الأربعاء 15 / شوّال / 1445 - 24 / أبريل 2024
(204) قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ...} الآية 182
تاريخ النشر: ١٣ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 451
مرات الإستماع: 787

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لم يزل الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق [آل عمران: 181]، تكلمنا على صدر هذه الآية الكريمة لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ، وأن ذلك جاء بمؤكدات كما سبق، وفيه أيضًا إثبات صفة السمع على ما يليق بجلال الله وعظمته، وذلك يحمل المؤمن على مراقبة ربه فالله يسمع كل ما يقول سواء قال ذلك في السر أو قاله في العلانية؛ فذلك عند الله سواء، وأن ذلك يُرصد على الإنسان مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد [ق:18]، فهذا ما يورثه الإيمان بهذه الصفة الكريمة.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ مضى الكلام أيضًا عليه، وأن ذلك يقتضي أيضًا المُجازاة والمحاسبة، وأن "ما" تُفيد العموم سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ، يعني: كل ما قالوا، وهذا كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49]، "ما عملوا" كل ما عملوا، لا يُغادر صغيرة كما قال بعض السلف: ضجوا من الصغائر قبل الكبائر، فقُدمت الصغائر لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا.

وجاء هذا بأقوى صيغة من صيغ الحصر، النفي والاستثناء لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، صيغة النفي والاستثناء التي جاءت بها كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فهذا يدل على أنه لا يفوت شيء، وأن الوزن بمثاقيل الذر فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فهذا كله يدون سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ، وهذا فيه إثبات صفة الكتابة لله -تبارك وتعالى- كما يليق بجلاله وعظمته.

ثم قال: وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ هذا كما أشرت في الكلام على معنى الآية، وكذلك في سورة البقرة وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون قتل الأنبياء بحق، فدخول هذا القيد وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ للتشنيع عليهم، وإظهار وإبراز هذا الجُرم، وإلا فإن قوله: بِغَيْرِ حَقٍّ، هذه صفة كاشفة كما ذكرنا في عدد من المناسبات، وقلنا: إن الصفة الكاشفة لا تُقيد الموصوف، بخلاف الصفة الحقيقية المُقيدة.

فحينما يُقال: رجل مؤمن، فهذا قيد يُخرج غير المؤمن، لكن حينما يُقال: رجل ذكر، فهذا لا يخرج شيئًا؛ لأن الرجل لا يكون إلا كذلك، فهذه يُقال لها صفة كاشفة.

وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] فلا يطير إلا بجناحيه، فهي صفة كاشفة، وكذلك: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ [آل عمران: 167]، والإنسان إنما يقول بفيه، يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: 79]، وإنما يكتب بيده، فهذه يُقال لها صفة كاشفة، لها معاني بلاغية، ودلالات لسنا بصدد ذكرها، لكن هنا في هذا الموضع التشنيع على هؤلاء لبيان عظيم جُرمهم.

وكذلك أيضًا فيه ما فيه من المُبالغة في بيان ذلك العمل القبيح، ويدل على جرأتهم وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ، وهناك كما ذكرنا في البقرة، وكما يقول  بعض العلماء: بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، يعني: الحق عند الله، الحق المشروع لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة[1]، فهناك في البقرة بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61] الحق المعروف شرعًا، وهنا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ مُنكر ما قال: بغير الحق بِغَيْرِ حَقٍّ يعني بغير حق لا عند الله، ولا عندهم أيضًا، فذلك إنما هو إجرام وتمرد وعدوان.

وهذا فيه تسلية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فهؤلاء يقتلون الأنبياء، يعني قتل نبي ليس بالشيء السهل، لكن هؤلاء قتلوا أيضًا كثير من الأنبياء، اليهود ما قتلوا أنبياء من غيرهم، لا لا، من أنبياء بني إسرائيل، قتلوهم، قتل مؤمن أمر عظيم، فكيف بقتل نبي؟ وكيف بقتل نبيهم؟

أنبياء لبني إسرائيل يقتلهم هؤلاء الذين يدعون الإيمان، وقد ورد أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيًا، فهؤلاء أهل إجرام، لا يُرجى منهم خير ولا صلاح ولا إصلاح، إذا كان هذا شأنهم مع أنبيائهم، فكيف يصنعون مع غير أنبيائهم؟ كيف يصنعون بمن يحتقرونهم ويُبغضونهم ويُعادونهم؟

هم يرون أن كل الشعوب غير اليهود، كل الأمم غير اليهود يسمونهم "الجونيم" يعني يقولون: هؤلاء خلقوا ليكونوا حمارًا يركبه بنو إسرائيل، هذا اعتقادهم "جونيم" كل الأمم، ولذلك كانوا يقولون منذ عهد بعيد لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران: 75]، يعني: خذ أموالهم ولا إشكال، ليس علينا حرج، ولو أخذناها بطُرق غير مشروعة، لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، أموالهم حلال، فمن كانوا بهذه المثابة لا يُرجى منهم إنصاف ولا عدل ولا خير ولا معروف، وإنما هم شر قد اجتمع ليس له حل إلا الحصاد.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ إذا كان الأنبياء يقتلون، فالنبي ﷺ ما يأتيه من الأذى هو دون ذلك، فيكون له بذلك سلوة، أولئك أصابهم القتل، وكذلك أيضًا -كما ذكرت في تفسير الآية- أن الله نسبه إليهم، إلى المعاصرين للنبي ﷺ، وإنما وقع من أسلافهم وأجدادهم، بأي اعتبار؟ بأنهم على طريقتهم، وأنهم راضون بفعلهم، وذكرنا القاعدة بأن المذمة التي تلحق الأسلاف تطال الأحفاد والأبناء إذا كانوا على طريقتهم، وهم على طريقتهم، ولذلك تجد خطابات الذم في القرآن تتوجه للمعاصرين للنبي ﷺ في أمور فعلها أجدادهم وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55]، الذين قالوا هم الأجداد، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]، إلى غير ذلك.

كذلك تذييل هذه الآية بقوله: وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق هذا العذاب بأي شيء وقع، وحصل لهم؟ حصل لهم بسبب هذه الجرائم، وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق على قولهم: الله فقير ونحن أغنياء، وقتل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فهنا أقوال، وهنا أفعال، فدخول النار يكون بالأقوال والأفعال، أقوال القلب واللسان، وأفعال القلب واللسان والجوارح.

فينبغي الحذر من موجبات سخط الله ، وأسباب دخول النار من الأقوال والأعمال، فيتجنب ذلك وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق، لأنه قال: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 182]، كما سيأتي "بما" فالباء هذه تدل على السببية، فدخول النار له أسباب ينبغي على العبد أن يتوقاها، وجماع ذلك في معصية الله بترك طاعته، وفعل معصيته.

ولاحظ هنا التعبير عن مس العذاب ومُباشرته بالذوق ذُوقُواْ بعض العلماء يقول: وجه ذلك يعني الذوق يكون بحاسة الذوق، فكيف يذوق العذاب الذي يقع على جلده، وعلى جسده؟

ذُوقُواْ، ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم [الدخان:49]، بعض أهل العلم يقول: بأن ذلك لكون الذوق من أبلغ أنواع المُباشرة، حاسة الذوق متميزة، دقيقة جدًا، حتى أنها تُستعمل في غير الطعام والشراب، التذوق الأدبي هذا لا يكون لأي أحد، وإنما يكون لمن لديه حاسة، ولديه ملكة، ولديه إمكان لهذا التذوق بمعرفة البلاغة وأساليب الفصاحة، فما كل أحد يستطيع التذوق.

لكن هنا في العذاب -نسأل الله العافية- يُقال: ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق فهو يُباشر أجسادهم وظواهرهم وبواطنهم، ويكون كالذوق بالنسبة إليهم لدقة هذه الحاسة وتميزها.

ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق هذا يجتمع عليهم العذاب الحسي، والألم المعنوي والنفسي، فالحريق ألم بدني يُحرق أجسامهم، وحينما يُقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق، وهم في ذلك الكرب وتلك الشدة هذا ألم نفسي.

إنسان في ورطة، إنسان في حال لا يُحسد عليها، ثم يُقال له: ذُق عاقبة عملك، فهذا لا شك أنه يؤلمه، ويكون من قبيل الإهانة والتوبيخ والإذلال، وما أشبه ذلك، ولذلك فإن الأمر هنا ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق أمر توبيخ أمر إهانة، وإلا فهم سيذوقون هذا، قيل لهم ذلك أو لم يُقل، فهو ثابت في حقهم ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد [آل عمران:182]، ذلك العذاب الشديد الأليم الذي أمروا بذوقه بسبب ماذا؟

بسبب ما قدموه في دار الدنيا، في دار الزرع والغرس والعمل، فتكون الجناية في دار الحصاد هناك الحريق، العذاب، يعني: هذا بسبب جناياتكم وما كسبت أيدكم وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد، ليس ذلك بسبب ظلم الله لكم، فهذا يدل على أن النار كما سبق إنما يكون دخولها بأسباب، والله لا يظلم الناس شيئًا، ذلك العذاب بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ فالباء تدل على السببية بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وهنا "ما" تدل على العموم، فيكون ذلك بسبب مجموع تلك المزاولات والاعتقادات الفاسدة، والأقوال الفاجرة، والأعمال المنحرفة.

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران:182]، ذلك" إشارة إلى العذاب، وهذه الإشارة إلى البعيد، يعني: يُقال للقريب: هذا، وللمتوسط -على قول بعض أهل العلم-: ذاك، وللبعيد جدًا: ذلك، فهذا يكون فيه تهويل لهذا العذاب، وتشنيع لهذا العذاب.

بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، ولا حاجة إلى تفصيله، فيكفي ذكر ما يدل على السببية، فهذا العذاب العظيم هوله مما لا يُسأل عن سببه.

كذلك أيضًا لاحظ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد [آل عمران:182]، أضافه إلى الأيدي، بأي اعتبار؟ باعتبار أن عامة مُكتسبات الإنسان إنما تكون باليد، والقرآن نزل بلغة العرب، فيُضاف ذلك إلى اليد، ولو كان من كسب غيرها، يعني: ولو كان اعتقادًا فاسدًا في القلب، أو كان ذلك من جنايات العين أو الأُذن، أو اللسان كالغيبة، ونحو ذلك، يُقال: هذا بما قدمت يداك، هذا بما كسبت أيديكم، فيُضاف ذلك إلى الأيدي، بعضهم يقول: "على سبيل التغليب"؛ لأن أكثر ما يناله الإنسان إنما يكتسبه بيديه، فيداه تزاولان أكثر الأعمال، فكأن هذا العمل وقع باليدين، وكذلك يُفهم منه أنه يمكن أن يُطلق البعض على الكل، يعني: هذه أشياء مُكتسبات للإنسان اكتسبها بقلبه وبلسانه وبجوارحه، فأضاف ذلك إلى الأيدي، فيكون ذلك من أساليب العرب أنهم قد يُضيفون إلى البعض ويريدون الكل.

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، ولا شك أن أعماله جميعًا هو مُحاسب عليها، وكانت من أسباب دخوله النار.

وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد "بظلاّم" لاحظ الصيغة، بأي اعتبار؟ ما قال، وأن الله ليس بظالم للعبيد "بظلاّم"؟ يحتمل أنه يكون جاء بهذه الصيغة "ظلاّم" إما باعتبار الكيف أن ما يصدر من أعدل العادلين من الظلم ولو كان قليلاً يُعتبر عظيمًا، الظلم إذا صدر من ذوي الكمال يُستشنع، فيكون قليل من الظلم، وحاشا وكلا أن يصدر من الله -تعالى، وتقدس- لو صدر منه قليل؛ لكان ذلك كثيرًا وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ، ويحتمل أن يكون باعتبار أنه أضافه إلى الجمع للعبيد، فهؤلاء الخلق كثير، ولكل واحد مظلمة، فذلك ظلم كثير وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد.

وكذلك أيضًا هذا فيه إبراز الشناعة على جُرمهم لسوء أدبهم مع الله لما قالوا: إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران:181]، وكذلك قتل الأنبياء، فجاء هنا وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد، يعني: هم عبيد، فكيف يجترئون، ويقولون: الله فقير ونحن أغنياء، متى كان العبد غنيًا، والمالك السيد فقيرًا، هم عبيد مهما كانت مرتبتهم، ومهما كانت أموالهم وأملاكهم، هم عبيد لن يخرجوا عن هذا الوصف وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد.

وهذا يدل كما هو معروف في القاعدة في النفي فيما يتعلق بالله أن النفي في أوصافه -تبارك وتعالى- يقتضي ثبوت كمال ضده، فإذا قال: وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد فهذا يقتضي ثبوت كمال عدله، إذا قال: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [البقرة:255] فذلك يقتضي كمال حياته وقيوميته.

كذلك الملائكة لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، يدل على كمال الطاعة، وكذلك الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِين [التكوير:24]، (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِين) على القراءتين، يعني: "بضنين" يدل على كمال تيقنه وتحققه لا يتكلم بالظنون، "بظنين" بشحيح، يعني: فهو لا يكتم، فهذا يدل على كمال بيانه -عليه الصلاة والسلام- لأمته، فهذا كذلك في أوصاف الكتاب، أوصاف القرآن ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2]، فهذا يدل على أنه متضمن لكمال اليقين.

هذه أربع: الله، والملائكة، والرسل، والكتب، إذا جاء النفي فهو يقتضي ثبوت كمال ضده؛ لأن النفي المجرد لا يقتضي مدحًا، يعني: حينما نقول: هذه السارية لا تجهل، هل أثبتنا لها العِلم هي لا توصف بالجهل؟ ما أثبتنا لها العلم، تقول: فلان لا يظلم، هل معنى ذلك أنه عادل؟ لا يلزم، قد يكون ضعيفًا عاجزًا، كما قال الشاعر يهجو قبيلته:

قُبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل[2]

هو يقصد الهجاء والذم، أنهم ضعفاء جدًا، وكان العرب في الجاهلية يتفاخرون بالظلم والنهب والسلب، وما أشبه ذلك.

هذا ما يتعلق بهاتين الآيتين الكريمتين.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، برقم (1676).
  2. انظر: الشعر والشعراء، للدينوري، (1/319).

مواد ذات صلة