السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(172)تتمة قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا...} 154
تاريخ النشر: ٠١ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 532
مرات الإستماع: 1098

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً بالكلام على قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور [آل عمران:154].

مضى الكلام على عامة هذه الآية، وبقي الكلام على آخرها.

كنا نتحدث عن قوله -تبارك وتعالى-: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، فهذا جواب لقولهم: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ فخالف في الجواب هنا جواب لو، فجاء مرة بغير لام مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا، وجاء في أخرى مقترنًا بها لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وذلك أن جواب لو إذا كان منفيًا بما؛ فالأكثر عدم اللام، وفي الإيجاب عكس ذلك، وذلك أن الإيجاب كما يقولون: أحوج إلى التثبيت والرسوخ.

وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ هذا يدل على أن الابتلاء، والمحنة تكون سببًا للتمحيص، فيُكشف ما في الصدور، فيظهر مُخبآت النفوس، وما تنطوي عليه مما كان خافيًا على الناس، فتتكشف الحقائق من غير مواربة، وما غير أغلفة تُغلفها، وتسترها كما كان ذلك في أيام الدَعة والعافية.

فهذا أيضًا يكون فيه من التطهير والتنقية لهذه الصدور، فيتمحص الناس، فأهل الإيمان لا يبقى في قلوبهم زيغ ولا اضطراب، ولا التفات إلى غير الله -تبارك وتعالى-، وإنما يكون التوكل عليه وحده، والارتباط به والتوجه إليه.

وأما من كان الإيمان مُتلاشيًا في قلوبهم، فهؤلاء يظهرون هكذا على حقائقهم من غير ذاك الذي كان يسترهم، فالمنافق يُظهر الإيمان، ويصدر عنه القول الجميل في أيام الأمن كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، فقولهم يكون في غاية الجاذبية، والحُسن كما أن أشكالهم، وصورهم كذلك لشدة عنايتهم بهذه الجسوم، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، لكن الذي في الصدور شيء آخر، فهذا يظهر في المحنة، فلا يتكلمون بمثل هذا الكلام الجميل الذي يُعجب السامع، وإنما يصدر عنهم كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19].

وقال أيضًا عنهم: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [المنافقون:7]، وقال قائلهم: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، وقالوا مقالات أخرى بعض ذلك لم يُنقل في القرآن كما قال عبد الله بن أُبي: ما مثلنا، ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك[1]، فهذه حالهم، وهذا ما يبدُر على ألسنتهم في بعض الأحوال والأوقات، وقد وصفهم القرآن وصفًا دقيقًا، وما مثل المحنة لتجلية ذلك كله وإبرازه وإظهاره كما هو، وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور.

هنا أظهر لفظ الجلالة فما قال: (وهو) مع أنه موضع يصح فيه الإضمار لكن إظهاره لا شك أنه أفخم، وأوقع في النفس وَاللّهُ عَلِيمٌ، ثم إن هذا الوصف "عليم" صيغة مُبالغة، أي: شديد العلم، عليم فلا يخفى عليه شيء، بِذَاتِ الصُّدُور فهو يعلم مُخبآت النفوس ودواخل الصدور، لا يخفى عليه من ذلك خافية، وإذا كان علمه كذلك يعلم ما في الصدور، فإن علمه بالظواهر يكون لا شك بالغًا منتهى العلم، كل ذلك عند الله سواء، ولكن عند المخلوقين أن من يعلم ما في الصدور، وما تُخفيه النفوس مما لا يطلع عليه الخلق، فإن علمه بالعلانية، وما يُظهرونه من باب أولى.

فالله يعلم هذا وهذا، يعلم السر وأخفى، يعلم الجهر من القول ويعلم ما نكسب وما نُسر وما نُخفي، لا يخفى عليه من أحوالنا خافية، ومثل هذا إذا تيقنه المؤمن، فإن ذلك يحمله على الإخلاص لله رب العالمين، والتجرد من المقاصد والنيات الفاسدة والتعلق بالمخلوقين وطلب المحمدة أو الشهرة أو الرئاسة أو السُمعة، أو غير ذلك، فهذا الذي يُزين عمله يعمل من أجل الناس، هذا لا حظ له عند الله -تبارك وتعالى-، قد ينطلي على الناس، ويظنون أنه من أهل الصلاح، وهو إنما يُصانع بهذا العمل المخلوقين؛ من أجل أن يكون له حظوة في نفوسهم، ولكن ربنا -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه من ذلك شيء.

ولذلك ينبغي على الإنسان أن يُراقب قلبه، وأن ينظر دائمًا في خطرات نفسه، وأن يُصحح قصده، وأن يُجرد الإخلاص؛ لأنه لا ينفع إلا هذا يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون ۝ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]، فلا ينفع في ذلك اليوم إلا هذا على قول مشهور في تفسير هذه الآية، لا ينفع ولا يُجدي إلا القلب السليم من الشرك والشك والشُبهة والرياء والسمعة والتعلق بغير الله -تبارك وتعالى-، وما إلى ذلك من الأدناس والأرجاس التي تُدنس القلب، فيكون ذلك خلاف السلامة إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم [الشعراء:89].

وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور، والذي في الصدور هي هذه القلوب التي قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ألا وإن في الجسد مُضغة، إذا صلُحت صلُح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله[2] فتارة يُعبر عن ذلك بمثل هذا؛ لأن القلب في الصدر، وتارة يُعبر عنه بالفؤاد، وتارة يُعبر عنه بالقلب، فكل ذلك يرجع إلى شيء واحد.

وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ، فهذا الذي يعلق بهذه الصدور بالقلب، وكذلك وَلِيُمَحَّصَ، ثم هذا يدل أيضًا على أن هذه الشدائد التي تقع لله -تبارك وتعالى- حكمة بالغة فيها، ومن ذلك ابتلاء الناس، ابتلاء ما في الصدور، وتمحيص هذه القلوب، فتتطهر قلوب أهل الإيمان، وتتجرد من كل ما يعلق بها، من كل دنس، ويتساقط آخرون ممن كانت قلوبهم خاوية، وخالية من توحيد الله وإرادته، فيكون هؤلاء في حال من الانكشاف مما لا يحصل إلا بهذه الشدائد، فهذا من حكمته، ولذلك يتعين الثبات في أوقات الشدة والفتن، ومن أعظم مقومات هذا الثبات التوحيد الخالص لله رب العالمين، والصدق مع الله، والبُعد عن النيات والمقاصد الفاسدة.

وكذلك أيضًا أن يكون الإنسان على حال من الصِلة بالله ، وقد استيقظ النبي ﷺ ليلة، فقال: سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتنة، ماذا أنزل من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات[3]، يوقظهن لماذا؟

من أجل صلاة الليل، فهي من مقومات الثبات إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5].

وكذلك أيضًا فإن العبادة في أوقات الطمأنينة والأمن أمر يسير، ولكن إذا حصلت الفتن اشتغل الناس بها؛ فكان ذلك صارفًا لهم عن العبادة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: العبادة في الهرج كهجرة إليّ[4] على أقوال كثيرة لأهل العلم في محمله، ولكن من أقرب هذه المحامل أو من أجمعها، أو ما يمكن أن يُعبر به عن كثير منها مما يكون حاصلاً لها: أن العبادة في أوقات الفتن لها شأن عظيم، كالهجرة إلى النبي ﷺ، وليس كالهجرة فحسب، سواء قيل بأن هذا منتقل من تلك الفتن والبيئة التي تموج فيها إلى طاعة الله فهو كالمهاجر، فهذه هجرة بالقلب، وهي إحدى الهجرتين كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[5]، أو كان ذلك باعتبار آخر ما يذكره أهل العلم، لكن ينبغي على الإنسان أن يكون له رصيد من العمل الصالح، مما يكون سببًا لتثبيته إذا وقعت الفتن، ففي ذلك الحين قد لا يستطيع أن يستدرك كثيرًا من التقصير، والنقص الذي كان فيه؛ لأن تلك الفتن الواقعة مما يشغله.

فالمقصود أيها الأحبة! أن هذا الرب الذي نتعامل معه عليم بذات الصدور، إذًا لا يكون في القلب أدنى التفاته إلى غيره، يكفي هذا في بيان هذا المعنى الكبير، فيخاف الإنسان من أن يتصنع: بعمله، بقوله، بصمته، بكلامه، بحركاته، بذهابه، بمجيئه، ببذله، بنفقاته، أن يتصنع لمخلوق والله يعلم من قلبه ذلك، ولذلك -كما تعملون- كانت العبادات التي تكون خلاف الفرائض الأصل أن الإسرار فيها أفضل، نفقة التطوع الأصل أن الإسرار فيها أفضل، وكذلك صلاة النافلة تكون في البيوت، صلاة الليل تكون في البيوت.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الطبري في تفسيره، (14/364)، وابن عطية في تفسيره، (3/60)، وغيرهما من المفسرين.
  2. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، برقم (52)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599).
  3. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي -صلى الله عليه وسلم- على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1126).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج، برقم (2948).
  5. انظر: الرسالة التبوكية، لابن القيم، (16).

مواد ذات صلة