الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
مسيرته العلمية وجده في الطلب - شيوخه
تاريخ النشر: ٠١ / ذو القعدة / ١٤٢٢
التحميل: 8798
مرات الإستماع: 4324

بسم الله الرحمن الرحيم

مسيرته العلمية وجده في الطلب - شيوخه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فعرفنا أن النووي -رحمه الله تعالى- نشأ نشأة جادة، فبقي في هذه المدرسة –الرواحية- عامين، وكان لا يضع جنبه على الأرض، وهذا مصداق لما جاء عن بعض السلف: أن العلم لا ينال براحة الجسم، من أراد أن يحصّل العلم فعليه أن يُسهر مقلته، وأن يحمِّل بدنه التعب والمشقة، وأما محاولة الجمع بين العلم وبين الراحة والترف والنوم الكثير فإن هذا أمر لا يتأتى.

جاء في ترجمته -رحمه الله: أنه كان لا يَضيع له وقت، لا في ليل، ولا في نهار، فكان لا تمضي عليه ساعة إلا وهو في اشتغال، حتى الطريق كان يقرأ فيها، وداوم على ذلك سنوات، واستمر على هذه الحالة من القراءة والدرس المتواصل.

وعرفنا قبلُ أنه كان يقرأ في اليوم اثني عشر درساً على العلماء، وكانت هذه الدروس في مختلف العلوم، فكان لا يكتفي بالقراءة، بل يكون مع القراءة الشرح، والتصحيح، والكتابة، والتعليق، وتوضيح المشكلات، والعبارات الغامضة التي يحتاج إلى معرفتها وبيان المراد بها، فكان يقرأ في الفقه، وفي الحديث، وفي النحو، وفي المنطق، وفي اللمع لابن جني، وفي التصريف، وفي أصول الفقه، وفي أسماء الرجال، وفي العقيدة، وفي غير ذلك.

وهذا التنويع في العلوم عرفنا أنه يكون لمن كان قادراً على الجمع بين هذه العلوم المتفاوتة المختلفة، وأما من كان غير قادر لضيق وقته، أو لانشغاله، أو لعدم احتمال ذهنه فإنه يكتفي بعلم واحد حتى يضبطه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى علم آخر، وذكرنا أن المغاربة يسيرون على هذه الطريقة، لا يسمحون إطلاقاً لطالب العلم أن يجمع بين علمين في وقت واحد، وأما المشارقة فيجمعون من العلوم ما يدخل تحت قدرتهم وإمكانهم، فطالما أن طالب العلم يتمكن من الجمع بين علوم مختلفة فلا إشكال عندهم في ذلك، وذكرنا أن النووي -رحمه الله- فكر أن يتعلم الطب، واشترى كتاب القانون، يقول:  ثم أظلم قلبي وبقيت أياماً لا أقدر على الاشتغال، فأفقت على نفسي وبعت كتاب القانون فأنار قلبي، وكانت لنا وقفة مع هذه القضية وهي أن علم الطب علم محمود، ولكن النووي -رحمه الله- أراد أن يجمع بين تحصيل العلوم الشرعية، وبين تحصيل الطب، وهذا أمر يصعب، فهو في غاية الصعوبة أن يتمكن الإنسان من الجمع بين الفنون المختلفة، فالعلم يحتاج إلى تفرغ، ويحتاج إلى ذهن يستديم النظر فيه، والتأمل والتفكر في معانيه، فإذا زاحمه شيء من العلوم الأخرى فإن ذلك يكون سبباً لضياعه أو لضعفه، كما قال الشافعي -رحمه الله، "لو كلفت بشراء بصلة ما حفظت مسألة"، وكان سفيان الثوري -رحمه الله- يقول: "من تزوج فقد ركب البحر، ومن وُلد له فقد خرقت به السفينة"، بمعنى أنه إذا تزوج كثرت أشغاله وهمومه، وإذا جاءه أولاد فإنه يتفرق وقته لطلب الرزق لهؤلاء، ولهذا يقولون: إن المرأة تحمل همها قبل الزواج، والرجل يكون أكثر هماً بعد الزواج؛ لأنه تولى مسئولية هذه المرأة، وتولى مسئولية الأبناء بعدها، فهو يهتم كيف يرتزق، وكيف يكتسب، وأين يعمل؟

أما المرأة فتكون مهمومة مترقبة قبل الزواج؛ لأنها لا تدري هل تتزوج أو لا ؟ وهل توفق إذا تزوجت أو   لا؟ فإذا تزوجت اطمأنت.

فالجمع بين العلوم المختلفة أمر يصعب فينبغي لمن أراد أن يحصّل في العلم تحصيلاً جيداً أن يتفرغ للعلوم الشرعية فلا يزاحم ذلك بأمور أخرى.

وإذا كان النووي -رحمه الله- يدرس في اليوم اثني عشر درساً، ففي أقل التقديرات الدرس الواحد لو افترضنا أنه يقضي فيه نصف ساعة، ثم المراجعة والتعليق والضبط في هذا الدرس يكون في نصف ساعة أخرى، فهو يحتاج إلى اثنتي عشرة ساعة في اليوم لضبط هذه الدروس فقط، فما بالك بالقراءات الأخرى؟!، فهو في اثنتي عشرة ساعة فقط في دروسه اليومية، فزد على ذلك القراءات المختلفة المتفرقة ومراجعة بعض المسائل، فكم ساعة يقرأ في اليوم؟

ومعروف عن الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أنه كان ينام أربع ساعات، والشيخ ابن باز -رحمه الله- لربما نام أقل من أربع ساعات، وقد قرأت في بعض التقارير لبعض الأطباء أن الإنسان لا يقال: إنه يحتاج إلى ساعات معينة في اليوم والليلة، ثماني ساعات –مثلاً- كما هو المشهور قديمًا وحديثًا، وإنما هو بحسب ما كيّف نفسه، فإذا كيّف نفسه على أربع ساعات استطاع أن ينام أربع ساعات فقط، وإذا كيّف نفسه على أكثر من هذا فإن جسمه يتطلب ذلك، فيشعر بخمول وضعف، وإرهاق إذا نام أقل من ثمانى ساعات، إذا كان هذا هو المعتاد بالنسبة إليه.

والإنسان أيها الإخوان عنده طاقات كامنة لا يدركها، ولا يتصورها في كثير من الأحيان، وأنا أضرب لكم مثالًا في هذه الأيام التي نعيشها، أيام الاختبارات كثير من الناس لو طالبته بأن يقرأ ساعتين أو ثلاث ساعات في أيامه الأخرى لربما رأى ذلك كثيرًا، لكن الطلبة الذين هم من المتوسطين أومن الجادين، كم ساعة يقرءون في اليوم؟ وكم ينهون في مقادير الكتب والمجلدات في أسبوع أو عشرة أيام، أو في أسبوعين؟

يقرءون كمًّا هائلًا في اليوم والليلة، ويقرءون الساعات الطوال، فهو لا يخرج إلا إلى صلاة، ثم يرجع ويقرأ، ساعة بعد ساعة، ولا يمل الجلوس، ويستغل كل لحظة ويحسب الدقائق إذا وقف مع أحد عند باب المسجد، هذه الطاقة التي يقرأ فيها الطلاب في اليوم لربما أكثر من عشر ساعات، أين هي في سائر أيام السنة؟ إذا ذكرت له الساعتين رأى أن ذلك كثير، أين هي سائر أيام العام؟ فلدينا طاقة كبيرة ولكننا نفرط في هذه الطاقة ولا نتفطن لها.

وأما شيوخ النووي –رحمه الله-  فهم كثير جداً، وقلنا لكم: إن هذا فيه من الفوائد وهي أن طالب العلم حينما يقرأ على شيوخ كثيرين فإنه لا ينطبع فيه الضعف الذي عند شيخه في فن من الفنون، ثم أيضاً هو يستفيد من هؤلاء، من هذا يستفيد أسلوبًا، ومن هذا يستفيد سمتًا، ومن هذا يستفيد صرامة وقوة في الشخصية،  فإذا تعدد شيوخ الإنسان استطاع أن يجمع ألوان الكمالات في العلم والتربية، وقلنا: إن ذلك لا يقتصر على طلب العلم فقط، بل حتى في التربية، كلما كان الإنسان يتلقى في تربيته في الجوانب المختلفة من أناس كثر، من أهل الإتقان والضبط والانضباط كلما كان ذلك أفضل في إثراء شخصيته وفي قوتها، وفي تقوية جوانب النقص عنده، وقلنا: إن من الأخطاء القاتلة في التربية: أن يُتصور أن الإنسان ينبغي أن يتلقى عن شخص واحد فقط في التربية، ولا يتلقى عن غيره؛ لأن ذلك يشتته، وهذا خطأ قاتل في التربية، فنحن نطبع هؤلاء جميعاً بصورة لابد أن يعتورها شيء من الضعف والنقص؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يحصّل الكمالات، ولا توجد فيه صفات الكمال مجتمعة، فهذا المربي الذي يوجد فيه نواقص ينطبع ذلك في تلامذته، لكنه لو وَكَل المتميزين منهم -فيما لهم همة ورغبة- إلى أهل الاختصاص لكمّلوا ذلك النقص عندهم، فمن كان فيه همة في العلم وكله إلى أهل العلم يعلمونه، ومن كان فيه همة إلى الحسبة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يكله إلى من له خبرة في هذا المجال وهمة وإبداع.

ثم إن النووي -رحمه الله- سمع علومًا كثيرة في أيام الطلب، ونحن يجلس الواحد منا السنة والسنتين والثلاث والعشر وهو ما أنهى كتابًا متنًا مختصرًا في فن واحد كالفقه أو الحديث أو التفسير، والجيد هو الذي لربما سافر إلى عالم من العلماء ليدرس الجامعة ويدرس عند هذا العالم، فجلس أربع سنوات، ثم إذا جاءته الوظيفة انتقل مع هذه الوظيفة، فالعلم عنده أربع سنوات ثم يجلس يتشبع بهذه السنوات الأربع: قال شيخنا، وقال شيخنا، وسمعت شيخنا، وحدثني شيخنا، وهي أربع سنوات، ونحن نعرف من شأن العلماء أن الواحد منهم يلازم العالم في أيام الطلب خمساً وعشرين سنة، لا يُفقد في مجلس علم، وهذا أربع سنوات ويرى أنه حصّل أطراف العلم، وهو ما أنهى متنًا واحدًا في كثير من الأحيان.

فهذه الدروس التي في يوم واحد في الأسبوع لا تسمن ولا تغني من جوع بحال من الأحوال، ولا يمكن أن تخرج علماء، فمن أراد العلم فعليه أن يقطع المطولات والمختصرات بدروس يومية، النووي اثنا عشر درس في اليوم.

فأقول: الدرس الذي يكون يومًا واحدًا في الأسبوع هذا درس المحبين فقط، وهم الذين لهم محبة في مجالس الخير، ومجالس الذكر، ومجالس العلم، يعطرون أسماعهم بهذا الذكر، لكن يُخرِج ناسًا أقوياء، فهذا لون من ألوان الوهم والأماني الكاذبة التي لا تحقق مطلوباً ولا نتيجة.

النووي -رحمه الله- سمع الكتب الستة وهي: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأيضا مسند الإمام أحمد، والموطأ للإمام مالك، وشرح السنة للبغوي، وسنن الدارقطني، وأشياء كثيرة من كتب الحديث، وقرأ كتاب الكمال في أسماء الرجال للحافظ عبد الغني، وقرأ أشياء من شروح الحديث، من شروح الصحيحين وغيرها، وقرأ في أصول الفقه، وفي الفقه، وفي التصريف، وفي النحو، وقرأ على ابن مالك بعض مؤلفاته، قرأ على علماء كثيرين، قرأ كتباً كثيرة واسعة من المطولات في أيام الطلب.

وأْتِني الآن بطالب علم قد قرأ واحداً من هذه الكتب كاملًا على أحد العلماء، والسبب هو الطريقة التي نسلكها نحن في طلب العلم، وهي: أننا نجعل للعلم فضول الأوقات، فتجد الإنسان مشغولاً بأسرته، مشغولاً بأبنائه، مشغولًا بوظيفته، لربما ما يخرج إلا العصر، وعنده من المشاغل والهموم في بيته وغير ذلك، والارتباطات والمناسبات، ثم هو يقرأ في اليوم والليلة، لربما قرأ شيئًا يسيرًا، وحضر درسًا واحدًا، أو درسين في الأسبوع، ويظن أنه طالب علم، هذا الكلام غير صحيح.

فينبغي للإنسان أن ينظر فيما أعطاه الله من الطاقات الكامنة التي لربما يغفل عنها وتتبين له في بعض المناسبات، كأيام الاختبارات، وبعد ذلك ينبغي أن يأخذ نفسه مأخذ الجد، ولا يبدأ بداية قوية منذ البداية ولكنه يتدرج، إذا كان يقرأ في اليوم ساعتين يزيد ساعتين ونصف لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، ثم يزيد نصف ساعة ثلاثة أسابيع، ثم يزيد نصف ساعة ثلاثة أسابيع، فما تأتيه نهاية العام بإذن الله إلا وقد صار صاحب جلد، ومراس على القراءة وصبر على طول المكث والجلوس في مجالس العلم، ويبدأ يحضر الدروس وينتفع.

وينبغي أن يستشير أهل العلم قبل أن يحضر درسًا، فإذا كان هذا الدرس مناسبًا فلا يتركه حتى ينتهي منه، أمّا أن يدرس كتاب الطهارة من زاد المستقنع، ثم من كتاب العمدة يرجع إلى كتاب زاد المستقنع، ثم في بلوغ المرام يرجع إلى الطهارة، ثم في عمدة المقدسي يرجع إلى الطهارة، فمتى ينتهي من الطهارة؟

هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة