الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[14] من قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} الآية 92 إلى قوله تعالى: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} الآية 98
تاريخ النشر: ٢٢ / ربيع الأوّل / ١٤٢٩
التحميل: 3450
مرات الإستماع: 6280

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيما يتعلق بما أشرت إليه في الكلام على تسمية ذي القرنين؛ ولماذا قيل له ذلك؟ يصلح نموذجاً للأقوال التي يذكرونها والتي لا يمكن أن تتفق.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في كتابه فتح القدير:

"واختلفوا في ذي القرنين اختلافاً كثيراً، فقيل: هو الإسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا بأسرها، اليوناني باني الإسكندرية، وقال ابن إسحاق: هو رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني، من ولد يونان بن يافث بن نوح، وقيل: هو ملك اسمه هرمس، وقيل: ملك اسمه هردبس، وقيل شاب من الروم، وقيل: كان نبياً، وقيل: كان عبداً صالحاً، وقيل: اسمه عبد الله بن الضحاك، وقيل: مصعب بن عبد الله من أولاد كهلان بن سبأ.

وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال: إن الظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان: أحدهما كان على عهد إبراهيم -، والآخر كان قريباً من عيسى -، وقيل: هو أبو كرب الحميري، وقيل: هو ملك من الملائكة، ورجح الرازي القول الأول، قال: لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الإسكندر اليوناني، كما تشهد به كتب التاريخ، قال: فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر، قال: وفيه إشكال؛ لأنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس الحكيم، وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق؛ وذلك مما لا سبيل إليه.

 قال النيسابوري: قلت ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً، فلعله أخذ منهم ما صفا، وترك ما كدر، والله أعلم".

أرسطاطاليس: يعني أرسطو.

"ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي أنهما اثنان كما قدمنا ذلك، وبين أن الأول طاف بالبيت مع إبراهيم أول ما بناه وآمن به واتبعه، وكان وزيره الخضر، وأما الثاني: فهو الإسكندر المقدوني اليوناني وكان وزيره الفيلسوف المشهور أرسطاطاليس، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راوياً له عن الأزرقي وغيره.

ثم قال: وقد ذكرنا طرفاً صالحاً في أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية.

وحكى أبو السعود في تفسيره عن ابن كثير أنه قال: وإنما بينا هذا -يعني: أنهما اثنان-؛ لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر، فيقع بذلك خطأ كبير، وفساد كثير، كيف لا؟! والأول كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً، ووزيره الخضر، وقد قيل: إنه كان نبياً، وأما الثاني: فقد كان كافراً ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف، وكان ما بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من هذا؟! انتهى.

قلت: لعله ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقاً وسماه بالبداية والنهاية ولم يقف عليه، والذي يستفاد من كتب التاريخ هو أنهما اثنان كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم، لا كما ذكره الرازي، وادعى أنه الذي تشهد به كتب التواريخ، وقد وقع الخلاف هل هو نبي أم لا؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب آخر هذا البحث -إن شاء الله.وأما السبب الذي لأجله سمي ذا القرنين فقال الزجاج والأزهري: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها، وقرن الشمس من مغربها، وقيل: إنه كان له ضفيرتان من شعر، والضفائر تسمى قروناً، ومنه قول الشاعر:

فلثَمتُ فاها آخذاً بقرونها شُرْبَ النزيف ببرْد ماءِ الحشرج

والحشرج: ماء من مياه العرب، وقيل: إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمي بذلك، وقيل: كان له قرنان تحت عمامته، وقيل: إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه، ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر، وقيل: إنما سمي بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه، وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعاً، وقيل: لأنه أُعطي علم الظاهر والباطن، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: لأنه ملك الروم والترك، وقيل: لأنه كان لتاجه قرنان".

وقال الله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [سورة الإسراء:36] وقال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] هذا كله من كذب بني إسرائيل، وتحريفهم، فيأتون بالأقوال المتناقضة، ولو أن الإنسان وقف عند حد ما يعلم ما كان قال واحد: إنه ملك، والثاني يقول: نبي، والثالث يقول: كافر، وهكذا هذا التناقض في سبب التسمية: أخذ بقرني الشمس، أو برؤيا، أو كان له ظفيرتان، أو من جهة نسبه، أو من جهة كذا، هذه الأقوال لا يمكن أن تتفق، ولا حاجة بنا لها؛ لكن أردت أن أذكرها كنموذج للجرأة والكذب عند هؤلاء الإسرائيليين، وتلفيق الأخبار، واختلاق مثل هذه الأمور.

وقال صاحب المصباح المنير في تفسير قوله تعالى:

 ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ۝ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ۝ قَالُواْ يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىَ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً ۝ قَالَ مَا مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ۝ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [سورة الكهف:92-96]

يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا [سورة الكهف:92] أي: ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض حتى إذا بلغ بين السدين، وهما جبلان متناوحان، بينهما ثغرة، يخرج منها يأجوج ومأجوج، على بلاد الترك، فيعيثون فيها فساداً، ويهلكون الحرث والنسل، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم كما ثبت في الصحيحين: إن الله تعالى يقول: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذٍ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فقال: إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج[1].

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [سورة الكهف:93] يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "حتى إذا بلغ بين السدين، وهما جبلان متناوحان". متناوحان: أي متقابلان.

وقوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ [سورة الكهف:93] قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالفتح بَيْنَ السَّدَّيْنِ [سورة الكهف:93] وقرأه الباقون بالضم السُّدين وبعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يقول بأن القراءتين بمعنى واحد، وأن السَّدين والسُّدين كليْهما بمعنى واحد، فهما لغتان.

وكثير من أهل العلم يفرقون بينهما، فبعضهم يقول: الفرق أن كل ما كان حجزاً بينك وبين غيرك فهو سَد، وما كان متراكماً، أي: أن بعضه على بعض فهو ردم، كما سيأتي في قوله: رَدْمًا [سورة الكهف:95].

وبعض أهل العلم يقول: كل ما كان أمامك يحجز ما بعده عما قبله فإنه بالضم، يقال له: سُد، ويثنّى على السُّدين، وبعضهم يقول: ما رأته العيون -بمعنى أنه شيء حسي- فهو بالضم، وما كان معنوياً -كالذي يكون على الأبصار كالغشاوة- فإنه يكون بالفتح أو العكس، وبعضهم يقول بأن الذي يكون بخلق الله خلقة كالحاجز من جبل ونحو ذلك فهو بالضم، سُد أي مسدود، وما كان من فعل الإنسان فهو بالفتح، والله تعالى أعلم.

على كل حال ابن جرير - رحمه الله - يقول: هما لغتان، والذين ذكروا هذه الفروقات هم من أئمة اللغة.

وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [سورة الكهف:93] أي: لاستعجام كلامهم، وبعدهم عن الناس.

في قوله: وَجَدَ مِن دُونِهِمَا [سورة الكهف:93] بعضهم يفسره أي: من ورائهما، وبعضهم يقول: أي أمامهما، وقوله: لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [سورة الكهف:93] قرأه بعض السبعة كحمزة والكسائي: يُفقِهون، أي: يُفهِمون، من أفقهَ إذا أبان عما في نفسه، لا يكاد يُفقه، يعني: لا يكاد يُبين لعجمته، لا يُفهم قولهم وكلامهم، وقرأه الباقون: لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ [سورة الكهف:93] أي: لا يكادون يفهمون.وكما سبق في القراءات أنها إذا تعددت وعادت إلى ذات واحدة فإن ذلك من تعدد الأوصاف لهذه الذات، فهؤلاء دلت القراءة الأولى (يُفقهون) على أنهم لا يُبينون، ودلت القراءة الثانية (يَفقهون) على أنهم لا يفهمون، وهذا لاستعجام كلامهم، فالسامع لا يكاد يفهم، وهم أيضاً كذلك.

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [سورة الكهف:94] قال ابن جريجعن عطاء عن ابن عباس -ا: أجراً عظيماً، يعني: أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سداً، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [سورة الكهف:95] أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان : أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم [سورة النمل:36] الآية، وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني بقوة، أي: بعملكم وآلات البناء أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ۝ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [سورة الكهف:95، 96] والزبر: جمع زبرة، وهي القطعة منه، قاله ابن عباس -ا- ومجاهد وقتادة، وهي كاللبنة، يقال: كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي، أو تزيد عليه.

في قوله: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [سورة الكهف:94] مفسدون في الأرض، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: مفسدون في الأرض: تحمل على أعم معانيها ولا حاجة لتخصيص ذلك بنوع من الإفساد، كما يقول بعضهم: إنه إذا ظهر الربيع مثلاً في أرض هؤلاء عدا عليهم هؤلاء فلم يبقوا لهم خضراء، وغير ذلك من الأقاويل التي تذكر، هم مفسدون في الأرض بالقتل، والتعدي على الناس في أموالهم إلى غير ذلك مما يتصور من ألوان الإفساد.

مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [سورة الكهف:94] وقرأه الكوفيون: خراجاً، وبعض أهل العلم يقول بأن الخرج والخراج بمعنى واحد، وبعضهم يفرق بينهما في المعنى، وبعضهم يقول: إن الخراج هو الاسم، والخَرج هو المصدر، وبعضهم يقول: الخراج ما يجعل على الأرض، والخرج ما يجعل على الرقاب مثل الجزية.

وبعضهم يقول: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [سورة الكهف:94] يعني: كالأجرة، أو ما يجعل لمن عمل عملاً أو نحو ذلك من العطاء، وأما الخراج فإنه ما يُجعل على الأرض، والله ذكر هذا وهذا، فهذا يدل على أنهم أرادوا شيئاً واحداً، والله -تبارك وتعالى- أعلم.

فهل نجعل لك خرجاً أو خراجاً؟ المقصود به: أنهم عرضوا عليه أن يعطوه أجرة على هذا العمل، فترفّع عن ذلك وتعفف، وقال: ما آتاني الله خير من هذا الذي تجعلونه لي، كما قال سليمان -عليه الصلاة والسلام.

وقوله -تبارك وتعالى- عن قول ذي القرنين: أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [سورة الكهف:95] هناك قال: سداً وهنا قال: ردماً، والمعنى متقارب، الردم والسد هو كل ما يحجز بين شيئين فإنه يقال له ذلك، وبعضهم يفرق بينهما كما سبق، فيقول: كل ما حجز بين شيئين فهو سد، وما كان بعضه على بعض فهو ردم، إن كان مبنياً من الحجارة أو اللبن أو غير ذلك فهو ردم، والسد يمكن أن يكون بقطعة واحدة بخشبة أو بحديدة، أو نحو ذلك، والعلم عند الله .

قال: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [سورة الكهف:96] يقول: جمع زبرة، وهي القطعة منه، وبعضهم قيده بالقطعة العظيمة، وهذا الذي ذهب إليه الخليل بن أحمد -رحمه الله، زُبر الحديد يعني: القطع العظيمة من الحديد، فيجعل ذلك بمنزلة اللبن، يضع هذه القطع على بعض، ثم بعد ذلك يوقد عليها، وهي كاللبنة، يقال: كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد.

حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [سورة الكهف:96] أي: وضع بعضه على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولاً وعرضاً، واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال.

إذا ساوى في الصُّدُفين: في قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو بالضم، ضم الصاد والدال الصُّدُفين، والصَّدَفين بالفتح يعني: بين رأسي الجبلين، أو بين جانبي الجبلين، وإذا تحاذى الجبلان فكأنهما تصادفا أو تلاقيا، فيقال لذلك: صدفان، يعني: ساوى بين طرفي أو بين ناحيتي أو بين جانبي الجبلين إلى رءوسهما.

قَالَ انفُخُوا [سورة الكهف:96] أي: أجّجَ عليه النار حتى صار كله ناراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [سورة الكهف:96] قال ابن عباس -ا- ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسُّدي: هو النحاس، زاد بعضهم المذاب، ويستشهد بقوله تعالى: وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سورة سبأ:12] ولهذا يشبه بالبرد المحبر.

هذا قول جمهور المفسرين وأهل اللغة: إن القطر المقصود به النحاس المذاب، وبعضهم قال: إنه الحديد المذاب، وبعضهم يقول: الرصاص، لكن المشهور هو هذا، وهذا الذي يدل عليه القرآن، والله تعالى أعلم.

ثم قال الله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ۝ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ۝ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [سورة الكهف:97-99] يقول تعالى مخبراً عن يأجوج ومأجوج: أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد، ولا قدروا على نقبه من أسفله؛ ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلاً بما يناسبه فقال: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [سورة الكهف:97] وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه، ولا على شيء منه.

روى الإمام أحمد عن زينب بنت جحش زوج النبي ﷺ قالت: استيقظ النبي ﷺ من نومه وهو محمر وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث[2] هذا حديث صحيح، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه.

قوله: وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [سورة الكهف:97] وهكذا في قول الخضر لموسى -عليه الصلاة والسلام: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:82] بعد أن أخبره، وقبل أن يخبره قال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع [سورة الكهف:78] فإذا لاحظت مثل هذه المعاني سهل عليك ضبط الحفظ، وهناك أشياء مفيدة تذكر أيضاً في هذا ، وذكر بعضها ابن المنادي في كتاب (متشابه القرآن).

وفي قوله: هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي [سورة الكهف:98] فلم ينسب ذلك إلى نفسه، وإنما تواضع لربه -تبارك وتعالى.

وابن جرير -رحمه الله- إذا نظرت في عبارته تجد أنه جمع بين المعنيين: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي [سورة الكهف:98] حيث أعان عليه ويسره، وأيضاً هو رحمة بالناس الذين كانوا يلاقون ما يلاقون من هؤلاء القوم المفسدين.

وقوله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف:143] أي: مساوياً للأرض.

هناك قال: جَعَلَهُ [سورة الكهف:98] أي: السد دَكَّاء وهذه من صفة المؤنث، قالوا: هذا على وجه التشبيه بالناقة الدكاء، والقراءة الأخرى -قراءة بقية السبعة: بالتنوين من غير همز جَعَلَهُ دَكًّا.

وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [سورة الكهف:98] أي: كائناً لا محالة، وقوله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [سورة الكهف:99] أي: الناس يومئذٍ، أي: يوم يدك هذا السد، ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس.

في قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي [سورة الكهف:98] هل المقصود به القيامة كما قال بعضهم؟ أو المقصود به إذا جاء الوعد الذي يحصل به انهدام هذا السد، فيخرج هؤلاء إلى الناس في آخر الزمان، قرب قيام الساعة؟قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [سورة الكهف:98] ويكون قوله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [سورة الكهف:99] يعني: أن يأجوج ومأجوج ينطلقون فيفسدون ويختلطون بالناس بعد أن عُزلوا عنهم هذه المدة الطويلة وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [سورة الكهف:99] أي: بعد ذلك، ومعلوم أن أشراط الساعة تأتي متتابعة، سريعة الوقوع، ويكون بعدها قيام الساعة -النفخ في الصور، فهذا هو الأقرب -والله أعلم، وهو الذي تدل عليه الأحاديث الواردة في صفة خروج يأجوج ومأجوج.

وهؤلاء تكلم عنهم المفسرون، ونقلوا أشياء هي من قبيل الإسرائيليات، لا تصدق ولا تقبل بحال من الأحوال، بعضهم يقول: هم على قدر شبر، إذا كانوا على قدر شبر سيطؤهم الناس.

وبعض الناس في هذا العصر يقول بأنهم أهل الصين، وأن السد هو سد الصين، وهذا الكلام كله غير صحيح، فالنبي ﷺ أخبر أنهم في كل يوم يحفرون، ثم يرجع السد إلى ما كان عليه، يقولون: إنهم سيكملونه في الغد، فإذا رجعوا إليه وجدوه أشد مما كان، حتى إذا أذن الله بخروجهم قال القائم على عملهم: إن شاء الله، فيكملونه في اليوم الآخر، ويفتحونه ويخرجون، وهؤلاء إذا خرجوا حصل منهم هذا الإفساد العظيم.

أما أهل الصين فإن هذا السد لا يحول بينهم وبين الناس، ولا يخرقون فيه كل يوم، والنبي ﷺ يقول: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا[3] فهل هذا ينطبق على سد الصين؟! إطلاقاً لا يمكن أن يقال هذا، وهل أهل الصين بهذه المثابة يفسدون في الأرض، ويفعلون هذه الأشياء كلها، ويشربون حتى البحيرة ولا يتركون شيئاً؟ ويختلطون بالناس، والناس يذهبون إليهم، والذي يسافر إلى الصين ذهب إلى يأجوج ومأجوج؟! فهذه أقوال عجيبة، وأين الآيات والأحاديث التي تدل على أن خروجهم شيء مهول وكارثة؟

على كل حال الذي يحمل هؤلاء على هذا الكلام هو أنهم يقولون: إننا في عصر وجدت فيه الأقمار الصناعية وغير الأقمار الصناعية، وما بقي موضع شبر من الأرض إلا عُرف، هاتان أمتان عظيمتان، فأين هم إذن؟ لابد أن يُعرفوا ويكتشفوا، ما عاد الناس مثل الأول، على جمل، نقول لهم: إذا شاء الله أن يعمّي أمراً على الناس فلو كان أمام أعينهم ما رأوه، وهذا شيء مشاهد، وهذا أشرت إليه في بعض المناسبات، الإنسان أحياناً يبحث عن قلمه وهو أمامه، ويسأل ويفتش، ويبحث عن كتابه في كل مكان وهو أمامه، ولربما بحث عن نظارته وهو يلبسها ولا يترك محلاً إلا ويسأل عنها وهي على عينه، وهذه الأمة من بني إسرائيل أمة معهم موسى -عليه الصلاة والسلام- وتاهوا في صحراء صغيرة، لو اتجهوا من أي اتجاه في فترة وجيزة في أيام فسيخرجون منها، ومع هذا جلسوا فيها هذه المدة الطويلة.

فالله -تبارك وتعالى- إذا أراد شيئاً قال له: كن، فعمّي خبرهم على الناس، وما المانع من هذا ؟ وبعض من تكلم في هذا يقول: لهم أكثر من خروج، من أجل أن يجمع بين هذا وبين ما يحصل من الإفساد، طيب وأين السد الذي يحفرون فيه كل يوم؟ أين هو الذي يحول بينهم وبين الناس؟ وإذا كان لهم أكثر من خروج فما فائدة هذا السد إذاً؟ وهل أصلاً أهل الصين هم من هاتين القبيلتين من يأجوج ومأجوج؟ فمثل هذا كله لا يقبل، والله أعلم.

  1. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب وترى الناس سكارى [الحج:2] (6/97- 4741) وفي غيره من الأبواب، ومسلم في كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (1/ 201 – 379) (222).
  2. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج، ومأجوج (4/ 138- 3346) وغيره من الأبواب. ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج (4/ 2207- 1) (2880) وهو عند أحمد كما أشار المصنف (45/403- 27413).
  3. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج، ومأجوج (4/ 138- 3346) وغيره من الأبواب. ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج (4/ 2207- 1) (2880) وهو عند أحمد كما أشار المصنف (45/403- 27413).

مواد ذات صلة