الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[31] من قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} الآية 80 إلى قوله تعالى: {وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} الآية 83
تاريخ النشر: ٠٤ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 5353
مرات الإستماع: 4015

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ الآية [سورة البقرة:79].

هؤلاء صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل.

والويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.

ذكر -تبارك وتعالى- جهلتهم وعوامهم فقال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78]، ثم ذكر هؤلاء المحرفين قال سبحانه: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:79]، وهذا التحريف كان يقع عادة من علمائهم ومن أحبارهم الذين استحفظوا كتاب الله ، فتوعدهم الله بالويل، فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ.

يقول: والويل الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في لغة العرب: هذه اللفظة التي تتكرر كثيراً يفسرها العلماء في كثير من الأحيان بأنها واد في جهنم، وعلى كل حال هي كلمة للوعيد.

ولربما كان أصلها بمعنى الحزن، أو نحو ذلك، فمن أهل العلم من يقول: إن اللام زيدت في آخرها، وإن أصلها (وَي) أي حزن، ثم زيدت عليها اللام، وصارت تستعمل للوعيد أو بمعنى الهلاك والدمار، فإذا توعدت إنساناً قلت له: ويل لك، والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول غير هذا، وعلى كل حال يمكن أن تكون بمعنى الوعيد عموماً ويمكن أن تكون بمعنى أنها واد في جهنم، مع أنه لا يصح عن النبي ﷺ فيما أعلم شيء في تحديد هذا المعنى.

وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس -ا- أنه قال: "يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرؤونه غضًا لم يُشب؟!

قوله:لم يُشب: بضم الياء يعني لم يُخلط بغيره أو لم يداخله غيره من التحريف والتبديل، أما يَشِب بنصب الياء يعني يكبر ويهرم، لكنها هنا لم يُشب بمعنى لم يُخلط بغيره ولم يحرف، كما قال القائل:

تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبت بماء فاستحكمن أبوالا

وقال الآخر:

شيبت بذي بشم من ماء محنية صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

فالشوب الخلط، ومحضاً يعني خالصاً صافياً، ويَشب يعني يهرم، وذلك لا يقال للكتاب، وإنما يقال لمن من شأنه أن يدركه الشيب.

تقرؤونه غضًا لم يشب؟ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً؛ أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم"[1][رواه البخاري].

هذا الأثر عن ابن عباس مهم جداً؛ لأنه ينهى من الأخذ عن بني إسرائيل والتلقي عنهم ورواية الإسرائيليات، ولذلك فإنه ينبغي أن يكون الموقف من هذه الإسرائيليات واضحاً محدداً، مع أن ابن عباس -ا- كان يأخذ من كتب أهل الكتاب وينقل ذلك في التفسير، تارة بنسبته إليهم، وتارة من غير نسبة، وتعرفون خبره حينما اختلف مع مروان أو مع معاوية في قوله -تبارك وتعالى: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86]-أو حامية فيها قراءتان متواترتان- فكتب إلى كعب الأحبار  قال لهم كعب الأحبار بأنهم يجدونها في التوراة أنها تغرب في ثأَط وطين.

على كل حال هذا الأثر يحتاج إليه عند الكلام على الروايات الإسرائيلية، وهو من الآثار المهمة التي يستدل بها على ضرورة تخليص التفسير من هذه الروايات الإسرائيلية.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- بين حين وآخر في هذا الكتاب سيتحدث عن الروايات الإسرائيلية حديثاً خاصاً يلفت النظر إليها، ويبين أنه لا يلتفت إلى هذه الأقوال من جهة الاعتماد، وأنها أخبار لا تثبت، وهذا في أكثر من موضع في هذا الكتاب سيتحدث عنها بخصوصها.  

وعلى كل حال تحدث عنها كثيرون، ومن أحسن من تحدث عنها الشيخ: أحمد شاكر في مقدمته لعمدة التفسير، وكان أهم ما ذكره مما لا يكاد يوجد عند من يتحدثون عنها، أن السلف حينما نقلوها لم ينقلوها على أنها مما يفسر به القرآن، وإنما ذكروها من باب وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[2] فيذكرونها للاستئناس لا أنهم يفسرون القرآن بها، وهذه قضية مهمة، فالقرآن لا يفسر بهذه الأشياء التي لا ندري ما حالها هل هي صحيحة ثابتة أو غير صحيحة، لا يفسر القرآن بهذا، ولكن تذكر من باب الاستئناس مع أنها في أمور لا حاجة إليها أبهمها الله ، ولو كان فيها فائدة لبينها.

وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها.

ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء[3].

وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة: 79] هو كقوله تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] ومعنى يكتبونه بأيديهم أي يكتبونه كتابة محرفة، فهذا معنى يكتبونه لا أنهم ينسخون منه نسخاً صحيحة؛ إذ هذا لا إشكال فيه، وإلا كيف يتداول الناس الكتاب إلا بهذا، لكن المقصود هنا يكتبون الكتاب على غير وجهه.

وقوله: بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79]، هذا ليسجل عليهم الجريمة، ومثل هذا الأسلوب كما سبق التنبيه عليه مراراً أنه يأتي للتأكيد، فهو يسجل عليهم جريمتهم وأنها صادرة منهم وهذا كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167]، ومعلوم أن الكتابة لا تكون إلا باليد، وإنما يتكلم الإنسان بفيه، وهكذا حينما يقول تعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] والطائر إنما يطير بجناحيه، وأشباه ذلك، وإن كان لكثير منها في موضعه توجيهات أخرى، ولكنها لا تخرج عما ذكرت من حيث الأصل، يعني يقال: إن ذلك ليسجل عليهم هذا أو يقال: هذا للتأكيد، ثم يذكر معه معنىً آخر، في مثل قوله مثلاً: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ يقول: لينبه، لينبه على أن المراد بذلك الحقيقة وليس المراد بذلك مجرد الإسراع؛ لأن العرب تكني عن السرعة والإسراع بمثل هذا، تقول: طار إليه، طاروا إليه زرافات ووحداناً، فهو يقول: طائر يطير بجناحيه، طائر حقيقي، وبعضهم يقول غير ذلك، والله أعلم.

وقوله تعالى:فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس -ا: فَوَيْلٌ لَّهُم يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.

هذا كما سبق في أخذهم للرشى فإنهم كانوا إذا جاءهم من يعطيهم الرشى فإنهم يكتبون له غير ما يجدونه في الكتاب؛ من أجل أن يوافقوا بغيته وهواه، ومن دفع إليهم الرشوة وهو محق أخرجوا له الكتاب على وجهه وهكذا.

وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:80] يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا [سورة البقرة:80] أي: بذلك؟ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى: بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.

هذه الطريقة في الرد معروفة، وذلك أن الحال لا يخلو بطريقة السبر والتقسيم العقليين من أحد أمرين لا ثالث لهما، فهذا القول الذي قالوه:

إما أن يكون بطريق عهد من الله ثابت لهم. 

وإما أن يكون ذلك قالوه من عند أنفسهم، وليس هناك طرف ثالث في القسمة. 

فإما أن يكون ذلك من الله بعهد وإما أن يكون من قبيل الاختلاق، هذا ما يسمى بالتقسيم، إما هذا وإما هذا، وهذا أحد أمثلة التقسيم الصحيح وهو حصر الأوصاف المحتملة وشرطه الاستيعاب بحيث إن المعترض لا يقول لك: لا، بقي طرف ثالث في القسمة أو طرف رابع لم تذكره. 

ثم السبر هو أن تختبر هذه الأوصاف فتقول مثلاً: أما إنه بعهد فهذا غير موجود، فإن كان عندكم عهد فأخرجوه، وبقيت الثانية وهي أنه ما دام ليس هناك شيء آخر فأنتم تقولون على الله الكذب، وتقولون على الله ما لا تعلمون، وهذه الطريقة موجودة في القرآن، وهي من طرق الاستدلال الصحيح، وتذكر أيضاً في كتاب القياس في أصول الفقه عند الكلام على استخراج العلة -طرق استنباط العلة- فإنها كما هو معروف من أشهر طرقها: المناسب والسبر والتقسيم العقليين وأشباه ذلك.

قوله: أتى بـ"أم" التي بمعنى بل: أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب، و"أم" هذه تحتمل هذا المعنى بمعنى بل، أي: أتخذتم عند الله عهداً بل تقولون على الله ما لا تعلمون، وتحتمل أن تكون أم هذه هي أم المعادلة. 

فعلى كل حال "أم" إذا قلنا بأنها بمعنى بل، فإن ذلك يعني القطع، بمعنى أن ما بعدها ليس بداخل فيما قبلها، وهي بمعنى لكن أو بمعنى بل، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون، وإذا قلنا بأنها معادلة فالمعنى أي الأمرين كائن وواقع منكم.

وقال العوفي عن ابن عباس: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، زاد غيره: وهي مدة عبادتهم العجل.

قوله: مدة عبادتهم العجل: أي أنهم يقولون: نعذب بهذا القدر، ثم تخلفوننا فيها، يعنون المسلمين، وجاء عنهم أيضاً فيما نقل عنهم في هذه الكتب أنهم حسبوا المدة التي تقطع فيها النار فوجدوها أربعين، فقالوا: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً بمعنى مدة هذا الاجتياز، وفي بعض تلك الأشياء التي تنقل عنهم أنهم حسبوا الدنيا فوجدوا أن عمرها كما زعموا سبعة آلاف سنة، فقالوا: نجلس في كل ألف عام يوماً واحداً، ومعنى ذلك أنهم يجلسون سبعة أيام.

وقولهم: إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً هذا الأسلوب يشعر بالتقليل، أي: سنمكث فيها أيام معدودة قليلة ثم بعد ذلك نخرج منها.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه -رحمه الله: عن أبي هريرة قال: "لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله ﷺ شاة فيها سم، فقال رسول الله ﷺ: اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا فقال لهم رسول الله ﷺ: من أبوكم؟ قالوا: فلان. قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبَرِرْت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله ﷺ: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله ﷺ: اخسؤوا، والله لا نخلفكم فيها أبدًا، ثم قال لهم رسول الله ﷺ: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟، فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك"[4] [ورواه أحمد والبخاري والنسائي بنحوه].

على كل حال مثل هذه الآية: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] فإنه يمكن بطريق الاستقراء -الذي يمكن أن يكون في أغلب المواضع في القرآن- أن يذكر معها القاعدة التي هي: أن من عادة القرآن أنه إذا ذكر قول القائلين فإما أن يبطله أو يذكر ما يدل على بطلانه، وإما أن يسكت عنه، فما ذكر معه ما يدل على البطلان فإنه يؤخذ منه أنه باطل، وما لم يذكر معه ما يدل على البطلان فقد يفهم من ذلك أنه صحيح.

وتارة يذكر أمرين اثنين من قولهم ودعواهم فيبطل الباطل ويسكت عن الصحيح، مثاله: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] فـوَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا هذه دعوى، ووَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا فرد عليهم بواحدة وسكت عن الأخرى، قال تعالى: قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ولم يقل لهم: لم تجدوا آباءكم على ذلك فدل على صحته، وهم فعلاً وجدوا آباءهم على الفواحش.

ومثل هذا قصة أصحاب الكهف في الحديث عن عددهم، فإن الله لما ذكر عن قيلهم أنهم ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ قال: رَجْمًا بِالْغَيْبِ [سورة الكهف:22]، فدل على أنه ليس هذا هو العدد، ولما ذكر وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [سورة الكهف:22]، ما ذكر ما يدل على بطلانه، فاستنتج منه بعض أهل العلم -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- أن عددهم كان سبعة وثامنهم كلبهم.

أقول: هذا هو الغالب، وإلا فالقواعد عموماً لها استثناءات ويكفي أن تكون قاعدة بمعنى أنها غالبة، ولذلك ففي قوله -تبارك وتعالى- في سورة الكهف عن أولئك الذين قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21]، لم يعقب على ذلك بشيء، والمفسرون مختلفون في تحديد قائل هذه المقالة؟ هل هم أهل الإيمان، أو أن هؤلاء من أهل الإشراك لما رأوهم أرادوا أن يقدسوهم فقالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا؟ ولذلك تجد الخرافيين من القبوريين، والصوفية يحتجون بمثل هذه الآية، ويقولون: الله  ما ذكر ما يرد ذلك، فيجاب عنهم بأجوبة، يقال لهم:

أولاً: القواعد أغلبية، وهذا من استثناءات القاعدة.

والأمر الثاني: أن شرع من قبلنا، ليس بشرع لنا إذا وجد في شرعنا ما يخالفه، والنصوص عندنا كثيرة في التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فهذا واضح وصريح.

وعلى كل حال فالأقرب أن ذلك لم يكن من قول أهل الإيمان؛ فإن تعظيم القبور والبناء عليها ليس من عمل أهل الإيمان، ولا يقر أحد عليه لا في هذه الشريعة ولا قبلها، ولهذا قال النبي ﷺ: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[5] ولو كان ذلك سائغاً في شريعتهم لما لحقهم اللعن بسببه فهو أمر غير جائز، وليس ذلك مختصاً بهذه الشريعة وإنما ذلك إنما يصدر من المشركين الذين يعظمون القبور ويعبدونها من دون الله .

بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:81].

يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر: أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار.

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة البقرة:82] أي آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة.

هذه الآية فيها سؤال معروف عند العلماء وهو أن الله قال: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:81]، فذكر أنهم أصحاب النار، ومعنى أصحاب النار أي الملازمون لها، ولا يقال ذلك إلا لمن كان ملازماً للشيء، وأهل الإيمان ليسوا من أصحاب النار وإن عذبوا فيها بعض الوقت. 

وفي قوله: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ لم يحدد هذه الخطيئة وإنما وصفها بهذه الصفة وهي الإحاطة بصاحبها، ثم إنه ذكر الخلود بسبب هذه الخطيئة، فما المراد بهذه الخطيئة التي استوجبت هذا الخلود والملازمة لهذه النار؟!

الحافظ ابن كثير فسر ذلك بأن جميع أعمال هذا الذي استوجب هذه الملازمة للنار كانت سيئات وليس له حسنة، ولا شك أن من كان بهذه المثابة فقد أحاطت به خطيئته، ومعنى ذلك أنه ليس من أهل الإيمان؛ لأن الإيمان أعظم حسنة وحديث البطاقة في ذلك معروف، فدل ذلك على أن هذا الإنسان ليس من أهل الإيمان ولم يعمل خيراً قط، فلا شك أن هذا داخل في هذا المعنى - أحاطت به خطيئته- ولكن هل يدخل فيه غيره؟

وبعض أهل العلم يقول: هذا رجل تكاثرت ذنوبه فإن ذلك كما مثله النبي ﷺ بالقوم الذين نزلوا في مكان، فجعل هذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود وهذا يأتي بعود، حتى أوقدوا ناراً فأنضجوا ما معهم.

وعلى كل حال ينبغي أن يفسر هذا بالشرك سواء كان ذلك مع حسنات عنده فذلك لا ينفعه كما قال الله وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23]، وكما قال –جل وعلا: مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [سورة إبراهيم:18]، وكما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [سورة النــور:39]، وبالتالي لا نحتاج معه إلى أن نقول: ليس له حسنة إطلاقاً، والعلم عند الله .

ومعنى الخطيئة في أصلها الذنب، وبعض أهل العلم يفرق بين الخطأ وبين الخطيئة، وبين المخطئ وبين الخاطئ، فيقولون: أخطأ يخطئ، فهو مخطئ، وهذا خطأ يراد به الوقوع في المخالفة من غير عمد، ويقولون: فلان خاطئ وهذه خطيئته، ولا يقولون: مخطئ، بل يقولون: خاطئ، وذلك لمن وقع في المخالفة عن قصد وعمد، قال تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [سورة الجن:15]، ما قال المخطئون، وقال: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [سورة العلق:16]، ما قال: مخطئة، وبعضهم يقول: هما بمعنى واحد، والله أعلم.

وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [سورة النساء:123-124].

وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: أحاط به شركه.

وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خُثَيم: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب، وعن السدي وأبي رزين نحوه.

لكن هذا القول كما سبق فيه إشكال، إذ لا يكون أصحاب الذنوب وأصحاب الكبائر مخلدون في النار إلا على مذهب الخوارج والمعتزلة.

وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم.

على كل حال هذه الأقوال ينبغي أن تقيد بأن المقصود بالكبيرة الإشراك؛ لأنه ذكر معها الخلود، وهذه الآية مما يحتج بها المعتزلة والخوارج على مذهبهم، ويجب على الإنسان أن يجمع بين النصوص؛ لأنه لو بقينا مع هذه الآية فقط فيمكن أن يؤخذ من ظاهرها ما يمكن أن ينزل على هذه الأقوال أو على بعضها. 

ولكن الشأن هو أن نجمع النصوص الواردة في الباب، فنجد أن النصوص الصريحة الصحيحة تدل على أن الموحدين لا يخلدون في النار وأنهم يخرجون منها حتى أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، أو حبة خردل من إيمان[6]، فإذا جمعت هذا وهذا اتضح المراد. 

فنحن لا ننظر إلى النصوص بنظر أعور كما يفعل أهل البدع حيث يأخذون بعض النصوص ثم يعملونها ويخرجون بقول مشوه، وأهل الإرجاء يأخذون النصوص الأخرى التي ينبغي أن تجمع مع هذا -مثل النصوص التي تدل على إخراج الموحدين من النار، وأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله[7] وأشباه ذلك، يأخذون هذه النصوص ويخرجون بمذهب الإرجاء.

فإذا جمعت هذا وهذا تكون النتيجة أن أهل التوحيد أو أهل الإيمان يعذبون على ذنوبهم وجرائمهم، ولكنهم لا يخلدون في النار، وقد لا يحصل تعذيبهم بسبب حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو توبة قبل الموت، أو شفاعة أو برحمة الله ولطفه فيغفر لهم هذه الذنوب تفضلاً وتكرماً.

ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: إيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه[8]، وإن رسول الله ﷺ ضرب لهُم مثلاً: كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى  جمعوا سوادًا، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها[9].

صنيع القوم:يعني الطعام.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:82] أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم على أهله، أبداً لا انقطاع له.

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ: هذا هو الجمع بين الخوف وبين الرجاء، بين الوعد وبين الوعيد على طريقة القرآن.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ [سورة البقرة:83]، يُذكّر -تبارك وتعالى- بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36] وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله -تبارك وتعالى- أن يعبد وحده لا شريك له.

هنا قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [سورة البقرة:83]، ومرَّ بنا أيضاً الميثاق الذي أخذه عليهم في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [سورة البقرة:63]، وسيأتي: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ [سورة البقرة:84].

فقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْمختص بما ذكر معه، وهنا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ [سورة البقرة:83] يمكن أن تكون هذه الآية مفسرة لقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [سورة البقرة:63]، أخذ ميثاقهم على أن لا يعبدوا إلا الله وبالوالدين إحساناً إلى آخر ما ذكر، فيكون هذا هو الميثاق الذي أخذه -وقد سبق الكلام على هذا- وهذا هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وهو أن قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [سورة البقرة:63] يفسره قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ [سورة البقرة:83] فيكون ذلك تفسيراً لهذا الميثاق الذي هو عبادة الله  وحده لا شريك له وما ذكر معه من هذه الأمور.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ [سورة البقرة:83] يلاحظ أنه قال هنا: أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ فالفعل تعبدون من الأفعال الخمسة، وهي ترفع بثبوت النون وتجزم بحذف النون، وهنا ليست مجزومة بل مرفوعة فدل ذلك على أن (لا) هذه ليست ناهية وإنما هي نافية فارتفع الفعل بعدها بثبوت النون، إذ لو كانت ناهية كان سيقول: لا تعبدوا، وما دامت نافية فمعنى ذلك أن هذا من قبيل الخبر. 

ولهذا قال بعض أهل العلم -ومنهم سيبويه -رحمه الله: إن ذلك يجري مجرى القسم، فهنا قسم مقدر يدل عليه ذكر الميثاق -وهو العهد المؤكد- والمعنى إننا استحلفناهم والله لا تعبدون إلا الله فيكون فيه تقدير.

والقاعدة: أن الكلام إذا دار بين التقدير والاستقلال فالمقدم هو الاستقلال بمعنى أنه إذا كان يمكن أن يظهر المعنى دون الحاجة إلى تقدير الحذف فالأصل فيه الاستقلال، وهنا يمكن حمل الآية على معنىً صحيح من غير تكلف ودون أن يقال بأن فيها مقدر محذوفاً، فيمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إن قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ [سورة البقرة:83] هذا خبر متضمن لمعنى النهي، ومن أمثلته قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ [سورة البقرة:233] فهنا الصيغة صيغة خبر لكنه بمعنى الأمر، فهو أمر للوالدات بالإرضاع، وعلى هذا يكون قوله: لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ هذا خبر عما أخذ عليهم من العهد جاء به بصيغة خبرية ومعناه النهي، ويدل على هذا القراءة الأخرى غير المتواترة.

والقراءة الآحادية إذا صح سندها فإنه يستفاد منها ثلاثة فوائد منها:

أنه يحتج بها في الأحكام تنزيلاً لها منزلة الحديث.

وتفسر بها القراءة المتواترة. 

ويحتج بها في كلام العرب، أي تكون حجة في لغة العرب. 

فالحاصل؛ أنه جاء في قراءة غير متواترة -قراءة أبي بن كعب وقراءة ابن مسعود -ا: (لا تعبدوا إلا الله) فعلى هذا تكون "لا" ناهية؛ لأن الفعل جزم بعدها، وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله، والمعنى أخذنا ميثاقهم وقلنا لهم: لا تعبدوا إلا الله، ويمكن أن تحمل الآية على معنى قريب لا تكلف فيه، وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل يعني العهد الموثق بأن لا تعبدوا إلا الله وأوصيناكم بالوالدين إحساناً وبذي القربى إلى آخره، والله أعلم.

ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن -تبارك وتعالى- بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة لقمان:14].

وقال -تبارك وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23] إلى أن قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [سورة الإسراء:26].

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله[10].

لا شك أن الوالدين أقرب الناس إليه وهما سبب وجود الإنسان، ولم يفرق هنا أو لم يقيد ذلك بالإيمان فأحق الناس بالبر الوالدان وإن كانا على الإشراك، فأنت مأمور ببرهما والإحسان إليهما، وإن كان الوالد فاسقاً لا يرعوي، فأنت مأمور ببره والإحسان إليه، فالآيات لم تفرق لكنه لما ذكر المجاهدة على الإشراك قال: فَلَا تُطِعْهُمَا [سورة لقمان:15].

قال: وَالْيَتَامَى وهم: الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء.

اليتيم من فقد أباه ولما يبلغ، فإذا بلغ لم يكن يتيماً، والبلوغ إما أن يقع له حقيقة بظهور أماراته أو حكماً إذا أتم خمسة عشرة سنة وإن لم يظهر ما يعرف به البلوغ، والمقصود أنه بعد البلوغ لا يكون يتيماً، فإذا بلغت البنت وعمرها تسع فإنها تكون قد تجاوزت سن اليتم. والآدمي يقال له: يتيم إذا فقد أباه، والبهائم توصف بذلك إذا فقدت أمها، ويقولون: إن الطير يوصف بهذا إذا فقد أحد أبويه؛ لأن كل واحد منهما يزقُّه بالغذاء أي يطعمه بوضع الطعام في فمه.

وَالْمَسَاكِينِ الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء، التي أمرنا الله تعالى بها صريحًا في قوله: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآية [سورة النساء:36].

المسكين إذا ذكر فإنه يدخل فيه الفقير، فالمساكين يعني الفقراء، وأما إذا ذكر معه فالعلماء يختلفون في أيهما أشد فقراً، فمنهم من يقول: المسكين أشد، ويحتجون بقول الشاعر:

أما الفقيرُ الذي كانت حَلُوبَتُه وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ

إلا أن هذا بيت شعر لا يحتج به في الأحكام، وبعضهم يحتج بأن الفقير أشد حاجة من المسكين بقوله -تبارك وتعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [سورة الكهف:79] فهؤلاء مساكين لكن عندهم سفينة يتجرون فيها، فيكون الفقير في حال مدقعة ليس عنده لا سفينة ولا غيرها أبداً فيكون أشد حالاً من المسكين، وعلى كل حال هنا لم يذكر معه الفقير فيشمله، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [سورة البقرة:83] أي: كلموهم طيباً، ولينُوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف.

قوله: ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف: من السلف من يذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط دون أن يقول: والنهي عن المنكر بالمعروف، وكلام الحافظ ابن كثير جمع فيه الأمرين، ومقصوده بذلك قوله تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [سورة البقرة:83] ومن هذا الحسن أو من هذا الكلام الطيب الحسن الذي يقال لهم: أن يؤمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، فهذا من أحسن القول، كما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [سورة فصلت:33]، فأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر دعوتهم إلى الله.

وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً أي: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ويدخل فيه أيضاً أن يكون أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر، وهذا الذي أشار إليه أيضاً ابن كثير، حيث قال: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر بالمعروف: يعني من غير إغلاظ ولا تخشين، فهذا مما يدخل فيه، أن نأمرهم ونهاهم وأن يكون ذلك بأسلوب حسن غير منفر لهم، ويدخل فيه سائر ما يمكن أن يتصور من الإحسان إليهم في الكلام من غير أن يفضي إلى المداهنة، سائر ما يمكن أن يتصور من الإحسان إليهم في الكلام بأن تلين الكلام معهم سواءً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في غيره، فلا تتكلم معهم بأسلوب فيه فظاظة وجفاء وغلظة أو يجرح المشاعر، أو ما تحسب الكلمات التي تقولها فتؤذيه بما تسمعه من القول، أو الكلام الفاحش البذيء، أو الرد الغليظ أو نحو ذلك.

وقوله: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً يشمل الناس الذين يسألون كما قال تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [سورة الضحى:10]، وكما قال الله فيمن لا يجد شيئاً يعطي القرابات إلى آخره كما في سورة الإسراء: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا [سورة الإسراء:28]، أي إن أعرضت عنهم انتظار توسعة في الرزق فقل لهم قولاً ميسوراً أي لا يكون إلا خيراً، فتقول مثلاً: إذا يسر الله أعطيناكم بإذن الله.

كذلك قال الله قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى [سورة البقرة:263] فإذا أعطيت السائل شيئاً فلا تزجره، وكذلك يكون التعامل في مخاطبات الناس، فهذه قضية يلاحظ أنه تعالى أخذ العهد الموثق على بني إسرائيل فيها مما يدل على أهميتها. 

والكلام في هذا يطول، والنفوس تحتاج إلى معالجة، والنقص كثير، والإنسان يمر في أحوال وأطوار شتى، وتمر به أمور لربما يغلبه طبعه، ولربما تغلبه أحياناً حال من الأحوال فيخرج عن طوره ويسيء إلى الناس أو نحو هذا، لكن ينبغي أن يتذكر دائماً مثل هذه الأصول والوصايا ويعمل بها، ويربي نفسه عليها، ويتخلق بهذه الأخلاق، فيلين الكلام للناس كما قال سبحانه: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [سورة البقرة:83].

كما قال الحسن البصري في قوله: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً فالحسن من القول يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنًا كما قال الله، وهو كل خُلُق حسن رضيه الله.

هناك قراءة متواترة في قوله تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً هي: (وقولوا للناس حَسَناًَ) بفتح الحاء والسين.

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر عن النبي ﷺ أنه قال: لا تحقرن من المعروف شيئًا، وإن لم تجد فَالْقَ أخاك بوجه منطلق[11] [وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وصححه].

وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي. ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمُتعيّن من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:83] وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله أي: تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم.

وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء، بقوله: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36]، فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة.

  1. أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات -  باب: لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها (2539) (ج 2 / ص 953).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء - باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3274) (ج 3/ص 1275).
  3. أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد - باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله (2320)(ج 4/ص 560) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5292).
  4. أخرجه البخاري في أبواب الجزية والموادعة -  باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم (2998) (ج 3 / ص 1156).
  5. أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز - باب ما جاء في قبر النبي ﷺ وأبي بكر وعمر (1324) (ج 1/ص 468) ومسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة - باب: النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (529) (ج 1/ص 376).
  6. صحيح البخاري في كتاب: كتاب: التوحيد - باب: قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (6975) (ج 6/ص 2695) وصحيح مسلم في كتاب: الإيمان - باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها (193) (ج 1/ص 180).
  7. أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق - باب: العمل الذي يبتغي به وجه الله (6059) (ج 5/ص 2360) ومسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة - باب: الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر (33) (ج 1/ص 454).
  8. أخرجه أحمد (ج 1/ص 402) والطبراني (ج 10/ص 212) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2687).
  9. أخرجه أحمد (ج 1/ص 402) والطبراني في الكبير (ج 10/ص 212) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2687).
  10. أخرجه البخاري في كتاب: كتاب مواقيت الصلاة - باب: باب فضل الصلاة لوقتها (504) (ج 1/ص 197) ومسلم في كتاب: الإيمان - باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (85) (ج 1/ص 89).
  11. أخرجه مسلم في كتاب: كتاب البر والصلة والآداب – باب: باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (2626) (ج 4/ص 2026).

مواد ذات صلة