الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[8] من قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية 64 إلى قوله تعالى: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} الآية 72
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الآخر / ١٤٢٩
التحميل: 2081
مرات الإستماع: 2324

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ۝ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [سورة مريم:64، 65].

روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لجبرائيل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟، قال فنزلت: وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ إلى آخر الآية، انفرد بإخراجه البخاري[1] فرواه عند تفسير هذه الآية.

وقال العوفي عن ابن عباس -ا: احتبس جبرائيل عن رسول الله ﷺ فوجد رسول الله ﷺ من ذلك وحزن، فأتاه جبريل وقال: يا محمد وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله تعالى: وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ سبب نزول هذه الآية هو حديث ابن عباس -ا- في الصحيح أن النبي ﷺ قال لجبرائيل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت الآية، وأما الرواية الثانية التي من طريق العوفي فلا تصح، يعني لم تنزل بسبب أن جبريل أبطأ عن النبي ﷺ.

وقوله: وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ الذي عليه عامة المفسرين وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ، أن المقصود نزولهم إنما يكون بأمر الله لا من عند أنفسهم، فإذا أمرهم الله بالنزول نزلوا، فهم مطيعون لله -تبارك وتعالى- متعبدون له لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6]، والمعنى الثاني الذي ذكرته الآية وهو أن المراد وما نتنزل إلا بأمر ربك، أي إنهم إنما ينزلون بالوحي، يتنزلون بالوحي الذي يبلغونه إلى أنبياء الله -تبارك وتعالى، وواضح الفرق بين المعنيين.

الأول: أن نزولهم إنما يكون عن أمر الله فلا ينزل من عند نفسه، فالنبي ﷺ يقول له: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، يقول: أنا لا أنزل من عند نفسي وإنما إذا أمرت بالنزول نزلت.

المعنى الثاني: أننا لا ننزل من أجل الزيارة؛ وإنما نتنزل بأمر الله يعني بما نحمله من رسالة أو وحي أو نحو ذلك، والذي عليه عامة المفسرين هو الأول، والذي قد يفهم من ظاهر الآية أو يتبادر مع أن الآية تحتمل المعنى الثاني، والله تعالى أعلم.

وقوله: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا قيل: المراد مَا بَيْنَ أَيْدِينَا أمر الدنيا، وَمَا خَلْفَنَا أمر الآخرة، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ما بين النفختين، هذا قول أبي العالية وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما، والسدي والربيع بن أنس، وقيل: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ما يستقبل من أمر الآخرة، وَمَا خَلْفَنَا أي ما مضى من الدنيا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، أي ما بين الدنيا والآخرة، ويروى نحوه عن ابن عباس -ا- وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري، واختاره ابن جرير أيضاً -والله أعلم.

قوله: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا يحتمل أن يكون المراد بذلك الجهات والأمكنة، ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما يرجع إلى الزمان، وأقوال المفسرين ترجع إلى هاذين المعنيين، فمنهم من يقول: له ما بين أيدينا وما خلفنا أي من الجهات والأمكنة، وبعضهم يقول: يعني ما بين السماء يعني الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي ورائنا وما بين السماء والأرض هذا كله يرجع إلى المكان والجهة، ومن حمل ذلك على الأزمنة فبعضهم يقول: له ما بين أيدينا وما خلفنا أي من الأزمنة الماضية والمستقبلة، وما بينهما أي الوقت الذي نحن فيه، وبعضهم يقول: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ما مضى من الأعمار وما بقي منها، ومابين ذلك الوقت أو الحالة التي نكون فيها.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: ”المراد مَا بَيْنَ أَيْدِينَا أمر الدنيا، وَمَا خَلْفَنَا أمر الآخرة، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ما بين النفختين، هذا قول أبو العالية وعكرمة إلى آخره“، وقيل: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ما يستقبل من أمر الآخرة، وَمَا خَلْفَنَا أي ما مضى من الدنيا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، أي ما بين الدنيا والآخرة، يعني ما بقي من الدنيا إلى الآخرة ما نستقبله من الزمان دون الآخرة، يعني ما بين أيدينا ما يستقبل من الآخرة ما خلفنا ما مضى من الدنيا، بقي المدة التي من لحضته إلى الآخرة، هذا وما بين ذلك، وهذا القول لعله أقرب الأقوال وأوجه الأقوال.

ولو قال قائل بأن الآية تحمل على الأعم من المعاني لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ فيشمل الأوقات ما مضى وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك من ساعتنا هذه إلى الآخرة، وكذلك أيضاً لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا من الجهات والأمكنة، فيحمل ذلك على معان وهذا كله واقع وصحيح فإن ذلك كله لله -تبارك وتعالى، والله أعلم.

وقوله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً قال مجاهد معناه ما نسيك ربك، وقوله: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي خالق ذلك ومدبره، والحاكم فيه، والمتصرف الذي لا معقب لحكمه فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: هل تعلم للرب مثلاً أو شبيهاً، وكذلك قال مجاهد، وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغيرهم، وقال عكرمة عن ابن عباس -ا: ليس أحد يسمى الرحمن غيره -تبارك وتعالى- وتقدس اسمه.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً، أي أن جبريل -عليه الصلاة والسلام- حينما لا ينزل في بعض الأوقات فليس معنى ذلك أن ربك قد نسيك، وإنما هو مأمور، ويقول: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا هذا ظاهر، ما بين السماء والأرض كله لله -تبارك وتعالى- فاعبده واصطبر لعبادته، والقاعدة: ”زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى“.

فقوله: وَاصْطَبِرْ زيادة على واصبر فيكون بهذا الاعتبار زيادة في الأمر بالصبر، وعدي فعل الصبر هنا أصطبر لعبادته، اصطبر وفعل الصبر لا يعدى في الأصل باللام، وإذا عدي باللام إما أن يقال بتناوب الحروف، أو يقال بأن الفعل قد ضمن معنى فعل آخر وهذا هو الأقرب، أن يكون فعل الصبر مضمن لفعل آخر يصح تعديته باللام، اصطبر لعبادته، فيكون مضمناً معنى الثبات، فإذا قيل بتضمين معنى الثبات فإنه يعطي معنى آخر، يكون زيادة في المعنى هو مأمور بالصبر لعبادة الله والثابت على ذلك.

قال: وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً يقول: ”عن ابن عباس -ا: هل تعلم للرب مثلاً، أو شبيهاً؟“ هذا من جهة المعنى، وذكر الرواية الأخرى عن ابن عباس -ا: ”ليس أحد يسمى الرحمن غيره -تبارك وتعالى-“، معنى ذلك أنه من جهة التسمية هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً لفظة سمي تأتي بمعنى النظير والمشارك في الاسم، تقول فلان سمي فلان، وتأتي للمشارك في المعنى والصفة، تقول: فلان لا يدانيه ولا يساميه أحد، يعني ليس له نظير ولا شبيه، وهذا الاستفهام في قوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً مضمن معنى الإنكار، يعني ليس له سمي يساميه في الاسم على القول بأن هل تعلم أحد يسمى الرحمن سواه، هذا يدخل في التسمية ليس له سمي لا يسمى أحد باسمه -تبارك وتعالى، وإلى هذا يرجع قول بعض المفسرين كابن جرير -رحمه الله- هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً أي في كرمه وجوده وإحسانه، تلجأ إليه، وترغب إليه، وما أشبه هذا، فيكون المعنى متحد بهذا الاعتبار.

وبعضهم يقول: هل تعلم أحد من الناس أو من الأصنام أو من المعبودات يقال له: الله؟ فهذا كله يرجع إلى التسمية، سمي بمعنى أنه سمي بهذا الاسم، -والله تعالى أعلم.

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ۝ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ۝ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ۝ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ۝ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [سورة مريم:66-70]

يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سورة الرعد:5]، وقال: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ۝ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ۝ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [سورة يس:77-79]، وقال هاهنا: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ۝ أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [سورة مريم:66، 67].

يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة، يعني أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئاً، أفلا يعيده وقد صار شيئاً، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه [سورة الروم:27] وفي الصحيح: ”يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره، وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفواً أحد[2].

وقوله: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ أقسم الرب - تبارك وتعالى- بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعاً وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً قال العوفي عن ابن عباس: يعني قعوداً كقوله: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [سورة الجاثية: 28]، وقال السدي في قوله جثياً: يعني قياماً، وروي عن مرة عن ابن مسعود مثله.

قوله: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا أي أن الله -تبارك وتعالى- يحشرهم جاثين على الركب، وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً تقول: جثا على ركبتيه إذا نزل على ركبتيه، وهذا يقع من الإنسان حال الخضوع والخنوع، وبعضهم يقول: يعني جماعات، ويعتبر ذلك جمع جثوه، وهي مجموع من التراب أو من الحصى، لكن الأول هو الأشهر والأقرب تجثوا الأمم على الركب؛ لشدة الأهوال والأوجال التي تكون يوم القيامة.

وقوله: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ، يعني من كل أمة، قاله مجاهد.

الشيعة تقال للمجموعة أو الفرقة التي تتبع دين وتتشيع له، بمعنى أنها تعاضده وتنصره لهذا يقال للجماعة التي ينصر بعضها أو تنصر مذهباً أو رأيا أو يتعاونون على أمر من الأمور: تشايعوا على كذا، فهذا هو أصل هذه المادة ، والله تعالى أعلم.

أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً، قال الثوري عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: يحبس الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعاً، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً، وهو قوله: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً.

يخبر الله عن أهل النار وعن دخولهم فيها، أنهم لا يدخلونها دفعة واحدة، وإنما يدخلون جماعات، ولهذا قال الله : حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا [سورة الأعراف:38] فعندئذ يبدأ بعضهم يتبرأ من بعض ويلوم بعضهم بعضاً فتقول أخراهم لأولاهم: أنتم الذين كنتم السبب في دخولنا النار، فيتبرأ الأتباع الذي تبرأ المتبعون من الأتباع وهكذا.

فالشاهد أنه كما قال الله : كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [سورة الملك:8]، فهم يلقون فيها أفواجاً، ولا يدخلون النار دفعة واحدة فالله -تبارك وتعالى- يبدأ بالأشد كفراً وعتواً وتجبراً وتعاظماً وتكبراً على عبادة الله -تبارك وتعالى، وقوله: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً “أي” هنا جاءت مرفوعة، وكلام المفسرين وأهل إعراب القرآن في وجه ذلك كثير، فبعضهم يقول: “أيُّهم” إنها جاءت مرفوعة على الحكاية، يعني لم يقل ثم للنزعن من كل شيعة أيهم، و“أي” هذه لها أحوال تكون تارة معرفة، وتكون تارة مبنية، كما قال ابن مالك -رحمه الله:

أيٌّ كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضميرُ انحذف

فالشاهد أنها معرفة وهو الظاهر، ثم اختلف العلماء في كونها مرفوعة في هذا الموضع فقال بعضهم كالخليل: إنها هنا على سبيل الحكاية فقط، يعني الذين يقال لهم أيهم أشد، وهذا اختاره جماعة كالزجاج، وبعضهم يقول كيونس: إن فعل للنزعن بمنزلة الأفعال التي تلغى وتعلق فلم يعمل، يعني ثم للننزعن الأصل الأفعال التي تعلق مثل أفعال المقاربة، فهذا الفعل للننزعن عومل مثل هذه المعاملة، فعلق عن العمل -لم يعمل- فجاءت مرفوعة.

وبعضهم كسيبويه يقول: إن هذه الحركة حركة بناء، وليست حركة إعراب، فهو مبنى في هذا الموضع، وهذا خلاف قول عامة النحاة، بل بعضهم غلطه في هذا، بل صرح بعضهم بأن سيبويه -رحمه الله- لم يوجد له غلط في كتابه الكتاب سوى في موضعين هذا أحد هذين الموضعين، وابن القيم -رحمه الله- أطال في مناقشة هذه الأقوال وأورد عليها إيرادات، يعني أورد على قول الخليل الذي هو أشهر هذه الأقوال أورد عليه ست اعتراضات وهكذا على بقية الأقوال، وكان بعض النحاة يستحسن قول سيبويه لكن يقول: لا نعلم له شاهداً في اللغة، بل صرح بعض من رده وغلطه، قال: هذا لا يعرف في كلام العرب، مع أن ابن القيم -رحمه الله- أورد له شاهداً يشهد له.

والعتي: مصدر، والمراد به التمرد والعصيان، أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً، أي المتمرد، أيهم أشد تمرداً وعصياناً لله -تبارك وتعالى- فيبدأ بهؤلاء، وقد بلغت من الكبر عتياً، وقلنا: إن مجاوزة من تقدم على غيره أو زاد عليه أو جاوز الحد أو نحو ذلك يقال له مثل هذا، سواء كان في العمر، فيقال: بلغ من الكبر عتيا، أو يقال: فلان عاتي، ونقول: كل عاتي متمرد فهو شيطان.

وهذا كقوله تعالى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ - إلى قوله - ِبمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [سورة الأعراف: 38، 39]، وقوله: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً، ثم ههنا لعطف الخبر على الخبر، والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب، كما قال في الآية المتقدمة: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ.

قوله: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً يقال: صليت الشيء ناراً يعني أدخلته فيها، يقال ذلك إذا ألقيته وأحرقته وعرضته على النار، يقال: أصليته وصليته، فلذلك بعضهم يفسر مثل هذا بالعرض على النار والإحراق فيها، وبعضهم يفسره بالدخول، وبين القولين ملازمة، فإن من أحرق بالنار فمعنى ذلك أنه دخلها، من دخل النار فإنه يعاني ويقاسي حرها، ولهذا قال الله : لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [سورة الليل:15]، لا يصلها قيل: لا يدخلها، وقيل: لا يقاسي حرها.

وَإِن مّنكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىَ رَبّكَ حَتْماً مّقْضِيّاً ۝ ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [سورة مريم:71، 72].

روى جابر بن عبد الله قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: اللهم سلم سلم[3]، ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر وغيرهم من الصحابة وأرضاهم.

قوله -تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا لأهل العلم كلام كثير في معنى الورود والقول الذي ذكره أن الورود هو المرور على الصراط، ويستدل به على هذا الحديث وهو قول من أشهر الأقوال، وكما قال الله -تبارك وتعالى: عن موسى ﷺ: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ [سورة القصص:23]، ليس معنى ذلك أنه دخل في الماء، وإنما أشرف عليه، فالورود يحتمل معنى الدخول، ويحتمل معنى الإشراف على الشيء، بمعنى أنهم يمرون على الصراط، أو أنهم يشرفون على النار وينجيهم الله  منها فلا يدخلونها، قال هذا بعض أهل العلم.

وبعضهم يفسره بالدخول، وهذا قال به طوائف من أهل العلم واختاره ابن جرير، ويستدلون عليه أيضاً ببعض الأدلة، قد يحتجون ببعض ما صح عن رسول الله ﷺ في تفسير الورود بالدخول، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً يعني أن الجميع يدخل وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً فهم دخلوا، ويبقى الكفار، وبعضهم يقول: الورود بالنسبة للكفار هو الدخول، وبالنسبة للمؤمنين يكون بمعنى المرور على الصراط دون الدخول.

وبعضهم يفسر ورود المؤمن وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا بمعنى بعيد، وهو ما يصيبه من الحمى، فالنبي ﷺ أخبر أن الحمى من فيح جهنم، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا أي يناله منها ما يناله من الحمى ونحو ذلك فهذا تأويل بعيدا هذا لعله أبعد هذه الأقوال.

ويبقى أن القولين الأقوى والأقرب والأشهر أن الورود بمعنى المرور على الصراط، أو بمعنى الدخول.

وروى أحمد أيضاً عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت: كان رسول الله ﷺ في بيت حفصة فقال: لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية، قالت حفصة: أليس الله يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا؟ فقال رسول الله ﷺ: مَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الآية[4].

مثل هذه الأحاديث: لا يدخل النار، يحرم على النار، تدل على أن من الناس من لا يدخل النار، فإذا فسر الورود بمعنى الدخول فإن ذلك قد يخالف ظواهر هذه الأحاديث، وهذا ما احتج به من قال: بأن الورود هو المرور على الصراط، وهي أدلة قوية.

وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم[5].

قوله ﷺ: إلا تحلة القسم، فسره بعض أهل العلم بقوله -تبارك وتعالى: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا، أي قسماً لازماً واجباً، وبعضهم كابن القيم -رحمه الله- يرد هذا ويقول: الآية ليس فيها قسم، وكذلك الشنقيطي في أضواء البيان، وإنما العرب تعبر بذلك عن الشيء اليسير تقول مثلاً: كما قال كعب بن زهير يصف ناقته وسرعتها يقول:

تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاصِقَةٌ ذَوَابِلٌ مَسُّهُنَّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ

فقوله: “مسهن الأرض تحليلُ” يعني لا تكاد تلمس الأرض من سرعتها، إلا تحلت القسم أنها تمشي على الأرض لا تطير في الهواء، ومعروف أن الشيء إذا أسرع جداً لا يكاد يلمس الأرض، فالشاهد أن تقول مثلاً جلست تحلت القسم، أو مثلاً تعبر عن الشيء القليل اليسير الذي لا يذكر تقول: كتحلة القسم، فابن القيم والشنقيطي رحمهما الله يحملان الحديث على أن الآية ليس فيها قسم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، قال: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها.

وقال السدي عن مرة عن ابن مسعود -: في قوله: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً قال: قسماً واجباً، وقال مجاهد: حتماً، قال: قضاء، وكذا قال ابن جريج، وقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا، أي: إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلا دارات وجوههم وهي مواضع السجود، وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون أولاً من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يخرجون من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، ثم يخرج الله من النار من قال يوماً من الدهر: لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيراً قط، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ، ولهذا قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً.

هناك القاعدة تقول: بأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه فالنجاة تحصل للذين اتقوا بحسب ما عندهم من التقوى، وقد ذكر الإمام الشنقيطي -رحمه الله- الأقوال في ورود النار وناقشها فقال -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ۝ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً: “اختلف العلماء في المراد بورود النار في هذه الآية الكريمة على أقوال:

الأول: أن المراد بالورود الدُّخول، ولكن الله يصرفُ أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول.

الثاني: أن المراد بورود النار المذكور: الجواز على الصراط؛ لأنه جسر منصوب على متن جهنم.

الثالث: أن الورود المذكور هو الإشراف عليها والقرب منها.

الرابع: أن حظ المؤمنين من ذلك الورود هو حر الحمى في دار الدنيا، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن، فغلبته فيه دليل استقرائي على عدم خروجه من معنى الآية، وقد قدمنا أمثلة لذلك.

فإذا علمت ذلك فاعلم أن ابن عباس -ا- استدل على المراد بورود النار في الآية بمثل ذلك الدليل الذي ذكرنا أنه من أنواع البيان في هذا الكتاب المبارك، وإيضاحه: أن ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة، والمراد في كل واحدة منها الدخول، فاستدل بذلك ابن عباس على أن الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول، لدلالة الآيات الأخرى على ذلك، كقوله تعالى: يقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [سورة هود:98]، قال: فهذا ورود دخول، وكقوله: لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة الأنبياء:99]، فهو ورود دخول أيضاً، وكقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً [سورة مريم:86]، وقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [سورة الأنبياء: 98]، وبهذا استدل ابن عباس على نافع بن الأزرق في أن الورود الدخول.

واحتج من قال بأن الورود: الإشراف والمقاربة بقوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ... [سورة القصص:23]، قال: فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه، وكذا قوله تعالى: فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ... [سورة يوسف:19]، ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:

فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ

قالوا: والعرب تقول: وردت القافلة البلد وإن لم تدخله، ولكن قربت منه، واحتج من قال بأن الورود في الآية التي نحن بصددها: ليس نفس الدخول بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ۝ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ [سورة الأنبياء:101، 102]، قالوا: إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدل على عدم دخولهم فيها؛ فالورود غير الدخول.

واحتج من قال: بأن ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين: حر الحمى في دار الدنيا، بحديث: ”الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء“ وهو حديث متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وابن عمر ورافع بن خديج وأرضاهم، ورواه البخاري أيضاً مرفوعاً عن ابن عباس -ا، قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد دلت على أن الورود في الآية معناه الدخول أدلة: الأول: هو ما ذكره ابن عباس -ا- من أن جميع ما في القرآن من ورود النار معناه دخولها غير محل النزاع، فدل ذلك على أن محل النزاع كذلك، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.

الدليل الثاني: هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك، وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً، بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا، أي نترك الظالمين فيها، دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل: ونذر الظالمين فيها، بل يقول: ونُدخل الظالمين، وهذا واضح كما ترى.

وكذلك قوله: ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ، دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا، قوله: ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ.

الدليل الثالث: ما روي من ذلك عن النَّبي ﷺ قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة: أخرج أحمد وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضهم: يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله -ا- فذكرت له ذلك فقال وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها: فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فِيها جثياً[6] ا. هـ.

وقال ابن حجر في الكافي الشافْ في تخريج أحاديث الكشاف في هذا الحديث: رواه أحمد وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد قالوا: حدثنا سليمان بن حرب، وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى، والبيهقي في الشعب في باب النار، والحكم في النوادر، كلهم من طريق سليمان قال: حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فسألنا جابراً فذكر الحديث أتم من اللفظ الذي ذكره الزمخشري، وخالفهم كلهم الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الإسناد فقال عن سمية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة بدل أبي سمية عن جابر ا. هـ.

وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد البرساني، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم: يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت: إنا اختلفنا في الورود فقال: يدخلونها جميعاً. ثم ذكر الحديث المتقدم، ثم قال ابن كثير -رحمه الله: غريب ولم يخرجوه.

قال مقيده -عفا الله عنه وغفر له: الظاهر أن الإسناد المذكور لا يقل عن درجة الحسن؛ لأن طبقته الأولى: سليمان بن حرب، وهو ثقة إمام حافظ مشهور، وطبقته الثانية: أبو صالح أو أبو سلمة غالب بن سليمان العتكي الجهضمي الخراساني أصله من البصرة، وهو ثقة، وطبقته الثالثة: كثير بن زياد أبو سهل البرساني بصري نزل بلخ، وهو ثقة، وطبقته الرابعة: أبو سمية وقد ذكره ابن حبان في الثقات، قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب: وبتوثيق أبي سمية المذكور تتضح صحة الحديث، لأن غيره من رجال هذا الإسناد ثقات معروفون، مع أن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرآن وبالآيات الأخرى التي استدل بها ابن عباس، وآثار جاءت عن علماء السلف .

كما ذكره ابن كثير عن خالد بن معدان، وعبد الله بن رواحة ، وذكره هو وابن جرير عن أبي ميسرة، وذكره ابن كثير عن عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري، كلهم يقولون: إنه ورود دخول، وأجاب من قال: بأن الورود في الآية الدخول عن قوله تعالى: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [سورة الأنبياء:101]، بأنهم مبعدون عن عذابها وألمها، فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حر منها كما أوضحناه في كتابنا ”دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب“ في الكلام على هذه الآية الكريمة.

وأجابوا عن الاستدلال بحديث: الحمى من فيح جهنم[7]، بالقول بموجبه، قالوا: الحديث حق صحيح ولكنه لا دليل فيه لمحل النزاع، لأن السياق صريح في أن الكلام في النار في الآخرة وليس في حرارة منها في الدنيا، لأن أول الكلام قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً - إلى أن قال: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا، فدل على أن كل ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى، والقراءة في قوله: جِثِيّاً، كما قدمنا في قوله: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً[8].

هذا الحديث لو صح فهو نص في تفسير الآية بمعنى الدخول، والتفسير إذا صح عن النبي ﷺ فإنه لا يصح العدول عنه، لكن توثيق ابن حبان ليس على مرتبة واحدة، وأحسن من تكلم على هذا المعلمي -رحمه الله- في التمكين وجعل توثيق ابن حبان على نحو خمس مراتب، فابن حبان -رحمه الله- ربما يوثق المجاهيل، لكن من الناس من وثقهم وهم من شيوخه أو ممن عرفهم، وهذا القول تؤيده أدلة، ولكن يشكل عليه النصوص الواردة بأنه يحرم على النار من فعل كذا، أو لا يلج النار من فعل كذا، فهذه يصعب الجواب عليها -والله أعلم.

سؤال: لما قال: يخرجون من النار وإن لم يعمل خيراً قط، بعض الناس يستدل بهذه النصوص مفردة عن غيرها فيدافع عن أرباب البدع المكفرة، فيقول: هؤلاء وإن قالوا خيراً قط إلا أنهم يدخلون الجنة فبما يرد على هؤلاء رعاك الله؟

يرد على هذا القائل بأنه يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط، فـ“خيراً” نكرة في سياق النفي فتشمل كل ما يصدق عليه أنه خير، فهل قول: لا إله إلا الله خير أو ليس بخير؟ فلا يستطيع أن يقول بأنها ليست بخير، لا بد أن يقول هو خير، والنفي هنا نكرة في سياق النفي لم يعملوا يفيد العموم، فكيف استثنى لا إله إلا الله؟ يعني هل يمكن أن يقول: بأنه يخرج من النار من لم يقل لا إله إلا الله؟ هذا لا يمكن، ولا بد أن يقول: بأنه لا يتصور إسلامه إلا إذا قال: لا إله إلا الله، إذاًَ هذا العموم لم يعملوا خيراً قط فيه استثناء وهو أنه ليس على ظاهره، بل لم يعملوا خيراً قط يزيد على القدر المنجي الذي يتحقق به الإيمان الصحيح، ولا بد من الإقرار والتصديق الانقيادي مع قول لا إله إلا الله، وإلا فالمنافقون يقولون: لا إله إلا الله فلم تنفعهم لا إله إلا الله، والله يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145]، والفرق بين المنافقين وبين أبي لهب وأبي جهل وأمثال هؤلاء واضح، بأن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام، يقولون: لا إله إلا الله فلم تنفعهم؛ لأنهم لم يحصل لهم التصديق والإقرار والإذعان القلبي.

ولا بد مع الانقياد القلبي والإذعان، السلامة من الناقض لهذه الكلمة، فإذا قال: لا إله إلا الله ثم أعلن ردته أو جاء بما ينقضها، فإن لا إله إلا الله لا تنفعه، وأيضاً ننظر في الأدلة فنجد أن هناك أشياء من لم يعملها فإنه لا يكون مسلماً، أو لا يكون مؤمناً العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة[9]، فلا بد من قدر من العمل فالإيمان قولٌ واعتقاد وعمل، فالمقصود لم يعملوا خيراً قط، إذا استثنيت قول لا إله إلا الله فهذا عمل، إذا استثنيت التصديق الانقيادي فهذا عمل، فيبقى هذا العموم ليس على ظاهره وإنما المقصود به أنهم لم يعملوا خيراً قط يزيد على القدر المنجي من الإيمان، حقيقة الإيمان مركبة من قول لا إله إلا الله؛ لأنه لا يكون مؤمناً إلا بها، ومن التصديق الانقيادي ولا بد من قدر من العمل -والله أعلم.

مداخلة: هذا قول المرجئة رعاك الله؟

الذي يقول بأن الإيمان هو قول لا إله إلا الله فقط هذا غلو في الإرجاء، والذي يقول بأن الإيمان قول واعتقاد، وتصديق انقيادي، وإقرار، ولكن العمل لو عدم بالكلية فإنه يكون مؤمناً، هذا هو من قول المرجئة وهم يتفاوتون، إذا قال: ”لا إله إلا الله“ فإنه يكون قد دخل في الإسلام، لكن لا بد من الأخرى، وكل بحسبه، فإذا كان يعتقد أن الله ثالث ثلاثة مثلًا وأن المسيح هو ابن الله أو نحو ذلك، فإنه قد يطالب بما يزيد على هذا يؤمر بقول: أشهد أن إلا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله مثلًا، أمرت أن أقاتل الناس حتى يقول: لا إله إلا الله[10].

وقوله: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله[11]، والذين قالوا: صبأنا صبأنا أرادوا أن يقولوا أسلمنا أسلمنا، فما أحسنوا، فظنوا أن الدخول في الإسلام هو أن يقول: صبأنا؛ لأنه يسمع من الآخرين أن فلان أسلم بمعنى صبأ، يعبرون عن ذلك يقولون: صبأ فلان يعني أسلم، فقالوا: صبأنا ظنوا أن هذا يخلصهم، وأنه هو الدخول في الإسلام فكان قتلهم محرمًا، لقولهم صبأنا؛ ولهذا إذا قال بحسب جهده كلامًا يريد به الدخول في الإسلام، فإنه يحرم قتله، وإنما يعلم ويبين له حقيقة دين الله  والله أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [سورة مريم:64]، برقم (4454).
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، برقم (4690).
  3. رواه البخاري، بأرقام متعددة منها (773)، كتاب صفة الصلاة، باب فضل السجود، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم (182).
  4. رواه أحمد في المسند برقم (27042)، وقال محققوه: صحيح، والطبراني في المعجم الكبير برقم (358)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2482).
  5. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسب، برقم (1193)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم (2632).
  6. رواه عبد بن حميد في مسنده برقم (1106)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (364)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (4761).
  7. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم (3088)، ومسلم، كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، برقم (2210).
  8. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للإمام الشنقيطي (3/477-480).
  9. رواه النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، برقم (463)، والترمذي، كتاب الإيمان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2623)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، وابن ماجة، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم (1079)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4143).
  10. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [سورة التوبة:5]، برقم (25)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، برقم (22).
  11. رواه البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا [سورة المائدة:32]، برقم (6478)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، برقم (96).

مواد ذات صلة