الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(160) المعاني والهدايات من دعاء الاستخارة
تاريخ النشر: ١٧ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 2415
مرات الإستماع: 2086

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نُواصل الحديث في هذه الليلة في الكلام على ما تضمّنه دعاء الاستخارة من المعاني والهدايات؛ وذلك كما جاء في حديث جابرٍ قال: كان رسولُ الله ﷺ يُعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلِّها كما يُعلِّمنا السُّورةَ من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقُدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنَّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري -أو قال: عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري -أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخيرَ حيث كان، ثم أرضني، قال: ويُسمِّي حاجته[1].

وقد تكلّمنا على صدر هذا الحديث، وبقي الكلامُ على معنى ما جاء فيه من الدُّعاء.

وذلك قوله: اللهم إني أستخيرك بعلمك عرفنا أنَّ الاستخارةَ تدلّ على الطَّلب، بمعنى: أنَّ العبد يطلب من ربِّه أن يختار له ما هو أصلح له في عاجل أمره وآجله، في أموره الدِّينية والدُّنيويَّة.

فهنا يقول: اللهم إني أستخيرك يعني: أطلب خيرَ الأمرين، وهذا يقتضي أنَّه يسأل ربَّه -تبارك وتعالى- ذلك بإطلاقٍ، بمعنى: إن كان في تحقيقه الخير الذي يطلبه فهو طالبٌ أن يتحقق، وإن كان ذلك في صرفه عنه فهو يطلب ذلك، وبناءً عليه فلا معنى للتَّسخط والجزع إذا لم يتحقق له ما يصبو إليه ويهواه؛ لأنَّه قد فوَّض أمرَه إلى الله.

بعلمك أي: بسبب علمك، باعتبار أنَّ الباء سببيّة، والمعنى على هذا: أطلب منك وأسألك أن تشرح صدري وتيسِّر أمري لخير الأمرين، بسبب علمك بحقائق الأمور، وخباياها، وخفاياها، وعواقبها، وما تؤول إليه.

فهو -تبارك وتعالى- يعلم الجزئيّات والكليّات، فلا يُحيط بخير الأمرين على الحقيقة إلا الله -تبارك وتعالى-، وليس ذلك إلا له، والله يقول: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وانظروا إلى هذا التَّعقيب: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

فقد تستشرف نفسُ الإنسان وتتطلع إلى أمرٍ من الأمور، ولكن قد لا يكون له فيه الخير ألبتّة، ولو كُشف له عن حجاب الغيب لعرف أنَّ هذا الأمرَ الذي تتوق إليه نفسُه ويُلحّ بطلبه ليس في مصلحته بحالٍ من الأحوال.

فكم من أناسٍ تطلعوا إلى شيءٍ فحصَّلوه، فكان ذلك فيه حتفُهم، وكم من إنسانٍ تطلع إلى سيارةٍ يقتنيها، أو إلى سفرٍ؛ يُسافر إلى تلك البلاد، أو النَّاحية، أو إلى نزهةٍ، أو غير ذلك، وكان ذلك مُودٍّ به إلى أمورٍ لا تُحْمَد بحالٍ من الأحوال، فالعبد يسأل ربَّه الخيرَ في هذا كلِّه.

ويحتمل أن تكون هذه الباء بعلمك للتَّوسل، يتوسل إلى الله -تبارك وتعالى- بعلمه، والتَّوسل المشروع الصَّحيح يكون بأسماء الله وبصفاته.

اللهم بعلمك الغيب، وقُدرتك على الخلق[2]، فهذا مضى الكلامُ عليه، وما يحتمله من معنى التَّوسل.

وقوله: وأستقدرك بقُدرتك أيضًا هذه الباء فيه تحتمل أن تكون للاستعانة، مثل: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود:41]، وهذا يحتمله ظاهر اللَّفظ، أي: أطلب خيرَك مُستعينًا بعلمك، هذا إذا قلنا: إنها للاستعانة، فإني لا أعلم فيما الخير، وأطلب منك القُدرة، فإنَّه لا حولَ لي ولا قوّة إلا بك.

ويحتمل أن تكون هذه الباء أيضًا للتوسل: أتوسل إليك بقُدرتك، وأسأل وأدعو متوسلاً إليك بهذه الصِّفة، وهي القُدرة، وهذا في غاية المناسبة للمعنى الذي ذكرت فيه، وهو الطَّلب، فهو يُفوِّض إلى الله -تبارك وتعالى- فيقول: لا علمَ لي، ولا حولَ ولا قوةَ، ولا قُدرةَ، ولا طاقةَ إلا ما أقدرتني عليه، فأنت صاحبُ العلم المحيط الشَّامل، والقُدرة الكاملة، فأنا أتوسل إليك، أو أستعين بقُدرتك، فهو حينما يقول: وأستقدرك بقُدرتك يعني: أسألك أن تجعلني قادرًا على فعله، فهذا احتمالٌ.

وكما قلنا: بأنَّ الحروفَ الثلاثة من هذه الكلمة (أستقدرك) تدلّ على الطلب، فأصل الفعل ثلاثي: القاف والدَّال والرَّاء، والمعنى: أطلب أن تجعلني قادرًا، فإني لا حولَ لي ولا قوة، فإيَّاك أسأل أن تجعلني قادرًا على خيري الأمرين، أو أن تُقدر لي الخير.

ثم قال: وأسألك من فضلك العظيم يعني: أن تُهيئ لي ما فيه الخير والصَّلاح والنَّفع، وأن تكشف لي عن ذلك، وتُيسّره.

ولا يلزم أنَّ الإنسان حينما يستخير يرى رؤيا، كما يظنّ بعضُ الناس، فإن لم يرَ رؤيا فإنَّه يُعيد الاستخارة ثانيةً وثالثةً ورابعةً، هذا ليس بلازمٍ، ومن الناس مَن يقول: استخرتُ ولم يظهر لي شيء!

يُقال: لا يُشترط أن يظهر لك شيءٌ، فإنَّ الإنسان مطالبٌ بأمرين:

الأمر الأول: هو أن يستشير المخلوقين، كما سيأتي.

والأمر الثاني: أن يستخير الله -تبارك وتعالى-، فيطلب منه أن يُهيئ له من أمره رشدًا، وأن يُوفِّقه لما فيه الخير؛ لأنَّ الله يعلم العواقب وحقائق الأمور وما تصير إليه.

ثم إذا استوفى ذلك واستجمع المعلومات كاملةً حول مطلوبه بحسب طاقته؛ عند ذلك ينظر إلى المعطيات المتوفّرة عنده، فيُقدم أو يُحجم، فإن كان فيه الخير له فالله سيُهيئ له ذلك، وإن لم يكن له فيه الخير فإنَّه سيُصرف عنه.

على سبيل المثال: رجلٌ أراد أن يتقدّم لامرأةٍ، أو امرأة تقدّم لها خاطبٌ، ما الواجب في مثل هذه الحالة؟ واللَّائق في مثل هذه الحال؟

أولاً: استيفاء المعلومات عن هذا الخاطب، والرجل يستوفي المعلومات عن هذه المرأة، هل تصلح له، أو لا تصلح؟

فإذا استفرغ الوسع في ذلك بقي عليه أمران:

الأمر الأول: أن يستشير أهل العقل الرَّاجح والبصر النَّافذ في مثل هذه القضية التي يريد أن يُقدم عليها، قد يكون الإنسانُ له عقلٌ راجحٌ، لكن تستشيره في أمرٍ ليس من اختصاصه، ولا إلمامَ له به، فلا يحسُن أن تعرض عليه مثل هذه الأمور: كإنسانٍ يريد أن يدخل في معاملةٍ تجاريَّةٍ، هل يدخل، أو لا يدخل؟ فيستشير مَن لا بصرَ له بالتِّجارة، فهذا غير صحيحٍ، وإذا أراد أن يشتري دارًا يسأل أهلَ الخبرة ممن يعرفون العقارَ في مواقعه، وأوصافه، وعمرانه، كلّ ذلك يسأل عنه أهلَ المعرفة والخبرة، ولا يسأل عنه مَن لا بصرَ له بذلك.

الأمر الثاني: ثم يستخير بعد ذلك حسب المعطيات التي توفّرت عنده، فإن ترجّح في نظره القاصر أنَّ هذا يمكن أن يُقدم عليه، وله فيه مصلحته؛ تقدّم، فإن لم يكن فيه خيرٌ سيُصرف عنه، وإن كان فيه خيرٌ فحتى لو انصرف عنه فإنَّ الله سيُهيئ له من الأسباب ما يسوقه إلى ذلك، سيطوف ما يطوف، ثم بعد ذلك يرجع إليه، وأحيانًا لا يتيسّر، يتعسّر، فيذهب، ثم بعد ذلك يُفاجأ أنَّ هذا العقارَ قد بيع؛ ويندم ويتحسّر، لكن لا معنى لهذا التَّحسر.

وهذه المرأة قد بدا لها أمرٌ آخر بعد أن وافقت، وهذه الطَّائرة قد أقلعت، جاء حتى وصل إلى باب الطَّائرة فقالوا: أُقفل الباب، ولا يمكن أن تركب في هذه الرحلة، فيتحسّر، لكن هو استخار، فهذا مُقتضى الاستخارة، فهو يقول: وأسألك من فضلك العظيم، فلا شكَّ أنَّ من فضل الله -تبارك وتعالى- على العبد أن يهدي قلبَه، وأن يكون مُسددًا، راشدًا، مُوفَّقًا فيما يأتي ويذر، فيُهيئ له من البدائل إن لم تكن له مصلحةٌ وخيرٌ في هذا الأمر الذي تطلعت إليه نفسُه، فيعوض عن هذه المرأة بما هو أفضل، وهذه المرأة تُعوّض عن هذا الخاطب بما هو أفضل، ويُهيّأ له بدل هذه الصَّفقة ما هو أفضل، وهكذا.

يقول: فإنَّك تقدر ولا أقدر يعني: فإنَّك أنت القادر على كل شيءٍ، وأنا ضعيفٌ، عاجزٌ، لا أقدر، وأنت صاحب القُدرة الكاملة، ولا أقدر على شيءٍ إلا بإقدارك، فلا حولَ لي ولا قوةَ إلا بك.

وتعلم ولا أعلم أنت صاحب العلم الشَّامل المحيط بالظَّواهر والبواطن، وبالخير والشَّر، وبالجزئيات والكليّات، ولا أعلم شيئًا منها إلا بإعلامك وإلهامك.

فتصوّر، عبدٌ بهذه الطَّريقة؛ يُفوِّض أمره إلى الله، ولا يقول: أنا صاحب خبرةٍ ومعرفةٍ، أنا أستاذٌ في هذه القضايا، ومرجع، ولا أحتاج إلى شيءٍ من هذا! هذا يُخذل، وكم من إنسانٍ ذهبت تجارته! وكم من إنسانٍ أدرك أنَّه مغمورٌ بالفشل في زواجه وأولاده، ولم يستطع أن يستدرك ذلك بعد رحيل الشَّباب والقوة؛ فذهبت إمكاناته، وذهبت قواه، وبقي بين أولادٍ عققةٍ، وزوجةٍ سيئةٍ، ولم يخرج بشيءٍ؛ فبقي حال شيبته في حسرةٍ!

فالإنسان لا حولَ له ولا قوة، يحتاج إلى توفيق الله وهدايته، فيُفوّض هذا التَّفويض مهما كانت إمكاناته، وذكاؤه، وعقله، وقُدراته، ومهما كان له من البصر في الأمور، يقول: أنا لا أقدر، ولا أعلم، أنا ضعيفٌ. فنفى عن نفسه الأمرين: القُدرة التي يحصل بها الفعل، والعلم الذي يحصل به الإقدام أو الإحجام، يتحقق من المصلحة، أو من عدمها، فإنَّ الذي يقود الإنسان ويسوقه إلى الفعل أو الترك هذان الأمران: القُدرة والعلم، فالقُدرة سائقها العلم، وقد يكون بصرُ هذا الإنسان قصيرًا، لا يتجاوز أنفه، فيُقدم على أشياء، وقد تكون عين الضَّرر بالنسبة إليه.

فالله -تبارك وتعالى- يعلم، ونحن لا نعلم، يعلم عواقبَ الأمور، يعلم مآلات الأشياء، يعلم ما ينفع وما يضرّ، وأما نحن فلا شيء عندنا.

وأنت علَّام الغيوب "علَّام" صيغة مُبالغة، يعني: كثير العلم، لا يخرج عن علمك شيءٌ منها، فبصرك بكل شيءٍ نافذٌ، تعلم السرَّ وأخفى، فضلاً عن الأشياء الحاضرة والظَّاهرة، يعلم أمورَ الدنيا، وأحوال الآخرة، لا تخفى عليه من ذلك خافية، فيتوجّه إلى الله -تبارك وتعالى-.

يقول: اللهم إن كنت تعلم المقصود: إن كان في علمك، وإلا لا شكَّ أنَّ الله يعلم، ولكنَّه خرج هذا المخرج على طريقة العرب في مُخاطباتها، يعني: المقصود إن كان في علمك أنَّ هذا الأمرَ خيرٌ لي الأمر الذي يُريده، كما جاء في بعض رواياته: يُسمِّي حاجته، الأمر الفلاني: في شراء هذه الدَّار، أو في شراء هذه السَّيارة، أو في نكاح هذه المرأة، أو في دراسة هذا التَّخصص، أو في السفر إلى المكان الفلاني: يُسمِّى حاجتَه.

وبعض أهل العلم قال: بأنَّ ذلك يكفي فيه أيضًا الإضمار -يعني: في نفسه-: إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر الذي أتوجّه إليه، وأطلب الخيرةَ فيه، فيكون ذلك مُضمرًا؛ لأنَّ هؤلاء قالوا: إنَّ قوله: يُسمِّي حاجته أنَّه ليس من قول النبي ﷺ، ومَن نظروا إلى هذا قالوا: لا يلزم أن يُصرِّح باسم الحاجة.

ومشى آخرون على ظاهر ما جاء في لفظ الحديث، فقالوا: إنَّه يُسمِّي حاجته، فيقول: شراء هذه الدَّار، أو تزوّج هذه المرأة، أو دراسة هذا التَّخصص، أو الالتحاق بهذا العمل، وهكذا.

فعلى كل حالٍ، جاء بهذه الصِّيغة: إن كنتَ تعلم، فأوقع الكلامَ موقع الشَّك، على معنى التَّفويض الكامل، يقول: فوضتُ أمري إليك إن كان في هذا خيرٌ لي في ديني، يعني: ما يتعلق بالدِّين أولاً وآخرًا، وبدأ به لأنَّه هو الأساس، فقد يتزوج الرجلُ امرأةً، ويكون ذلك على حساب دينه، فالناس الذين يتزوجون يكونون على أحوالٍ ثلاثٍ:

منهم مَن يكون هذا التَّزوج بهذه المرأة زيادةً له في دينه وصلاحه؛ فتُعينه على طاعة الله، فيحصل له من العفاف والإقبال على الخير، وصلاح القلب والحال والنَّشاط والجدّ في الطَّاعة والعبادة.

ومن الناس مَن يحصل له تراجع ويضعف، وتبدأ آثار الضَّعف عليه، وهذه مشكلة.

وقليلٌ مَن يكون على نفس الحال، فالغالب إمَّا أن يزيد أو ينقص.

وهكذا في سفر الإنسان، ومُزاولاته، وتجارته، وأعماله، وذهابه، ومجيئه، فكلّ ذلك قد يضرّ دينه، فهو يقول: إن كنتَ تعلم أنَّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي، والمعاش يعني: العيش والحياة، وعاقبة أمري -أو قال: في عاجل أمري وآجله-، فيحتمل أن يكون معنى "عاقبة أمري": المآل، أو قال: في عاجل أمري وآجله، فقال ذلك بدلاً من قوله: إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري يعني: يكون، قال: إن كنتَ تعلم أنَّ هذا الأمر خيرٌ لي في عاجل أمري وآجله يعني: في الدنيا والآخرة، فهذا يحتمل.

ويحتمل أنَّه قال: إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي، وبدلاً منه: وعاقبة أمري، وعاجل أمري وآجله يعني: بدلاً من الجملة الأخيرة.

إن كان خيرًا لي في ديني، ومعاشي، وعاجل أمري وآجله يعني: لي فيه نفعٌ بالعاجل والآجل، والإنسان لا ينظر إلى يومٍ وسنةٍ وسنتين، بل ينظر إلى أبعد من ذلك، وينظر أيضًا إلى الآخرة، ومن الأمور ما يكون خيرًا للإنسان في دينه دون دنياه، وقد يكون الشيءُ خيرًا له في دنياه فقط، لا في دينه، وهذا لا شكَّ أنَّه حظٌّ تافِهٌ، وقد يكون ذلك خيرًا له في العاجل دون الآجل، وقد يكون خيرًا له في الآجل دون العاجل، فذكر هذه الأمور جميعًا، فعاجل الأمر يشمل: الدِّيني والدُّنيوي، والآجل يشمل ذلك كلّه، والعاقبة أيضًا.

فاقدره لي يعني: اجعله مقدورًا لي، أو هيِّئه ونجِّزه لي، والتَّقدير الذي في اللوح المحفوظ لا يتغير، وإنما الذي يتغير ما هو في الصُّحف التي بأيدي الملائكة: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فهذا دعاءٌ، والدُّعاء لا شكَّ أنه ينفع، والله قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وآثار الدُّعاء معروفة، مشهودة، لكن هل يتغير بسبب الدُّعاء الذي في اللوح المحفوظ؟

الجواب: لا، وإنما الذي يتغير ما في صحف الملائكة، فالتَّقدير أنواع.

قال: ويسّره لي يعني: هو يطلب تيسيره وتسهيله، وليس ذلك فقط: ثم بارك لي فيه، وعرفنا أنَّ البركةَ: كثرة الخير، ونماؤه، فما أعطيتني بارك لي فيه: إن كان زوجةً، أو إن كان دابَّةً، أو إن كان تجارةً ومالاً، أو دارًا، ونحو ذلك.

و(ثم) هذه للترتيب الرتبي، وليست للزمان، يعني: ما هو: يسّره لي، ثم بعد ذلك اجعل لي فيه بركةً. لا، وإنما البركة من أول لحظةٍ، يعني: كأنَّه يقول: يسِّره لي، ومع ذلك بارك لي فيه: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد:17] يعني: مع ذلك هو بهذه الصِّفة.

واقدر لي الخيرَ يعني: يسِّره لي، واجعله مقدورًا.

حيث كان يعني: في أي مكانٍ وُجِدَ يسِّر لي الخير.

ثم أرضني به يعني: بهذا الخير، ويحتمل: أن يكون أرضني بقضائك، كما تدلّ عليه رواية النَّسائي، قال: بقضائك[3]، وهما مُتلازمان؛ فإنَّ هذا الخير الذي حصل له، أو ما قُدِّر له هو بقضاء الله ، فإن رضي بما قدّر له فهو راضٍ بقضاء الله -تبارك وتعالى-، فالمعنيان مُتلازمان، وهذا في غاية الأهمية؛ لماذا؟

لأنَّ الإنسان قد يستخير ولا يرضى، فما الفائدة من هذه الاستخارة التي لا يعقبها الرِّضا؟! إذًا لماذا أنت تستخير؟! فهو مُتناقضٌ في هذا.

وهذا يقع فيه الكثيرون؛ يستخير ويطلب من الله أن يكتب له ما فيه الخير، ويُفوِّض هذا التَّفويض العظيم، ثم إذا لم تتحقق له مطالبه صار في غاية التَّسخط والجزع والضِّيق والحزن، وهذا غلطٌ، بل إذا استوفيتَ ما يطلب في التَّعرف على المراد، ثم بعد ذلك استشرتَ المخلوقين، واستخرتَ الله -تبارك وتعالى-، فلا تقلق، ولا تتمنّى بعد ذلك شيئًا، إلا أن يكتب اللهُ لك ما فيه الخير، ولا تدري: هل هو في تيسيره، أو في عدمه؟ وليكن قلبُك مُستريحًا بعد ذلك.

فهذه المرأة إذا ما قدَّرها اللهُ لك، أو ما تهيَّأت هذه الدِّراسة، أو ما حصلت هذه الوظيفة، هذا لا يدعو إلى القلق والضِّيق؛ لأنَّك طلبتَ من الله أن يكتب لك ما فيه الخير.

ولا يلزم أن تكون هناك رؤيا، ولا أن يكون هناك انشراحٌ، كما يقول بعضُ الناس: ما شعرتُ بانشراحٍ، فليس بلازمٍ أن تشعر بانشراحٍ، أقدم أو أحجم بحسب المعطيات التي توفّرت عندك، ثم بعد ذلك اللهُ يُيسّر لك ما فيه الخير والصَّلاح؛ لأنَّك سألتَ الله ذلك، والله لا يخيب مَن سأله ورجاه.

ولا شكَّ أنَّ هذا الحديثَ يدلّ على استحباب الاستخارة في الأمور كلِّها، وقد قيل: ما ندم مَن استخار الله تعالى، وشاور المخلوقين.

وفي كلام الحكماء: الناس ثلاثة: رجلٌ، ونصف رجلٍ، ولا رجل، يعني: ليس بشيءٍ، فالرجل مَن كان له رأيٌ ويستشير، فيُضيف إلى عقله ورأيه آراء الآخرين، فهذا يحصل له الكمال.

ونصف الرجل مَن له رأيٌ، لكن لا يستشير، ولا يُضيف عقولَ الآخرين إلى عقله، مُستبدٌّ برأيه، ومُعجَبٌ به، هذا نصف رجلٍ.

ولا رجل هذا الذي -نسأل الله العافية- لا رأيَ، ولا يستفيد من أصحاب العقول الرَّاجحة، ولا يستشير، ولا يرجع إليهم، يعني: هو عقله ضعيفٌ، وتفكيره محدودٌ، وضعيف النَّظر والرأي والتَّفكير، ومع ذلك لا يستشير أحدًا، وفي كل مرةٍ يقع في حفرةٍ، فهذا لا شيءَ، ومثل هذا لا رأيَ له، ولا يستشير.

ثم ليقل متى يقول ذلك؟ هل يقوله قبل السَّلام أو بعده؟ يحتمل.

وشيخ الإسلام على قاعدته: في أنَّ الدُّعاء يكون قبل السَّلام[4]، وأنَّ ذلك أدعى للقبول والإجابة، والنبي ﷺ يقول: ثم يتخير من الدُّعاء أعجبه إليه فيدعو[5].

وكذلك أيضًا تكلّم من جهة النَّظر بأنَّ هذا مثل مَن دخل على ملكٍ، ثم بعد ذلك كان بحضرته، ثم خرج وانصرف منه، فأرسل بحاجته بعد أن خرج، يقول: الأدعى في الإجابة وتحقيق المطلوب أن يذكر حاجتَه وهو بحضرته.

وكذلك الحافظ ابن القيم يقول ما معناه: لا يحسُن بالإنسان أنَّه إذا انصرف من الصَّلاة رفع يديه، وجلس يدعو، بل الدُّعاء أقرب إلى الإجابة في حال كونه في الصَّلاة[6]. فيقولون: دُعاء الاستخارة يكون قبل السَّلام.

ومن أهل العلم مَن قال: ثم في ثم ليقل للتَّراخي، يعني: بعد الصَّلاة، فيكون بعد السَّلام. وهذا الذي يُفتي به سماحةُ الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، ويقول أيضًا: الأفضل أن يرفع يديه في هذا الدُّعاء بعد السَّلام[7]؛ لأنَّ رفعَهما من أسباب استجابة الدُّعاء.

فهذا الدعاء -أيّها الأحبّة- كما ترون دعاءٌ عظيمٌ، تضمن هذه الهدايات والمعاني العظيمة، وهو عوض لهذه الأُمَّة المرحومة التي أكرمها الله ببعث نبيِّه ﷺ بهذه الشَّريعة الكاملة، وعوض عمَّا كان عليه أهل الجاهلية، فهؤلاء مساكين، جُهلاء، كانوا إذا أراد الواحدُ منهم أن يتزوج، أو أن يُسافر، أو أن يعقد صفقةً، أو نحو ذلك، يبدأ يزجر الطير، أو يستقسم بالأزلام، فيضعون مثل الكيس، وفيه ثلاثة أقداحٍ: في أحدها: افعل. والثاني: لا تفعل. والثالث ليس مكتوب عليه شيئًا، ويُدخل يده، فإذا خرج له: افعل، فعل، وإذا خرج: لا تفعل، لم يفعل، وإذا خرج له الذي لم يكتب فيه شيء أعاد، فما قيمة هذه الأقداح، وإخراج واحدٍ منها، أو زجر الطَّير، أو نحو ذلك؟ إن ذهب شمالاً رجع من السَّفر، وإن ذهب يمينًا تفاءل ومشى، وكذلك ينظرون إلى الضّباء والحيوانات، ونحو ذلك، فإن تيامنت تفاءلوا واستمرُّوا في سفرهم، وإن تياسرت تشاءموا ورجعوا، فما شأن هذه؟!

وكذلك يتشاءمون بأصوات الطُّيور: كالغُراب، والبُوم، ونحو هذا، كما قال شاعرُهم:

يُبَشِّرني الغرابُ ببين أهلي فقلتُ له: ثكلتُكَ من بشير[8]

فحينما يسمع صوتَ الغُراب أو البُوم خاصَّةً في أول الصَّباح يتشاءم، أو يرى إنسانًا فيه عاهة، أو نحو ذلك، فكل هذا من أفعال الجاهلية، ولا قيمةَ له، وبعض الناس يُغلق الدّكان إذا جاءه أول مُشترٍ أو أول زبونٍ أعمى، أو أعور، أو أعرج، أو أبرص، أو نحو ذلك، ويجلس يسبّه، ويدعو عليه، ونحو هذا، بل بعضهم يتشبَّث بك إذا أتيتَ لتشتري، ولو أعطاك بخسارةٍ، لا تذهب؛ لماذا؟ لأنَّه يعتقد أنَّ هذا هو الفأل؛ أن يبيع لأول مَن جاء وطرق هذا المحلّ، فيُصرّ على البيع ولو كان بخسارةٍ، ويُعطيك بالسعر الذي تطلبه من أجل أن يُفتح له في باقي اليوم.

هذا كلّه من عمل الجاهلية، ولا قيمةَ له، وتجد بعض العبارات التي يقولونها ويُرددونها تدلّ على مثل هذا، وأنَّه مغروسٌ في نفوس الكثيرين، فهؤلاء كانوا يستقسمون بالأزلام، وكانوا يزجرون الطَّير، ونحو ذلك.

أمَّا هذه الأُمَّة فقد هداهم الله إلى هذا الرَّشاد، وإلى هذه الهدايات، وهذا الدُّعاء العظيم، فتضمّن هذا الدعاء الإقرار بوجود الله ، والإقرار بصفات كماله؛ كمال العلم والقُدرة والإرادة، والإقرار بربوبيَّته، وتفويض الأمور إليه، والاستعانة به، والتَّوكل عليه، والخروج من عُهدة النفس، والتَّبري من الحول والقُوة إلا به، فاعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصالح نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأنَّ ذلك جميعًا بيد الله .

وكذلك هذه الاستخارة مقصودها: التَّوكل على الله، وتفويض الأمور إليه، والاستقسام بقُدرته -تبارك وتعالى-، وحُسن اختياره لعبده؛ وذلك من لوازم الرِّضا به -تبارك وتعالى- ربًّا، فالرب المدبّر لأمورك وشؤونك، والذي يُربيك ويسوسك، ولا يذوق طعمَ الإيمان مَن لم يرضَ بالله ربًّا، ومن سعادة العبد أن يستخير، وأن يرضا بما قسم اللهُ له.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1.  أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب الدُّعاء عند الاستخارة، برقم (6382).
  2. أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (18325)، وقال محققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ".
  3. أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى": ما يقول إذا أراد سفرًا، برقم (10332).
  4. "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/203).
  5. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدُّعاء بعد التَّشهد وليس بواجبٍ، برقم (835).
  6. "الصلاة وأحكام تاركها" (ص152).
  7. "مجموع فتاوى ابن باز" (11/422).
  8. لم أهتدِ إلى قائله، وهو في "البحر المحيط" في التفسير (1/180)، و"الدر المصون في علوم الكتاب المكنون" (1/209).

مواد ذات صلة