الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[43] تتمة قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} الآية 106
تاريخ النشر: ٢٠ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 4856
مرات الإستماع: 2918

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [سورة البقرة:106-107] يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصحُّ من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلًا كما زعمه بعضهم جهلًا وكفرا،ً وإما نقلًا كما تخرصه آخرون منهم افتراءً وإفكًا.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله النسخ عقبه بهذا التعقيب: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] عقبه بهذا الاستفهام الذي يمكن أن يفسر في معناه الاستفهام التقريري، يعني قد علمت أن الله على كل شيء قدير، ولا شك أن النبي ﷺ يعلم ذلك، فإذا فسر بهذا المعنى فلا إشكال فيه.

وبعضهم يقول: إن ذلك فيه خطاب للنبي ﷺ في ظاهره ولكن المراد غيره -عليه الصلاة والسلام- ممن استبعدوا النسخ أو أنكروه، فيكون بهذا الاعتبار من قبيل الاستفهام الإنكاري، فهو ينكر عليهم: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] فلا يمتنع عليه ذلك، فهو ينسخ ما يشاء، ويثبت ما يشاء.

وقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:107] يعني أنه يتصرف فيهما، والمَلك معلوم، والمَلِك –بفتح الميم وكسر اللام- يكون له كمال التصرف في مملكته، والفرق بينه وبين المِلك –بكسر الميم وسكون اللام- أن المِلْك المقصود به حيازة الشيء والاستقلال به وأما المُلك فإنه يعني حق التصرف وإن لم يكن هذا المَلِك مالكًا لكل ما تحت مملكته، بحيث لا يعني أن هذه الأشياء جميعًا ملكًا له، فهذا هو الفرق بين المِلك والمُلك.

قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [سورة البقرة:107] يقول ابن كثير -رحمه الله- هنا: وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلًا كما زعمه بعضهم جهلًا وكفرا،ً وإما نقلًا كما تخرصه آخرون منهم افتراءً وإفكًا: يقول: إما عقلًا بمعنى أن لهم شبهات في رد النسخ عقلًا، ولسنا بمعنيين بنقل الشبه؛ فإن الشبهة قد تقع في قلب ولا تخرج منه، ولكن المقصود أن هؤلاء لهم شبه معروفة يوصلها بعضهم إلى أربع شبه، وهي شبه ساقطة لا قيمة لها، ويزعمون أن النسخ يستلزم البـَداء -بفتح الباء- ويقولون: هذا محال على الله  ومن ثَمَّ فإن النسخ ممتنع، فشبهاتهم تدور حول هذا.

ومعنى البداء: من بدو الشيء بعد خفائه، تقول: بدا له كذا، وتقول: كنت أريد أن أسافر فبدا لي أن أقيم، كنت أريد القراءة لكن بدا لي أمر آخر لم يكن قبل ذلك، فهو طروٌ للعلم بعد الخفاء، واكتشاف للشيء بعد أن كان ذلك غير مدرك ولا معلوم لهذا الذي بدا، هكذا يقولون، ولا شك أن هذا غير صحيح؛ لأن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

ولذلك لما ذكر الله في سورة الأحزاب، لما قال: وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [سورة الأنفال:75] أي في الميراث على الراجح، فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا [سورة الأحزاب:6] يعني بالوصية والإحسان إليهم بالهبة بعد أن كانوا يتوارثون بالولاء، فنسخ ذلك، ثم قال: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [سورة الأحزاب:6] أي في اللوح المحفوظ.

فهذه آية من آيات النسخ التي يثبت فيها النسخ، قال: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ففي اللوح المحفوظ كتب الله كل شيء، ولكن الله يشرع في وقت تشريعًا يتلاءم مع حال الناس، وقد عَلِم أزلًا أن هذا سيرتفع ثم بعد ذلك يكون غيره مما يتلاءم مع حالهم في تلك المرحلة المقبلة، فكل ذلك غير خارج عن علمه -تبارك وتعالى؛ فعلمه محيط بكل شيء، فالنسخ لا يعني أن شيئًا انكشف لله بعد أن كان خافيًا، ولكن اليهود لجهلهم وقلة معرفتهم بربهم -تبارك وتعالى- وعظمته، ظنوا أن ذلك يعني نسبة الجهل إليه، فقالوا: هذا يستلزم البداء، ويكفي هذا القدر، ولسنا بحاجة إلى إيراد الشبه مفصلة.

ولهم حجج يحتجون بها من جهة النقل، وقبل الحديث عنها لا بد أن نعلم أنه إذا قيل: الأدلة العقلية فالمقصود بها من جهة النظر، والنقل يعني الشيء الذي يؤثر، وهؤلاء ينقلون من التوراة ومن الزبور ومن سائر كتبهم، وينقلون عن موسى -عليه الصلاة والسلام، فبعض طوائف اليهود مثل الشمعونية والعنانية الذين يمنعون النسخ  يزعمون أن في التوراة - وهي كتاب محرف ولو ثبت ذلك أيضًا فيمكن أن يخرج ويحمل على بعض التفسيرات- يقولون في التوراة: هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض.

نقول: حتى لو كان هذا مما نزل فيقال: هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض، يريد به إلزام هؤلاء العمل بها دون التصرف والترك في وقت أو مكان بمجرد رأيهم أو هواهم، ولكن يقول: أنتم مطالبون بها أبدًا، في كل الأوقات والأحوال، ولكن إذا جاء نبي بكتاب ينسخ هذا الكتاب فهنا لا مجال للعمل بذلك الكتاب الأول، والله  قال عن أهل النار: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ [سورة هود:107] وقال في الجنة: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ [سورة هود:108] فهذا بلا انقطاع ولا انقضاء، ولكن في مثل التوراة وغيرها من الكتب التي نسخت أن ذلك يبقى ما لم يرد ما ينسخه، وهذا فيما لو أردنا أن نخرج هذا النص لو كان ثابتًا.

والنصوص المنقولة من كتبهم إذا وجد في شريعتنا فيما جاءنا من الوحي المنزل المحفوظ ما يخالفه نعلم أن ذلك من قبيل الكذب والكلام المحرف، وهذه الأشياء التي تنقل عنهم ثلاثة أقسام فنحن عندنا أشياء تدل دلالة صريحة على أن هذا الكتاب مهيمن على تلك الكتب وأن هذه الشريعة ناسخة لها كما قال تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48] وكما في قول النبي ﷺ: ما من يهودي ولا نصرانيّ من هذه الأمة يسمع بي، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار [1]، وكذلك قوله ﷺ لعمر لو كان أخي موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي [2] يعني أنه لا يسعه العمل بالتوراة.

وعيسى ﷺ حينما ينزل آخر الزمان لا يحكم بالإنجيل ولا يعمل بأحكام الإنجيل، فهذه وغيرها كثير تدل على هذا المعنى، فهذا النص الذي ينقلونه هو نص محرف، وإن لم يكن من قبل المحرف فيمكن أن يحمل على محمل آخر، غير ما فهموا.

وكذلك ينقلون: "الزموا يوم السبت أبدًا"، ويوم السبت معروف، وهو اليوم الذي كان يعظمه اليهود وهو يوم عيدهم، فمعنى ذلك البقاء على يهوديتهم، هذا معنى الزموا يوم السبت أبدًا، يعني لا تتحولوا إلى غيره كالأحد أو الجمعة.

وهكذا النصارى الجهلة أيضًا ينقلون عن المسيح -عليه الصلاة والسلام- أنه يقول: السماء والأرض تزولان، وكلامي لا يزول، هذا يمكن أن يخرج لو صح عنه -عليه الصلاة والسلام- فإنه يمكن أن يحمل على محمل لا يعني عدم النسخ بحال من الأحوال، وعلى كل حال النصارى جهلة بل هم معدن الجهل، فلا يستغرب منهم مثل هذا الكلام.

وعلى كل حال هذا تعليق على قول ابن كثير -رحمه الله: إما عقلًا كما زعمه بعضهم جهلًا وكفرا،ً وإما نقلًا كما تخرصه آخرون منهم افتراءً وإفكًا، وهذا يعني -وهو صريح- أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يرى أن تلك النصوص من قبيل المكذوب المحرف وليست من كلام الله  أو من كلام عيسى -عليه الصلاة والسلام- أو موسى ﷺ.

وهذه المقابلة تعبير دقيق، إما عقلًا وإما نقلًا، وهذا هو التعبير الصحيح، أن يقابل العقل بالنقل، فيقال: دل على ذلك العقل والنقل، ولا يقال: دل على ذلك العقل والشرع؛ لأن العقل الصحيح من جملة أدلة الشرع التي هي الكتاب والسنة والإجماع، والعقل الصحيح، والفطرة السليمة، كل هذه أدلة صحيحة، فلا تقل: دل عليه العقل والشرع؛ فيكون العقل مقابلًا للشرع، وهذا إنما يكون على فرض المعارضة بين العقل والنقل كما هو ظن طوائف كثيرة من أهل الكلام، حيث يجعلون قواعد يمشون عليها في حال هذا التعارض، وهذا غير صحيح على كل حال.

قال الإمام أبو جعفر بن جرير -رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذا أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.

ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطابًا من الله تعالى لنبيه ﷺ على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه -جل ثناؤه- تكذيب لليهود الذين أنكروا نَسْخَ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.

قوله: وإن كان خطابًا من الله تعالى لنبيه ﷺ على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود: يعني إذا كان هذا الخطاب قد وجه إلى النبي ﷺ فإن الاستفهام يكون فيه من قبيل التقرير -الاستفهام التقريري- يعني قد علمت أن الله له ملك السماوات والأرض، وإذا كان للإنكار على اليهود أو قد وجه للمسلمين فإنه بالنسبة لليهود يكون من قبيل الإنكار -الاستفهام الإنكاري.

وابن جرير -رحمه الله- يرى أن هذا الخطاب وإن كان في أوله قد خوطب به المفرد والمخاطب بذلك النبي ﷺ ولكن المراد بذلك الصحابة وفي ضمنه إنكار على اليهود يعني يتضمن الإنكار على اليهود، والقرينة التي يحتج بها من الآية هي صيغة الجمع في آخرها: وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [سورة البقرة:107]، ففي أولها قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ ثم قال في آخرها: وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ فدل ذلك على أن المراد به الجمع وليس شخص النبي ﷺ، هذا الذي ذهب إليه ابن جرير الطبري -رحمه الله.

قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر والعناد فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى.

يعني ليس في العقل ما يدل على امتناعه؛ لأن الله يعلم ما كان وما يكون، بل إن مقتضى العقل يؤيده ويقويه، وذلك أن الأمة تمر بأطوار ومراحل يقتضي ذلك أن تنقل من طور إلى طور، وهذا يعني أن تبدل الأحكام، حينًا بعد حين وهذا هو النسخ، فهذا مما يؤديه العقل ويقويه. 

ولذلك يحتج على النسخ بالعقل لا أن العقل ينسخ، يعني هناك فرق بين أن نقرر النسخ بالكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل من جهة النظر كما يقولون، فهذا ممكن، لكن العقل لا ينسخ بحال من الأحوال. 

فالرد عليهم من جهة النظر أعني من جهة العقل، والرد عليهم أيضًا من كتبهم ومن الكتاب والسنة أمر سهل، ومن شاء فليراجع  الكتب التي اعتنت بهذا الجانب، ومن أكثر من اعتنى بهذا فيما وقفت عليه الزرقاني في كتابه (مناهل العرفان) حيث جاء بشبهاتهم ثم رد عليها من كتبهم، وجاء أيضًا بالشبه العقلية التي يحتجون بها ورد عليها، وقرر أدلته من الكتاب والسنة، وهو من أوسع من تكلم على موضوع النسخ ومن أحسن من تكلم فيه، حتى الآيات التي ذكرها وأوردها أورد الآيات المشهورة التي هي أقوى ما ادعي فيه النسخ وهي ما يقرب من إحدى وعشرين آية، التي أوردها السيوطي في الإتقان ونظمها، وتجدون شرحها للشنقيطي -رحمه الله- وعليها تعليق يسير في ملحق آخر الأضواء.

لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك.

هذه ردود عليهم، وهي ليست ردود عقلية، وإنما هي ردود موجودة ويعرفونها فيما خوطبوا به من شرعهم.

وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حِلُّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحًا لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم  بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل.

طبعًا هذه الأشياء كلها يقرون بها ولا ينكرونها، بغض النظر عن الذبيح من هو.

وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كي لا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنها.

وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية، فلا يصرف الدلالة في المعنى إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهورًا من البشارة بمحمد ﷺ، والأمر باتباعه.

يعني هم قد يتمحلون في الإجابة عن هذه الأدلة التي تورد عليهم من تحريم الجمع بين الأختين وما أشبه ذلك مما أورده، يقول: لكن هذه الأجوبة هي أجوبة لفظية لا تقوى على إبطال هذه الحجج والبراهين، يعني هم يتمحلون، ويتكلمون في الجواب عنها، لكن ذلك هو مجرد كلام لا قيمة له حيث لا يصل بقوته إلى رد هذه الأدلة، هذا هو المراد بقوله: وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية، يعني ما يتفوهون به ويتكلمون به في الجواب عنها لا يصرف الدلالة في المعنى، والمقصود أن محصلة هذه الأدلة هي أن النسخ ثابت، بغض النظر عما سموه به أو تمحلوا في الجواب عنها، فإن الحقيقة واضحة وثابتة في هذا.

وأقصد أنه ماذا عسى أن يقول الإنسان من هؤلاء الناس، يمكن أن يقول: إن هذه أصلًا كانت مؤقتة ثم بعد ذلك جاء حكم جديد، أو يقولون: هذا حكم مؤقت، وغير ذلك من الأجوبة اللفظية، فنقول: إن ذلك لا يغير الحقيقة فهذا هو النسخ، فهذه أجوبة لفظية، لكن المعنى ثابت وهو أن هذا نسخ، وأنت سمِّه بما شئت.

فإنه يفيد وجوب متابعته -عليه الصلاة والسلام- وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل: إن الشرائع المتقدمة مُغَيَّاة إلى بعثته فلا يسمى ذلك نسخًا.

وهذا مما يمكن أن يجيبوا به عن أفراد تلك الأدلة السابقة، يقول لك: هذه مغياة بغاية، والمغيا بغاية ليس بنسخ.

ومسألة المغيا بغاية فيها تفصيل، وهو أنواع: منه ما حُدَّ بغاية معلومة، يقول: افعلوا كذا إلى وقت كذا مثلًا، فهذا كقوله: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187] فهذا ليس بنسخ، فإذا دخل الليل لا يعتبر حكم الإمساك عن الأكل والشرب منسوخًا. 

وأما ما يفترض فيه من العبارات فإن ذلك لم يرد، كأن يقول مثلًا: اعملوا بالحكم الفلاني حتى كذا، يعني اعملوا به حتى السنة الرابعة للهجرة مثلًا، فهذا غير موجود، وإنما هي افتراضات يذكرها العلماء ليبينوا ويوضحوا أن ذلك ليس من قبيل النسخ، ثم يختلفون في بعض الصور، هل هو من المغيا بغاية، أو ليس من المغيا بغاية، كقوله -تبارك وتعالى: أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا عند قوله في سورة النساء: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [سورة النساء:15] فهل هذا من المغيا بغاية ثم لما جاء حكم الجلد والرجم لم يكن ذلك من قبيل النسخ؛ لأنه مغيا بغاية، أم أن هذا ليس من المغيا بغاية وأن الجلد والرجم ناسخ لآية الحبس في البيوت والأذى؟

هذا يختلفون فيه، وسبب الاختلاف هو العبارة فقط، فصار عندنا الآن هذه الصور الثلاث، ولا شك من حيث المبدأ أن ما غُيا بغاية ليس من قبيل النسخ، لكن يبقى أن هذه الصورة يختلفون فيها هل هي منه أو لا، مع اتفاقهم على الأصل.

وأما ما يذكر من الصور الواضحة الصريحة فهي من قبيل الافتراضات فحسب، كأن يقول: لو قال لهم افعلوا كذا، إلى وقت كذا.. الخ، وأما ما يتضح فإنه ليس من قبيل النسخ إطلاقًا، كقوله:ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187].

فالحاصل أن هؤلاء أهل الكتاب يمكن أن يتمحلوا فيقولون: هذا من قبيل المغيا بغاية، فنقول: سموه بما شئتم فهو نسخ.

فلا يسمى ذلك نسخًا كقوله: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187]، وقيل: إنها مطلقة وإن شريعة محمد ﷺ نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين؛ لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدًا بالله -تبارك وتعالى.

ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ردًا على اليهود -عليهم لعنة الله- حيث قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الآية [سورة البقرة:106-107]، فكما أن له الملك بلا منازع فكذلك له الحكم بما يشاء أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [سورة الأعراف:54].

وقرئ في سورة آل عمران، التي نزل في صدرها خطابًا مع أهل الكتاب وقوع النسخ عند اليهود في قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ الآية [سورة آل عمران:93]، كما سيأتي تفسيره، والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه.

في الآية: كُلُّ الطَّعَامِ رد عليهم بكل الأحوال حيث زعموا أن الله حرم عليهم أشياء فبين لهم أن الطعام جميعًا كان حلًا ليعقوب ﷺ إلا ما حرم على نفسه، وخبره أنه حينما أصابه ذلك الداء وهو عرق النسا، فالذي حصل أنه نذر إن شفاه الله أن يحرم أطيب الطعام والشراب إليه، فكان أطيب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها، فحرمها على نفسه وكان ذلك جائزًا في شريعتهم، ثم بعد ذلك أحل لهم أشياء على لسان عيسى ﷺ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران:50] ثم هذا التحريم حتى لو قلنا: إنه من الله ابتداءً كما يزعمون هم، فهو نسخ بأن كانت مباحة لمن قبله فجاء التحريم في شريعة يعقوب ﷺ.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج1 / ص 134).
  2. أخرجه أحمد (ج 3 / ص 338) وأبو يعلى (ج 4 / ص 102) وابن أبي شيبة (ج 5 / ص 312) والبيهقي في الشعب (ج 1 / ص 199)، وحسنه الألباني في المشكاة (177).

مواد ذات صلة