السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(106) قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية 99
تاريخ النشر: ٢٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 464
مرات الإستماع: 1137

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

كان الحديث عن هذا الخطاب الموجه إلى أهل الكتاب، في هذه السورة الكريمة، سورة آل عمران، بعدما بين الله -تبارك وتعالى- حقيقة ما جاء به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وما كان عليه إبراهيم وأنه على دين الإسلام، وطالب هؤلاء باتباعه، فقال بعد ذلك: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون [آل عمران:98]، وقد تحدثنا عن هذه الآية، وما يُستخرج منها من الهدايات، والمعاني، والفوائد، ثم قال الله -تبارك وتعالى-: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون [آل عمران:99]، قل لهم أيها النبي فأنت مُبلغ عن الله لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ لم تصرفون، وتمنعون عن الإسلام، وهو سبيل الله -تبارك وتعالى- من آمن، دخل في الإسلام، فتصرفونه بإلقاء الشبهات، وبالتشكيك.

وكذلك أيضًا فهم يصرفون من يدخل في الإسلام، وأراد الدخول فيه، فيبغونها طريقًا معوجة تَبْغُونَهَا عِوَجًا ويطلبون لهؤلاء الزيغ والميل عن الحق والطريق المستقيم، وَأَنتُمْ شُهَدَاء أنتم تشهدون، وتعلمون أن ما جاء به النبي ﷺ حق، وأن هذا الدين هو الدين الحق، وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون فالله -تبارك وتعالى- مُطلع على أعمالكم، وأحوالكم، وما يصدر عنكم، وسيُجازيكم على ذلك جميعًا.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ كما ذكرنا في نظائره أن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- مُبلغ عن الله، وأنه عبد يأتمر بأمر الله -تبارك وتعالى-.

وكذلك أيضًا في خطاب هؤلاء: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ خاطبهم بخطاب فيه من الدلالات ما قد أشرنا إلى شيء منه -في مناسبات سابقة- من التلطف بهم.

وكذلك التسجيل عليهم بعِظم جُرمهم، وجنايتهم حيث إنهم أهل كتاب، وهذا يقتضي أنهم أهل علم، فكان صدهم عن سبيل الله وكفرهم عن علم ومعرفة ودراية، وذلك أشنع وأعظم مما لو صدر عن جاهل.

لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ لم تمنعون من الإسلام من لم يدخل فيه، وكذلك أيضًا من دخل فيه تلبسون عليه؛ ليرتد عنه، تطلبون بذلك الزيغ والانحراف، لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ.

ولاحظ هنا أنه خص من آمن، ومعلوم أنهم يصدون من آمن، ويصدون أيضًا من لم يؤمن بتعويقه وصرفه حتى لا يدخل في الإيمان، لكن يمكن أن يُقال بأنه خص هنا من آمن باعتبار أن ذلك أشد في الأثر والوقع والجُرم مِن صد من لم يؤمن، فإن من دخل في الإسلام ثم صُد عنه فكفر أشد ممن صد ولم يدخل في الإسلام أصلاً، ولاشك أن من دخل في الإسلام ثم رجع عنه يكون مرتدًا، ويترتب عليه من الأحكام ما يترتب، ويكون هؤلاء قد أخرجوه من الهداية والنور إلى الكفر والظلام، بخلاف من لم يؤمن، لم يدخل في الإسلام، ولذلك فإن بعض أهل العلم من المفسرين يحملون هذه الآية لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ ويدخلون فيه من أراد الدخول في الإسلام بهذا الاعتبار، يعني: باعتبار أنه ذكر من آمن؛ لأن ذلك أشد في الصد، وإلا فهم أيضًا يعاتبهم على صدهم عن سبيل الله مُطلقًا، سواء كان ذلك لمن دخل في الإيمان، أو من لم يدخل فيه، والله تعالى أعلم.

وهكذا أيضًا لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ يؤخذ من هذه الآية أن هذا العمل، وهو صد الناس عن سبيل الله عن الحق، عن الدين، عن الإيمان، أن هذا من أعمال أهل الكفر والإجرام، فالله -تبارك وتعالى- أضاف ذلك إلى هؤلاء، فلا يتصور أن يقع ذلك من مؤمن عرف الله وعرف الحق الذي جاء به الرسول ﷺ لكنه قد يقع من المنافقين.

ثم في قوله -تبارك وتعالى-: لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا لاحظ إذا صُد عن سبيل الله، وهو الصراط المستقيم، فذلك يقتضي أنه صار في طريق معوجة تَبْغُونَهَا عِوَجًا ولا يوجد وسط بين ذلك، فإما اتباع الصراط المستقيم، بسلوك طريق الحق والإيمان، أو يكون الإنسان قد سلك طريقًا من الطُرق المعوجة، المُنحرفة، ولا ثالث لهما، فكل من حاد عن الحق فقد سلك السُبل المنحرفة المُضلة التي تقوده إلى النار.

وهكذا فإن هذه التفاصيل التي يتبعها الإنسان حينما ينحرف عن صراط الله المستقيم فإنه يتبع معايير وموازين ومقاييس وأعمال كلها معوجة منحرفة، فإن النظر الصحيح والميزان العدل الذي لا يحيد إنما هو بميزان الله -تبارك وتعالى- واتباع سبيله، وما عدا ذلك فلا شك أنه معوج، فالطريق المعوجة كل ما فيها من التفاصيل فهو معوج، فكل من سلكها فهو إنما يتعاطى مع أمور غير مستقيمة ولا سوية، وإن ظن بعض الناس لفساد فِطرهم أنها صحيحة، وأنها من مقتضى العقل والنظر الصحيح، فهذا إنما هو لانتكاس فِطرهم، فتصير تلك النفوس قابلة للاستهواء والشر والفساد، ويُزين ذلك لها، وقد تنفر من الحق وتأباه، ويكون مشوهًا في نظرها، وذلك لفساد الفِطر، والله المستعان.

فصارت القسمة ثنائية: إما الصراط المستقيم، وإما الطريق المعوجة، والعاقل لا شك أنه لا يؤثر على الاستقامة والحق والعدل شيئًا، فليس ثمة إلا الطريق التي رسمها الله -تبارك وتعالى- لعباده من أجل سلوكها.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا فيه الحث لأهل الإيمان بلزوم الشرع فالله -تبارك وتعالى- أنكر على هؤلاء دعاة الضلالة والانحراف فذلك يقتضي أن يكون العبد مأمورًا بلزوم الحق والصراط المستقيم، أن يلزم شريعة الله -تبارك وتعالى- ولا يحيد عنها بحال من الأحوال.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة الحذر من التثبيط عن فعل الطاعة والمعروف والخير، أو الترغيب بالشر والمنكر والفساد؛ لأن ذلك من الصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى-.

وهكذا أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة بأن الله -تبارك وتعالى- قد وبخ هؤلاء أهل الكتاب في الآية قبلها على كفرهم لِمَ تَكْفُرُونَ وهنا لِمَ تَصُدُّونَ فصاروا جامعين بين الكفر، وبين الصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى- وذلك فيه مزيد من التوبيخ، والتقريع لهم، ولم يعطفه على الذي قبله؛ لأن هذا كالمُستقل، يعني: هم هنا سجل عليهم كفرهم، وأنكر عليهم ذلك؟

وهنا أيضًا ذكر قضية أخرى مستقلة، وهي الصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى- وهذا أبلغ في ذكر المعايب، وكذلك أيضًا في ذكر المحامد والمحاسن، وصار كفرهم مُضاعفًا، وكرره -والله تعالى أعلم- هنا لهذا الغرض، وفي هذا وذاك يُخاطبهم بهذا الخطاب قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ وذلك لتأكيد الاستقلال، استقلال الخطاب في كل مرة، وتشديد التشنيع عليهم، وكذلك أيضًا في قوله: وَأَنتُمْ شُهَدَاء يعني: أنكم تقرون، وتعلمون أنه حق، وتشهدون بذلك، وهذه قضية لم يعلنوا بها، وإنما تنطوي عليها نفوسهم، فأحالهم إلى أمر لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-.

وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون ففي هذا، وفي قوله: وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون في الآيتين تهديد، وذلك أن الله حينما يكون شهيدًا على أعمالهم، وكذلك أنه ليس بغافل عما يعملون، فمعنى ذلك أنه سيُحاسبهم، ويُجازيهم، ويأخذهم بأعمالهم، وضلالهم، وإضلالهم، وذلك مما يدعوا إلى الانزجار والكف عن هذه المسالك المُردية.

وكذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون في الآية الأولى، وفي الآية الثانية وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون وذلك أنهم كانوا يُظهرون الكفر بنبوة النبي ﷺ وما كانوا يُظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين، لكنهم يحتالون بطُرق خفية، فكفرهم ظاهر، والله شاهد عليه، وأما هذه الطُرق والحيل التي يصدون فيها الناس عن سبيل الله كالإيمان في وجه النهار، ثم الكفر في آخره؛ ليُشككوهم ويُلبسوا عليهم دينهم، فذلك يكون من الطُرق الخفية فقال الله : وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون، والله تعالى أعلم.

وكذلك أيضًا نفي الغفلة عن الله كما هو معلوم في قاعدة النفي في صفات الله -تبارك وتعالى- يقتضي ثبوت كمال ضده، يعني: أن الله كامل العلم والإحاطة والخبرة، يعلم بواطن الأمور، وكذلك المُراقبة لخلقه، وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون وذلك كما سبق أن ذلك يحمل تهديدًا، ووعيدًا مُبطنًا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

مواد ذات صلة