الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[10] من قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ} الآية 31 إلى قوله تعالى: {إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً} الآية 33
تاريخ النشر: ١٨ / محرّم / ١٤٢٩
التحميل: 3343
مرات الإستماع: 2161

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُم إنّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً [سورة الإسراء:31]، هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته، فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أي: خوفٍ أن تفتقروا في ثاني الحال؛ ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال: نّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُم، وفي الأنعام: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي: من فقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ

وقوله: إنّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً أي: ذنباً عظيماً، وقرأ بعضهم: كان خَطَأً كبيراً وهو بمعناه، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك[1].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ يقول: ”هذه الآية دالة على أنه تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده“، ووجه هذا ظاهر؛ فالآباء يقتلون الأولاد، والله -تبارك وتعالى- أرحم بهؤلاء الأولاد من آبائهم، فهو ينهاهم عن قتلهم، يقول: ”كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث“، يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ [سورة النساء:11]، وهل الوالد بحاجة إلى وصية وقد جُبِل قلبه على الشفقة والمحبة والحرص على مصلحة الولد؟ الله تعالى أرحم بالولد من الوالد بولده، ولهذا يعد العلماء مثل هذه الآيات من آيات الرجاء في كتاب الله تعالى.

قال: ”وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته“، بمعنى أنه يكثر من يعول فيفتقر، وهذه الآية كما هو صريح من ظاهرها وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، يعني خوف الفقر، والمعروف في التاريخ أنهم كانوا يقتلون البنت خشية العار، والله -تبارك وتعالى- نهاهم عن قتل الأولاد، والولد يشمل الذكر والأنثى، خَشْيَةَ إِمْلاقٍ خوف الفقر، ويمكن أن يقال بأن الولد أطلق على أحد النوعين، وهو البنت، خشية العار فهذا يكون بالاعتبار الثاني، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنهم يخشون عليها أن تفتقر ثم بعد ذلك تضطر إلى بيع عرضها فيئول أمرها إلى الفضيحة من هذا الباب، فنهاهم عن قتلهم خشية الفقر، كما كانوا يقولون في كلامهم وأشعارهم.

إذا تذكرتُ بنتي وهي تندبني فاضتْ لعَبرة بنتي عبرتي بدمي
أحاذر الدهر يوماً أن يلمّ بها فيهتكَ السترِ عن لحم على وضم
أخشى عليها فظاظة عم أو جفاء أخٍ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً والموت أكرم نزّال على الحُرم

والآخر الذي عنده بنت اسمها مودة:

مودةُ تهوى عمر شيخ يسره لها الموت لو أنها تدري

والآخر الذي عنده بنت يقال لها: الجرباء، خُطبت، فقال:

إني وإن سيق إليّ المهر
عبدٌ وألفان وذود عشر
أحبُّ أصهاري إلي القبر

وكان بعضهم يقتل الولد الذكر من أجل الفقر، وهذا موجود، ولم يكن القتل سواءً للبنات أو للأولاد عند جميع العرب، وإنما كان عند بعضهم، كأسد، وتميم بن مر، وبعض قبائل العرب، ليس عند كل العرب، على كل حال يقول: فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، يعني هم الآن ليسوا فقراء، لكن يخشى أن يكثر من يعول فعند ذلك يفتقر، قال: ولهذا قدم الاهتمام، قال: نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم؛ لأن هنا ليسوا فقراء، وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ يخشى أن يفتقر في المستقبل، فوعد برزق الأولاد فيأتي رزقهم معهم، وفي آية الأنعام وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ: يعني من فقر موجود واقع، فقدم رزق الآباء وقال: نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم.

وقوله تعالى هنا: إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيرًا قال: أي ذنباً عظيماً، يقول: وقرأ بعضهم: كان خَطَأً كبيراً، قرأ بها ابن عامر وهي قراءة متواترة، وقال: وهو بمعناه، وقيل: هما لغتان خِطْئاً وخَطَأً، ويوجد في بعض القراءات الأخرى المتواترة مثل قراءة ابن كثير خطاءً، بعض أهل العلم يقول: إن خطاءً من خطئ إذا أجرم، وبعضهم يقول: ”خطاءً“ لغة من خطئ يقال: خطئ فهو خاطئ، وأخطأ فهو مخطئ، وبعضهم يقول: إن خطِئ يقال لما وقع فيه الإنسان من الخطأ عمداً، وخطَأ بالفتح لما وقع فيه من غير قصد، لكن قراءة ابن عامر، كان خَطَأً كبيراً، يدل على أن خطأ تأتي بمعنى الوقوع بالمخالفة قصداً، وأنها لغة فيها، ويمكن أن يقال: غالباً ما يأتي الخطأ في الوقوع، معبَّراً به عن الوقوع في المخالفة من غير قصد، وبالكسر يكون لما كان بقصد، فيكون صاحبه مذموماً، وقوله: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، الإملاق الفقر، وأصله يقال: أملق الرجل إذا لم يبق له إلا الملقات، والملقات هي الحجارة الكبيرة الملساء.

وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [سورة الإسراء:32]، يقول تعالى ناهياً عباده عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً: أي ذنباً عظيماً، وَسَاء سَبِيلاً أي: بئس طريقاً ومسلكاً.

وقد روى الإمام أحمد عن أبي أمامة -: أن فتى شاباً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ، مَهْ، فقال: ادْنه فدنا منه قريباً، فقال: اجلس فجلس، فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[2].

قوله: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً الفاحشة هي الذنب العظيم، وكثيراً ما تطلق على الزنا وما في معناه، في عرف الاستعمال غالباً، وذكرنا قبل أن من أهل العلم من يفرق بين ثلاثة أشياء: الفاحشة ويقول: هي الزنا وما في معناه، وكلمة فاحشة منكرّة: هي الذنب العظيم، وما ورد مقيداً بالبيان مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة الأحزاب:30] قالوا: عقوق الزوج، وهذا لا يخلو من إشكال، وكثيراً ما تطلق على نوع من الذنوب خاصة، كما يقال في الإثم، فهو الذنب، ويطلق على تبعة الذنب وهو المؤاخذة، ويطلق في عرف الاستعمال عند بعضهم على نوع من الذنوب وهو الخمر.

وقوله: وَسَاء سَبِيلاً، فالله تبارك وتعالى أطلقه ليبقى على إطلاقه، ساء طريقه طريقاًَ، طريق الزنا، وذلك أنه سبب للآفات والبلايا في الدنيا والآخرة، وهو سبب للأوجاع والطواعين، كما أنه من أعظم أسباب الفقر، وبه ذهاب الشرف، وتلويث وتدنيس الفُرش، واختلاط الأنساب، وضياع الأعراض، وهو أيضاً سبب للدياثة، فإن الذي يزني تذهب غيرته، كما أنه سبب للعقوبة، قد تعجل له في الدنيا، وقد يعذب في الآخرة.

وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [سورة الإسراء:33]، يقول تعالى ناهياً عن قتل النفس بغير حق شرعي، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة[3]، وفي السنن: لَزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم[4].

وقوله: وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً أي: سلطة على القاتل، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قَوَداً، وإن شاء عفا عنه على الدية، وإن شاء عفا عنه مجاناً، كما ثبتت السنة بذلك، وقد أخذ الإمام الحبر ابن عباس -ا- من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة وأنه سيملك؛ لأنه كان ولي عثمان، وقد قتل مظلوماً -، وقد تمكن معاوية وصار الأمر إليه، كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الآية الكريمة، وهذا من الأمر العجب.

وقوله: فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ قالوا: معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل، وقوله: إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً أي: إن الولي منصور على القاتل شرعاً وغالباً وقدراً.

قوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، النفس قيل لها النفس: من النفاسة، والَّتِي حَرَّمَ اللّهُ قتلها، إِلاَّ بِالحَقِّ، والنفس التي حرم الله قتلها هي النفس المعصومة، كالمسلم والمعاهد والذمي والمستأمن، هذه أربعة أصناف، قال: إِلاَّ بِالحَقِّ، وهنا ذكر الحديث: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس إلى آخره، فهذا مفسر لقوله: إِلاَّ بِالحَقِّ.

فالآية مجملة فسرها الحديث، وينبغي أن يجمع كل ما صح عن النبي ﷺ، فيما كان حكمه القتل ولا يقتصر على الثلاثة، مثل الساحر فإن حكمه ضربة بالسيف، يُقتل حداً، ومن عَمِل عمل قوم لوط، الأصح من أقوال أهل العلم أنه يقتل بالسيف، يقتل الفاعل والمفعول به إن كان راضياً بهذا، وهكذا البهيمة إذا فُجِر بها فإنها تقتل، وكذلك كل ما ورد فيه أنه يقتل، كقطاع الطرق إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ [سورة المائدة:33] فهؤلاء حكمهم القتل، أو يخير فيهم بين الأمور الثلاثة.

فالشاهد أن الله قال: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا قال: ”أي سلطة على القاتل، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قَوَداً، وإن شاء عفا عنه“ على الدية، وأصل السلطان الحجة، ولمّا ثبتت لولي الدم الحجة صار له تسلط على القاتل، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسر السلطان بأنه مخيّر بين ثلاثة أشياء، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وذهب إليه جماعة من أهل العلم، قالوا: يخير بين الأمور الثلاثة، هذا هو السلطان.

ومن أهل العلم من قال: إن ذلك يختص بالقصاص، بالقتل فقط، هذا هو السلطان؛ لأن الله قال: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ، قالوا: هذا مثل التفسير له، هذه قرينة تدل على أن المراد بالسلطان القتل القصاص، فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ، وهكذا في الآية الأخرى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178] إلى قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:179]، فهذا قالوا: كله يفسر السلطان، وأن الحق الثابت له هو القتل قصاصاً، وإذا قلنا بأن الحق الثابت له هو القصاص فإذا أراد أن يتحول عنه إلى الدية، أو يطلب الدية بدلاً من القصاص فإن ذلك يرجع إلى موافقة الجاني، فإذا قال ولي الدم: أنا لا أريد القصاص أريد الدية، فعندئذٍ يرجع هذا إلى رضا الجاني، فإذا قال الجاني: لا، أنا لا أرضى بالدية، اقتلوني ولا أعطيكم دية، فعلى هذا القول فإنه ليس لهم أن يلزموه بدفع الدية، وإذا قلنا بأن الحق له ثابت وأنه مخير بين هذه الأمور الثلاثة، فإنه إن طلب الدية أُلزم بها الجاني، وهذا حق لولي القتيل.

وبالنسبة للاستنباط الذي ذكره عن ابن عباس باعتبار أن معاوية كان يطالب بدم عثمان فهو ولي القتيل بهذا الاعتبار، فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ يعني: تسلطاً على القاتل وظهوراً عليه فهذا الاستنباط الذي نقله عن ابن عباس قد لا يخلو من إشكال ومناقشة، باعتبار أن عليًّا لم يكن هو القاتل، ولم يكن له في القتل يدٌ أصلاً وإنما كان هو الخليفة الشرعي الذي بايعه الجميع، ومنهم طلحة والزبير بايعوه، فجاءوا يطالبون، وكان الذين قتلوا عثمان دخلوا في جيش علي ، فغاية ما هنالك أن يقال: إنهم يمكنون منهم ولو بعد حين، وهذا الذي حصل، فعلي ما استطاع أن يقتلهم، فتحصل فتنة في داخل الصف عنده، ولمّا ولي معاوية الخلافة لم يستطع أن يقتل واحداً منهم، حتى إنه لما زار المدينة صِحنَ بنات عثمان لما دخل عليهن، فقال لهن كلاماً ذكر فيه أنهم على صلح مع الناس على دخل وريبة، بمعنى أنه على صلح فيه توجس من كل طرف، فلا يريد أن يثير أمراً، فترك مطالبتهم، ولم يقتل أحداً منهم، لأنه لم يتمكن من هذا، وهذا يبرئ ساحة علي -، وإنما تتبع من وجُد منهم بعضُ الأمراء فأخذوهم وقتلوهم.

وعلى كل حال قال: ”فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ قالوا: معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل“، فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ يعني: الولي، وفي قراءة أخرى متواترة فَلاَ تُسْرِف فِّي الْقَتْلِ، على الخطاب فَلاَ يُسْرِف، بعضهم يفسرها بمعنى فلا تسرف في القتل أيها الولي، وبعضهم يفسر القراءتين فَلاَ يُسْرِف وفَلاَ تُسْرِف أيها القاتل، يعني: يخاطب القاتل يقول: إن قتلت فالقتل ينتظرك، فعلى رسْلك، فَلاَ تُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا، وبعضهم يقول: إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا أي الولي، وبعضهم يقول: القتيل، بأن يؤخذ بثأره ويقتص من قاتله.

ومن أهل العلم كابن جرير من يقول: إن قوله: فَلاَ تُسْرِف فِّي الْقَتْلِ الخطاب للنبي ﷺ وللأمة من بعده، وأيضاً جاء في قراءة غير متواترة لأبي بن كعب {فلا تسرفوا في القتل إن ولي القتيل كان منصوراً}، فيكون تفسيراً للضمير في قوله: إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا أي: ولي القتيل، والإسراف في القتل يدخل فيه صور متعددة، ما كانوا عليه في الجاهلية مثلاً كالتمثيل بالقاتل لا على وجه القصاص وإنما كان تشفياً فقط، وكذلك يدخل فيه قتل أكثر من واحد بواحد إذا لم يكن لهم يد في قتله، يرون أنه ما يكافئه واحد، كما كانوا في الجاهلية، كما قال الشاعر:

كلُّ قتيلٍ في كليبٍ غُرَّة حتى يوافي القتلُ آلَ مُرّة

غُرة أي: عبد، والغُرة ما تأتي شيئاً بالنسبة لديّة الحر يعني تبلغ نصف العشر، أي خمس من الإبل إذا قدرنا العبد، فهي نصف عشر دية الحر، فهذا يقول:

كلُّ قتيلٍ في كليبٍ غُرَّة حتى يوافي القتلُ آلَ مُرّة

يقتلهم كلهم، وعساهم يكافئون كليباً، وبعضهم كان يقتل غير القاتل، يرى أن هذا المقتول هو فارس القبيلة مثلاً، وأنه لا يكافئه هذا الإنسان الذي قتله، فيرى أنه لا يُقتل فيه إلا فلان، فيقتلونه به، فهذا كله من الإسراف في القتل.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [سورة الفرقان:68]، برقم (4483).
  2. رواه الإمام أحمد في المسند برقم (22211)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (5032)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (370).
  3. رواه مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، برقم (1676).
  4. رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -ا- عن النبي ﷺ قال: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم، كتاب تحريم الدم، باب تعظيم الدم، برقم (3987)، والترمذي، كتاب الديات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن، برقم (1395)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5077).

مواد ذات صلة