الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(174) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ...} الآية 156
تاريخ النشر: ٠٤ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 618
مرات الإستماع: 1017

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذا السياق الذي يذكر فيه وقعة أُحد، وما جرى لأهل الإيمان حيث بين لهم منشأ ذلك، وبين لهم رأفته ولُطفه بهم إلى أن نهاهم عن مشابهة الكافرين في تعاملهم مع أقدار الله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير [آل عمران:156].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ، صدقت قلوبهم وأذعنت وانقادت وأقرت بما يجب الإذعان والإقرار والانقياد له من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر فهو أحد أركان الإيمان.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ، لا تُشابهوهم في صنيعهم واعتقادهم ومقالهم، هؤلاء الكفار الذين قالوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى، "إذا ضربوا في الأرض" إذا خرجوا للتجارة، ساروا في الأرض مسافرين يطلبون الرزق، "أو كانوا غُزى" ذهبوا إلى الحرب، لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ، يعني: لو لم يخرجوا حينما يخرج هؤلاء في تجارة في سفر أو إلى حرب، ثم يموتون في تجارتهم، في طريقهم، في سفرهم، أو يُقتلون في تلك الغزوة، فهؤلاء يقولون: لو كانوا عندنا، لو كانوا مُقيمين بين أظهرنا ما ماتوا وما قتلوا، يعني: أن هذا الخروج هو الذي تسبب عن موتهم وقتلهم، وكان يمكن أن يُتدارك ذلك، فلا يقع لا الموت ولا القتل.

فهذا كما قال الله : لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، فهذا الاعتقاد الفاسد، والقول القبيح الذي يدل على ذلك العقد، لا شك أنه يورث الحسرة لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، فهذه اللام تحتمل أن تكون لام العاقبة، أنهم قالوا ذلك، فهذا يُفضي في العاقبة والنهاية إلى حسرة، ويحتمل أن اللام هذه للتعليل "ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم" فهذا يزيدهم ألمًا وحُزنًا، ويستقر ذلك في نفوسهم، أما أهل الإيمان فهم على خلاف ذلك.

 وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ، فقد قدر الآجال بأوقات لا يمكن أن تتقدم أو تتأخر عنها، وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير مُطلع على جميع أحوالكم وأعمالكم، نافذ بصره في ذلك كله، لا يخفى عليه خافية، وسيُجازيكم على ذلك، فهذا نهي من الله -تبارك وتعالى- عن الكون مثل هؤلاء الكفار، وكذلك أيضًا من كان كافرًا في الباطن مُظهرًا للإيمان في الظاهر من أهل النفاق، فإن مقالتهم واحدة، وهذا يُشبه أن يكون من قول المنافقين؛ لأنه قال: أَوْ كَانُواْ غُزًّى.

إذا خرجوا غزاة قال هؤلاء أهل النفاق مثل ذلك، فإذا كان كذلك؛ فتكون الأخوة لأدنى مُلابسة -كما هو معلوم- فإن الأخوة قد تُقال فيمن اشتركوا في نسب، أو اشتركوا في سبب: كالتجارة، أو الغزو، أو مهنة، أو نحو ذلك، أو اشتركوا في بلد، وذلك كقوله -تبارك وتعالى- عن المنافقين في وقعة الأحزاب وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18].

فهذا يحتمل أنها أخوة نسب في القبيلة، يحتمل أن يكون ذلك باعتبار أنهم في الظاهر يشتركون مع المسلمين في الدخول في الإسلام، أو أنهم يشتركون معهم في الموطن والبلد، وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18].

فهذه الآية هي نهي من الله -تبارك وتعالى- عن هذه المُشابهة، حيث تتضمن أن من قعد في بيته؛ سلم من القتل أو الموت، وهذا أمر لا يكون بحال من الأحوال، فالحذر لا يُنجي من القدر.

ويُلاحظ هنا أنه قدم الضرب في الأرض على الغزو إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى، يمكن أن يكون الغزو داخلاً في الضرب في الأرض؛ لأنه سير فيها إلى الغزو، أو إلى تجارة، أو غير ذلك، لكن بعض أهل العلم يقولون: الفرق بينهما هنا أن الضرب في الأرض يعني الإبعاد في السفر، وهذا كما قال الله -تبارك وتعالى- في خصوص الغزو: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ [الحشر:6]، قدم الخيل على الركاب باعتبار ربما أنها أهم وأخطر في الحرب، لكن ذلك يُشير إلى معنى، وهو أن الخيل تدل على الإغارة، والركاب تدل على السير الطويل، وقطع المسافات.

ولذلك فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في يوم أُحد -كما ذكرت في بعض المناسبات- أمر بعض أصحابه أن ينظر في حال المشركين بعد الوقعة قال: انظر القوم، فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وركبوا الإبل؛ فهم متشمرون إلى مكة، وإن كانوا على الخيل؛ فهم عائدون إلى المدينة[1].

فالسفر وقطع المسافات الطويلة يكون على الإبل عادة، فهنا قدم الضرب في الأرض باعتبار أنه الإبعاد في السفر، والغزو لا يُفرق بين بعيده وقريبه، يُقال غزوة تبوك، وغزوة الخندق، غزوة أُحد، غزوة قُريظة، كل هذا في أطراف المدينة، فبينهما عموم وخصوص، فصح إفراد الغزو من الضرب في الأرض، أو أنه قدم الضرب في الأرض باعتبار أنه هو الغالب، يعني: غالب أسفار الناس، ليس في الغزو، وإنما تكون لتجارة، وغير ذلك.

كذلك أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- إخبارًا عن قولهم: لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ، هنا أيضًا قدم الموت على القتل، يحتمل لمناسبة ما قبله، لاحظ الذي قبله إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ، فهذا في السفر فالغالب أنه يكون موت حتف أنفه، والغزو القتل، فهنا قال: إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى، في الثاني قال: مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ، فالموت يُناسب الضرب في الأرض، والقتل يُناسب الغزو، فجاء مرتبًا بحسب ما قبله، ويحتمل أنه قُدم الموت باعتبار أنه الغالب، يعني: أكثر الناس يموتون حتف آنافهم، وليس بالقتل.

الفرق بين القتل والموت؟ القتل موت، ولكن الموت يُقال للزهوق، أو خروج الروح من الجسد، مفارقة الروح للجسد من غير تسبُب، والقتل يكون بمفارقة الروح للجسد بتسبب، بجناية، فهذا هو القتل.

كذلك أيضًا مثل هذا القول لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ، "لو" النبي ﷺ نهى عن مثل هذا، أن يقول الإنسان: لو أني فعلت كذا لكان كذا، يعني: عن أمر مضى وانتهى وانقضى، لا يمكن أن يُستدرك ولا يرجع، فلو هذه قال: فإن لو تفتح عمل الشيطان[2]؛ لأن مثل هذا القول لا يُجدي عنه شيئًا، لا يفيده.

يقول لو أني فعلت يتحسر، لو أني لم أفعل، طيب، ثم ماذا، هل رجع حاله إلى ما كان يؤمله ويرتضيه؟ أبدًا، وإنما تفتح عمل الشيطان، فتبدأ الحسرة، ويُلقي الشيطان في قلبه الخواطر السيئة والاعتراض على أقدار الله المؤلمة، فهذا من عمل الشيطان، حيث يُشيع الماضي بالنحيب والحسرات والتوجع والعويل، فهذا ليس من فعل العقلاء.

فالإنسان لا يستجر المصائب والآلام، ويسترجع شريط الماضي المؤلم، فيعود ذلك على حاضره بالنكد والكآبة والحزن، فهو في غنى عن هذا كله، يحتاج إلى أن ينسى الماضي، ويبتدأ حياة جديدة، فالماضي فات ولن يعود، والحاضر هو حياتك الحقيقية، والمستقبل غيب بيد الله قد تُدرك وقد لا تُدرك، فهي كما ذكرت في بعض المناسبات ثلاثة أحمال:

الحمل الأول: الماضي، والحمل الثاني: الحاضر، والحمل الثالث: المستقبل، فكثير من الناس يحمل الثلاثة فينكسر وينثني ويضعف، وتكون حياته في نكد وكبد، بينما هو بحاجة إلى أن يُلقي عن كاهله الحمل الأول الماضي، يحمله لماذا؟ يتخفف منه، وكذلك المستقبل؛ لأنه بيد الله ، فيبقى عمل واحد، لحظته التي يعيشها، يحتاج أن يكون فيها على حال لائقة، أن يكون فيها على حال مرضية، هي التي يحتاج إلى معالجتها، هي هذه اللحظة، حياتك هي هذه الثانية التي تعيشها، والثانية التي مضت هذه انتهت في طي المُضي وانقضت، وما تبقى الله أعلم هل يُدرك الإنسان ذلك أو بعضه أو لا يُدرك.

هكذا يفعل الكثيرون بأنفسهم، يثقلونها ويُرهقونها بهذه الأعباء والأحمال، وهكذا فعل هؤلاء الذين يفتحون للشيطان بابًا يُدخل عليهم فيه الأسى؛ بل والقنوط من ألطاف الله -تبارك وتعالى-، بل والاعتراض على قضائه، كأن بأيديهم شيئًا يمكن أن يتوقوا معه قدر الله، وهكذا فيما يجري للأمة اليوم من نكبات ومصائب.

نعم الناس بحاجة إلى دراسة للماضي؛ للاعتبار وليس للتحسر، وليس لو، وكذلك يدرسون المستقبل للاستشراف، وينهضون بما يجب النهوض به في حاضرهم على أكمل الوجوه، لكن أن يكون ذلك على سبيل التحسير للآخرين، فهذا لا ينفع لاسيما في وقت المصيبة، يؤنبون لماذا؟

هؤلاء الذين يُذبحون ويُقتلون في بعض بلاد المسلمين، ويأتي من يُعنف، ويقول: لو لم يفعل كذا لما حصل لهم كذا، نفس الكلمة لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ، لو لم يقوموا بكذا لم يحصل لهم كذا، لو هذه ما تُجدي، فهل هؤلاء بحاجة إلى غوث، بحاجة إلى إعانة، بحاجة إلى رعاية، بحاجة إلى مساعدة، أم شماتة وحسرات تزيدهم ألمًا، وتُضاعف مصابهم؟!، فهذا ليس من فعل العُقلاء.

وقد يفعل ذلك بعضهم جهلاً، وقد يفعله مشاركة لهم في آلامهم، ولكن بطريقة معكوسة، وقد يفعله بعض من يُظهر الرشد، ونحو ذلك، لكنه يجبُن عن الوقوف معهم، ولو بالدعاء، كأنه يقول: هم الذين جنوا على أنفسهم، وإلا لم يقع لهم ذلك، هذا وقع بتقدير الله .

 ففرق بين الدراسة التي يتبصر الناس فيها أخطاءهم من أجل ألا تتكرر، وبين مجرد التحسير وإلام النفوس والتثريب على المصاب، لو لم تفعل لم يحصل لك كذا، وهذا تجده في كلام الناس، لو لم يُسافر في هذه الساعة لم يحصل له هذا المكروه، لو لم يذهب في المطار، لو لم يذهب في الغبار، لو بقي في بيته انتظر إلى الصباح لسلم، وهو لن يسلم سيأتيه أجله، وهو في بيته، آمن ما يكون.

فلذلك قال الله -تبارك وتعالى- كما في سورة البقرة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، هذه العقيدة تجعل المؤمن رابط الجأش، ثابتًا، لا مدخل للشيطان عليه، راضيًا بقضاء الله وقدره، مطمئن النفس، ساكن القلب، لا يضطرب ولا يتحسر على أمر قد فات وانقضى، لا يرده التحسر.

فهذه قضية نحتاج أن نتعقلها، فهذا الجزع، وهذا الهلع في المصيبة، هل سيرد ما مضى؟

هو لن يرد، إذًا هو إيجاع للنفوس، وتضييع للأجور، ووقوع في محاذير من غير أن يُجدي، لو تبصر الإنسان لا يُجدي، لو كان البُكاء يرد الفائت لبكى الناس حتى يُسترد، ولكنه لن يُغير من الأمر الواقع قليلاً ولا كثيرًا.

إذًا يحتاج الإنسان إلى أن يُخفف عن نفسه، ويُشرع العزاء في المصائب، فمثل هذا هو بعكس العزاء لو قبل نصيحتي لو أطاعني، حتى لو أطاعك سيأتيه أمر الله في أي موضع كان، وهكذا.

انتهى الوقت، أتوقف عند هذا.

 وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن عطية في تفسيره، (1/523)، وصححه الألباني.
  2. أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، برقم (2664).

مواد ذات صلة