الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
(066) تتمة قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ...}الآية وقوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ...} الآيات 52-53
تاريخ النشر: ٢١ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 361
مرات الإستماع: 698

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما قال الله -تبارك وتعالى- في خبر عيسى : فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُون [آل عمران:52] أعلن الحواريون نصرتهم لله -تبارك وتعالى-، وإيمانهم به، وأشهدوا عيسى على ذلك، ثم قال في خبرهم وجملة مقالتهم: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين [آل عمران:53] فعيسى سأل: من أنصاري إلى الله؟ فقالوا: نحن أنصار الله، ولم يقولوا: نحن أنصارك؛ وذلك لأن نُصرتهم لعيسى هي نصرة لله .

ثم وجهوا هذا الخطاب لربهم ومليكهم ، ولم يتوجه هذا الخطاب لعيسى ، وهو الذي خاطبهم، فارتباط القلوب إنما يكون بالله -تبارك وتعالى-، وإليه الوجه وحده، فقالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين [آل عمران:53] لأنه الغاية الله ، فهو غاية الطالبين والعابدين، فهم يعملون ويجتهدون في طلب مرضاته، فهؤلاء قالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ ربنا آمنّا وأقررنا وأذعنا بما أنزلت، فيحتمل أن يكون المراد من قوله: بِمَا أَنزَلَتْ أي: على عيسى ، ويحتمل أن يكون بما أنزلت على أنبيائك ورسلك؛ لأنه يجب الإيمان بجميع الكتب المُنزلة، وكأن هذا أقرب -والله تعالى أعلم-؛ لأن في ضمنه الإيمان بالتوراة، وهم مطالبون بالعمل بها؛ لأنها شرعهم الذي لم يُنسخ، وإنما نُسخ منه بعض التكاليف الشاقة.

فقوله: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ يعني: عيسى .

وقوله: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين [آل عمران:53] أي: في جملة من شهدوا لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، وبأن الرسل قد بلغوا البلاغ المبين، ونحو ذلك، فهم من جملة الشهداء الذين يشهدون على الأمم؛ وذلك يدخل فيه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، كما قال الله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا [النساء:41] فالأنبياء يشهدون، والملائكة يشهدون، وهذه الأمة تشهد أيضًا، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] ولهذا قال بعضهم: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين} أي: مع أمة محمد ﷺ، والواقع أنه لا يختص بذلك، والله تعالى أعلم، وإنما في جملة الشاهدين، فالذين يشهدون ليسوا فقط أمة محمد ﷺ، وإنما الرسل يشهدون، والملائكة يشهدون، فاجعلنا في جملة هؤلاء.

فيُؤخذ من قوله: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ يعني: يا ربنا، فحُذف منه ياء النداء، كأن ذلك استشعارًا للقُرب، يعني: النداء يكون للبعيد، وياء النداء إذا دخلت، فكأن ذلك للبُعد، لكن هنا يقولون: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ استشعارًا لشدة قُربه -تبارك وتعالى- من الداعين، كما قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] فهو قريب من الداعين، وهذا قُرب خاص.

ثم تأمل هذا التوسل بهذا الاسم الكريم (الرب) كما أشرنا في بعض المناسبات فهو في غاية المناسبة؛ لأن من معاني الربوبية: العطاء والمنع والرزق والثواب والعقاب والتدبير، وما إلى ذلك، فقال: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين فالذي يكتبهم مع الشاهدين، ويُحقق سؤلهم ومطلوبهم هو الرب الذي بيده مقاليد الأمور، فقالوا: ربنا، وهذا من التوسل له -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ولذلك كما ذكرنا في عدد من المناسبات: أن عامة دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في القرآن بهذا الاسم الكريم (ربنا).

وقوله: آمَنَّا عبروا بالماضي باعتبار أن هذا الإيمان قد تحقق وثبت، بِمَا أَنزَلَتْ (ما) هذه تُفيد العموم، يعني: بكل ما أنزلت من الوحي والكتب على أنبيائك ورسلك -عليهم الصلاة والسلام-، كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] فملائكته جمع مُضاف إلى الضمير المعرفة، فهو للعموم، فهم آمنوا بكل ملائكة الله، وكتبه كذلك هنا جمع مُضاف إلى الضمير المعرفة الهاء، فهو يُفيد العموم، وكذلك رسله أيضًا فهذا مما يجب الإيمان به، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] فيجب على المؤمن أن يؤمن بجميع الكتب المُنزلة، وبجميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وبجميع الملائكة إيمانًا مُجملاً، ويؤمن على سبيل التفصيل بما بلغه من ذلك، أما الكتاب المُنزل عليه، والرسول المبعوث له، فإنه يجب عليه أن يؤمن به بعينه.

آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ توسلوا هنا بالربوبية التي تدور على ثلاثة أشياء: الخلق والمُلك والتدبير، وإجابة الدعاء تدور حول هذه القضايا، فتوسلوا بذلك، وقالوا: آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ ولم يقولوا: آمنا بالتوراة مثلاً؛ لأن اليهود حرفوا وبدلوا، فقالوا: بما أنزلت، فلا يدخل فيه المحرف من هذه الكتب، وإنما المُنزل حقيقة من عند الله -تبارك وتعالى-، مما لم يدخله التحريف.

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فيبدون إيمانهم لله ، وهو أعلم، والإيمان قضية ترسخ في قلب الإنسان: اعتقاد بالجنان، ونُطق باللسان، وعمل بالجوارح والأركان آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وهنا كأنهم يريدون بذلك الضراعة إلى الله -تبارك وتعالى-.

آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ هذا إعلان منهم أيضًا لاتباع عيسى ، فتكون (أل) هنا للعهد وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ يعني: الذي أرسلته إلينا، ولم يقولوا: ربنا آمنا بما أنزلت، واتبعنا الرسل؛ لأنه يجب عليهم أن يتبعوا الرسول الذي بُعث إليهم، أما الإيمان بالرسل فيؤمنون بجميع الرسل، فهنا ذكروا الاتباع، فالاتباع إنما يكون لمن أُرسل إليهم، ولا يكون لجميع المرسلين؛ لأن شرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تتفاوت، فهي مختلفة، دينهم واحد يعني في أصول الدين الكبار، وأما تفاصيل الشرائع فهي متفاوتة، كما هو معلوم.

آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أعقبوا ذكر الإيمان والإعلان به باتباع الرسول؛ وذلك أن الإيمان يقتضي ذلك، بل الإيمان قول وعمل، فليست دعوى مجردة يقولها الإنسان بلسانه، أو قضية تتصل بالقلب فحسب، ولا يكون لذلك ما يُبرهن له، ويدل على صحته، وصدق قائله ومُدعيه من العمل في الخارج، فإن هذه الدعوى لا تكون صحيحة، فهنا جاء ذلك في غاية المناسبة آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فمن صدق في إيمانه فعليه أن يتبع الرسول؛ ولهذا مضى في قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [آل عمران:31] فهذا الذي يُبرهن على صدق هذه الدعوى، ويمتاز الناس بذلك، فهذا الإيمان الصحيح لا بد فيه من الاتباع للرسول، والعمل بما جاء به.

وهذا الاتباع للرسول أيضًا يكون فيه تحقيق للإيمان على سبيل التفصيل والمُمارسة والعمل، فالصلاة إيمان، والصيام إيمان، وقراءة القرآن إيمان، والحج إيمان، فهذا الاعتقاد إيمان، لكن أيضًا حينما يكون هذا الإيمان واقعًا عمليًا يعيشه الإنسان يكون إيمانًا راسخًا ثابتًا، بخلاف من ادعى دعوى، ولم يقم دليل على تصديقها.

وقوله: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين هذا يدل على معنى وهو حرص المؤمن في الدخول في جملة الأصفياء والخُلص من خلق الله -تبارك وتعالى-.

وأيضًا هذه الشهادة لا يمكن أن تكون صحيحة إلا إذا كانت مبنية على العلم واليقين؛ لأنه ليس للإنسان أن يشهد على ظنون وأوهام وتخمينات، وأمور لم يتيقنها، ولم ترسخ في نفسه، وإنما لا تكون الشهادة إلا إذا كان ذلك بمنزلة المشاهدة، يعني العلم الثابت الذي يكون بمنزلة الشيء المُشاهد، فهذا يدل على أنهم قد صاروا في الإيمان في منزلة المشاهدين لهذه الحقائق الغيبية، كأنما يُشاهدونها بأبصارهم، فلم يكن إيمانهم إيمانًا موروثًا يقبل التشكيك، أو قلدوا فيه غيرهم، ونحو ذلك.

فالفرق بين هؤلاء وبين من كان إيمانه على سبيل الوراثة: بأن هؤلاء الذين يكون إيمانهم موروثًا أنه يكون قابلاً للتشكيك إذا وجد من يُشكك فيه، بخلاف من كان إيمانه عن قناعة راسخة، وعلم ثابت، فإن إيمانه لا يقبل التشكيك، وهو كما قيل:

فليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل[1]

ولذلك انظروا إلى ما يفعله بعض المُلبسين الآن يُشككون الناس في ثوابت الدين، مُبتدئين بالطعن في بعض أحاديث الصحيحين، ثم غيرها من ثوابت الدين، ومن الطعن في أئمة المسلمين، فيتأثر بذلك خلق لا يُحصيهم إلا الله، لا سيما من الشباب الذين لا بصر لهم، ولا علم، ولا رسوخ، وإنما ورثوا الإيمان وراثة من آبائهم، فإذا قابلهم مثل هذا الشيطان وجد المحل القابل، ثم بعد ذلك حصل الشك، وربما أدى بهم إلى الإلحاد، كما هو مُشاهد، هؤلاء الشياطين الذين نصبوا لهم الكمائن في حسابات، وصفحات، ونحو ذلك، مما قد علمتم يُدخلون عليهم اللبس والشك، فيتشككون في كل شيء، لكن من كان راسخًا في الإيمان وأخذ ذلك عن علم وقناعة، فإنه لا يقبل مثل هذه الشُبهات والأمور التي تُزعزع الإيمان لدى من كان إيمانه ضعيفًا، أو علمه وبصره محدودًا، والله المستعان.

وقولهم: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين هذا تأكيد لإيمانهم الذي أعلنوه، وكذلك في قولهم: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُون فأشهدوا الله ، وطلبوا أن يكونوا أيضًا من جملة الشاهدين.

هذا وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن آمن، واتبع الرسول، وأن يجعلنا من الشاهدين، وأن يُثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. البيت للمتنبي في شرح ديوان المتنبي للواحدي (ص:249) برواية:
    وليس يصح في الأفهام شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليلِ

مواد ذات صلة