الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[6] من قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} الآية 27 إلى قوله تعالى: {لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} الآية 36
تاريخ النشر: ٢٧ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 4287
مرات الإستماع: 10945

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمنا الله تعالى وإياه- في تفسير قوله تعالى:

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ۝ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[سورة الكهف:27، 28].

يقول تعالى آمرًا رسوله -عليه الصلاة والسلام- بتلاوة كتابه العزيز، وإبلاغه إلى الناس: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [سورة الكهف:27] أي: لا مغير لها، ولا محرف، ولا مؤوّل.

وقوله: مُلْتَحَدًا قال: ملجأ، وعن قتادة: وليًا ولا مولى، قال ابن جرير: يقول: إن أنت يا محمد لم تتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [سورة القصص:85] أي: سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.

وقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [سورة الكهف:28] أي: اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، أو أقوياء أو ضعفاء، يقال: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي ﷺ أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك، فقال: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الأنعام:52] الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء، فقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الكهف:28] الآية.

وروى مسلم في صحيحه عن سعد -هو ابن أبي وقاص- قال: كنا مع النبي ﷺ ستة نفر، فقال المشركون للنبي ﷺ: اطرد هؤلاء، لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ﷺ ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله : وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [سورة الأنعام:52] انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري[1].

وقوله: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الكهف:28] قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم: يعني: تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة.

وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا[سورة الكهف:28] أي: شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف:28] أي: أعماله وأفعاله سفه، وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له، ولا محبًا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة طـه:131].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فبقي الكلام على الضمير في قوله –تبارك وتعالى: مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [سورة الكهف:26].

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس، ولم يبين مرجع الضمير، فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك يرجع إلى أصحاب الكهف أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ [سورة الكهف:26] يعني: أصحاب الكهف الذين أورد خبرهم؛ لأنه قال: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا [سورة الكهف:25] يعني: أصحاب الكهف قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] فمن قال: إن ذلك يرجع إلى أصحاب الكهف بنى على الأصل والقاعدة، وهي: أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها.

ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك يرجع إلى الكفار الذين عاصروا النبي ﷺ، وبعضهم يقول: ذلك عائد إلى الخلق عموماً، ولا يختص بالكافرين؛ لأن الله قال: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [سورة ص:32] فبعضهم يقول: الخيل انطلقت حتى غابت، أي: أبعدت، وبعضهم يقول: هذا يرجع إلى الشمس، حتى توارت الشمس بالحجاب، ولم يكن للشمس ذكر.

فقوله: مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [سورة الكهف:26] وحكمه هنا يشمل الحكم القضائي الكوني، فالله -تبارك وتعالى- هو المنفرد وحده في تدبير هذا الكون، كما أنه يشمل أيضاً الحكم الشرعي إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [سورة يوسف:40] فالله -تبارك وتعالى- لا يشرك في حكمه أحداً.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [سورة الكهف:27] قوله: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ هذه اللفظة من حيث هي تحتمل أن يكون المراد الكلمات الكونية فلا مبدل لها، فإذا قضى الله أمراً فلابد أن يكون، تقول: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر[2]، وليس بمحظور شرعا أن يراد بالكلمات هنا الكلمات الشرعية؛ لأنه استعاذ بغير مخلوق، فالكلمات الشرعية هي الآيات، وهي كلام الله ، كما تستعيذ بالصفة أيضاً غير الكلام، تقول: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر[3].

ولكن الأقرب أن المراد بالكلمات في قولك: أعوذ بكلمات الله التامات أنها الكلمات الكونية؛ وذلك لأن العبارة بعدها هي: التي لا يجاوزها بر ولا فاجر الكلمات الشرعية يجاوزها الكافر، وأما الكلمات الكونية فلا يستطيع أحد أن يجاوزها، والأمر: أن من يقول ذلك إنما يريد بهذا الحفظ والوقاية، فالمناسب أن يستعيذ بالكلمات الكونية.

وأما قوله: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [سورة الكهف:27] فالكلمات هنا تحتمل أن يكون المراد بها الكلمات الشرعية، وتحتمل أن يراد الكلمات الكونية، والأقرب والأعلق بالسياق الكلمات الشرعية؛ لقرينة الأمر بالتلاوة فيما قبله وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ [سورة الكهف:27] فهذه كلماته لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [سورة الكهف:27]، والتبديل هنا بمعنى التغيير والتحريف.

يقول: وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [سورة الكهف:27] قال: ملجأ، هذا عن مجاهد، وعن قتادة: ولياً ولا مولى، وهذا بمعنى قول مجاهد، لا تجد ملجأً بمعنى لا تجد ولياً يتولاك وينصرك ويحفظك وتلجأ إليه وتعتصم به.

قال: "قال ابن جرير: يقول: إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله" وهذا بمعنى ما سبق "لا ملجأ لك" والضمير يرجع إلى الله وحده، لا شريك له، فكلام ابن جرير مختصر هنا، وهو أطول من هذا.

ومن أهل العلم من يقول غير هذا، فيقول: كل ما ذكر يرجع إلى معنىً واحد وهو: "لن تجد ملجأً"، ومن أهل العلم من يقول: وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [سورة الكهف:27] يعني: لن تجد معدلاً عن أمره ونهيه.

وقد يتضح وجه هذا القول ببيان معنى الأمر في قوله: وَاتْلُ هل المراد به التلاوة بمعني القراءة، أو المقصود به الاتباع، فإذا فسر بالاتباع وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ [سورة الكهف:27] يعني: اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك.

ثم قال له: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [سورة الكهف:27] أي: معدلاً تعدل به عن أمره ونهيه وطاعته، فإن ذلك لا يسع المكلف، والقول الأول هو قول الجمهور، وابن جرير -رحمه الله- في ظاهر كلامه جمع بين المعنيين، فذكر ما خلاصته وحاصله في قوله: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ [سورة الكهف:27] يعني: أن هذا أمر بالتلاوة والقراءة والعمل والامتثال والتطبيق، يتبع ما يأمره الله به ويوجهه إليه هذا القرآن.

ثم قال: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ۝ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [سورة الكهف:27، 28] ذكر الغداة والعشي هنا، ومن أهل العلم من يقول: إن المقصود سائر الأوقات، وإنما ذكر هذين الوقتين لإفادة العموم، وهذا يوجد في القرآن، وهو قول وجيه.

"بالغداة والعشي" يذكر الطرفين ويكون المقصود أحياناً الجميع، كما قال الله : وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115] فلا يأتي غبي ويقول: فأين الوسط؟ فهذا ليس من لغة العرب في شيء، أو يقول: لماذا ذكر المشرق؟ وباقي الأشياء في هذا العالم لمن؟ يقال: ذكْر الطرفين يدل في كلام العرب على إرادة الجميع، وإلا كان ذلك عجمة في الفهم، يعني لو أنه غاب هذا المعنى عن أحد فإن ذلك يكون عجمة في فهمه.

وقوله: بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الكهف:28] فالغداة أول النهار، والعشي: آخر النهار، يعني من بعد الزوال هذا يقال له: عشي، وصلاة الظهر والعصر من صلاة العشي.

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ[سورة الكهف:28] فهل هذا أمر له أن يصبر نفسه فقط في هذين الوقتين بمعنى أنه في أول النهار وآخر النهار؟ أو أن المقصود أن يكون هؤلاء هم جلساؤه، ولا يلتفت عنهم إلى غيرهم؟ هذا إذا فسر صبر النفس معهم بالغداة والعشي، ولكن الآية تحتمل معنىً آخر، أن يكون قوله: بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الكهف:28] يتعلق بما قبله: يدعون ربهم بالغداة والعشي وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الكهف:28] فيكون ذلك عائداً إلى دعائهم، ودعاؤهم أيضاً إذا كان ذلك مما يعود إليه هل يختص بالغداة والعشي؟ الجواب: لا، والدعاء هنا يشمل السؤال ويشمل العبادة، فإنهم يدعون الله في كل آن وحين.

ثم يقول: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا [سورة الكهف:28] أي: شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنياوَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف:28] أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع فُرُطًا [سورة الكهف:28] يحتمل أن يكون من الإفراط، وهو الزيادة ومجاوزة الحد وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف:28] يعني: أنه جاوز الحد الذي حده الشارع، وجاوز حد الاعتدال، ويحتمل أن يكون ذلك من التفريط وهو بمعنى التقصير والتضييع.

قال ابن القيم -رحمه الله: "قال تعالى عن الإغفال: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [ سورة الكهف:28] سئل أبو العباس ثعلب عن قوله: أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا [ سورة الكهف:28] فقال: جعلناه غافلاً، قال: ويكون في الكلام أغفلته سميته غافلاً، ووجدته غافلاً.

قلت: الغفل الشيء الفارغ، والأرض الغفل التي لا علامة بها، والكتاب الغفل الذي لا شكل عليه، فأغفلناه تركناه غفلاً عن الذكر فارغاً منه، فهو إبقاء له على العدم الأصلي؛ لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافلاً، فالغفلة وصفه، والإغفال فعل الله فيه بمشيئته، وعدم مشيئته لتذكره، فكل منهما مقتض لغفلته، فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر، وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر، فإن قيل: فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب؟ فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطاً، ومعنى الفرط: قد فسر بالتضييع، أي: أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائع، قد فرط فيه، وفسر بالإسراف، أي: قد أفرط، وفسر بالإهلاك، وفسر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة.

والمقصود أن الله نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبعد منه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى ، واتباع السنة، وأمره غير مفروط عليه، بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر، فمثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت[4].

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا[سورة الكهف:29] يقول تعالى لرسوله محمد ﷺ: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك لِلظَّالِمِينَ وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [سورة الكهف:29] أي: سورها.

وقال ابن جريج: قال ابن عباس: أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [سورة الكهف:29] قال: حائط من نار.

وقوله: وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [سورة الكهف:29] قال ابن عباس: المهل: ماء غليظ مثل دردي الزيت.

وقال مجاهد: هو كالدم والقيح، وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حَرّه، وقال آخرون: هو كل شيء أُذيبَ.

وقال قتادة: أذاب ابن مسعود شيئًا من الذهب في أخدود، فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شيء بالمهل.

وقال الضحاك: ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وأهلها سود.

وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار؛ ولهذا قال: يَشْوِي الْوُجُوهَ [سورة الكهف:29] أي: من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه.

وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فيأكلون منها، فاجتثت جلود وجوههم، فلو أن مارًّا مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.

ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة: بِئْسَ الشَّرَابُ [سورة الكهف:29] أي: بئس هذا الشراب، كما قال في الآية الأخرى: وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [سورة محمد:15] وقال تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [سورة الغاشية:5] أي: حارة، كما قال: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [سورة الرحمن:44].

وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا[سورة الكهف:29] أي: وساءت النار منزلاً ومَقِيلاً ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق، كما قال في الآية الأخرى: إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [سورة الفرقان:66].

قوله: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف:29] ظاهره أن قوله: فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف:29] من جملة ما أُمر أن يقوله، أي: قل لهم ذلك، ويحتمل أن يكون هذا مما ظاهره الاتصال وهو مفصول في المعنى، بمعنى أن كل جملة من هذه تختلف من جهة قائلها، فالنبي ﷺ مأمور أن يقول: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ [سورة الكهف:29] ويكون ما بعده: فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف:29] من كلام الله ، ليس من جملة ما أمر الله نبيه أن يقوله لهم، والأول -والله تعالى أعلم- أقرب.

والتوجيه الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في أقوال السلف في معنى المُهل هو توجيه جيد، يجمع هذه الأقوال باعتبار أن ذلك أشبه ما يكون باختلاف التنوع.

وقوله: بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [سورة الكهف:29] قال: أي وساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق.

ومعنى المرتفَق عند بعض أهل العلم، أي المتكَأ، يقال له: ارتفاق، بمعنى اعتماد واتكاء، والنبي ﷺ قال: لا آكل مُتكِئاً[5] من أهل العلم من فسر ذلك بالتربع، وابن القيم -رحمه الله- أدخل التربع في جملة الاتكاء باعتبار أن المتربع يحتاج إلى نوع من هذا الاعتماد، كما تشاهدون الآن من جلس منكم هكذا فإنه يعتمد بيديه، فأدخله في جملة الاتكاء، وإن كان الاتكاء يشمل صوراً أخرى ذكرها، حتى الاعتماد على الظهر ذكره في جملته، فضلاً عن الاتكاء المعروف المتبادر، وهو حينما يتكئ الإنسان على يده ويعتمد عليها.

قوله: وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [سورة الكهف:29] أي: منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق، كل هذا يبين المعنى، والله تعالى أعلم.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا  ۝ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا[سورة الكهف:30، 31].

لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، فلهم جَنَّاتُ عَدْنٍ [سورة الكهف:31] والعدن: الإقامة.

تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ[سورة الكهف:31] أي: من تحت غرفهم ومنازلهم، قال لهم فرعون: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي [سورة الزخرف:51] الآية.

يُحَلَّوْنَ[سورة الكهف:31] أي: من الحلية فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ [سورة الكهف:31] وقال في المكان الآخر: وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [سورة فاطر (33] وفصله هاهنا فقال: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ [سورة الكهف:31] فالسندس: لباسٌ رِفاعٌ رِقاقٌ كالقمصان، وما جرى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج، وفيه بريق.

وقوله: مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ [سورة الكهف:31] الاتكاء قيل: الاضطجاع، وقيل: التربع في الجلوس، وهو أشبه بالمراد هاهنا، ومنه الحديث الصحيح: أما أنا فلا آكل متكئًا [6] فيه القولان.

والأرائك: جمع أريكة، وهي السرير تحت الحَجَلة، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناه، والله أعلم.

يقول: الحَجَلة –محركة- كالقُبّة، وموضع يزين بالثياب والستور للعروس، حجل وحجال، يقول: وحجلها تحجيلاً اتخذ لها حجلة، أو أدخلها فيه، لكن هنا يقول: والأرائك جمع أريكة، وهي السرير تحت الحجلة، بمعنى أن الكبير الذي تجلس فيه العروس، الأريكة يقصد أنها دونه، يجلسون على الأرائك، وهو السرير الصغير، تحت الحجلة ليس المقصود تحتها أسفل منها، وإنما المقصود أصغر منها، تقول: فلان تحت فلان، يعني أصغر منه، هذه السارية تحت هذه السارية بمعنى أصغر منها، تحت الحجلة يعني دون الحجلة.

الباشخاناه هي الكنب، محل الجلوس؛ لأن الحجلة -المكان الذي تجلس عليه العروس- مرتفعة، لكنه يقول: أكبر من هذا، فصار هذا مثل الباشخاناه، يعني ربما يكون الكنب أو نحو هذا مما نسميه اليوم.

وقوله: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [سورة الكهف:31] أي: نعمت الجنة ثوابًا على أعمالهم وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [سورة الكهف:31] أي: حسنت منزلاً ومقيلاً ومقامًا، كما قال في النار: بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [سورة الكهف:29] وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [سورة الفرقان:66] ثم ذكر صفات المؤمنين، فقال: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ۝ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [سورة الفرقان:75، 76].

الأريكة: سرير في حجلة، أو كل ما يُتكأ عليه من سرير، وليس المقصود السرير الذي نعرفه اليوم -وهو مكان النوم الذي ينام عليه، وإنما السرير موضع الجلوس، مثل موضع جلوس الملك، يقال: سرير المَلِك وسرير المُلك.

يقول: من سرير ومنصة وفراش أو سرير منجَّد، المنجد: يقول: متخذ مزين في قبة أو ببيت، فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ۝ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ۝ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ۝ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ۝ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا[سورة الكهف:32-36].

يقول الله تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا عليهم بالأموال وأحسابهم، فضرب لهم مثلاً برجلين جعل الله لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ [سورة الكهف:32].

الذي يذكره ابن كثير -رحمه الله- هنا هو ما يعرف بالمناسبة، يعني ما المناسبة بين ذكر خبر هذين الرجلين أصحاب الجنتين وبين ما قبلهم؟ فهو يقول: هؤلاء لمّا ترفعوا عن مجالسة الضعفاء والمساكين ذكر الله لهم مثلاً من حال المترفعين، وما كان إليه مآلهم.

وافتخروا عليهم بالأموال وأحسابهم، فضرب لهم مثلاً برجلين جعل الله لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ [سورة الكهف:32] أي: بستانين من أعناب، محفوفتيْن بالنخل المحدقة في جنباتهما، وفي خلالهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع مثمر مُقبلٌ في غاية الجود؛ ولهذا قال: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا [سورة الكهف:33] أي: خرجت ثمرها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [سورة الكهف:33] أي: ولم تنقص منه شيئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا [سورة الكهف:33] أي: والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا.

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ[سورة الكهف:34] قيل: المراد به: المال، رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وقيل: الثمار، وهو أظهر هاهنا، ويؤيده القراءة الأخرى: "وكان له ثُمْر" بضم الثاء وتسكين الميم، فيكون جمع ثَمَرَة، كَخَشَبَة وخُشْب، وقرأ آخرون: ثَمَرٌ بفتح الثاء والميم.

الذين قالوا: إن المقصود به المال -بعضهم قال: ذهب وفضة- الذي حملهم على هذا هو أن الله قال قبله: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا [سورة الكهف: 33] يعني: ثمرها، فكيف قال بعده وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [سورة الكهف:34]؟

ففهموا منه أن هذا يفيد معنىً جديداً، وهو أن هذا الثمر شيء زائد على ما آتته تلك الجنة وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ يعني: كان له مال، هكذا قال بعض السلف، والأقرب -والله أعلم- هو ما ذكره ابن كثير، وهو ما اختاره ابن جرير أيضاً بأن معنى: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [سورة الكهف:34] يعني: من الثمار المعروفة كان له ثمر، فحمله ذلك على شيء من البطر والطغيان والغرور.

فقال -أي صاحب هاتين الجنتين- لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [سورة الكهف:34] أي: يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه ويترأس: أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [سورة الكهف:34] أي: أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا.

قال قتادة: تلك -والله- أمنية الفاجر: كثرة المال، وعزة النفر.

وقوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ [سورة الكهف:35] أي: بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [سورة الكهف:35] وذلك اغترار منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار.

قوله: أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [سورة الكهف:34] قال: أي خدماً وحشماً وولداً، والنفر: يقول أهل اللغة: إن المراد بهم الرهط، وهو ما دون العشرة.

وقوله: وأَعَزُّ نَفَرًا يدل على أن الإنسان يتكثر بما عنده من الأولاد والمماليك والخدم.

قال: مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [سورة الكهف:35] وذلك اغترار منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف وذلك لقلة عقله، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة؛ ولهذا قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [سورة الكهف:36] أي: كائنة وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا [سورة الكهف:36] أي: ولئن كان معاد ورجعة وَمَرَدٌّ إلى الله ليكونَنّ لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى: وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى [سورة فصلت:50] وقال: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [سورة مريم:77] أي: في الدار الآخرة، تألّى على الله ، وكان سبب نزولها في العاص بن وائل، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.

(مسألة)

الأصل أن الإنسان إذا قال: سأفعل كذا أن يقول: إن شاء الله، ولهذا قال الله معلماً ومؤدباً: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ [سورة الفتح:27] مع أن ذلك متحقق، وهو وعد من الله -، وما ورد عن بعض السلف أو بعض أهل العلم من الجزم في بعض الأشياء، والقطع بها فإنما قصدوا بذلك -والله تعالى أعلم- بيان شدة وثوقهم بهذا الأمر الذي كانوا يعتقدون تحققه لا محالة، مما قد يتردد فيه ويتشكك ويتخوف آخرون وتنتابهم المخاوف، ويقع في نفوسهم ما يقع، فيريد أن يجزم لهم، ويؤكد لهم أن هذا الأمر لا تردد فيه، فيقول مثل هذا القول بهذا الاعتبار؛ ليورث في نفوسهم ثقة ووثوقاً بهذا الأمر الذي ذكره، هذا هو مقصودهم، وتخريج ما ورد عنهم في هذا.

فسفيان الثوري يقول: إنه كافر برب هذه البنية -يعني الكعبة- إذا دخلها أبو جعفر المنصور، بعدما أرسل أبو جعفر الخشابين لصلب سفيان الثوري في مكة، فكان سفيان الثوري نائماً بين الفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة، وضع رأسه في حجر هذا، ورجليه في حجر الآخر، ويقولون له: لا تشمت بنا أهل البدع، اخرج منها، اطلب مكاناً، إنه قد أقسم أن يقتلك، فيقول: إنه كذا.

وشيخ الإسلام لما قال: إنكم منصورون هذه المرة، ويقولون له: قل: إن شاء الله، وهو يؤكد ويحلف، لما أصروا عليه قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فهذا إنما قصد به القائل بيان شدة وثوقه بهذا الأمر الذي اعتقده اعتقاداً جازماً؛ لأن الكثيرين إذا سمعوا هذا الاستثناء، ظنوا أن المسألة ليست جازمة، ولهذا بيّن لهم شيخ الإسلام قال: تحقيقاً لا تعليقاً، والأصل أن الإنسان إذا ذكر المشيئة لا يذكر معها هذا، فهذا المراد والله أعلم.

  1. أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة -، باب في فضل سعد بن أبي وقاص (4/ 1878- 46) (2413).
  2. أخرجه أحمد (24/ 202-15461) والطبراني في الأوسط (2/31 - 5547) وصححه الألباني في الصحيحة (840) وصحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 76).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الآداب، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء (4/ 1728- 67) (2202).
  4. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 41)
  5. أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب الأكل متكئاً (7/ 72- 5398).
  6. أخرجه الترمذي في أبواب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية الأكل متكئاً (4/ 273- 1830) وغيره. وصححه الألباني في الإرواء (7/27/1966).

مواد ذات صلة