السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
[12] من قوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا رَكِبَا فِي السّفِينَةِ} الآية 71 إلى قوله تعالى: {مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} الآية 82
تاريخ النشر: ١٩ / ربيع الأوّل / ١٤٢٩
التحميل: 3551
مرات الإستماع: 13913

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا رَكِبَا فِي السّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ۝ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ۝ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [سورة الكهف:71-73]

يقول تعالى مخبراً عن موسى وصاحبه وهو الخضر: أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة، وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر فحملوهما بغير نَوْل، يعني: بغير أجرة، تكرمة للخضر، فلما استقلت بهم السفينة في البحر ولججت، أي: دخلت اللجّة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحاً من ألواحها ثم رقعها، فلم يملك موسى نفسه أن قال منكراً عليه: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [سورة الكهف:71] وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل.

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [سورة الكهف:71] قال مجاهد: منكَراً، وقال قتادة: عجباً، فعندها قال له الخضر مذكراً بما تقدم من الشرط: قَالَ أي: موسى : لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [سورة الكهف:73] أي: لا تضيق عليّ، ولا تشدد عليّ، ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال: كانت الأولى من موسى نسياناً[1].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: ليغرق أهلُها.

فقوله: لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [سورة الكهف:71] أي: في العاقبة، وفي القراءات الأخرى المتواترة: ليغرق أهلُها إذا خلعت لوحاً من ألواحها وخرقتها.

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [سورة الكهف:71] يقول: قال مجاهد: منكَراً، وقال قتادة: عجباً، ويقال: أَمِر أمرُه إذا اشتد وعظم، كما قال أبو سفيان: "لقد أمِر أمر ابن أبي كبشة أن صار يخافه ملك بني الأصفر" في القصة المعروفة، فالشاهد لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [سورة الكهف:71] أي: شيئاً عظيماً شديداً كبيراً، وهو خرق هذه السفينة؛ لأن ذلك هو الذي قابلت به فعلهم من الإحسان؛ حيث حملونا من غير نول، وكذلك أيضاً فعلت فعلاً من شأنه أن يغرق أهل السفينة.

ولهذا فإن بعضهم يقول: إن إِمْرًا هنا أشد من الثانية، وهي أنه لما قتل الغلام قال له: إِمْرًا هي أشد من (نكراً) أي: الشيء العظيم، وذلك أنه يغرق أهل السفينة، وأما قتل الغلام فهو هلاك نفس واحدة، ولكن هذا فيه نظر، والله تعالى أعلم.

ويرد هنا سؤال وهو أن يقول قائل: كيف خرق السفينة وهم ينظرون إليه وهم مُلّاكها، وفي نفس الوقت قد ركبوها وما منعوه؟ ثم أيضاً كيف قتل الغلام؟ فأين الناس عنه؟ كيف يقتل الغلام ويمضي؟ فبعضهم يذكر أنه لا يُرى، الناس ما يرونه، لكن هذا لا دليل عليه إطلاقاً، بدليل أنهم عرفوه –أي أصحاب السفينة- فحملوهم من غير نول.

فالحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح في الكلام على حديث موسى والخضر في أحاديث الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تكلم على بقاء الخضر، وهل هو موجود؟ وذكر آثاراً ونقولات وأشياء ممن يزعمون أنه موجود، وأن فلاناً قابله، وكل هذه الأشياء لا تثبت، وذكر الحافظ أنها لا تثبت، وذكر أن أجود ما روي في هذا ما جاء من أن رجلاً كان يصحب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يمشي معه قد أخذ بيده، فسأله رجل قال له: من هذا الذي كان يمشي معك؟ قال: أرأيته؟! قال: نعم، قال: إنك -أو لعلك- رجل صالح؛ حيث رأيته، هذا الخضر، وهذا يحتج به من يقول بأن الخضر موجود، ويذكرون حكايات في هذا.

فالحافظ يقول: هذا أصح ما ورد، والله أعلم بهذه الحكاية، وذكر الحافظ أن الجواب عن الاعتراض بأنه على رأس المائة لا يبقى أحد، قال: هذا يكون قبل رأس المائة، يعني: قبل خلافة عمر بن عبد العزيز، وفي النفس من هذا شيء كثير.

وعلى كل حال الخضر لا وجود له، ولو كان موجوداً للقي النبي ﷺ، ولقي الخلفاء الراشدين، ولقي الصحابة، أما هذه الروايات التي لا يدرى ما هي؟ فهي ضعيفة.فالشاهد أن بعضهم يقول: ما كان يُرى، ويدل على بطلان هذا أنهم رأوه وعرفوه، بعضهم يقول: لعله كان مطاعاً معروفاً عند الناس، فيذعنون له، ولا يعترضون عليه، وهذا قريب، والله تعالى أعلم.

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ۝ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ۝ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا [سورة الكهف:74-76]

يقول تعالى: فَانطَلَقَا أي: بعد ذلك حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ [سورة الكهف:74] وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم فقتله، فلما شاهد موسى هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً [سورة الكهف:74] أي: صغيرة لم تعمل الحنث، ولا عملت إثماً بعد فقتلته بِغَيْرِ نَفْسٍ [سورة الكهف:74] أي: بغير مستند لقتله لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا [سورة الكهف:74] أي: ظاهر النكارة.

قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا [سورة الكهف:75] فأكد أيضاً في التذكار بالشرط الأول، فلهذا قال له موسىإِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا [سورة الكهف:76] أي: إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا [سورة الكهف:76] أي: أعذرتَ إليّ مرة بعد مرة، روى ابن جرير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب -ا- قال: كان النبي ﷺ إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، ولكنه قال: إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا [سورة الكهف:76][2].

قوله -تبارك وتعالى: زاكية بعضهم يفرق بين الزكية وبين الزاكية، فيقول: الزاكية هي التي لم تذنب، النفس الطاهرة التي على الفطرة، والزكية هي التي أذنبت ثم تابت، وبعضهم يقول: القراءتان بمعنى واحد، يقال: زكية وزاكية.

وقد قال بعض أهل العلم في الغلام الذي قتله الخضر -رحمه الله: إنه كبير وقيل له غلام، والعرب قد تقول ذلك للكبير، وهذا فيه إشكال، فلا فرق عنده بين زكية وزاكية؛ لأن هذا قد أذنب، ومن يقول: إنه غلام صغير فقد يفرق بين الزكية والزاكية، ومرجع ذلك إلى لغة العرب.

وقال له: نُّكْرًا وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- تعليقاً على قوله: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [سورة الكهف:72] قال: فأكد أيضاً في التذكار، يقصد أنه قال له: أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ [سورة الكهف:75] وفي خرق السفينة قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ [سورة الكهف:72] وذكرنا بالأمس أن زيادة المبنى لزيادة المعنى.

وقوله: كان النبي ﷺ إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، يعني: يبدأ بالدعاء لنفسه، إذا قال: رحم الله فلاناً، يقول: رحمنا الله وفلاناً، يبدأ بالدعاء لنفسه رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا [سورة نوح:28] هذا هو المراد.قال: فقال ذات اليوم: رحمة الله علينا، وعلى موسى يعني: القضية الأولى منفصلة عن القضية الثانية.

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ۝ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:77، 78]

يقول تعالى مخبراً عنهما: إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ [سورة الكهف:77] روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة، وفي الحديث: حتى إذا أتيا أهل قرية لئاماً[3] أي: بخلاء اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [سورة الكهف:77] إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل، والانقضاض هو السقوط.

وقوله: فَأَقَامَهُ [سورة الكهف:77] أي: فرده إلى حالة الاستقامة، وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه، ودعمه حتى رد ميله، وهذا خارق، فعند ذلك قال موسى له: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [سورة الكهف:77] أي: لأجل أنهم لم يضيفونا، كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجاناً قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [سورة الكهف] أي: لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ [سورة الكهف:78] أي: بتفسير مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:78].

يقول: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ [سورة الكهف:77] روى ابن جرير عن ابن سيرين: أنها الأيلة، وبعضهم يقول: أنطاكية، وبعضهم يقول: برقة، وبعضهم يقول: من قرى أذربيجان، وبعضهم يقول: من قرى الروم، كل هذا بناء على ما ذكر بالأمس في حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [سورة الكهف:60]، بعض أهل العلم يقول: مجمع البحرين في الشرق، وبعضهم يقول في الغرب، وكل ذلك من المنقول عن بني إسرائيل، ومثل ذلك لا يعتمد عليه.

وقوله: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [سورة الكهف:77] يقول الحافظ -رحمه الله: إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، بمعنى أنه ليس بحقيقة، بعضهم يدخل الاستعارة في المجاز، وبعضهم يجعلها نوعاً قائماً بذاته، وهذا المثال من أشهر الأمثلة التي يمثل -أو يستدل- بها أصحاب المجاز، يقولون: أسند الإرادة إلى الجدار، والجدار لا إرادة له، هذا مجاز وليس بحقيقة، هذا مع قوله -تبارك وتعالى- فيما مضى في سورة يوسف -عليه الصلاة والسلام: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [سورة يوسف:82] قالوا: والقرية لا تُسأل، وإنما المقصود أهل القرية، وهذا من مجاز الحذف، وهنا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [سورة الكهف:77]، استعار للجدار إرادة، ولا إرادة للجمادات.

والذين يقولون بنفي المجاز بعضهم يقول: إن هذا مما يفهم من السياق، فإذا قيل: اسأل القرية، فإن المقصود بالسؤال سؤال أهل القرية، أو يقال بأن القرية والعير تطلق على هذا وهذا، تطلق على الحال والمحل، تطلق على أهلها، وتطلق على كل ذلك، فعلاقته كما يقول أهل المجاز: الحالية والمحلية، فالذين ينفون المجاز يقولون: هذا يفهم من السياق، وليس بمجاز بل هو حقيقة، وبعضهم يزيد على هذا ويقول: ما المانع من سؤال نفس القرية التي هي البنيان؟ وما المانع من أن يكون للجدار إرادة؟ فالله  قال للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت:11] والنبي ﷺ قال: إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ بمكة قبل أن أبعث[4] ويذكرون حنين الجذع، وما أشبه ذلك، ويقولون: هذه كما أخبر الله أنه يسجد له ما في السماوات وما في الأرض، وكذلك أيضاً يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض، فهذه الجمادات تسبح وتسجد وتعرف ربها، فما المانع من أن يكون للجدار إرادة؟ هكذا قالوا.

ومسألة المجاز مسألة معروفة، والخلاف فيها موجود بين أهل السنة، لا يترتب عليه تبديع ولا قدح في عقيدة قائله، إذا لم يسلط ذلك على النصوص التي لا يسوغ تأويلها بحال من الأحوال، فلا دليل فيها على هذا التأويل، كما في نصوص الصفات والمعاد، وما أشبه هذا، والغلط الذي وقع فيه أرباب المجاز أنهم جعلوا ذلك مِعْولاً سلطوه على النصوص فحرفوها عن معانيها الظاهرة إلى معانٍ أُخر من غير دليل يوجب ذلك، فهذا من التحريف؛ ولهذا سمى الحافظ ابن القيم -رحمه الله- المجاز بحمار التأويل، فإن التأويل يأتي راكباً على المجاز حتى يصل إلى النصوص، ومن شاء فليراجع في هذا مثل كتاب الرسالة المدنية وكتاب الإيمان الكبير لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وكتاب الصواعق المرسلة، وكذا كتاب منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وتوجد على كل حال كتابات في هذا، ورسائل جامعية، والله أعلم.

هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى ، وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر على حكمة باطنة، فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرون بها على ملِك من الظلمة يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [سورة الكهف:79] صالحة، أي: جيدة غَصْبًا [سورة الكهف:79] فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل إنهم أيتام.

قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [سورة الكهف:79] هذا الموضع يحتج به من يقول بأن الفقير أشد حاجة من المسكين، يقولون: إن الفقير ليس عنده شيء، وأما المسكين فعنده، لكنه لا يكفيه، فأثبت الله لهؤلاء المساكين هذه السفينة، وسماهم مساكين، وبعضهم يقول بالعكس: إن المسكين هو الذي تمسكن لشدة حاجته، فسكنت جوارحه لشدة فقره وعوزه، وأما الفقير فإنه أحسن حالاً منه، ويحتجون ببيت الشعر المعروف:

أمّا الفقيرُ الذي كانت حلوبتُه وفقَ العيال فلم يُتْرك له سَبَدُ[5] .[6]

قالوا: عنده حلوبة، وعنده دابة، بهيمة تُحلب، فعنده شيء لكنه لا يكفيه، والخلاف في هذا معروف.

وهذه الآية يحتج بها من يقول بأن المسكين أحسن حالاً من الفقير، ولكن هذا الاستدلال فيه نظر، وذلك أن المسكين إذا أطلق بمفرده من غير ذكر الفقير فإنه يكون بمعنى الفقير، فإذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا في المعنى.

لكنكم تجدون مثل هذه الآية يحتج بها من يقول بأن الفقير أحسن حالاً منه، وتجدون هذا في كتب اللغة، وفي كتب الفقه، وكتب التفسير، وأيضاً في بعض الكتب التي تتحدث عن السلوك، والاحتجاج بهذا ذكرت لكم فيه هذا الملحظ.

أما ظاهر اللفظ فقد يفهم منه أن المسكين أشد حاجة من الفقير، أنه من شدة فقره قد سكنت جوارحه، ولا حراك به، هذا من حيث ظاهر اللفظ، أما الدليل على أن هذا أشد حاجة أو ذاك أشد حاجة فلا أعلم دليلاً عليه، وهذا الدليل يُحتج به عادة، وذكرت لكم ما يرد عليه من الإشكال، والله تعالى أعلم.

قوله: لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] وفي قراءة شاذة: {لمسّاكين يعملون في البحر} يريد أن يقول: إنهم لا يملكون السفينة أصلاً، هذا من يقول بأن المسكين أشد حاجة من الفقير، {مسّاكين يعني: يعملون فيها لغيرهم، أو بالأجرة، وليست ملكاً لهم.

وقوله: وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [سورة الكهف:79] يرِد عليه ما ذكرته بالأمس: أن ظاهره يرِد عليه سؤال قد يستشكل على القارئ، يقول: يأخذ كل سفينة غصباً فإذا خرقها الخضر فستؤخذ، فما فائدة الخرق والعيب؟

فالجواب: أنه لا يأخذ كل سفينة، وإنما يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، ويدل على هذا قراءة ابن عباس وأُبيّ: {يأخذ كل سفينة صالحة غصباً} وهذه قراءة أحادية، وذكرنا أن القراءة الأحادية تفسر بها القراءة المتواترة، فخرَقَها من أجل أن لا يأخذها الملك.

وقوله: مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ [سورة إبراهيم:16] يعني: من أمامه، هذا الذي عليه عامة أهل العلم.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يعترض على هذا، ويقول: إن لفظة: وراء ما تأتي في المكان بمعنى أمام، وإنما يكون ذلك في الزمان فقط، كما في قوله: من ورائكم أيام الصبر[7] يعني: فيما تستقبلون، فـمِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ [سورة إبراهيم:16] يعني: أنه بعد حياته هذه على الكفر يصير إلى جهنم فهذا في الزمان، يعني: بعد الدنيا يصير إلى جهنم، وليست للمكان، هكذا يفرق بين الزمان والمكان، ويقول: إن ذلك لا يعرف في كلام العرب، وهذا لا يخلو من إشكال؛ لأن أهل اللغة ذكروا هذا، فقالوا: إنها من الأضداد.

وتفسير ابن القيم -رحمه الله- لـ "وراءهم" يعني: خلفهم، هذا التفسير بأن المقصود "وكان خلفهم" قد سبق إليه، فقد قال به بعض السلف، فيقولون -وهو الذي يقرره ابن القيم -رحمه الله: وَكَانَ وَرَاءهُم [سورة الكهف:79] يعني: في طريق العودة، سيذهبون إلى هذا المكان الذي قصدوه، ثم سيرجعون وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79] فإذا رجعوا فسيمرون في طريق عودتهم بهذا الملك الذي يأخذ السفن الصالحة غصباً، هكذا فسرها ابن القيم -رحمه الله، والتفسير الأول هو المشهور، والله أعلم.

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۝ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [سورة الكهف:80، 81] عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب -ا- عن النبي ﷺ قال: الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً[8] رواه ابن جرير عن ابن عباس به؛ ولهذا قال: فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80] أي: يحملهما حبه على متابعته على الكفر، قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرضَ امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب، وصح في الحديث: لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيراً له[9]، وقال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:216].

وقوله: فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [سورة الكهف:81] أي: ولداً أزكى من هذا، وهما أرحم به منه، قاله ابن جريج.

في قوله: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80] يقول: أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر، وقرأ ابن عباس: {وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين وهي قراءة ليست من القراءات المتواترة على كل حال.

فعلى قول من يقول بأن المميز مكلف بالإيمان، وأنه يحكم عليه بالإيمان أو الكفر، فيقول: هذا غلام مميز، فصدر منه الكفر، وإن كان لا يكلف بتفاصيل وفروع الشريعة والأعمال الأخرى، ومن يقول: لا تكليف إلا بالبلوغ فكما سبق بعضهم يقول: إنه أطلق الغلام وأراد به الرجل البالغ، وهنا في هذا الموضع غير صحيح؛ لأن الحديث دل على أنه وجد غلاماً يلعب مع الغلمان، ثم إن الظاهر المتبادر عند إطلاق الغلام أنه ما كان دون البلوغ، والقرآن إنما يحمل على الظاهر المتبادر، وقوله هنا: أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر في تفسير فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80]، وبعضهم يقول: خشينا أن يرهق الوالدين طغياناً عليهما وكفراً بالعقوق، كفراً بنعمة الوالدين عليه بالعقوق.

وعلى كل حال فمعنى أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80] أي: بكفره وطغيانه وتجبره وتكبره، وعتوّه على الله .

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "وهذا الغلام الذي قتله الخضر يحتمل أنه كان بالغاً مطلقاً، وسمي غلاماً لقرب عهده بالبلوغ، وعلى هذا فلا إشكال فيه، ويحتمل أن يكون مميزاً عاقلاً وإن لم يكن بالغاً، وعليه يدل الحديث، وهو قوله: ولو أدرك لأرهق أبويه[10] وعلىهذا فلا يمتنع أن يكون مكلفاً في تلك الشريعة؛ إذ اشتراط البلوغ في التكليف إنما عُلم بشريعتنا، ولا يمتنع تكليف المراهق العاقل عقلاً، كيف وقد قال جماعة من العلماء: إن المميزين يكلفون بالإيمان قبل الاحتلام، كما قالت طائفة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد، وهو اختيار أبي الخطاب، وعليه جماعة من أهل الكلام.

وعلى هذا فيمكن أن يكون هذا الغلام مكلفاً بالإيمان قبل البلوغ، ولو لم يكن مكلفاً بشرائعه، فكفر الصبي المميز معتبر عندأكثر العلماء، فإذا ارتد عندهم صار مرتداً له أحكام المرتدين، وإن كان لا يقتل حتى يبلغ فيثبت عليه كفره، واتفقوا على أنه يُضرب ويؤدب على كفره أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة، فإن كان الغلام الذي قتله الخضر بالغاً فلا إشكال، وإن كان مراهقاً غير بالغ فقتله جائز في تلك الشريعة؛ لأنه قتله بأمر الله، كيف وهو إنما قتله دفعاً لصوله على أبويه في الدين، كما قال: فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80]. والصبي لو صال على المسلم في بدنه أو ماله ولم يندفع صياله للمسلم إلا بقتله جاز قتله"[11].

وقد استدل بعض أهل العلم بقصة قتل الخضر للغلام على جواز حكم القاضي بعلمه، ونحن نعلم أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، والذي في شريعتنا أنه لا يحكم على الإنسان بمجرد العلم بإطلاق، ذكرت لكم قول النبي ﷺ: فأقضي له على نحو مما أسمع منه[12] ولم يقل: "بنحو ما أعلم" وهكذا أيضاً في أدلة أخرى يستدل بها على هذا، إلا أن القاضي يمكن أن يستعمل علمه، ويعمل بمقتضاه، ويحكم به في مواضع ثلاثة، منها:

في الكلام على الشهود، أو في قبول شهادتهم وردها، فإن القاضي إذا كان يعلم أن هذا الشاهد غير أهل للشهادة بما يعلم منه، أو ما يعلم فيه من القوادح فله أن يرد شهادته، فيعمل بمقتضى علمه، هو يعرف هذا الإنسان من قبل، فلا يقبل شهادته، فعمل القاضي بعلمه هنا فيما يتعلق بالشهود.

والأمر الثاني: وهو ما يتعلق بمجلس الحكم مما يصدر ويبدر من أحد الخصمين، فإن القاضي يلاحظ كلامه وأفعاله، فقد يرى منه أشياء تدل على كذبه، يستبينها من فلتات لسانه ونحو ذلك فيلزمه بها، ويقول له: أنت بحجتك هذه مبطل وكاذب، بناء على استنتاجات وأشياء سمعها القاضي منه، حينما تكلم وخاصم وأدلى بحجته فعرف كذبه من كلامه وتصرفاته، فحكم بمقتضى علمه بهذا الاعتبار لا بمقتضى العلم السابق، قد يكون عنده تصور أن هذا الإنسان كذاب نَفّاج، لا يرعوي ولا يتقي، فلا يحكم عليه بمقتضى العلم بأن دعواه كاذبة، وأن هذا الإنسان الذي يقابله صادق، إذن لا نقبل دعواك، ولا نسمع هذه الدعوى.

الحالة الثالثة: وهي في القضايا المشتهرة التي يعرفها الصغير والكبير، ويستوي في معرفتها الناس، لا تحتاج أن يكون القاضي يعرفها، ثم بعد ذلك يكون هذا أمراً خفياً، كيف حكم القاضي عليه؟ وبناء على ماذا؟ وما هي المستندات؟ لكن في الأمور المعروفة التي يعرفها الناس، فإذا نشأ الناس في بلد مثلاً، وكلهم يعرفون أن هذه الدار موقوفة للأيتام، فجاء إنسان وقال: هذه ملك لي، فإذا جاء عند القاضي يطالب وقدم دعوى، فإن القاضي يقول له هذا الباب مغلق، ولا يسمع منه الدعوى أصلاً، ولا يقبلها منه؛ لأن هذا أمر معروف يستوي بمعرفته الجميع، فلا يكون ظالماً له بهذا الاعتبار حينما لم يسمع منه الدعوى.

كذلك لو أنه جاء مثلاً إلى الطريق المعروف، كل الناس يعرفون أن هذا طريق، وجاء وقال: هذا الطريق ملكي، هذا الشارع ملكي ويريد تعويضاً، يقول له: من أين جاء ملكك؟ من يوم نشأت في البلد وهذا طريق، أو بئر معروفة قديمة الناس يستقون منها وهي وقف مثلاً، وجاء وقال: هذه البئر أنا الذي حفرتها، كيف حفرتَها، أنت عمرك عشرين سنة وهذه البئر لها مئات السنين؟! فهذا لا يسمع منه الدعوى، الأشياء المعروفة كمن جاء إلى وقف معروف، كل الناس يعرفون أن هذا وقف، وادعاه، أو جاء وادعى دار إنسان وكل الناس يعرفون أو أهل الحي يعرفون جميعاً أن هذه دار فلان، وهو الذي بناها، فجاء وقال: لا، هذه داري، أنا الذي بنيتها، وهذا جار القاضي، وجيرانه كلهم يعرفون أن هذا هو الذي بنى هذه الدار، ولا يخفى عليهم ذلك، فجاء إنسان وقال: لا، أنا الذي بنيت هذه الدار، وأنا أطالب بها، مثل هذا للقاضي أن يحكم بعلمه، في القضايا التي يستوي بها الناس، يستوون بمعرفتها، إذاً هذه ثلاث حالات.

"والصبي لو صال على المسلم في بدنه أو ماله ولم يندفع صياله للمسلم إلا بقتله جاز قتله، بل الصبي إذا قاتل المسلمين قتل، ولكن من أين يعلم أن هذا الصبي اليوم يصول على أبويه أو غيرهما في دينهما حتى يفتنهما عنه؟ فإن هذا غيب لا سبيل لنا إلى العلم به؛ ولهذا علق ابن عباس -ا- الفتيا به، فقال لنجدة لما استفتاه في قتل الغلمان: إن علمت منهم ما علم الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا، رواه مسلم في صحيحه[13]."

ونجدة -كما سبق- من زعماء الخوارج.

"ولكن يقال: قاعدة الشرع والجزاء أن الله سبحانه لا يعاقب العباد بما سيعلم أنهم يفعلونه، بل لا يعاقبهم إلا بعد فعلهم ما يعلمون أنه نهى عنه، وتقدم إليهم بالوعيد على فعله، وليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وإنما فيها علمه بأسباب تقتضي أحكامها، ولم يعلم موسى تلك الأسباب مثل علمه بأن السفينة كانت لمساكين، وأن وراءهم ملكاً ظالماً إن رآها أخذها، فكان قلع لوح منها لتسلم جميعها، ثم يعيده من أحسن الأحكام، وهو من دفع أعظم الشرين باحتمال أيسرهما، وعلى هذا فإذا رأى إنسان ظالماً يستأصل مال مسلم غائب فدفعه عنه ببعضه فكان محسناً، ولم يلزمه ضمان ما دفعه إلى الظالم قطعاً، فإنه محسن وما على المحسنين من سبيل، وكذلك لو رأى حيواناً مأكولاً لغيره يموت فذكاه لكان محسناً، ولم يلزمه ضمانه. 

وكذلك كون الجدار لغلامين يتيمين وأبوهما كانا صالحاً أمر يعلمه الناس، ولكن خفي على موسى ، وكذلك كفر الصبي يمكن أن يعلمه الناس حتىأبواه، ولكن لحبهما إياه لا ينكران عليه، ولا يقبل منهما، وإذا كان الأمر كذلك فليس في الآية حجة على أنه قتْلٌ لما يتوقع من كفره، ولو قدر أن ذلك الغلام لم يكفر أصلاً، ولكن سبق في علم الله أنه إذا بلغ يكفر، وأطلع الله الخضر على ذلك فقد يقول القائل: قتله بالفعل كقتل نوح لأطفال الكفار بالدعوة المستجابة التي أغرقت أهل الأرض لما علم أن آباءهم لا يلدون إلا فاجراً كفاراً، فدعا عليهم بالهلاك العام دفعاً لشر أطفالهم في المستقبل، وقوله: فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:27] حالان مقدرتان، أي: من سيفجر ويكفر."

من يقول: إن الإنسان يكون مكلفاً بالإيمان إذا كان مميزاً فلا إشكال عنده، ومن يقول: إن الغلام أطلق على الكبير هنا فلا إشكال عنده، ولكن هذا بعيد.

ويمكن أن يقال: الذي يعنينا في هذا الموضوع هو أن الغلام في هذه الشريعة ولو صدر منه الكفر فإنه لا يقتل، حتى لو قلنا بأنه مكلف بالإيمان، فإذا وقع منه ردة فإنه لا يقتل بذلك، والنبي ﷺ قد نهى عن قتل الصبيان، وما وقع من الخضر إما أن يكون ذلك من الجائز في شريعتهم، أو يكون ذلك فعله بأمر الله -تبارك وتعالى، وإلا فموسى -عليه الصلاة والسلام، قد اعترض عليه؛ لأنه قتَلَ نفساً زكية بغير نفس، ولكن قد يقول قائل: إن موسى -عليه الصلاة والسلام- لم يعترض على الجواب لما قال له: فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80] ما قال له موسى -عليه الصلاة والسلام: إنه غير مكلف أو نحو ذلك.

وأيضاً مسألة الحكم عليه بمقتضى العلم هذا يرد عليه الإشكال السابق، والله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15] والآيات التي يذكر الله فيها "حتى نعلم كذا" حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ [سورة محمد:31] وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ [سورة آل عمران:142] المقصود به علم وقوع الشيء الذي يترتب عليه الجزاء، فإن الله لا يؤاخذ الناس بمقتضى ما علمه وإلا فقد استخرج الناس من صلب آدم -عليه الصلاة والسلام، وخلق خلقاً للجنة، وخلق خلقاً للنار، لكن الله لا يؤاخذهم بمقتضى العلم؛ ولهذا فإن المجنون والذي لم تبلغه الدعوة الراجح أنهم يمتحنون في الآخرة.

فالمقصود حتى أطفال الكفار الذين يموتون فالأحاديث التي وردت عن النبي ﷺ في بعضها أنه قال: الله أعلم بما كانوا عاملين[14] وفي بعضها ما يشعر أنهم مع أهلهم، لهم حكمهم، وأنهم منهم، وفي بعضها ما يدل على أنهم في الجنة؛ ولعل النبي ﷺ قال في بعض المواقف بأنهم مع أهلهم وأنهم منهم، وأطلعه الله  بعد ذلك أنهم في الجنة، هذا بالنسبة للصغار.

وإن كان العلماء اختلفوا في المميز إذا اختار الكفر، أما الصبي غير المميز فإن الذي عليه كثير من أهل العلم من المحققين -وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن القيم، وجماعة- أنه يكون مع الأصلح

من أبويه بالنسبة للدين، يتبع أمه في قضية الرق والحرية (في النكاح)، وبالنسبة للدين يكون مع الأصلح، فإذا كانت أمه مسلمة وأبوه غير مسلم، بمعنى أن رجلاً كافراً قد تزوج بامرأة كافرة فأسلمت المرأة فافترقا، فهؤلاء الأطفال يكونون مع من؟ يحكم لهم بمن؟ مع الأم، وإذا كان الأب هو المسلم والأم كافرة أُلحقوا بالأب، فالإسلام يعلو.

على كل حال يمكن أن يقال هنا: إن ذلك وقع من الخضر بأمر الله له، قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة الكهف:82] ومثل هذا يحفظ ولا يقاس عليه، وعندنا في هذه الشريعة أنه لا يجوز قتل الغلمان، ولا يؤاخذ الناس بمقتضى ما علم من حالهم كما سبق، هذا الذي يعنينا في الموضوع، أما لماذا قتله الخضر؟ هو يقول: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة الكهف:82] الله أمره بذلك، فهي حالة مستثناة؛ ولهذا استغرب منها موسى -عليه الصلاة والسلام.

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:82].

في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة؛ لأنه قال أولاً: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [سورة محمد:13] وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31] يعني: مكة والطائف، ومعنى الآية: أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما.

قال عكرمة وقتادة وغير واحد: وكان تحته مال مدفون لهما، وهو ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله.

يعني: أن إطلاق القرية على المدينة هنا في هذه الآية صريح، ذكر أولاً القرية لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى [سورة الشورى:7] فإن لغة القرآن، واستعمال هذه الألفاظ في إطلاق لفظة قرية: تطلق على مجمع البنيان، سواء كان صغيراً أو كبيراً، كل ذلك يقال له قرية، وأما تخصيص المدينة بذات البنيان الكبير الواسع، والقرية بالصغير فإن هذا اصطلاح حادث، والقاعدة: لا يجوز حمل ألفاظ القرآن على اصطلاح حادث، وقل مثل هذا في لفظة التأويل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7] وقل مثل هذا أيضاً في كثير مما ورد في القرآن كقوله: وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ [سورة يوسف:19] ما هو المراد بالسيارة؟

وقوله في الكنز: "وكان تحته مال مدفون لهما، وهو ظاهر السياق من الآية، واختيار ابن جرير".

بمعنى كنز مال، وبعضهم يقول: كنز علم، وبعضهم يقول غير ذلك، وظاهر السياق أن لفظة الكنز تدل على المال المدفون، فما كان تحت الأرض يقال له: كنز، وما فوق الأرض يقال له: مال، هذا هو المشهور المتبادر الذي تعرفه العرب عند الإطلاق، وإنما تحمل معاني القرآن أو ألفاظ القرآن على المتبادر الظاهر من كلام العرب دون المعنى الخفي إلا بدليل يجب الرجوع إليه، فلا داعي للتكلف في تفسيرها بتفسيرات ومعانٍ بعيدة، فالكنز هو المال المدفون "وكان تحته" وهذا يدل عليه اللفظ: وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا [سورة الكهف:82].

وقوله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [سورة الكهف:82] فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت به السنة، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس -ا: حُفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً.

وقوله: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا [سورة الكهف:82] هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى؛ لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله، وقال في الغلام: فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً [سورة الكهف:81] وقال في السفينة: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] فالله أعلم.

قوله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [سورة الكهف:82] الظاهر والمتبادر أن المراد به هو الأب المباشر الأقرب، وبعضهم يقول: هو الجد السابع، وبعضهم يقول: هو الجد العاشر، وكل هذا مأخوذ من الإسرائيليات، ولا دليل عليه.

وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [سورة الكهف:82] يقول: فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، والقرآن دل على أنهم يرفعون إلى مرتبته في الجنة أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [سورة الطور:21] وسبق الكلام على هذه الآية، وأقوال أهل العلم، والمراد بها، وظاهر الآية هنا يدل على ما ذكر: أن صلاح الآباء قد يؤثر فيما يتعلق بالأبناء من الحفظ ونحو ذلك، لكن هذا ليس بمطرد ولا دائم.

ففي هذه الآية هنا قال: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [سورة الكهف:82] والفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي تشعر بالتعليل، وهذا الذي يقال له: دلالة الإيماء والتنبيه: أن يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان معيباً، فَأَرَادَ رَبُّكَ [سورة الكهف:82] لماذا؟ لأن الأب كان صالحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا [سورة الكهف:82] لكن هل هذا مطرد دائماً؟ الجواب: لا، هذه واقعة وقعت، فيُرجى عند صلاح الآباء أن يطال ذلك الأبناء بالحفظ، ولكنه ليس دائماً، نوح -عليه الصلاة والسلام- ما حال ولده؟ كان كافراً، غرق مع من غرق، وقال الله له: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [سورة هود:46] وهذا شيء مشاهد، تجد الأب من الصالحين الأخيار، ومن العلماء، وتجد الولد فاجراً، مجرماً، لا يخاف الله ، ولا يرقبه، وقد يتشتت هذا الولد، ويضيع في أمر دينه

ودنياه معاً، وأبوه في غاية الصلاح، فليست هذه قاعدة، والآية ما تدل على أن هذا وعد من الله ، وأن كل من كان صالحاً يحفظ الله أبناءه، لا، ولكن الله لطف بهؤلاء الأبناء لصلاح الأب، وكثير من الناس يستدل بهذه الآية على أن الأولاد يُحفظون بصلاح الأب، لكن ذلك كما قلت ليس بمطرد، هذه واقعة وقعت، ولكن يوجد ما يخالفها أيضاً في الواقع، والله يفعل ما يريد، فقد يُكرم الأب بالدنيا وهذا مما يعجل له بأن يحفظ ذريته وأولاده من المخاوف والمكاره ونحو ذلك، وقد لا يحصل.

الحسين بن علي -، ريحانة رسول الله ﷺ تعرفون ما حصل له قُتل، وقُتل من أهل بيته كثير، وأي شيء أعظم من القتل فيما يفوت الإنسان من دنياه؟ ذهاب النفس التي تفدى بالمال، وحفظ هذه النفس من هذا القتل الجائر أولى من حفظ المال، ولكن الله يفعل ما يريد، فيقيض لعباده ما شاء، وكل ذلك بمقتضى علمه وحكمته ، فيكون رفعة لهم، وفي درجاتهم ومنازلهم عند الله ، وهو رفعة لهم في الدنيا أيضاً، فانظر إلى حال الذين قتلوه وإلى حال الحسين؟! أي الفريقين أعظم وأجل مقاماً في قلوب أهل الإيمان؟! لا شك أنه الحسين - وأرضاه.

فعلى كل حال يقول: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [سورة الكهف:82] يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: هنا أسند الإرادة إلى الله لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله، وقال في الغلام: فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ [سورة الكهف:81] وقال في السفينة: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] هذا الفرق الذي ذكره الحافظ ابن كثير ووجه التفريق بين هذه الألفاظ في الاستعمال، حيث أسند الإرادة إلى نفسه في موضع، وأسند الإرادة إلى الله في موضع آخر باعتبار أن ذلك من غير المقدور عليه بالنسبة إليه، فأضافه إلى الله، فَأَرَادَ رَبُّكَ [سورة الكهف:82] والعلماء عادة يذكرون في مثل هذا لطيفة أخرى، وهي: أن ذلك من باب التأدب في العبارة، فلما ذكر العيب أضافه إلى نفسه فقال: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] ولما ذكر ما فيه استصلاح الحال أو المال أو نحو ذلك قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [سورة الكهف:82] فأضافه إلى الله -تبارك وتعالى.

وهذا يذكرون له نظائر، كقول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء:80] فأضاف المرض إلى نفسه، بينما قال: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [سورة الشعراء:79] فأضاف الإطعام والإسقاء إلى الله ، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [سورة الضحى:1-3] ما قال: وما قلاك، فلفظة "قلى" ثقيلة على السمع، "قلاك": بمعنى جفاك، فلم يضفها إلى النبي ﷺ وإنما قال: وَمَا قَلَى [سورة الضحى:1-3].

وبعضهم يقول: هذا مراعاة للفواصل، لكن بعضهم يقول: إن هذا من باب التعليم لعباده، ولهذا تعرفون الخليفة -أظن أنه أبو جعفر المنصور أو المأمون- لما جاء بابنيه، وكان يؤثر أحدهما على الآخر، فبعضهم سأله عن هذا، فأعطى واحداً منهم سُوُكاً -مساويك- فقال له: ما هذه؟ قال: هذه سُوُك، وقال للآخر: ما هذه؟ قال: هذه مساويك، يعني: كأنها مساوئك، سهلت الهمزة.

فالمواجهة بالخطاب في مثل هذه الأشياء التي قد تكون ثقيلة على السمع، مساويك كأنه يقول: مساوئك، قال:

مساويك، ومثله: من أكبر أنت أو رسول الله ﷺ؟ بماذا أجاب؟ قال: أنا أكبر من النبي ﷺ، مع أن السؤال عن السن، فيجيب بجواب يقول: أنا ولدت قبله، أو يقول: هو أكبر مني، هذا من باب التأدب بالألفاظ؛ ولهذا قال الله : لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [سورة البقرة(104] لأن كلمة "راعنا" تحتمل معنى باطلاً سيئاً، وهو مخاطبة النبي ﷺ ومواجهته ووصفه بالرعونة، كان اليهود يستعملونها لهذا المعنى، فعلّمهم كيف يتأدبون بالألفاظ، وهذا له نظائر كثيرة في الكتاب والسنة، هذه من الآداب التي يحتاج الإنسان أن يراعيها في المخاطبة.

قال: فَأَرَدْنَا [سورة الكهف:81] وهكذا من اللطائف في التفسير كما في قوله فيما سبق: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:78] فلما نبأه قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:82] والقاعدة: أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فلماذا قال في الأولى: {تستطع وفي الثانية} قال: {تسطع}؟ وما وجه ذلك؟

فيمكن أن يقال: إن الإنسان حينما يستشكل هذا ولا يعرف تأويله كيف يقتل هذه النفس؟ وكيف يخرق السفينة؟ وكيف يبني الجدار من غير أجرة مع هؤلاء الناس الذين لم يضيفوهما؟ فثقل ذلك عليه، الإنسان إذا استشكل شيئاً وما فهم المراد ونحو ذلك تضيق نفسه به، وينقبض صدره ويزعجه، فإذا عرفه سُري عنه، فخفّت اللفظة الثانية، قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:82] كما سيأتي في قوله: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [سورة الكهف:97] أيهما أصعب نقب هذا الجدار المبني بهذه الطريقة آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [سورة الكهف:96]، أو الصعود إلى أعلاه؟

الأسهل الصعود؛ ولهذا قال: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ [سورة الكهف:97]، وقال: وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [سورة الكهف:97] فالنقب أصعب فزادت حرفاً، هذه من اللطائف التي يذكرها بعض المفسرين الذين يُعنون بالجوانب البلاغية، والله تعالى أعلم، قد يكون هكذا وقد لا يكون، لكن هذه أشياء مستنبطة لا يقطع بها.

وقوله تعالى: رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة الكهف:82] أي: هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة الكهف:82] أي: لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر مع ما تقدم من قوله: فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [سورة الكهف:65].

قال: وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر، هذا كما سبق أنه قال: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [سورة الكهف:65] والحديث أيضاً لموسى -عليه الصلاة والسلام: إنك على علم من الله ليس عندي أو لا أعلمه، وإني على علم من الله لا تعلمه[15].

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في الخضر قال: إنما سمي خضراً لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من تحته خضراء[16] ورواه أيضاً عن عبد الرزاق.

وقد ثبت أيضاً في صحيح البخاري عن همام عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة، فإذا هي تهتز من تحته خضراء[17].

والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، قاله عبد الرزاق، وقيل: المراد بذلك وجه الأرض.

في البخاري في أحاديث الأنبياء، في باب حديث الخضر مع موسى -عليهما السلام: فإذا هي تهتز من خلفه خضراء[18] وعند أحمد في رواية: تهتز تحته خضراء وفي رواية قال: تهتز خضراء[19]والمقصود بالفروة بعضهم يفسرها بهذا وبعضهم بهذا، بعضهم يفسرها: بالحشيش اليابس، فلما جلس عليها تحولت إلى خضراء، وبعضهم يفسرها بالأرض اليابسة، ليس فيها نبات، فتحولت إلى خضراء، يعني: أنبتت، وهذه كرامة من الله ، هذا سبب تسميته بالخضر.

وقوله: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:82] أي: هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل، قال: تَسْطِع وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً، فقال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:78] فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [سورة الكهف:97] وهو الصعود إلى أعلاه فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ [سورة الكهف:97] وهو أشق من ذلك، فقابل كلاً بما يناسبه لفظاً ومعنى، والله أعلم.

فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة، ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب: أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر، وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى .

وهم الذين دخلوا الأرض المقدسة معه بعد موسى -عليه الصلاة والسلام، فالشاهد أن الغلام أو الفتى أو يوشع بن نون لم يكن هو المعنيّ بذلك؛ فتُرك ذكره، وأما ما ورد عن بعض السلف من أنه

خلد ووضع في سفينة، وسارت به في البحر، فهي تسير به إلى يوم القيامة هذا الكلام كله لا أساس له من الصحة، ولا يعول عليه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسياً في الأيمان (8/136- 6672) ومسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر (4/1847- 170) (2380).
  2. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، في كتاب التفسير، قوله تعالى: إن سألتك عن شيء بعدها [الكهف:76] 10/ 165- 11248).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر (4/1850- 172) (2380).
  4. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (2/244/1907) و"الأوسط" (2206) و"الصغير" (رقم 185 -الروض) ومن طريقه أبو نعيم في "أخبار أصفهان" (1/108) و"دلائل النبوة" (ص341). وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (14/ 171).
  5. السَّبَد: القليل من الشعر، وماله سبد ولا لبد، لا قليل ولا كثير، القاموس (366).
  6. البيت منسوب للراعي، وهو: حصين بن معاوية، وكان سيداً، وإنما قيل له الراعي لأنه كان يصف راعي الإبل في شعره وولده وأهل بيته بالبادية سادة أشراف، وكان أعور، توفي سنة (90 - 91هـ 709م) الشعر والشعراء (270) في الأعلام (4/188). وانظر: فقه اللغة وسر العربية (ص: 59).
  7. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي (4/ 123 -4341) وابن ماجه في كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم [المائدة:105] (2/ 1330- 4014). وقال الألباني: "صحيح لغيره" انظر: صحيح الترغيب والترهيب (3/128-3172).
  8. أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر (4/1850- 172) (2380).
  9. أخرجه أحمد (33/405- 20283) وابن حبان (728) وأخرجه الضياء في المختارة (1815) وأخرجه هناد في الزهد (399) وأبو يعلى (4217) و(4218) والبيهقي في شعب الإيمان (9951)، والقضاعي في مسند الشهاب (596)، والضياء (1816) و(1818)، والذهبي في السير (15/342) وأخرجه أبو يعلى (4019) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/ 738- 3985).
  10. أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/2050- 29) (2661).
  11. أحكام أهل الذمة (2/1044).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (3/1337- 1713).
  13. أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب النساء الغازيات يُرضَخ لهن ولا يُسهَم، والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب (3/ 1445- 138) (1812).
  14. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين (2/100- 1384) ومسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2049- 26) (2659).
  15. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً [الكهف:63] (6/ 91- 4727).
  16. أخرجه أحمد (13/474-8113) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/466).
  17. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى -عليهما السلام- (4/ 156- 3402).
  18. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى -عليهما السلام- (4/ 156- 3402).
  19. أخرجه أحمد (13/ 534- 8228) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الترمذي (3151)، وابن حبان (6222)، والبغوي في تفسيره 3/172 وانظر (8113).

مواد ذات صلة