السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(223) تتمة قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم...} الآية 195
تاريخ النشر: ١٩ / شوّال / ١٤٣٨
التحميل: 417
مرات الإستماع: 759

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً بما ختم الله -تبارك وتعالى- به هذه السورة الكريمة سورة آل عمران، وقد مضى الكلام على صدر هذه الآيات الخواتم، وكان حديثنا في الليلة الماضية عن استجابة الله -تبارك وتعالى- دعاءهم وسؤالهم فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَاب [آل عمران:195].

تحدثنا عن صدر هذه الآية، وأن قوله -تبارك وتعالى-: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ، أي: في الثواب والأجر والعمل، وكذلك أيضًا بأنهم يتشعبون من أصل واحد إلى غير ذلك مما قد يذكره بعض المُفسرين، ويلتئم تحت معنى مُتحد في هذه الآية.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- مُبينًا هذه الأعمال التي أخبر أنه لا يُضيع أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ، وذكر جلائل الأعمال، وعظائم الأعمال، الأعمال الفاضلة، فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ، فهذا تفصيل لما أُجمل قبله أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم، وقلنا إن قوله -تبارك وتعالى-: لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم أن العموم فيه على ثلاثة أنحاء: فذلك من جهة التركيب في النفي مع الفعل المُضارع المذكور بعده، وكذلك أيضًا العمل، فهو منُكر جاء في سياق النفي، كذلك العامل "عمل عامل" فهو نكرة في سياق النفي، فذلك عام في الأعمال، وعام في العاملين، ويشمل ذلك الذكور والإناث، والكبار والصغار، كما يشمل جميع أنواع الأعمال، فالله لا يُضيع من ذلك شيئًا، سواء كان هذا العمل عظيمًا، أو كان هذا العمل يسيرًا.

لكنه ذكر بهذا التفصيل جلائل الأعمال فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ، وقد ذكرنا قبل بأن الهجرة هي الانتقال إلى بلد يأمن فيها، يستطيع أن يُقيم دين الله -تبارك وتعالى- فيها، قد تكون الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، كالهجرة من مكة إلى المدينة، وقد تكون إلى حيث يأمن، ولو لم تكن إلى بلد إسلام، كما هاجر أصحاب النبي ﷺ الهجرتين إلى الحبشة، ولم تكن بلد إسلام، وما يُذكر عادة بتعريف الهجرة أنها الانتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد الإسلام، هذا ليس على إطلاقه، وإنما يصدق على نوع، وصورة من صور الهجرة، وإلا فهي أوسع من ذلك.

فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ لاحظ جاء بالاسم الموصول في التعبير عنهم للتنويه بهم، وبهذا العمل فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ، وهذه المادة ترجع في أصلها إلى الهجر، والهجر يعني الترك الذي يكون مُبرمًا، بحيث أنهم تركوا أرضهم، وبلادهم، تركوا الأهل والعشيرة والأرض لله، وفي الله فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ.

وقد ذكرت في الليلة الماضية أن الهجرة تُعد أجلى صور البراءة من المشركين، وأعلى منها الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-، هذه التضحيات التي بذلوها بترك بلادهم وبذل أرواحهم تدل على أنهم صادقون، وأنهم لا يُقدمون على دينهم شيئًا من عرض الدنيا مهما كان قدره ومنزلته.

وأن قوله: وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ أن الإخراج من الديار، يعني: أخرجهم المشركون، وقد أشرت سابقًا إلى أن هذا الإخراج أُضيف إلى المشركين باعتبار أنهم تسببوا فيه، حيث ضيقوا عليهم، فاضطروهم إلى الخروج، وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ.

وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي فهذا عام يدخل فيه جميع أنواع الأذى، ومن ذلك: ذاك الأذى الذي كان سببًا لإخراجهم من ديارهم، ولاحظ هنا أنه قيد الأذى بقوله: فِي سَبِيلِي، يعني: في طلب مرضاة الله -تبارك وتعالى- بمعنى أنهم ما أوذوا لأمر يخصُهم مما يكون بين الناس من عداوة وشحناء، أو لأمور يختلفون عليها من عرض الدنيا، ونحو هذا، وإنما كان ذلك لله، وفي الله كما قال الله -تبارك وتعالى- وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد [البروج:8]، فكان هذا ذنبهم.

ثم ذكر وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ فجمع بين هذا، وهذا، لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ "لأكفرن" هذه اللام تدل على قسم محذوف، وهذا القسم مُقدر، تقديره أُقسم، والله لأكفرن عنهم سيئاتهم، هذه أتم صيغ القسم أن يُذكر فعل القسم مع حرف القسم مع المُقسم به، ثم ما يتبع ذلك من جواب القسم، ودونه أن يُحذف فعل القسم مثلاً، ويُذكر حرف القسم، والمُقسم به، أو أن يُحذف المُقسم به، فيُذكر فعل القسم، لكنه هنا حذف الأمرين يعني الفعل، وحرف القسم، وكذلك المُقسم به، لأُكَفِّرَنَّ لكن دل على القسم، وجود هذه اللام، والله -تبارك وتعالى- ليس بحاجة إلى قسم، ولكن هذا مقام عظيم، بذلوا فيه كل شيء، فكان هذا التأكيد بالجزاء لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ.

وجاءت النون الثقيلة التي تدل على التوكيد أيضًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ، وعرفنا أن التكفير للسيئات بمعنى الستر، يعني: أن الله يُذهبها، وأن السيئة قيل لها سيئة؛ لأنها تسوء صاحبها إذا نظر إليها في صحيفة عمله "سيئة".

لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ، ولاحظ أنه قدم الضمير المُتعلق بهم، قدم الجار والمجرور لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ، ما قال: لأكفرن سيئاتهم عنهم، اعتناء بشأنهم، وأنهم في مقام الحفظ والصيانة فلا يصل إليهم شيء من آثار هذه الذنوب والمعاصي.

لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ، وهنا سيئات جمع أُضيف إلى الضمير المعرفة سَيِّئَاتِهِمْ، وهو يُفيد العموم، هذه الإضافة تُفيد العموم، "سيئاتهم" يعني جميع سيئاتهم، فدل ذلك على أن هذه الأعمال الصالحة الجليلة تكون سببًا لتكفير السيئات، كما أن الإيمان يكون سببًا لتكفير السيئات، وكذلك القتل في سبيل الله إذا قُتل يكون ذلك سببًا لتكفير السيئات، فالشهيد يُغفر له من أول قطرة من دمه.

لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لاحظ بدأ بذكر تكفير السيئات، ثم ذكر إدخال الجنات، وهذا كما يُقال: من باب التخلية قبل التحلية، يعني: هم بحاجة أولاً إلى الوقاية، وهذا يكون بتكفير السيئات، ثم بعد ذلك بإدخال الجنات رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فيُذكر الوقاية من السيئات، ثم بعد ذلك يُذكر دخول الجنات.

وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، والجنات معروف أنها تُقال للشجر الكثير المُلتف الذي يستر من بداخله؛ لأن أصل هذه المادة الجيم والنون تدل على ستر في كل استعمالاتها، يعني: إذا قيل مثلاً الجنة فهي تستر من بداخلها لكثافة الأشجار، وإذا قيل الجن فهم مستترون عن الأعيُن، وإذا قيل الجنين فهو مُستتر في بطن أمه، وهكذا في كل استعمالاتها، تقول للتُرس جُنة؛ لأنه يستر صاحبه من النبل، ونحو ذلك، والله يقول: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة:16]، يعني: سترًا ووقاية مما يوجه إليهم من التُهم.

هنا وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ، والتنكير بالجنات يدل على التعظيم أنها جنات عظيمة لا يُقادر قدرها، ثم وصف هذه الجنات بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي: تجري من تحت قصورها وأشجارها هذه الأنهار السارحة التي تكون من لبن لم يتغير طعمه، ليس فيه حموضة، وليس كلبن الدنيا إذا بقي يومين أو ثلاثة أو أربعة، أو أصابته حرارة الجو؛ تغير، فهذا لبن لم يتغير طعمه، وكذلك العسل المُصفى الذي ليس فيه شوب من شمع، ولا عوالق من أجزاء النحل، أو نحو ذلك "عسل مُصفى"، وأنهار الخمر هذه كلها جارية في الجنة، حتى قال بعض أهل العلم: أن الأنهار في الجنة تجري من غير أخاديد، يعني: ليست كالدنيا تجري في أخدود، فنسأل الله من فضله.

ثم قال: ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ، يعني: هذا العطاء هو مُضاف إلى الله -تبارك وتعالى-، وهذه الإضافة تدل على التعظيم، إذا كان من عند الله، فلا تسأل عن عظمته؛ لأن عطاء العظيم عظيم بلا شك، يكون عطاؤه جزيلاً، فإذا كان العطية من الله -تبارك وتعالى- فلا تسأل عن قدرها، فكل يُعطي بحسبه، فهنا أضافه إليه ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ.

ثم قال: وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَاب يعني الثواب الحسن، فهذا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها حُسْنُ الثَّوَاب، يعني: الثواب الجميل، الحسن الذي لا يحصل فيه مطل وتأخير، الذي لا يحصل فيه أيضًا بخس وهضم لحق أحد، وإنما يكون جزيلاً كثيرًا من غير مطلٍ، يعني: ليس كما يستخرج الناس حقوقهم في هذه الحياة الدنيا بعناء، لكن الثواب الذي عند الله -تبارك وتعالى- هو ثواب حسن من كل وجه في نوعه، في جنسه، في بذله، وكذلك في عِظمه، وما يمكن أن يصدق عليه هذا الوصف، والله تعالى أعلم.

أتوقف عند هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة