الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[13] من قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} الآية 80 إلى قوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} الآية 83.
تاريخ النشر: ٢٥ / ذو الحجة / ١٤٢٨
التحميل: 2548
مرات الإستماع: 2414

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ ۝ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ ۝ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ۝ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [سورة النحل:80-83].

يذكر -تبارك وتعالى- تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم، يأوون إليها، ويستترون بها، وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع، وجعل لهم أيضاً من جلود الأنعام بيوتاً أي من الأدم، يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر؛ ولهذا قال: تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا أي: الغنم، وَأَوْبَارِهَا أي: الإبل، وَأَشْعَارِهَا أي: المعز -والضمير عائد على الأنعام.

أَثَاثاً أي: تتخذون منه أثاثاً وهو المال، وقيل: المتاع، وقيل: الثياب، والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البُسُط والثياب وغير ذلك، ويتخذ مالاً وتجارة.

وقال ابن عباس -ا: الأثاث المتاع، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخرساني والضحاك وقتادة، وقوله: إِلَى حِينٍ أي: إلى أجل مسمى ووقت معلوم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً، يقول الحافظ -رحمه الله: "يذكر تعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها ويستترون بها، وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع".

السكن: هو ما يسكن إليه الإنسان ويطمئن به، وذلك يكون في البيوت حيث إن الناس إذا أووا إلى بيوتهم سكنت نفوسهم فيها، ولا يدخل عليهم غيرهم إلا باستئذان، والواحد منهم ربما وضع ثيابه، أو جلس أو اضطجع كما يحلو له، ولا يكون مستوفزاً يتوقع في كل لحظة أن أحداً من الناس يدخل عليه، وإنما يكون دخول الآخرين عليه بعد الاستئذان، فهو سيد في بيته، يجد نفسه في هذا البيت من غير تكلف، ودون أن يقلق بسبب ملاحظته للآخرين، كما هو الحال لو أنه كان في مكان عام فإنه قد لا يتهيأ له ألوان الراحة.

وقوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ، الأثاث هنا يمكن أن يحمل على هذه المعاني التي ذكرها السلف جميعاً، وقوله: إِلَىَ حِينٍ قال: أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم.

وهذا التفسير هو من قبيل حمل المعنى على الأعم؛ لأن من أهل العلم من فسر قوله: إِلَىَ حِينٍ بيوم القيامة، ومنهم من فسره بالموت، ومنهم فسره بالتلف، وما يحصل لها من البِلى، فهذه الملبوسات والبُسُط وما إلى ذلك تتلف بعد مدة، إلى غير ذلك من المعاني، وكبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- فسر ذلك بالموت، مَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ إلى الموت، وبعضهم يقول: إلى القيامة.

وكلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أوسع من هذا كله، يقول: "أي إلى أجل مسمىً ووقت معلوم"، فالله لم يحدّ حداً وإنما قال: مَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ فهم يتمتعون بها إلى أن تبلى، فالإنسان يتمتع بهذه الأثاث إلى أن يموت، فهذا يصدق عليه أنه إلى حين؛ لأن التمتع بها في الحياة الدنيا فحسب، فهي متاع بالنسبة إلى مجموع الناس، فهو متاع إلى حين، بما هيأ الله  لهم من هذه الأنعام التي ينتفعون بها إِلَىَ حِينٍ إلى يوم القيامة، فهذا يصدق على ذلك جميعاً، فمن تمتع بها إلى أن بَلِيت فهو متاع إلى حين، ومن تمتع بها مدة حياته فهو متاع إلى حين، وبالنظر إلى مجموع الناس فهم يتمتعون بها في الدنيا جيلاَ بعد جيل، ثم بعد ذلك تنقضي هذه الحياة وينتقلون إلى الدار الآخرة، التي ليس فيها من هذا اللباس والأثاث الذي يستخرجونه من الأنعام.

وقوله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً قال قتادة: يعني الشجر، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً أي: حصوناً ومعاقل، كما جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وهي الثياب من القطن والكتان والصوف، وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كالدروع من الحديد المصفح والزَّرد وغير ذلك.

الزَّرد: حِلق الدروع، وحلق المِغْفر.

كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي: هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عوناً لكم على طاعته وعبادته، لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ هكذا فسره الجمهور، وقرءوه بكسر اللام من تُسْلِمُونَ أي من الإسلام.

قوله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً، "قال قتادة: يعني الشجر"، هنا لم يحمله على أعم من هذا المعنى؛ لأن الله ذكر بعده الجبال فقال: مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً، لما خلق ظلالاً، فلو أنه اقتصر على الظلال مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً ولم يذكر الجبال بعده لفسر بأعم من ذلك، ولكن لما ذكر الجبال صار الظلال بالشجر، والجبال يوجد فيها ما يكنهم من المطر ومن حر الشمس، بما فيها من الغيران والكهوف والتجاويف وما إلى ذلك.

قوله: مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ قال: "وهي الثياب من القطن والكتان والصوف"، قال: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ، ولم يذكر البرد مع أن الناس بحاجة إلى ما يقيهم من البرد، قال بعض أهل العلم: إنه ذكر الأهم باعتبار أن أول من خوطب بالقرآن هم العرب، وكانت بلادهم حارة، واشتهرت بذلك، فهم بحاجة إلى ما يقيهم من حر الشمس، وبعضهم يقول: هذا من باب الاكتفاء، أي أنه ذكر أحد القبيلين ليدل به على الآخر، والتقدير "سرابيل تقيكم الحر والبرد".

ثم قال: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ وهو ما يلبس في الحرب مما يتقي به الإنسان الطعن والضرب وما إلى ذلك، وقوله: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ قال: هكذا فسره الجمهور، يعني ليكون عوناً لكم على طاعته وعبادته، قال: وقرءوه بكسر اللام من تُسلِمون أي: من الإسلام، وفي قراءة عن عكرمة وهي مروية عن ابن عباس -ا- ولا تصح عنه: لعلكم تَسلَمون بفتح اللام يعني أن هذه السرابيل تقيهم بأسهم في الحرب لعلهم يَسلَمون أي من أجل أن يسلَموا، فتكون "لعل" بمعنى التعليل، يلبسونها من أجل السلام في الحرب، فلا يصيبهم السلاح الذي يضربهم به عدوهم، لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ أي من أجل أن تسلَموا، والقراءة المتواترة هي القراءة المعتبرة لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أي: أن الله هيأ لكم هذه النعم وأفاض عليكم هذه الألطاف من أجل أن تستعينوا بها على طاعة الله ، لا أن تستعينوا بها على معصيته، -والله أعلم.

وقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: بعد هذا البيان وهذا الامتنان، فلا عليك منهم فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وقد أديته إليهم، يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا أي: يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ.

قوله -تبارك وتعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا قال ابن كثير -رحمه الله: "أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك، وهو المتفضل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره"، فقوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، أي: يعرفون نعمة الله مما ذكره وغير ما ذكر، ثم ينكرونها فيوجهون العبادة والشكر إلى غير المنعم، ويعبدون الأحجار التي هي في الأصل مسخرة لهم، ويعبدون الجن الذين هم دونهم في المرتبة، فالله أخرج إبليس وطرده من أجل أنه امتنع من السجود لآدم، ويعبدون بشراً مثلهم، أو يعبدون الملائكة الذين أمروا بالسجود لأبينا آدم -عليه الصلاة والسلام، وهم خلق من خلق الله ، ولا تصلح لهم العبادة، فهذا المعنى بهذا الاعتبار الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو قول ظاهر، واختاره جمع من أهل العلم، منهم من المعاصرين الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

ومن أهل العلم من فسره بالنبوة، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله، فسره باعتبار ما قبله وما بعده، الله -تبارك وتعالى- قال قبله: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ، ثم قال بعده: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [سورة النحل:84]، الأقرب -والله تعالى أعلم- ما ذكره الحافظ ابن كثير، و"نعمة" مفرد مضاف إلى معرفة، هو لفظ الجلالة، والمفرد إذا أضيف إلى معرفة يُكسبه العموم كما هو معروف، والمعنى يعرفون نعم الله ثم ينكرونها، وهذا يشمل سائر النعم التي أنعم الله  بها عليهم.

وقوله -تبارك وتعالى: وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ بعضهم يقول: الكافرون بالنعمة، وبعضهم يقول: الكافرون بالله، والواقع أنهم كافرون بالنعمة وكافرون بالله؛ لأن مَن وجّه شكر النعم إلى غير المنعم فقد كفر بهذه النعمة، ومن عبد غير الله فهو كافر بالله، وهذا متحقق فيهم جميعاً، ووجه التعبير عن ذلك بالأكثر فلم يقل مثلاً: "وهم كافرون" مع أنهم كلهم كفار.

قال بعض أهل العلم: عبر بالكثرة وأراد بذلك الجميع، وهذا أسلوب عربي معروف؛ لأن القليل وما خرج عن الكثير لا حكم له، ولا اعتبار، وإنما العبرة والنظر إلى الأكثر.

وبعضهم يقول: إن ذلك باعتبار أن المراد هنا الكفر والجحود يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا أي: يجحدونها، ولم يكن كفر الجميع من هذا القبيل، فبعضهم كفْرُ جحودٍ، وبعضهم كفرُ إعراضٍ، فكفرهم متنوع، وبعضهم يقول بأن قوله: وَأَكْثَرُهُمُ أي: العقلاء منهم، فيخرج من ذلك غير المكلفين كالمجانين والأطفال، والقرآن كثيراً ما يعبر بالكثرة ويراد بها الكل، ولو قيل: إن قوله: وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ المراد به أن منهم من يقر بالنعمة، ويضيف ذلك إلى الله ، ولكنه يعبد مع الله غيره، فهذا الكلام على كل حال له وجه.

ولكن ما قبله أولى منه لما ذكرتُ -والله أعلم، من أن من أقر بهذه النعم ثم وجّه العبادة إلى غير من خلق فإنه لا يكون شاكراً بل يكون كافراً؛ ولهذا كان الشرك أظلم الظلم؛ لأنه يضع العبادة في غير من خلق ورزق وأنعم وتفضل، فالله هو الذي ينعم عليه ويتفضل عليه ويرزقه ثم يعبد حجراً أو شجراً، ويشكر غير الله، من لا يضره ولا ينفعه.

مواد ذات صلة