الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(116) دعاء الرفع من الركوع "... ولا ينفع ذا الجد منك الجد "
تاريخ النشر: ٢٣ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 2061
مرات الإستماع: 2227

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نُواصل في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- الكلام على الذكر الذي يُقال بعد الرفع من الركوع، وهو حديث أبي سعيدٍ قال: "كان رسولُ الله ﷺ إذا رفع رأسَه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، أهل الثَّناء والمجد، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلنا لك عبدٌ، اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ"[1].

وقد بلغ الحديثُ والتَّعليق إلى قوله: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ، و"الجدّ" مضى الكلامُ عليه في بعض المناسبات، وما فُسِّر به، وأنَّ ذلك يُقال للحظِّ والنَّصيب، هذا هو المشهور، مع أنَّ بعضَهم فسَّره بعباراتٍ أخرى: كالعظمة والسُّلطان، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا [الجن:3]، وذلك أنَّ كلمة (الجدّ) تأتي لمعانٍ في كلام العرب، منها: أنَّ ذلك يُقال لأب الأب، ولأب الأم، وإن علا؛ ولهذا بعضُ أهل العلم فسَّر "الجدّ" هنا بهذا المعنى، فقالوا: لا ينفعه آباؤه عند الله -تبارك وتعالى-، أو لا يُخلصونه من عذاب الله. لكن هذا المعنى فيه بُعْدٌ، فبعض أهل العلم فسَّره بالسلطان والعظمة.

والمقصود من لا ينفع ذا الجدِّ أي: لا ينفع ذا الحظِّ، وهذا الحظُّ قد يكون بالمال، وقد يكون بالسُّلطان، وبالعظمة في الدنيا، وما يُؤتاه الإنسانُ مما يظنّ أنَّه يكون به راجحًا، أو أنَّ ذلك يُخلصه من عذاب الله -تبارك وتعالى-.

والواقع أنَّه لا يُنجي بعد رحمة الله إلا الإيمان والعمل الصَّالح، فهذه الأمور التي يحصلها الناسُ من الحظوظ الدّنيوية -أيًّا كان نوعها- ليس عليها المعول في الآخرة، ولا يحصل بها التَّفاضل عند الله -تبارك وتعالى-، ولا النَّجاة من عذابه، وإنما هي التَّقوى والإيمان والعمل الصَّالح.

والعلماء -رحمهم الله- في تفسير قوله: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ جاءت تفاسيرهم له على ثلاث مراتب: فكثيرٌ من الشُّراح يُفسرون ذلك بمثل قولهم: ولا ينفع ذا الجدّ يعني: صاحب الحظِّ من السُّلطان، أو المال، ونحوه، لا ينفعه ذلك عند الله، فيكون مُقرِّبًا له، أو رفعة في منزلته ودرجته عند ربِّه -تبارك وتعالى-، فهذا لا يحصل به ارتفاعٌ ولا انتفاعٌ في الآخرة. هكذا يقولون.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- كان تفسيره أوسع من هذا، فأشار إلى هذا المعنى، حيث قال: "أنَّه لا ينفع عنده، ولا يُخلص من عذابه، ولا يُدني من كرامته جدود بني آدم وحظوظهم من الملك والرِّئاسة والغِنَى وطيب العيش وغير ذلك، إنما ينفعهم عنده التَّقرب إليه بطاعته وإيثار مرضاته"[2].

وشيخ الإسلام -رحمه الله- فسَّره بأدقّ من هذا كلِّه، فإنَّه نظر إلى معنى من، فيقول شيخُ الإسلام: "ولهذا قال: (لا ينفعه منك)، ولم يقل: "لا ينفعه عندك"، فإنَّه لو قيل ذلك أوهم أنَّه لا يتقرّب به إليك، لكن قد لا يضرّه، فيقول صاحبُ الجدِّ: إذا سلمت من العذاب في الآخرة فما أُبالي، كالذين أوتوا النبوةَ والملكَ؛ لهم ملكٌ في الدنيا، وهم من السُّعداء، فقد يظنّ ذو الجدِّ الذي لم يعمل بطاعة الله من بعده أنَّه كان كذلك، فقال: ولا ينفع ذا الجدِّ منك ضمَّن (ينفع) معنى (يُنجي ويُخلِّص)، فبيّن أنَّ جدَّه لا يُنجيه من العذاب، بل يستحقّ بذنوبه ما يستحقّه أمثاله، ولا ينفعه جدُّه منك، فلا يُنجيه، ولا يُخلِّصه"[3].

فإذًا شيخ الإسلام يقول: لو قال: "ولا ينفع ذا الجدِّ عندك الجدّ"، بمعنى: أنَّه لا يرتفع بمُؤهلاته الدّنيوية من مالٍ ومنصبٍ وكثرة ولدٍ، أو نجاحاتٍ في أعمالٍ ومِهَنٍ، وما إلى ذلك، هذا لا يرفعه، لكنَّه قال: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ.

فشيخ الإسلام يقول: إنَّ قوله: منك يدل على الخلاص والنَّجاة، يعني: أنَّه لا يُخلِّصه حظُّه من عذابك، وإنما الذي يُخلِّصه بعد رحمتك هو الإيمان والعمل الصَّالح، فالكلام هنا في الخلاص والنَّجاة: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ يعني: لا يتخلَّص بمُكتسباته المادية الدّنيوية، وبأمواله وولده، وما إلى ذلك.

فهذا التَّفسير الذي ذكره شيخُ الإسلام -رحمه الله- أدقّ مما قاله الأوَّلون، ومما قاله ابنُ القيم، فكلام ابن القيم تُلاحظون أنَّه ذكر فيه النَّاحيتين: لا يقرّب، ولن يُخلِّص، وشيخ الإسلام أخصّ من هذا كلّه، فهو يُبيّن أنَّه لو قيل: "لا ينفعه عندك" لكان ذلك له وجهٌ، يعني: مما قالوه، وأنَّه لو كان لا ينفعه، فإنَّ ذلك لا يعني: أنَّه يتضرر بذلك، يعني: يكون لا له، ولا عليه، لكن حينما يقول: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ يعني: لا يُطلقه، ولا يعتقه، ولا يُخلِّصه من عذابك ما عنده من مُقتنيات ومُكتسبات، وما إلى ذلك من الأمور الدّنيوية المادية، فيكون حسبُه أنَّه لا يتقرّب بهذا الجدِّ إليك؛ ولهذا عُدِّيَ بـ(من)، فيكون جدّه لا يُنجيه من العذاب، بل يستحقّ بذنوبه ما يستحقّه أمثاله.

ثم إنَّه يُشير -رحمه الله- إلى ما تضمّنه هذا الحديث من تحقيق توحيد الربوبية: خلقًا، وقدرًا، وبدايةً، وهدايةً، وأنَّه هو المعطي المانع، لا مانعَ لما أعطى، ولا مُعطي لما منع.

وكذلك أيضًا توحيد الإلهية: شرعًا، وأمرًا، ونهيًا، وهو أنَّ العبادَ وإن كانوا يُعطون ملكًا وعظمةً وبختًا ورياسةً في الظَّاهر، أو في الباطن، فإنَّ ذلك لا ينفع، ولا يُخلِّص من عذاب الله -تبارك وتعالى- وحسابه وسؤاله.

ويذكر كلامًا وتفاصيل في تحقيقه للتَّوحيد، وتحقيق معنى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وقوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقوله: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ۝ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:8- 9]، فيذكر هذا المعنى في بعض كُتبه، ويذكر أيضًا ما يشرحه ويُوضحه في مواضع أخرى، فهو يُبيّن أنَّ هذا الحديثَ يتضمن أصلين عظيمين:

الأول: توحيد الربوبية، لا مُعطي لما منع الله، ولا مانعَ لما أعطى، ولا يتوكّل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو.

والثاني: توحيد الإلهية، وهو بيان ما ينفع، وما لا ينفع، وأنَّه ليس كل مَن أُعطي مالاً أو دنيا أو رياسةً كان ذلك نافعًا له عند الله، مُنجيًا له من عذابه، فإنَّ الله يُعطي الدنيا مَن يُحبُّ، ومَن لا يُحبُّ، ولا يُعطي الإيمانَ إلا مَن يُحبُّ.

وتوحيد الألوهية: أن يُعبد الله، ولا يُشرك به، فيُطاع، وتُطاع رسلُه -عليهم الصَّلاة والسلام-، وتُفعل محابُّه ومراضيه.

وأمَّا توحيد الربوبية: فيدخل في ذلك أيضًا ما قدَّره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه، والعبد مأمورٌ بأن يعبد الله، وأن يفعل ما أمر به، وهو توحيد الإلهية، وأن يستغفر ربَّه -تبارك وتعالى-، وكلّ ذلك تحقيقٌ لقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

ثم أيضًا تأمّلوا هذا الحمد الواسع الذي أشرتُ إليه في أول الكلام على هذا الحديث، فقلتُ: يأتي ما يُوضِّحه -إن شاء الله- حينما يقول: ملء السَّماوات والأرض، بهذا الإطلاق، وبهذه السّعة: ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد يعني: أنَّك تحمد هذا الحمد الذي يكون بهذه المنزلة، وبهذا المقدار، ومعنى ذلك: أنَّ الله -تبارك وتعالى- محمودٌ على كلِّ مخلوقٍ يخلقه، وعلى كل فعلٍ يفعله، والسَّماوات والأرض وما فيهما وما بينهما كلّ ذلك من خلق الله -تبارك وتعالى-، فيكون الحمدُ حينئذٍ مالئًا للسَّماوات والأرض، ومعلومٌ أنَّ المخلوقات تملأ ذلك.

فيستحضر المصلِّي أنَّ الله محمودٌ على كل فعلٍ فعله، وعلى كل خلقٍ خلقه، وقد عرفنا أنَّ الشَّر لا يُنسَب إليه، وأنَّ أفعالَ الله -تبارك وتعالى- كلّها خيرٌ، لا شرَّ فيها، فيحمد على أفعاله.

وهذا أيضًا فيه دليلٌ ظاهرٌ -كما يقول النَّووي رحمه الله- على فضيلة هذا اللَّفظ، حيث قال: "وفي هذا الكلام دليلٌ ظاهرٌ على فضيلة هذا اللَّفظ، فقد أخبر النبيُّ ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى: أنَّ هذا أحقُّ ما قاله العبدُ، فينبغي أن يُحافظ عليه؛ لأنَّا كلّنا عبدٌ، ولا نُهمله، وإنما كان أحقّ ما قاله العبدُ لما فيه من التَّفويض إلى الله تعالى، والإذعان له، والاعتراف بوحدانيَّته، والتَّصريح بأنَّه لا حولَ ولا قوةَ إلا به، وأنَّ الخيرَ والشَّر منه، والحثّ على الزّهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصَّالحة"[4].

فهو أحقُّ ما قال العبدُ؛ لما فيه من التَّفويض إلى الله -تبارك وتعالى-، والإذعان والإقرار بتوحيده بإلاهيَّته وربوبيَّته، وأنَّه هو المعبود وحده، وهو المستعان به وحده، فعليه التُّكلان، وأنَّه لا حولَ ولا قوَّةَ إلا به، وأنَّ الخيرَ والعطاءَ والمنعَ والنَّفعَ والضُّرَّ كلّ ذلك بيده .

هذا ما تضمّنه هذا الحديث، والله تعالى أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسَه من الركوع، برقم (477).
  2. "الصلاة وأحكام تاركها" (ص147).
  3. "الحسنة والسيئة" (ص126).
  4. "شرح النووي على مسلم" (4/195-196).

مواد ذات صلة