب؛ لأنه لا بد من أربعة معه يشهدون لكونه مُدعي يحتاج معه شهود، وإذا كان شاهدًا يحتاج إلى ثلاثة، ما عنده هذا العدد إذن لا يجوز أن يتفوه فإذا تفوه فكلامه هذا مُحرم لكونه كاذب في حكم الله : فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:5]، فعمر كان يشترط في قبول توبته حتى تقبل شهادته وتُرد عدالته مع أنه لا يسلم من الجلد، الجلد حاصل طالما أنه وصل إلى الحاكم إلى الإمام الجلد لا بد أن يقع، فالاستثناء يرجع إلى المذكورين دون الجلد: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، فالجلد حاصل لا بد منه، ما دام وصلت إلى الإمام لكن بقي عدم قبول الشهادة والحكم بالفسق، فعمر  كان يرى أنه لا تُقبل شهادته، ولا يرتفع عنه الحكم بالفسق إلا إذا أكذب نفسه؛ لأن أعراض الناس ليست سهلة، هل تعلمون أن هذا الإنسان الذي يقول للبعيد يا كذا يا كذا عبارات سوقية بالشوارع أو كذا لو يُشهد عليه شاهدين يُعزر فقاله له كلمة ما هي قذف لو شتمه يا كذا كلمة قبيحة يُعزر، لو أشهد عليه اثنين وطالبه قضائيًا، كيف لو قذفه في عرضه قال: يا ابن كذا مما هو قذف؟ هذا ثمانين جلدة أو يأتي بأربعة شهود يشهدون شهادة مفصلة أنهم رأوا ذلك منه من المتهم كالميل في المكحلة، أربعة يشهدون بهذه الشهادة، يفرقون كل واحد يشهد بالتفصيل، ولا يكون تناقض بين أقوالهم، هذا كيف يقع!، ولذلك لا تكاد ترى إقامة حد على زنا مُحصن مثلاً أو غير مُحصن؛ لأنه لا يُستطيع إثبات هذا إلا إذا جاء واعترف بالاعتراف، والإنسان شرعًا مأمور بأن يستر نفسه.

فالشاهد أن مثل هذا عند عمر بن الخطاب أنه لا بد أن يُكذب نفسه هذا في الأشياء المتعدية، يعني: لطخ سمعته لا يُترك، ويقول: أنا تُبت بيني وبين الله فهذا في الأشياء غير المُتعدية كإنسان كان في نفسه يتعاطى المعاصي والمنكرات والكبائر ونحو ذلك، يتعاطى مخدرات أو خمور، أو يتعاطى فواحش أو غير ذلك، كيف يتوب؟

يندم، ويُقلع، ويعزم أن لا يعود، هذه الشروط التي ذكرها العلماء، وابن القيم يقول: "التوبة النصوح التوبة الحقيقية التوبة الصادقة هي التي تكون حاله بعد التوبة أحسن من حاله قبل التوبة"[7]، ليس فقط يقول: أنا تائب من المخدرات ومع ذلك هو مُضيع للصلوات، وبذيء اللسان، ولربما يتعاطى المعاصي الأخرى، ويُجالس أهل السوء والشر، والفساد، ولم يتغير من حاله كثير، ابن القيم يقول: تكون حاله صحيحة يُقبل على الله وعلى طاعته وعبادته ونحو ذلك، يعني يستقيم بعد التوبة، وهذا معنى له وجه قوي من النظر، ولو نظرت إلى بعض الذنوب يعني المخدرات سألت القائمين على هذا الجانب، وهذه الجهة يقولون: كثير ممن يُعالجون من المخدرات يرجعون بعد مدة؛ لأنه يزعم أنه تاب من المخدرات لكن لم يرجع إلى ربه وتستقيم أحواله، ويتحول إلى إنسان مُطيع وعابد وصاحب، هذا هو الفرق، ويقولون: بأن من كان بهذه المثابة يعني تحولت حاله إلى استقامة يقولون: هذا يثبت بإذن الله، لكن هؤلاء قلة، الكثير أبدًا يجلس مدة معينة ثم بعد ذلك يرجعون، والله المستعان.

تَابُوا وَأَصْلَحُوا [البقرة:160]، التوبة تجب ما قبلها وترجع صفحة الإنسان من جديد بيضاء، ولذلك الشيطان يحاول يُثبط الإنسان عن التوبة فإذا تاب أغراه بالمعصية، ثم يقول له: أنت مُتلاعب بالتوبة، يريده أن لا يتوب، لا، يتوب ولو تكرر منه الذنب، يقول له: منافق، ليس هذا هو النفاق، النفاق أن يُبطن الكفر ويُظهر الإسلام، هذا النفاق، أما أنه يعصي ثم تغلبه نفسه ثم يندم ثم يتوب ثم يرجع هذا ليس هو النفاق.

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:89]، الفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فَإِنَّ اللَّهَ، يعني: لمن كان بهذه المثابة وهي تدل على التعليل، والغفور كثير الغفر على كثرة الذنوب، وكثرة العباد، ورحيم كثير الرحمة عظيم الرحمة على كثرة المرحومين، كل أحد يحتاج إلى رحمته، ولن يدخل أحد الجنة بعمله كما قال النبي ﷺ.

فالتوبة بابها مفتوح إنما تُحجز بحالتين: حالة فردية إذا وصلت الروح الحلقوم، ليس مرض الموت، فإذا وصلت الحلقوم الروح خلاص في طور الخروج غرغر فهنا لا تنفعه التوبة، لكن في مرض الموت النبي ﷺ دعا لعمه أبي طالب في مرض الموت، ودعا اليهودي ودخل في الإسلام في مرض الموت، لكن إذا وصلت إلى الحشرجة إلى الغرغرة بلغت التراقي فعند ذلك لا تنفعه التوبة.

أما العامة فإذا ظهرت الشمس من مغربها فهنا يُحجب باب التوبة، فطالما أن التوبة مفتوحٌ بابها فينبغي على الإنسان أن يتوب من جميع الذنوب ولا يستثني، الله يدعوا إلى ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا [التحريم:8]، وهذه التوبة النصوح كما ذكر أهل العلم النُصح يدل على الخلوص والبياض والنصاعة فهي الخالصة لله العامة التي لا تردد فيها، ولا مثنوية توبة نصوح، فمن تحقق في هذه الشروط فهو من قبيل التوبة النصوح، وكذلك يتبعها صلاح الحال، وفي الجمع بين الغفور والرحيم كما ذكرنا في الكلام على الأسماء الحسنى أن الاقتران بين الاسمين يُعطي وصفًا ثالثًا فيكون -تبارك وتعالى- يجمع للعبد بين الغفر الذي يزول به المكروه والمحظور وآثار الجرائر والجرائم والذنوب، والرحمة التي يحصل بها حصول النعمة والمطلوب، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران:89].

هذا وأسأل الله أن يغفر لنا وأن يرحمنا، وأن يهدي قلوبنا، وأن يُصلح أعمالنا وأحوالنا، ويغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. انظر: شرح ديوان الحماسة (ص:601)، وجواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب (2/141).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابا، برقم (213).
  3. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، برقم (3883)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، برقم (209).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام، برقم (3005).
  5. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/199).
  6. انظر: المغني لابن قدامة (10/180).
  7. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/316).

مواد ذات صلة