الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
[16] من قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية 84 إلى قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} الآية 93
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 5017
مرات الإستماع: 5170

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [سورة التوبة:84].

أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يَبْرَأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا عليه، وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أُبَيّ بن سلول رأس المنافقين، كما روى البخاري عن ابن عمر -ا- قال: لما توفي عبد الله -هو ابن أبيّ- جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله ﷺ، فسأله أن يعطيه قميصه يُكَفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسولُ الله ﷺ ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله ﷺ: إنما خيرني الله فقال: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ[1].

وقد رُوي من حديث عمرَ بن الخطاب نفسه أيضا بنحو من هذا وفيه: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فُرغ منه -قال: فَعَجَبٌ لي وجراءتي على رسول الله ﷺ، والله ورسوله أعلم- قال: فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ، فما صلى رسول الله ﷺ بعده على منافق، ولا قام على قبره، حتى قبضه الله .

وهكذا رواه الترمذي في التفسير وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري[2].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ يقول الحافظ -رحمه الله: أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يَبْرَأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له، وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ للدعاء والاستغفار، ومن أهل العلم من فسره بغير هذا.

وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ أي: لا تتولَّ دفنه ولا تباشر ذلك، ولا تقبره، والله نهاه عن القيام على قبره، والقيام على قبره يشمل القيام على القبر للدعاء له، والاستغفار، وتولي الدفن، وهو منهي عن الصلاة عليه، وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ويدخل ضمناً في النهي عن الصلاة عليه أيضاً المعنى اللغوي للصلاة وهو الدعاء؛ لأن صلاة الجنازة إنما شرعت للدعاء للميت كما هو معلوم، فـ وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ لا تتولَّ دفنه، وتقبره أو تقف على قبره للدعاء له، فكل هذه المعاني -والله أعلم- تضمنتها الآية. 

وابن جرير -رحمه الله- اختار من المعنى وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ، والفسق هو مطلق الخروج، الخروج عن طاعة الله ، ومنه ما هو خروج أكبر، ومنه ما هو خروج أصغر، فهنا قال: وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ فسره بالفسق في المعنى المشهور عرفاً، تقول: فلان فاسق فيكون ذلك سبباً لذهاب عدالته، ورد شهادته وما أشبه ذلك؛ لأنه يأتي من الذنوب إما صغائر الخسة، أو يكثر من الذنوب والمعاصي حتى يغلب ذلك عليه، ويعرف به، هكذا فسره بعضهم. 

والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه لا يفسر بهذا، يعني ليس معنى -كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ هم كفار- وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ الفسق الذي يطلق على صاحب الذنوب والمعاصي، لا، وإنما هنا الفسق الأكبر يعني وَمَاتُوا على هذا الكفر، هذا المعنى، ما هو مات فاسق بمعنى أنه مقارف لإخلاف الوعد ونقض العهد، والتلون وما يفعله المنافقون من كل رزية ورذيلة لا يرعوون عن شيء في سبيل حفظ أموالهم وحقن دمائهم، فيحلفون على الكذب -نسأل الله العافية، ليس هذا المراد بقوله: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات:6] حمله كثير منهم على الفسق الذي هو الفسق الأصغر، إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ أي كافر من باب أولى، لكن لا نقطع بهذا لأنه قد يكون عدلاً في دينه. 

ومفهوم الموافقة الأولوي منه ما هو قطعي مثل فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ [سورة الإسراء:23]، الضرب قطعاً من باب أولى، لكن مثلا نهى عن التضحية بالشاة العوراء فالعمياء من باب أولى، هذا ليس قطعياً؛ لأن القصد هو أن العور لا ترى معه إلا نصف المرعى فيكون ذلك مظنة للهزال، فالتي تكون عمياء هي لا ترى المرعى أصلاً فهي ترعى وهي رابضة يأتيها صاحبها بأفضل العلف، ولا تحتاج أن تمشي مسافات وتبحث عن العشب ونحو هذا، فهذا مظنة السِّمن، ولهذا يقولون: إن مفهوم الموافقة هذا ظني وليس بقطعي.

والواقع أن المثال الذي يذكرونه، إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ لا يصلح لهذه القضية –أي مفهوم الموافقة الظني؛ لأن الفسق يطلق على الفسق الأصغر، والفسق الأكبر إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ سواء كان كافراً أو كان يشمل هذا، وهذا، فلا يقال: الكافر من باب أولى؛ لأن الكافر أصلاً فاسق، وهذا المثال مشهور عند الأصوليين جداً، والسبب أنهم حملوا الفاسق على صاحب الذنوب والمعاصي وما أشبه ذلك.

وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ[سورة التوبة:85].

قد تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة ولله الحمد.

إذا تأملت الآية التي سبقت يعني آية رقم (55) التي مضت، وهذه الآية تجد بعض الفوارق، يعني هناك فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ [سورة التوبة:55]، وهنا وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ، وهناك لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وهنا وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا...، ثم قال: إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ هذا في الماضي، فقال بعده: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا هو يتحدث عن أمر تعلق بالماضي كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ بينما تلك ذُكر فيها أشياء مستقبلية، يعني فيما قبلها، فهو في الآية السابقة لها قال: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ [سورة التوبة:54] ثم قال: وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ يعني في الحال وفي المستقبل، هكذا قالوا: إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى، قال: وَلاَ يُنفِقُونَ يعني ما ينفقون في الحال وفي المستقبل إلا وهم كارهون، ثم قال بعده معلماً له كيف ينظر إليهم في المستقبل فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ فهذا الوجه غير ظاهر، وفيه تكلف شديد، وهكذا بقية كلامهم على الفروقات الأخرى في هذه الآية.

وَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ۝ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ[سورة التوبة:86، 87].

يقول تعالى منكرًا وذامًا للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين عنه مع القدرة عليه، ووجود السعة والطَّوْل، واستأذنوا الرسول في القعود، وقالوا: ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف، بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أَمْنٌ كانوا أكثر الناس كلامًا، كما قال الله تعالى عنهم في الآية الأخرى:

فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ[سورة الأحزاب:19] أي: علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن، وفي الحرب أجبن شيء.

وقال تعالى في الآية الأخرى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ۝ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ الآية [سورة محمد:20].

وقوله: وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أي: بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه.

قوله هنا: اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ بعضهم فسره بالمنزلة والشرف، أي الناس الذين يُنظر إليهم ويقتدي بهم، ويمكن أن يفسر بالمعنى الآخر وهو أنه الغنى والسعة إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ [سورة التوبة:93]، هنا قال: رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أي بسبب نكولهم عن الجهاد رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ، هم جمعوا بين أمرين الرضا بالقعود من غير عذر، وحصل لهم الطبع نتيجة لذلك فأثَرُ ذلك عدم الفقه قال: لا يفهمون ما فيه صلاح لهم، والفقه -كما هو معروف- أخص من الفهم، فالفقه هو الفهم فيما يدِق فمثل هذه الأمور: كون الإنسان يتطلب الحياة الحقيقية الكاملة في المواطن التي يظنها الآخرون أنها تكون سبباً لتلف النفس وذهاب المال إلى آخره، هذا يحتاج إلى فقه، هم يظنون أن هذه مهلكة، الذهاب مع النبي ﷺ لقتال الروم وهذه المسافات البعيدة ونحو ذلك، ما علموا أن هذه هي الحياة الحقيقية.

لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[سورة التوبة:88، 89].

لما ذكر تعالى ذم المنافقين، بيَّن ثناء المؤمنين، وما لهم في آخرتهم، فقال: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا إلى آخر الآيتين من بيان حالهم ومآلهم.

وقوله: وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ أي: في الدار الآخرة، في جنات الفردوس والدرجات العلى.

هذا هو الظاهر المتبادر في تفسير الْخَيْرَاتُ، وبعضهم فسره بالنساء الجميلات، فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [سورة الرحمن:70] فالخيرات كل خير في الجنة فهو داخل في هذا، وبعضهم فسره بأنه جمع خيِّرة، وهنا قال بعضهم: إن الخيرات هنا وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ جمع خيِّرة، وقد يخفف لا يكون مشدداً، ويجمع على الخيْرات، وتفسيره بأن الخيرات كل نعيم الجنة، ويدخل ضمن ذلك الحور العين.

وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[سورة التوبة:90].

ثم بَيَّن تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد، الذين جاءوا رسول الله ﷺ يعتذرون إليه، ويبينون له ما هم فيه من الضعف، وعدم القدرة على الخروج، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة.

قال الضحاك، عن ابن عباس: إنه كان يقرأ: "وَجَاءَ المُعْذَرُون" بالتخفيف، ويقول: هم أهل العذر.

لأنه قال بعد هذا: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: لم يأتوا فيعتذروا.

يعني الآن على قراءة ابن عباس -ا- "وَجَاءَ المُعْذَرُون" مِن أعذر، يعني بالغ في العذر تقول: "أعذَرَ من أنذر" فيكون هؤلاء هم أصحاب الأعذار الصادقة الحقيقية، أي أن الأعراب منهم من جاء وعنده عذر فاعتذر، ومنهم من قعد وتخلف ولم يعتذر، فهؤلاء من المنافقين، هذا على قراءة ابن عباس وتفسيره لها، والقراءة التي قرأناها وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ بالتشديد، بعضهم فسرها بالمعتذرين، قالوا: أدغمت التاء في الذال فصارت الْمُعَذِّرُونَ، وهؤلاء قالوا: هم الذين لهم عذر حقيقي عذر صادق، وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ يعني المعتذرون الصادقون المحقون في اعتذارهم. 

والمعنى الآخر الذي تحملته على أنها مِن عذَّر، وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ من عذَّر بمعنى قصَّر، والمعنى جَاءَ الْمُعَذِّرُونَ أي أصحاب الأعذار الكاذبة، فعلى المعنيين المعنى الأول يكون هؤلاء الذين جاءوا هم أصحاب الأعذار المقبولة، والطائفة الثانية هي التي قعدت ولم تعتذر أصلاً، هؤلاء هم المنافقون، أي بعدما تكلم عن أهل المدينة والأعذار الكاذبة التي اعتذروا بها، ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي [سورة التوبة:49] إلى آخره الآن جاء الكلام على الأعراب، فمنهم من جاء واعتذر بعذر صادق، ومنهم من قعد ولم يعتذر هذا أحد التفسيرين، وعلى المعنى الآخر وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ أن  المنافقين من الأعراب منهم من جاء واعتذر بأعذار كاذبة، ومنهم من لم يعتذر وقعد.

ثم أوعدهم بالعذاب الأليم، فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ[سورة التوبة:91-93].

ثم بين تعالى الأعذار التي لا حَرَج على من قعد معها عن القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى والعَرَج ونحوهما، ولهذا بدأ به، ومنها ما هو عارض بسبب مرض عَنَّ له في بدنه، شغله عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب فقره، لا يقدر على التجهز للحرب، فليس على هؤلاء حَرَج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس، ولم يُثبِّطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا؛ ولهذا قال: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى يقول: ثم بيّن تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال هذه الأعذار الصادقة الحقيقية، قال: فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب بمعنى أن الضعفاء هم الذين مثل الزمْنى الإنسان الضعيف في بنيته الذي لا يستطيع أن يجاهد والإنسان المقعد، فمثل هؤلاء أعذارهم دائمة ومستمرة، وهناك أعذار عارضة طارئة في البدن مثل المرض العارض ونحو ذلك فهذا معذور، وهناك أعذار أخرى مثل الفقر الشديد ليس عنده ما يتجهز به، فكل هؤلاء عَذرهم الله بهذا الشرط: إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، قال هنا: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.

لكن إذا نصحوا لله ورسوله معناها أن هؤلاء يعذرون بهذا الشرط، نصحوا لله ورسوله أي مع محبتهم للمجاهدين ودفاعهم عن أعراضهم، وتوليهم وتولي أولياء الله، وأهل الإيمان، والبراءة من أعداء الله ، والإيمان بالله -تبارك وتعالى، وبغض كل ما خالف شرع الله، ودينه وأمره وكتابه، هذا معنى إذا نصحوا لله. 

والناصح هو الخالص من كل شيء، أما إذا جلس وهو معذور أعرج أو أعور وجمع بين العور الحقيقي والعور المعنوي، منافق كالشاة العوراء تعور بين الغنمين، فجلس يخذل ويثبط ويستهزئ، يوالي أعداء الله ، يكذب على الله ، وعلى رسوله ﷺ، ويقول في دين الله ما ليس منه، فمثل هذا لا يعذر حتى لو كان مقعداً أو أعمى أو أعرج، فقد جمع بين عمى البصر وعمى البصيرة، فهذا معنى إذا نصحوا لله ورسوله، ثم قال: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ يمكن أن تكون هذه الجملة مقررة لمضمون ما سبق، أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل، هؤلاء معذورون ونصحوا لله ورسوله، فهؤلاء ليس عليهم من سبيل لمعاتبتهم، أو مؤاخذتهم، أو معاقبتهم على قعودهم، ويمكن أن تكون عامة مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ

وهذه الآية كثيراً ما تُذكر في موطن ليس هو معناها، فأحياناً هذا يقع في ألسن الناس كثيراً يستعملون هذا، فإذا الإنسان تبرع بشيء ثم بعد ذلك قصر فيه أو ضيعه أو تركه يقال: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ تبرع به من عند نفسه قام وأراد أن يعمل بعمل تطوعاً تبرعاً من عنده دون أن يأخذ عليه مقابلاً، ثم بعد ذلك أدار ظهره ومشى!! لا تستطيع إلا أن تهز كتفيك أحياناً وتقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فهذا ليس معناها، فهذا ليس من المحسنين وإنما من المسيئين، فالإنسان إذا التزم بشيء ووعد به يجب عليه الوفاء، فإذا أخلف ونكل فهذا من المسيئين وليس من المحسنين، ولا يقال له: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وما هو بمحسن وإنما مسيء.

فالإنسان ما يتكلم بشيء إلا ويعرف كيف يكون الخروج منه، وما يلتزم بشيء إلا ويقوم به على الوجه الكامل، وإلا من البداية يقول: لا أستطيع، ويكون هذا أفضل له وخيراً له، يتجمل أحياناً بوعود ويعطيك الشمس بيد والقمر بيد، ويشتغل أياماً وبعدها يدير ظهره، هذا لا يساوي شيئاً بعد ذلك، لا يمكن أن تكل إليه عملاً، ولا تثق منه بوعد، ولا تطمئن إلى أي عمل يمكن أن يقوم به، فدائماً لا أحد يدخل في عمل إلا ويعرف الخروج منه، ولا تلتزم بشيء إلا إذا كنت تستطيع أن تقوم به على الوجه المطلوب، وإلا اعتذر وأرِح الناس، ابن القيم -رحمه الله- ذكر أن الإنسان إذا عرض له عمل من الأعمال أو نحو هذا ينظر هل يستطيع هو القيام به أو لا؟ هل له نية فيه أو لا؟ إذا كان يحتاج إلى أعوان هل عنده أعوان أو لا؟ فيقلب أمره في هذه الأمور جميعاً ثم بعد ذلك يقول: نعم، أو يقول: لا.

وقال الأوزاعي: خرج الناس إلى الاستسقاء، فقام فيهم بلال بن سعد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم إنا نسمعك تقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقِنا، ورفع يديه ورفعوا أيديهم فَسُقوا.

وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية: وذلك أن رسول الله ﷺ أمرَ الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه، فيهم عبد الله بن معقل بن مقرن المزني فقالوا: يا رسول الله، احملنا، فقال لهم: والله لا أجد ما أحملكم عليه[3]، فتولوا وهم يبكون، وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملا، فلما رأى الله حرْصَهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه، فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ... إلى قوله تعالى: فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

وقال مجاهد في قوله: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ نزلت في بني مقرن من مُزَيْنة.

هذه رواية عن مجاهد مرسلة ولا تصح أنها نزلت في هذا، وكذلك رواية العوفي عن ابن عباس لا تصح.

وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: قال رسول الله ﷺ: لقد خلفتم بالمدينة أقواما، ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا، ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شَركوكم في الأجر، ثم قرأ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ الآية[4].

وأصل هذا الحديث في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله ﷺ قال: إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم مسيرًا إلا وهم معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: نعم، حبسهم العذر[5].

هذا الحديث إيراده هنا في غاية المناسبة، وذلك أن هؤلاء من أصحاب الأعذار الذين أقعدهم المرض، أو الحمى أو نحو هذا إذا نصحوا لله ورسوله تكون قد قعدت أجسادهم، وإلا فهم في حكم من غزا مع رسول الله ﷺ، فهم مشاركون لهم في الأجر، وإن تخلفوا بسبب العذر.

 ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء، وأنَّبَهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال، وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة، برقم (4393)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب من فضائل عمر ، برقم (2400).
  2. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3097)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1131).
  3. رواه الروياني في مسنده، برقم (909).
  4. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (7/376)، برقم (10707).
  5. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو، برقم (2684)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، برقم (1911)، وفيه: حبسهم المرض، بدل: العذر.

مواد ذات صلة