الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[6] من قوله تعالى: {قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ} الآية 68 إلى قوله تعالى: {وَكُنّا لَهُمْ حَافِظِينَ} الآية 82
تاريخ النشر: ١٤ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 2637
مرات الإستماع: 7083

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ۝ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ ۝ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ [سورة الأنبياء:68-70].

لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ، فجمعوا حطباً كثيراً جداً، قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم، ثم جعلوه في جوبة من الأرض وأضرموها ناراً، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها، وجعلوا إبراهيم في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد -قال شعيب الجبائي اسمه هيزن- فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فلما ألقوه قال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، كما رواه البخاري عن ابن عباس -ا- أنه قال: "حسبي الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد -عليهما السلام- حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [سورة آل عمران:173]"[1].

وقال سعيد بن جبير: ويروى عن ابن عباس -ا- أيضاً قال: لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ قال: فكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله : يا َنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ قال: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت.

وقال ابن عباس -ا- وأبو العالية: لولا أن الله قال: وَسَلاَمَا لآذى إبراهيمَ بَرْدُها.

وقال قتادة: لم يأت يومئذ دآبة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ، وقال الزهري: أمر النبي ﷺ بقتله، وسماه فويسقاً.

وقوله: وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ أي: المغلوبين الأسفلين؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً، فكادهم الله ونجاه من النار، فغلبوا هنالك.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: "فجمعوا حطباً كثيراً جدًّا، قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض"، هذا الكلام متلقى عن بني إسرائيل، تنذر أنها إذا شفيت تحمل الحطب.

قال: ثم جعلوه في جوبة، الجوبة تقال للحفرة، وتقال للفرجة بين الجبال، وتقال أيضاً للمكان المتسع من الأرض الذي ليس فيه بناء، وللمكان المنخفض من الأرض، كل ذلك يقال له: جوبة، الحفرة المستديرة الواسعة يقال لها جوبة. وأضرموها ناراً، على كل حال، قوله: "إن الذي أشار عليهم بهذا رجل من أعراب فارس من الأكراد"، إلى آخره، وإنه خُسف به، لا يوجد ما يدل على ذلك مما يعتمد عليه، وبعضهم يقول غير هذا، وهكذا أيضاً في أنه لم يبق نار إلا انطفأت، وأن كل الدواب كانت تطفئ النار عن إبراهيم ﷺ، كل هذا لا دليل عليه، إلا أنه ثبت عن النبي ﷺ أن الوزغ كان ينفخ على إبراهيم -عليه الصلاة والسلام[2].

وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ۝ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ۝ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَة وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ ۝ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَت تّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ۝ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُ مِنَ الصّالِحِينَ [سورة الأنبياء:71-75].

يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه، وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام، إلى الأرض المقدسة منها.

وقوله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً قال عطاء ومجاهد: أعطية، وقال ابن عباس -ا- وقتادة والحكم بن عيينة: النافلة ولد الولد، يعني أن يعقوب ولد إسحاق، كما قال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [سورة هود:71]، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: سأل واحداً، فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة الصافات:100] فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة، وَكُلاّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ أي: الجميع أهل خير وصلاح، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً أي: يقتدى بهم، يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا: أي يدعون إلى الله بإذنه؛ ولهذا قال: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ من باب عطف الخاص على العام، وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ أي: فاعلين لما يأمرون الناس به.

قوله -تبارك وتعالى: وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، هنا الفعل "نجّى" عدي بإلى، وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: وَنَجّيْنَاهُ مضمن معنى أخرجناه، وإن فعل أخرج يعدى بـ"إلى"، ويقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ "إلى بلاد الشام"، وهذا هو المشهور، وهو الذي اختاره ابن جرير، وبعضهم يقول: إلى بيت المقدس، وبعضهم يقول: إلى مكة، وهذا غير صحيح؛ لأن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حينما هاجر من أرض العراق لم يذهب إلى مكة، وإنما ذهب إلى بلاد الشام، ثم جاء إلى مكة بعد ذلك حينما وضع فيها هاجر وابنه إسماعيل.

وقوله -تبارك وتعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً، يقول الحافظ: فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة، وأصل النافلة هي الزيادة على الأصل، فبعض أهل العلم يقول: إذا كان المقصود بها الزيادة على الأصل، وأن الله -تبارك وتعالى- تفضل عليه وأعطاه وزاده، فهذا يمكن أن يكون المقصود به إسحاق ويعقوب، ويمكن أن يكون المراد به يعقوب، ولا دليل على تحديد المراد، فالله أخبر أنه قال: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً، فيمكن أن يكون نَافِلَةً يرجع إلى من ذكر وهو إسحاق ويعقوب -عليهما الصلاة والسلام، ويحتمل أن يكون المراد به يعقوب، فكل واحد من ولديه نافلة، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، فيحتمل هذا ويحتمل هذا، فالله وهبه هؤلاء الأولاد، تفضل بهم عليه.

وبعض أهل العلم يقول: بما أن النافلة هي الزيادة على الأصل، فولد الولد يقال له نافلة، يعني أعطاه ما سأل، هو سأل ربه أن يهبه ولداً، فوهبه إسحاق وزاده عليه ما لم يسأل وهو يعقوب، قالوا: ولد الولد نافلة، وهذا ذهب إليه طائفة من أهل العلم، وممن رجحه وانتصر له من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

قال: وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ قال: "أي الجميع أهل الخير والصلاح"، الجميع من ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ويحتمل أن يكون المراد وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ يعني: إسحاق ويعقوب.

وقوله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً أي: يقتدى بهم، ويحتمل أن يكون يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "أي يدعون إلى الله بإذنه"، ويحتمل أنهم يدعون بما أنزل الله عليهم وأوحى عليهم من الأمر والنهي وغير ذلك مما أوحاه -تبارك وتعالى.

ثم عطف بذكر لوط ، وهو لوط بن هاران بن آزر، كان قد آمن بإبراهيم واتبعه وهاجر معه، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [سورة العنكبوت:26] فآتاه الله حكماً وعلماً، وأوحى إليه وجعله نبياً وبعثه إلى سدوم وأعمالها، فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم الله ودمر عليهم، كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز؛ ولهذا قال: وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَت تّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ۝ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُ مِنَ الصّالِحِينَ.

قوله عن لوط -عليه الصلاة والسلام: وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً بعض أهل العلم يقول: المراد بالحكم: هو النبوة، وهنا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "فآتاه الله حكماً وعلماً، وأوحى إليه وجعله نبياً"، وبعضهم يقول: الحكم هو الفصل بين الخصومات، وبعضهم يقول: إن المعنى أعم من ذلك؛ لأن أصل الحكم يأتي بمعنى المنع، فآتاه الله ما يمنعه من الشطط والخطل في الرأي والحكم، والنظر، وذلك بالنبوة والفهم الصحيح الذي يقع معه الصواب

بعض أهل العلم يقول: المراد بالحكم: هو النبوة، وهنا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "فآتاه الله حكماً وعلماً، وأوحى إليه وجعله نبياً"، وبعضهم يقول: الحكم هو الفصل بين الخصومات، وبعضهم يقول: إن المعنى أعم من ذلك؛ لأن أصل الحكم يأتي بمعنى المنع، فآتاه الله ما يمنعه من الشطط والخطل في الرأي والحكم، والنظر، وذلك بالنبوة والفهم الصحيح الذي يقع معه الصواب، ويحترز فيه من الخطأ، هكذا ذكر بعض أهل العلم فحملها على معنىً أوسع، استناداً إلى أصل المعنى اللغوي، وممن قال بأن الحكم هو النبوة القرطبي -رحمه الله.

وقوله -تبارك وتعالى: وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَت تّعْمَلُ الْخَبَائِثَإلى أن قال: وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُ مِنَ الصّالِحِينَ بعضهم يقول: المقصود بذلك أنه أنجاه من هؤلاء الذين أهلكم، وبعضهم يقول: وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا أي: النبوة، وبعضهم يقول: يعني الإسلام، وبعضهم يقول: الجنة، وابن جرير -رحمه الله- ذهب إلى أن المقصود: وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا أي: أنجاه من هؤلاء القوم، -والله أعلم.

وَنُوحاً إِذْ نَادَىَ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ۝ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الأنبياء:76-77].

يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح حين دعا على قومه لما كذبوه فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ [سورة القمر:10]، وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ۝ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:26، 27]، ولهذا قال ههنا: إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أي: الذين آمنوا به، كما قال: وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [سورة هود:40].

وقوله: مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي: من الشدة والتكذيب والأذى، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله فلم يؤمن به منهم إلا القليل، وكانوا يتصدون لأذاه ويتواصون قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل على خلافه.

وقوله: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ أي: ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ أي: أهلكهم الله بعامة، ولم يَبق على وجه الأرض منهم أحدٌ، كما دعا عليهم نبيهم.

قوله -تبارك وتعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ يعني: من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب -عليهم الصلاة والسلام، وقال: فَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الكرب يقال لأقصى الغم الذي يأخذ بالنفس، ويقول: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ "أي: ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم"، وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ، ما قال: على القوم، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- يشير إلى أن "نصرناه" مضمن معنى نجّيناه، والفعل "نصر" يعدى بعلى، نصره على كذا، فإذا ضُمن معنى فعل آخر فإنه يعدى بتعديته، والله أعلم.

وَدَاودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ۝ فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخّرْنَا مَعَ دَاودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطّيْرَ وَكُنّا فَاعِلِينَ ۝ وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ۝ وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ۝ وَمِنَ الشّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنّا لَهُمْ حَافِظِينَ [سورة الأنبياء:78-82].

قال أبو إسحاق عن مرة عن ابن مسعود -: كان ذلك الحرث كرماً قد تدلت عناقيده، وكذا قال شريح، وقال ابن عباس -ا: النفش الرعي، وقال شريح والزهري وقتادة: النفش لا يكون إلا بالليل، زاد قتادة: والهمل بالنهار.

طالب: أو بالتحريك رعاك الله.

قوله: "كان ذلك الحرث كرماً"، يعني هذا لعله مما تلقي عن بني إسرائيل، وقد قيل غير هذا، ولا فائدة من تحديده، والحرث هو الزرع.

يقول: "قال ابن عباس: النفش الرعي"، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ النفش يقال: نفشت يعني تفرقت وانتشرت، وذلك إذا كان بالليل كما قال بعضهم: من غير راعٍ، انتشار الغنم بالليل من غير راعٍ يقال له: نفش، وبعض من يتكلم على الإعجاز يمثله بهذا، يقول: إن القدر المعجز من القرآن -كما هو معلوم- أقصر سورة؛ لأن الله تحداهم بسورة، واختلف العلماء هل يحصل الإعجاز بقدرها من الآيات أو لا؟، لكن يبقى أن كل لفظة لا يمكن أن تضع مكانها لفظة أخرى تدل على دلالاتها من كل وجه وتقوم مقامها، وتكون في الحسن والبلاغة والفصاحة في موقعها، لهذا يقولون: كلمة "نفشت" هنا لو أنك قلبت القواميس العربية لتأتي بكلمة مكانها تؤدي ما أدته هذه اللفظة في الأسماع والأفهام لم تجد لفظة تقوم مقامها.

وروى ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: وَدَاودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وكذا روى العوفي عن ابن عباس -ا.

للعلماء كلام كثير حول هذا الحكم، هل كان من باب الاجتهاد أو كان بوحي، وهل كان كل واحد من الحكمين صواباً؟ فالذين يتكلمون على مسائل الاجتهاد وأن المجتهد يكون محموداً ولو أخطأ إذا استفرغ وسعه واتقى الله ، يحتجون بهذه الآية، إلى غير ذلك مما يحتجون به، والذين يقولون بأن كل مجتهد مصيب، يحتجون بهذه الآية، فيقولون: أصاب داود وأصاب سليمان -عليهما الصلاة والسلام، والذين يقولون: المصيب واحد، قالوا: الذي أصاب هو سلميان -عليه الصلاة والسلام، وهذه المسألة معروفة.

والصحيح أن المصيب واحد، إلا في ما كان الخلاف فيه من باب التنوع، والذي يسمى بالخلاف الصوري، وكانت الأوجه التي تذكر كل ذلك من الأوجه المشروعة، كالصفات والصيغ والتشهدات، والأذكار التي تقال في الصلوات أو في أوقات أخرى أو نحو هذا مما ورد عن الشارع، فهذه وما شابهها كل قول فيها صواب إذا كان ذلك قد ورد عن الشارع، أما الخلاف الحقيقي الذي يقال له: خلاف التضاد فالمصيب واحد، لكن الذي اجتهد واستفرغ وسعه قد أصاب بالاجتهاد، واستفراغ الوسع لا الوقوع على الحق في المسألة المعينة.

ومن أهل العلم من يقول بأن الحكم الذي وقع من داود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام- كان بوحي، وأن الحكم الذي حكم به سليمان -عليه الصلاة والسلام- كان ناسخاً للحكم الذي حكم به داود، قالوا: لأن الله لم يُخطّئ داود وإنما أثنى عليهما فقال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، قالوا: هؤلاء أنبياء، وهؤلاء لعلهم قالوا ذلك بناء على أصل عندهم وهو مسألة معروفة: هل يقع الخطأ من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في الاجتهاد أو لا؟ فالذين يمنعون من هذا يتأولون بهذه التأويلات.

والذين يقولون: إنه يقع منهم الخطأ في الحكم، لا في تبليغ الوحي، فهم معصومون -وهذا هو الأقرب- يقول: الذي أصاب هو سليمان -عليه الصلاة والسلام.

وهذه المسألة يمكن أن يستدل على أن الذي وقع فيها كان باجتهاد من قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ فهذا مما يتصل بالفهم والاستنباط، وذلك يرجع إلى الاجتهاد، وبعضهم يقول: كل واحد من الحكمين كان صحيحاً، ويصورون المسألة باعتبار أن الحكم الذي حكم به داود ﷺ، حكم بالغنم لهؤلاء بدلاً مما فاتهم من زروعهم وتلف، قالوا: إن الذي تلف كان بقدر قيمة الغنم، أو يقاربه، وكأنه لربما تعذر بيعها، أو رضي أهل الزرع بأخذ الغنم بدلاً من قيمتها، قيمة المتلف يعوض بالمال، فحكم بها إليهم، بهذا الاعتبار، وأن هذا حكم صحيح، وأما حكم سليمان -عليه الصلاة والسلام- فإنه كان مساوياً لما فاتهم، الغنم هذه بحيث تؤخذ ويستفيدون من ألبانها ويجزون أصوافها، تجز الأصواف، ثم في هذه المدة أولئك يشتغلون بالزرع ويصلحونه حتى يعود إلى حالته ليلة نفشت فيه هذه الأغنام، ثم يدفعونه إلى أصحابه، فقالوا: إن هذه المدة التي ينتفع هؤلاء فيها بالألبان وجز الأصواف ما يأخذونه فيها يعادل ما فاتهم من زروعهم وتلف عليهم، فقالوا: هذا مساوٍ، والأول حكم لهم بما هو مقارب، فهذا صواب وهذا صواب بهذا الاعتبار، ولا إشكال أن يقال: إن حكم سليمان -عليه الصلاة والسلام- كان أدق، والله  قال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، فهمناها يعني المسألة أو القضية، وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا.

وقوله: فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً روى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية لما استقضي أتاه الحسن، فبكى، فقال: ما يبكيك؟

يعني الذي بكى هو إياس.

فقال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة، فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان -عليهما السلام- والأنبياء حكماً يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: وَدَاودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود، ثم قال: -يعني الحسن: إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى، ولا يخشوا فيه أحداً، ثم تلا يَا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة ص:26]، وقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ، وقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً.

كلام الحسن -رحمه الله- يدل على أنه يرجح أن داود -عليه الصلاة والسلام- ما أصاب في الحكم في هذه القضية، وقوله -تبارك وتعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، "كُلًّا" يحتمل أن يكون يرجع إلى داود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام، وبعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يقول: إن ذلك يرجع إليهما وإلى الأنبياء المذكورين قبلهما، وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، والحكم بعضهم فسره بالنبوة وهو اختيار ابن جرير.

قلت: أما الأنبياء -عليهم السلام- فكلهم معصومون مؤيدون من الله .

قوله: "كلهم معصومون" يعني في أمر البلاغ، أما ما عدا البلاغ فليس عندنا دليل على هذا، والله عاتب نبيه ﷺ في قضية الأسرى فقال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [سورة الأنفال:67]، وذلك لما شاور النبي ﷺ أبا بكر وعمر، في غزوة بدر، فكان رأي عمر هو الصواب، وهكذا في عدد من القضايا، لكن لربما يكون ذلك قبل نزول الوحي عليه فيها، وكذلك فيما يتعلق بمسألة التحريم لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، القضايا التي عاتب الله نبيه ﷺ عليها، كان هذا قبل نزول حكم التحريم، وهكذا في قوله ﷺ لخولة بنت ثعلبة لما ظاهر منها زوجها وهو أوس بن الصامت، فالنبي ﷺ قال: ما أراكِ إلا قد بنتِ منه[3]، فكانت تردد عليه كلامها وهو يعيد عليها هذا حتى أنزل الله عليه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [سورة المجادلة:1]، فهذا كان قبل نزول حكم الظهار، وهكذا في سائر القضايا، والله تعالى أعلم.

وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ: بينما امرأتان معهما ابنان لهما، إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما: فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها لا تشقه، فقضى به للصغرى[4]، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وبوب عليه النسائي في كتاب القضاء: "باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق"[5].

يستعلم الحق يعني يعرفه، فالأم الحقيقية لا ترضى بقطع الولد، والثانية قد لا يهمها أمره، فترضى بذلك، ويذكر في خبر سليمان -عليه الصلاة والسلام- وفي أحكامه أشياء أخرى، مما يذكر في هذا أنه جاء رجال فشهدوا على امرأة حسناء جميلة راودوها عن نفسها فأبت، فجاء أربعة وشهدوا عليها بالزنا، أو أن كلبها يفجر بها، أو أنها تفجر بكلبها

يستعلم الحق يعني يعرفه، فالأم الحقيقية لا ترضى بقطع الولد، والثانية قد لا يهمها أمره، فترضى بذلك، ويذكر في خبر سليمان -عليه الصلاة والسلام- وفي أحكامه أشياء أخرى، مما يذكر في هذا أنه جاء رجال فشهدوا على امرأة حسناء جميلة راودوها عن نفسها فأبت، فجاء أربعة وشهدوا عليها بالزنا، أو أن كلبها يفجر بها، أو أنها تفجر بكلبها، فحكم عليها داود -عليه الصلاة والسلام- بالرجم، وأن سليمان -عليه الصلاة والسلام- كان صغيراً، وهو يلعب في مسألة كهذه، ففرقهم وجعل يسأل كل واحد على حدة، ما لون الكلب؟ فواحد قال: أبقع، وواحد قال: أحمر، وواحد قال: أبيض، وواحد قال: أسود، فعرف أنهم ما أصابوا، ففهم سليمان -عليه الصلاة والسلام- ذلك، لكن الحديث المخرج في الصحيح يكفي في بيان فضل سليمان -عليه الصلاة والسلام- وما آتاه الله -تبارك وتعالى- من العلم والحكم، والكلام إنما هو في أهل الكمالات، يعني الذين بلغوا درجة الكمال، الكمال يتفاوت.

وقوله: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ الآية، وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تأويباً، ولهذا لما مر النبي ﷺ على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت طيب جداً، فوقف واستمع لقراءته، وقال: لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود قال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً[6].

قوله: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ هذا يحمل على ظاهره، أنه تسبيح حقيقي، ولا يفسر بغير هذا، فلا يفسر بأنه مجازي، يعني بعضهم يزعم أن الطير كانت تقف فوقه والجبال تسير معه، ففسر ذلك بالسير، وأن من رأى ذلك سبح الله، أي أن التسبيح صادر من الآخرين، وهذا خلاف الظاهر، الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، والله قد يعطي هذه المخلوقات إدراكات، كقوله تعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ [سورة الإسراء:44]، فهو تسبيح حقيقي، وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، وقول النبي ﷺ: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن[7]، وحنين الجذع، وغير هذا من الأدلة.

وقال سبحانه: يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، والله -تبارك وتعالى- قال: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سورة سبأ:10] فالطير تسبح، والجبال تردد معها هذا التسبيح.

قوله -تبارك وتعالى، بعد ما ُذكر وَكُنَّا فَاعِلِينَ، بعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يفسر ذلك وَكُنَّا فَاعِلِينَ أي: قد قضينا ذلك وقدرناه، يعني من تسبيح الجبال والطير، فسخرها هذا التسخير في أم الكتاب، وَكُنَّا فَاعِلِينَ، وبعض أهل العلم يقول غير هذا، والعلامة الشنقيطي -رحمه الله- يقول: "وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاودَ الْجِبَالَ أي: جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح، والظاهر أن قوله: وَكُنَّا فَاعِلِينَ مؤكد لقوله: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب، خارق للعادة، مظنة لأن يُكذّب به الكفرة الجهلة.

وقال الزمخشري: وَكُنَّا فَاعِلِينَ أي: قادرين على أن نفعل هذا، وقيل: كنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك، وكلا القولين اللذين قال ظاهر السقوط؛ لأن تأويل وكنا فاعلين بمعنى قادرين، بعيد، ولا دليل عليه كما لا دليل على الآخر كما ترى.

وقال أبو حيان: وَكُنَّا فَاعِلِينَ أي: فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهن وَالطَّيْرَ لمن نخصه بكرامتنا، وأظهرها عندي هو ما تقدم، والعلم عند الله تعالى"[8].

وقوله: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ يعني: صنعة الدروع، قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلقاً.

قوله: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ اللبوس بمعنى الملبوس كالركوب بمعنى المركوب، والحلوب بمعنى المحلوب، واللبوس يقال للسلاح بأجمعه، الرماح والسيوف وما إلى ذلك، والمراد هنا الدروع خاصة؛ لأن الله قال: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سورة سبأ:11]، قال: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ۝ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ [سورة سبأ:10، 11]، أي: الدروع السابغة الطويلة، لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ يعني في الحرب، فتقي الإنسان ضرب السيوف وطعن الرماح، وكذلك أيضاً لا تصيبه، أو لا تصيب منه النبل.

وهو أول من سردها حلقاً كما قال تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ۝ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ.

السرد نسج الدروع والزرد، ويقال للذي يصنعها: السرّاد والزرّاد، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ يعني لا توسع الحلقة.

أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار، ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة.

هذه الحلق تكون في الدروع، كل واحدة مرتبطة بالثانية بمسمار، فإذا كانت الحلقة واسعة، أو المكان الذي ينفذ منه المسمار واسعاً تقلق تتحرك، وإذا كانت ضيقة يمكن أن تنكسر هذه الحلقة.

ولهذا قال: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ يعني في القتال، فهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ أي: نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود، فعلّمه ذلك من أجلكم.

لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ هذه قراءة حفص وابن عامر، لِتُحْصِنَكُمْيعني: هذه الصنعة أو هذه الدروع تحصنكم من بأسكم، اللبوس بتأويل الدرع، الدرع مؤنثة، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم أي: لتحصنكم الصنعة أو اللبوس، باعبتار أنه بمعنى الدرع، واللبوس مذكر والدرع مؤنثة، لتحصنكم هذه الدروع من بأسكم، قراءة الباقين بالياء لِيُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ليحصنكم، يعني اللبوس، وبعضهم يقول: يرجع إلى داود -عليه الصلاة والسلام- "ليحصنكم"، أو إلى الله وفيه بعد، لكن قراءة شعبة عن حفص لِنُحْصِنَكُم فهذه راجعة إلى الله كما هو ظاهر.

وقوله: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً أي: وسخرنا لسليمان الريح العاصفة.
  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [سورة آل عمران:173]، برقم (4288).
  2. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء:125]، برقم (3180)، ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب قتل الوزغ، برقم (2238).
  3. رواه ابن الجارود في المنتقى، كتاب النكاح، برقم (683).
  4. رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب إذا ادعت المرأة ابنا، برقم (6387)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان اختلاف المجتهدين، برقم (1720).
  5. والنسائي في السنن الكبرى، برقم (5960)، وبوب عليه باب نقض الحاكم ما حكم به غيره ممن هو مثله أو أجلّ منه، في كتاب القضاء.
  6. رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن، برقم (4761)، من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ قال له: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، برقم (793)، وقولة الأشعري في آخر الحديث: "يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً" ليست في الصحيحين وإنما رواها الإمام البيهقي في السنن الكبرى برقم (4484)، وابن حبان في صحيحه برقم (7197)، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده على شرط مسلم.
  7. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277)، من حديث جابر بن سمرة .
  8. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/232).

مواد ذات صلة